حروب ودروس

الدروس المستقاة من عمليات حرب تـشرين 1973
إعداد: المقدم محمد الزين
ماجيستير في التاريخ


عندما بدأت حرب تشرين كان لمصر نظام دفاع جوي أعيد تنظيمه على درجة عالية من الكفاءة لم يكن يتوقعها الإسرائيليون. فقد أثبتت وحدات الدفاع الجوي فعاليتها البالغة منذ الساعات الأولى من المعركة، حيث تمكنت من إسقاط ما لا يقل عن عشر طائرات إسرائيلية في أول ساعتين من القتال، ما أجبر قيادة القوات الجوية الإسرائيلية على تحذير الطيارين كافة من الإقتراب من هذه الشبكة، لأكثر من مسافة 15- 20 كم.
وبفضل ذلك لم تتمكن الطائرات الإسرائيلية من العمل بكفاءة ضد الجسور التي أقامتها القوات المصرية على القناة أو ضد القوات البرية التي اشتبكت بنجاح مع الدبابات الإسرائيلية.


الدفاع الجوي وأداء العدو
لقد أثبت الأداء الرائع لقوات الدفاع الجوي واستخدامها المتفوق لأكثر الأسلحة والمعدات تعقيدًا خلال حرب تشرين الأول 1973، أن العامل البشري ركيزة أساسية من ركائز النصر في المعركة الحديثة، فالتخطيط الجيد والأعداد المتقن والروح المعنوية العالية، تعتبر عوامل أساسية من عوامل النصر. كما أثبتت وقائع حرب تشرين بسالة الجندي العربي وارتفاع مستوى أدائه وقدرته، على التأقلم مع أحدث الأسلحة المتطورة وحسن إستخدامها.
لم يستخدم العدو أسلوب الهجمات الجوية الشاملة واقتصرت أعماله القتالية على حشد المجهود الرئيسي لقواته الجوية على هدف أو أهداف محددة في الوقت نفسه، وذلك لضمان الحصول على التفوق في الإتجاه أو المنطقة المطلوبة ثم المناورة بالمجهود الجوي إلى الإتجاهات الأخرى، مع الأخذ بعين الإعتبار، الدعم المنتظر وتوقيته، واحتمال تزايد المجهود الجوي المعادي نتيجة تزايد حجم الدعم الخارجي.

 

القيادة والسيطرة
برزت في المعركة أهمية تحصين مراكز القيادة الرئيسية وذلك لثبات القيادة والسيطرة على الوحدات الفرعية، وبرزت كذلك أهمية وجود مراكز قيادة بديلة. وقد ظهر في حرب تشرين أن قادة تشكيلات وحدات الدفاع الجوي لم يكونوا من القادة التقليديين بالمعنى المفهوم المعروف خلال الحروب السابقة. فقد أثبتت المعركة أن القادة كان لديهم قدرة كبيرة على حرية التصرف ومواجهة المواقف المختلفة التي طرأت خلال القتال، واحتاجت إلى حسم مباشر.
كان قائد التشكيل في الجبهة على علم وإلمام تامين بقواته ومستوى تدريبها، وإمكاناتها القتالية، وهو كان يحوَل تلك الإمكانات في الوقت المناسب من المعركة باتجاه العدو للوصول إلى ما يريد، لقد كان على علم تام بالعدو وما يريد من ناحية حجمه ونوعيته وخصائصه وتسليحه وتطوره، وكان يخرج من هذا كله بإيجاد الحلول المناسبة لينتصر عليه: فقائد التشكيل في الجبهة كان على مستوى تعبوي وتكتيكي وفني عالٍ يتفق مع المستوى القيادي الذي يعمل عليه، وتمكن من تحقيق المهمة بنجاح باهر. لقد كانت لديه القدرة على الوصول لقرار سريع وصحيح وفي الوقت المناسب للتعامل مع العدو. وقد أكدت خبرة حرب تشرين 73 أن القيادة والسيطرة ليست فقط بتواجد مراكز القيادة المحصنة وتوافر وسائل المواصلات، وإنما بظهور قادة، توافرت لديهم الشجاعة والقدرة على تحمل المسؤولية والمرونة وحرية التصرف.

 

الهندسة العسكرية
قللت المواقع الميدانية المحصنة لعناصر الدفاع الجوي من الخسائر في الأرواح والمعدات إلى حد كبير، كما ساعدت كثيرًا في صمود جميع التشكيلات القتالية على الجبهة. وقد برزت أهمية المواقع الهيكلية الوهمية في خداع العدو، مما نتج عنه توزيع مجهود العدو الجوي. وظهرت أهمية استخدام الدخان لإخفاء التجمع الحقيقي لوحدات الصواريخ وعدم تمكّن طائرات العدو من ضربها، وفي تأمين وحدات الصواريخ الموجهة أرض - جو وقصف مدفعية الميدان.

 

تنسيق النيران
لقد أثبتت عمليات حرب تشرين 73 فعالية مراكز القيادة المشتركة في تنظيم التعاون بين جميع الأسلحة، خصوصًا الصواريخ م/ط والطائرات الحربية، وسرعة تأمين المقاتلات في الوقت المناسب. أما عن تنظيم التعاون مع القوات البرية فقد ظهرت أهمية وضوح الموقف البري لعناصر الدفاع الجوي المكلفة بحماية القوات البرية حتى تتمكن من احتلال المواقع القتالية المناسبة، التي تستطيع منها الإستمرار في تنفيذ مهماتها القتالية.
لذلك يجب تركيز الإهتمام بتنظيم التعاون على مستوى الوحدة مع التشكيل البري المجاور ما يقتضي وضع ضابط ارتباط بصفة دائمة من لواء الصواريخ مع التشكيلات البرية.

 

الإحتياط واستعادة الموقف
برزت أهـمية تـوفـير احـتياط كافٍ من مـجمـوعـات الإشارة والهندسة، كما برزت أهمية تخصيص باقي الوحدات كالمشاة والمدرعات، ولكن بنسبة أقل حرصًا على عدم إضعاف الوحدات الرئيسية وتعرضها للخسائر. ولقد ظهرت صعوبة استعادة الموقف في مواقع القتال لوقوعها تحت التأثير المستمر لطيران العدو ومدفعيته.

 

العبرة
في النهاية يمكن القول إن الدروس والنتائج المعنوية التي خرجت بها حرب تشرين 73 هي من أهم الدروس في الحرب.
فقد حطم الجندي المصري حاجز الخوف وعقدة التفوق الإسرائيلي واكتشف في أرض المعركة أن القوات الإسرائيلية قوات منظمة ومسلحة بشكل جيد، ولكنها رغم ميزاتها قوات عادية غير أسطورية. فهي تخطىء وتنهزم وتنسحب وتتكبد الخسائر وتترك أرض المعركة ويستسلم جنودها عندما يحاصرون. والأهم من ذلك كله أن هذه الحرب وإن لم تحرر كامل الأراضي المحتلة ماديًا، فقد حررت القوات المسلحة العربية من عشرات الأوهام.
لم تكن تلك الحرب مجرد تغيير أحدثته في الشرق الأوسط فحسب، كما لم تكن مجرد انتصار عربي أو تحطيمًا لخرافة إسرائيل، ولكنها كانت حدثًا فريدًا على المستوى العالمي، إذ سارعت مراكز الأبحاث الإستراتيجية والعسكرية إلى ترجمة هذه الحرب إلى دراسات وأبحاث ودراسات وتجارب.
فلأول مرة تعبر قوات كبيرة الحجم مانعًا ضخمًا في ساعات، وبأساليب جديدة. ولأول مرة تخفي القوات المسلحة المصرية أهدافها وتحركاتها واستعداداتها بهذه الدقة على أقمار صناعية متطورة.
اشترك في هذه المعركة حوالى خمسة آلاف دبابة وألفي طائرة لمدة ثلاثة أسابيع فقط.
وقد تحطمت خلالها خرافة الطائرة، وأصبحت الدبابة صيدًا سهلاً لجنود المشاة. وعلى الرغم من ادعائها التفوق العسكري وبأن جيشها لا ينهزم، خسرت إسرائيل خلال ساعات، أسلحة كثيرة ومتطورة، مما جعلها تفقد التفوق النوعي الذي ادعت أنها تتميز به، فطلبت المساعدة الفورية من الولايــات المتحــدة الأمريكيــة التي زودتهــا الأســـلحة من جـديد وذلــك عبــر فتح جســر جوي.
بعد نهاية الحرب قامت معاهد متخصصة في العالم بإجراء أبحاث ودراسات استراتيجية عسكرية، للتمكن من فهم النظرية الحديثة في القتال التي اعتمدها الجيش المصري، وتحطيمه للنظرية التقليدية في الحروب.
كما دفعت هذه الحرب معامل ومراكز الأبحاث العسكرية إلى إجراء المزيد من الدراسات والأبحاث حول وسائل التوجيه الإلكتروني، وإلى التفكير الجدي في إنتاج طائرات تعمل بدون طيار، للحدّ من خسائر الطائرات والطيارين. كذلك كان من نتائج هذه الحرب اعتماد تدريبات جديدة للطيارين والقيام بأبحاث حول الصواريخ لتكون أكثر دقة في تصديها للدبابات. وأسفرت أيضًا حرب تشرين عن درس هام مفاده أهمية الإنتصارات السريعة في الساعات القليلة من بدء القتال، ومحاولةالإستفادة الكاملة من عناصر المفاجأة، والانطلاق منها إلى مزيد من الانتصارات.