العوافي يا وطن

الخميرة المباركة
إعداد: إلهام نصر تابت

وفق علم الاجتماع، يعتقد العسكريون أنّ كل شيء في المجتمع قد يؤول إلى تحوّل أو زوال، إلا الجيش. وتعود هذه النظرة في الأساس إلى إدراك العسكريين لأهمية الوظيفة التي تؤديها مؤسستهم وحساسيتها، لكنّها تعود أيضًا إلى خصوصية البناء المعنوي الذي تقوم عليه مؤسسة الجيش.
ففي موازاة البناء المادي الذي يشمل الأسلحة والمعدات والتقنيات وسواها، ثمة بناء معنوي قوامه القوانين والأنظمة والقواعد العسكرية، وإنما أيضًا وبالقدر والأهمية ذاتهما، يشمل هذا البناء التقاليد العسكرية، والتنشئة الوطنية والإنسانية التي تجعل من المجتمع العسكري وحدة متماسكة لها إرثها وهويتها. وبذلك فهي تتمايز عن المجتمع الكلي الذي تقوم ضمنه، لكنها في الوقت نفسه تنتمي إليه، وترتبط به بروابط عميقة.
بقدر ما يكون البناء المعنوي للجيش متماسكًا، بقدر ما يستطيع أداء مهماته بفعالية. وهذه المهمات لا تقتصر على الدفاع عن الوطن وحفظ أمنه وتقديم الخدمات لأبنائه... بل تتعداها لتشمل الإسهام في التنشئة الوطنية وتعميق الانتماء إلى الوطن. هنا تؤدي صورة الجيش في المجتمع دورًا بالغ الأهمية. فكلما كانت إيجابية ازدادت قدرة الجيش على التأثير في المجتمع، وازدادت الروابط بينهما عمقًا. وتختلف طبيعة الروابط بين الجيش والمجتمع من بلدٍ لآخر ومن حقبة زمنية إلى حقبة أخرى، وذلك نتيجة عوامل متعددة.
في لبنان، كانت النواة الأولى للجيش وليدة النضال في سبيل الاستقلال، وكان لها دور أساسيّ في تحقيقه، لتقوم عقب معركة ١٩٤٣ الدولة المستقلة. هذا الواقع شكّل الجذور التي انبنت عليها صورة الجيش في المجتمع اللبناني. وهي صورة مشرقة عززها دوره عبر المراحل والسنوات، وأكدتها الأزمات التي مر بها لبنان. فبالإضافة إلى تفانيه في أداء واجبه الدفاعي والأمني، كان جيشنا دائمًا إلى جانب مواطنيه، في الأزمات والكوارث والأوقات الصعبة. وإذ تسجل الذاكرة القريبة الكثير من الشواهد التي لا مجال لاستعادتها هنا، فإنّ العودة إلى الماضي أكثر، تظهر أيضًا نماذج جلية. فحين طلبت السلطات السياسية من قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب التوجه إلى بعلبك والهرمل لفرض الأمن في الخمسينيات، توجه إليها بالإنماء والخدمات.
أنشأ الثكنات، شقّ الطرقات في مناطق لم يسبق أن شقّت فيها، قدم الخدمات المتنوعة. وهكذا صنع حضور الدولة عبر خدماتها وليس عبر سلاحها.
هذا الإرث المتواصل يعود اليوم ليتجسّد بوضوح ساطع. فحيث سالت دماء الشهداء في الجرود، دبت الحياة في الأرض القاسية، وفتحت الطرقات بين البلدات ومراكز الجيش المنتشرة على الحدود لأول مرة في تاريخ لبنان. وحيث ارتفعت صور الشهداء بالعشرات في عكار، تقام منشأة عسكرية نموذجية تسهم في إنماء منطقة تحتاج إلى الكثير والكثير.
جيشنا لا يتمتع بفائض من الإمكانات ليستثمرها في مشاريع إنمائية، ولا هو جيش بلد يتمتع بترف الاستقرار ليقيم عسكريوه في ثكناتهم منصرفين إلى تدريباتهم وأبحاثهم.
إنه جيش الإمكانات المتواضعة دائمًا، جيش التعب المتواصل، والتضحيات المستمرة، والجيش المرتبط بشعبه الساعي إلى مد يد العون له في كل مجال.
وهو كذلك لأنّه يختزن في بنائه المعنوي إرثًا من القيم يجسدها منهجًا وسلوكًا. وبهذا الإرث الغني تتواصل المسيرة رغم الصعاب. يتواصل الوفاء من جيل إلى جيل. مع كل تحية للعلم، ومع كل مهمة في خندق أو شارع، ومع كل خدمة في قرية أو بلدة.
«معكم ننتصر على الحرمان» قال كاهن، ومعكم نعيش معاني الوطنية قالها كل مواطن في عيد الجيش.
هكذا هو جيشنا خميرة مباركة في الأيام العجاف. إرث من القيم في زمن عزّت فيه القيم، نسيج متلاحم في أيام التفرقة والانقسام.
وهكذا يبقى الدائم والثابت رغم التحولات.
العوافي يا جيشنا
العوافي يا وطن.