نحن والقانون

الدفاع المشروع عن النفس أو الملك
إعداد: رلى صفير

شروطه وآثاره

 

إذا كان المبدأ العام أنه لا يجوز للفرد أن يستوفي حقّه بيده, أو يتولى حمايته بنفسه, كون السلطة العامة هي وحدها المخوّلة قانوناً حماية الحقوق والحريات, إلا أنه, وفي أحوال معينة وجد إستثنائية يكون الأمر خلاف ذلك.
فالواقع أنّ المشترع أجاز للفرد, الذي يتعرض لاعتداء حالّ, وغير محقّ, وغير مُثار, على النفس أو الملك, والذي يتعذّر عليه الإستعانة بالقوة العامة وبالوسائل القانونية على الفور, أن يتولى, ضمن شروط محددة, حماية مصالحه بنفسه, وبالوسائل المتوافرة لديه, وإن كانت هذه الوسائل تشكّل في الأحوال العادية جرائم جزائية, يُعاقب عليها القانون.
هذا الرد الذي يلجأ إليه المعتدى عليه لدفع الإعتداء الصادر عن الغير, هو ما يُسمى في لغة القانون بـ”الدفاع المشروع”, المُكرّس في المادة 184 من قانون العقوبات.
نتناول في ما يلي شروط الدفاع المشروع, من الناحية الجزائية, ومن ثم آثاره, وصولاً الى الصورتين الخاصتين له والمنصوص عنهما في المادة 563 ق. ع.

 

شروط الدفاع المشروع

كرّس المشترع اللبناني الدفاع المشروع كسبب من أسباب التبرير, التي تمحو الصفة الجرمية عن الفعل بحكم القانون, وتُزيل بالتالي كلّ مسؤولية مدنية وجزائية, لأن الفاعل يُمارس في الواقع حقاً مشروعاً منحه إياه القانون. فالدفاع المشروع يعطي المعتدى عليه الحق في أن يقتل إذا كان القتل لازماً وضرورياً لإنقاذ حياته, وإلا كان هو المقتول؛ ويُعطيه الحقّ في أن يضرب إذا كان الضرب لازماً, وإلاّ كان هو المضروب...
ولكن ما هي الشروط التي يخضع لها هذا الدفاع؟
لكي تقوم حالة الدفاع المشروع, لا بدّ من توفّر بعض الشروط في كلّ من فعل الإعتداء وفعل الدفاع.
 

- في فعل الإعتداء:
1- أن يكون واقعاً على النفس أو الملك:
الإعتداء هو كلّ إنتهاك لحقّ, صادر عن إنسان, من شأنه أن يُعرّض إنساناً آخر للخطر في نفسه أو ملكه.
والمقصود بـ”النفس”, ليس فقط حياة الإنسان وسلامة جسده وأعضائه, بل كلّ مقومات الشخصية الإنسانية, من مواهب وصفات وشرف وكرامة وحرية وسمعة ومكانة اجتماعية ومهنية وعائلية... إلخ. وبالتالي, فإن أي عمل أو إمتناع عن عمل من شأنه المساس, بصورة مادية أو معنوية, بإحدى هذه المقومات, كالقتل والإيذاء والإجهاض والإغتصاب والخطف وخرق حرمة المنزل وإفشاء الأسرار والقدح والذم, وسواها, يُشكّل إعتداء, ويُبرر التصدي له ودفعه بالوسيلة المناسبة, وضمن الحدود التي يرسمها القانون (كما سيأتي بيانه). وقد أقرّ النص الحق بالدفاع المشروع ضدّ جميع هذه الجرائم (وسواها), من دون تفرقة بينها بحسب نوعها أو جسامتها.
أما المقصود بـ”الملك”, فهو كلّ مال مملوك من أحد الأشخاص, ومتمثل بقيمة مادية أو معنوية؛ وقد ساوى المشترع بين النفس والملك, لجهة الدفاع المشروع, وهذا أمر طبيعي, باعتبار أن تعلـّق الإنسان بملكه وإقدامه على صيانته من كل خطر يتهدده هو من مقومات الطبيعة البشرية. فإن كان الإعتداء واقعاً مثلاً على بيت الإنسان أو بستانه أو سيارته أو ثيابه... عن طريق السرقة أو الإستيلاء أو الإحراق أو الإبادة أو الإحتيال أو إساءة الأمانة... أو غير ذلك, فإنه يمكن للمعتدى عليه, أو لشخص آخر سواه, أن يلجأ الى الدفاع المشروع لردع هذا الإعتداء.
والجدير بالذكر أنه لا فرق قانوناً بين أن يكون الشخص الذي يهبّ لدفع الإعتداء الواقع على النفس أو الملك, هو المعتدى عليه بالذات, أو شخصاً آخر سواه. ففي الحالتين, يكون الدفاع المشروع جائزاً (إذا ما توافرت باقي شروطه القانونية).
إشارة الى أن النص القانوني لم يشترط في الخطر أن يكون جسيماً؛ لذلك, يُكتفى بأي خطر يشكّل تهديداً مباشراً للنفس أو الملك, أو مساساً بسلامتهما. ولكن طبعاً, مع استبعاد الخطر التافه أو العابر.

 

2- أن ينطوي على خطر حالّ (وشيك):
يفترض الخطر الحالّ (الوشيك أو الداهم) أن الإعتداء لم يبدأ بعد, ولكنه على وشك الوقوع, كأن يشهر شخص مسدسه بوجه آخر, بعد أن يكون قد وضع الرصاص في بيت النار. هذا العمل يشكّل خطراً حالاّ, يُبرر اللجوء الى الدفاع المشروع لمنع المعتدي من البدء في عدوانه.
ويتوفّر كذلك الخطر الحالّ إذا كان الإعتداء قد بدأ, ولكنّه لم ينته بعد, كما لو أقدم أحد الأشخاص على ضرب المُجنى عليه مرّة, وتأهّب ليوجه إليه ضربات تالية. هنا يجوز للمعتدى عليه (أو سواه) أن يلجأ الى الدفاع المشروع ليمنع المُعتدي من الاستمرار في عدوانه.
أما إذا كان الإعتداء مُستقبلاً أو مُحتملاً, كما لو هدّد شخص آخر بقتله بعد أسبوع مثلاً, فهنا لا مبرر إطلاقاً للجوء الى الدفاع المشروع, ذلك أن التهديد لا يشكّل خطراً حالاّ, بل يمكن درؤه عن طريق الشكوى الى السلطات المختصة.
كذلك الأمر إذا كان الإعتداء قد تمّ وانتهى, كأن يُطلق شخص النار على آخر, ثم يبتعد عنه على الفور؛ فإن الرد على هذا الاعتداء لا يُعدُّ دفاعاً مشروعاً, بل ىعتبر من قبيل الإنتقام, وهو أمر محظور قانوناً.
ماذا عن الخطر الوهمي؟
تُطرح في هذا الصدد مسألة الخطر الوهمي, وهو الخطر غير الحقيقي, والذي اعتقده الفاعل (المُدافع) حقيقياً وحالاّ, نظراً للظروف المحيطة به أثناء الحادث.
ومن الأمثلة على الخطر الوهمي, نذكر حالة مَنْ يشهر مسدسه في وجه آخر, من دون أن تتوفّر لديه نيّة القتل, أو حتى نيّة إطلاق النار, إنما فقط إثارة الذعر لدى هذا الأخير؛ أو حالة مَن يستخدم مسدساً غير حقيقي (لعبة) للتهديد بالقتل, فيعتقد المُدافع بأن الخطر حقيقي وحالّ. ونذكر أيضاً حالة الفتاة التي تُفاجأ في الليل بملاحقتها من قبل شبان مقنّعين, يهددون بخطفها, فترتد عليهم, وتطلق النار, ثم يظهر في ما بعد أنهم من أصدقائها, ولم تكن غايتهم الخطف, إنما فقط المُزاح والتسلية.
هنا, وفي حال كان المُدافع في وضع نفسي ومادي لم يتمكن معه من التمييز بين الحقيقة والوهم, فأقدم على فعله, مُعتقداً بأنه يواجه خطراً حقيقياً وجدياً, فبحسب الرأي السائد في الفقه والاجتهاد, يمكن لهذا المُدافع أن يتذرع بالدفاع المشروع. والعبرة في ذلك هي لكون التوهّم بوجود الخطر توهّماً معقولاً, ومبنياً على ظواهر جدية, يمكن “للرجل العادي” أن يقع فيها, إذا ما وُجد في ذات الظروف التي حصل فيها الحادث (مكان الحادث, زمانه, سنّ المُدافع, جنسه, خبرته, وضعه الاجتماعي... الخ).

 

3- أن يكون غير محقّ:
يجب أن يكون الخطر الذي تعرّض له الفاعل ناتجاً عن اعتداء غير محقّ, لا سند له في القانون, وإلا انتفت عنه (أي عن الإعتداء) الصفة الجرمية, ولم يعد يُشكّل اعتداءً, فيتوجب بالتالي على من يتعرّض له أن يتحمله, ولا مجال أمامه للتذرّع بالدفاع المشروع.
فإذا أقدم مثلاً والد على ضرب إبنه, ضمن الحدود التي يبيحها العرف العام, كان هذا الضرب محقاً, لإجازته في القانون, وامتنع بالتالي على الولد التصدي لوالده.
كذلك الحال بالنسبة لرجل الأمن الذي يُحاول توقيف شخص بموجب مذكرة توقيف, إذ لا يجوز لهذا الشخص أن يدفع محاولة التوقيف عنه, وإلا عوقب على فعله.
مع الإشارة الى أنه في حال كان المعتدي مستفيداً من أحد أسباب الإعفاء من المسؤولية (كالغلط أو الإكراه...) أو من أحد الأعذار المحلّة أو المخففة (التي تعدل في مدى العقوبة), وهي كلّها أسباب لا تزيل الوصف الجرمي عن فعل المعتدي, الذي يبقى في عداد الأعمال غير المحقة, فإن الإعتداء الصادر عنه يبقى غير محق, ويجوز بالتالي دفعه عن طريق الدفاع المشروع عن النفس أو الملك.

 

4- أن يكون غير مُثار:
وهذا يعني ألا يكون المُدافع هو الذي أنشأ الوضع الذي اضطر فيه المعتدي الى القيام بالفعل الذي ولّد الخطر. فإذا كان مَن يريد التذرّع بالدفاع المشروع هو الذي أثار خصمه, فأقدم هذا الأخير على فعل يشكّل خطراً على الأول, فلا يكون الأول في حالة دفاع مشروع, إذا عمد الى ردّ الخطر المذكور؛ مثال على ذلك, أن يكون أحد الأشخاص ماراً في الطريق, فيأتيه آخر ويتحداه ويُهينه, حتى يخرج عن طوره, ويهجم عليه ليضربه (يعتدي عليه). هنا, لا يحقّ للمُثير أن يتذرّع بالدفاع المشروع عن النفس لتبرير أفعال الضرب أو الجرح أو القتل, التي يأتيها على شخص المعتدي, لأنه هو مَن تسبب بالإعتداء. ولذلك, يكون فعله معاقباً عليه قانوناً.
مع الإشارة الى أن الإثارة المذكورة هي تلك الناتجة عن تصرّف قصدي, أتاه الشخص, فحمل المُعتدي على الاعتداء. أما إذا نتجت الإثارة عن خطأ غير قصدي, أتاه المعتدى عليه, فيكون بإمكانه اللجوء الى الدفاع المشروع لدفع الإعتداء الصادر عن المعتدي.
 

- في فعل الدفاع:
لم يُحدد القانون صور الدفاع التي يمكن اللجوء إليها لدفع الإعتداء؛ لذلك, يمكن للدفاع أن يرتدي أي شكل جرمي, فيتم إما بسلوك إيجابي أو بسلوك سلبي, شرط أن يكون ضرورياً لدفع الإعتداء, ومُتناسباً معه.

 

1- أن يكون الفعل ضرورياً:
يشترط في فعل الدفاع أن يكون موجهاً الى مصدر الخطر, وأن يكون ضرورياً لرد الإعتداء؛ بمعنى ألا يكون بإمكان المدافع أن يدرأ الخطر عنه (أو عن سواه) إلا بارتكابه الجريمة التي أقدم عليها. فإذا كان بإمكانه التخلص من الخطر الذي يهدد حقه (أو حق غيره) عن طريق فعل مباح (أي فعل لا يُعدّ جريمة), كالإلتجاء الى السلطات العامة في الوقت المناسب فعلاً, فإنه لا يُباح له الإقدام على الفعل الذي تقوم به الجريمة.
ولكن, ماذا لو كان بوسع المهدد بالخطر أن ينجو بحقه, عن طريق الهرب, ولكنه, مع ذلك, فضّل الصمود ومواجهة الخطر بأفعال الدفاع الملائمة؟
ردّاً على هذا التساؤل, إتجه الرأي الراجح في الفقه والاجتهاد الى إجازة مثل هذا الدفاع, ذلك أن الدفاع هو حقّ, بينما الهرب هو مبدئياً مُشين, ويدلّ على الجبن.
أما لو حصل الهرب في ظروف معينة, من شأنها أن تجعله غير مشين, فعندها يُحظّر على المهدّد بالخطر أن يلجأ الى العنف, ويتعيّن عليه الهروب. مثال على ذلك, أن يتعرض شخص لاعتداء صادر عن مجنون, أو عن طفل, أو عن أب أو أم, إذ لا يكون الهرب في مثل هذه الحالات مشيناً, أو موصوماً بالجبن.

 

2- أن يكون الدفاع مُتناسباً مع الإعتداء:
لا يكفي أن تكون الجريمة لازمة وضرورية لردّ الإعتداء, إنما يجب أن تكون أيضاً مُتناسبة معه. والتناسب بين فعلَيْ الإعتداء والدفاع يعني ألا يكون هناك تجاوز أو إفراط في ممارسة حق الدفاع المشروع.
إن تقدير أمر التناسب موضوع شديد الدقة والصعوبة, كونه لا يخضع لمعيار واحد, وعام, ينطبق على جميع الحالات؛ فالمعيار المعتمد في هذا المجال قوامه “الشخص العادي”, المُحاط بذات الظروف التي أحاطت بالمدافع, وهو معيار يتغيّر مع كلّ حالة, ويتكيّف مع الظروف التي حصل فيها الحادث, لا سيما وأنّ المعتدى عليه لا يكون في وضع الهادئ المطمئن الذي يُمحّص الأمور بروية, كما يفعل القاضي الناظر بالدعوى.
ومن الظروف التي تؤخذ بعين الاعتبار, نذكر القوة الجسدية لكل من المعتدي والمدافع, وسنهما, وجنسهما, ومكان حصول الإعتداء, وزمانه, والوسائل المُتاحة للمُدافع... الخ؛ فيُعدّ مثلاً في حالة الدفاع المشروع من يستخدم سلاحه ضد معتد غير مسلح, ولكن مشهود له بالقوة الجسدية, وبالقدرة على إرهاق الروح (القتل) بضربة واحدة, أو كأن يحصل الإعتداء مثلاً في مكان مقفر أو في الليل.
على العكس, لا يُعدّ في حالة دفاع مشروع عن النفس من يواجه الصفعة والشتيمة بإطلاق النار والقتل.
والجدير بالذكر أنّ التناسب لا يعني المساواة الحسابية بين الضرر الذي كان سينتج عن الإعتداء وردّة الفعل الحاصلة, إذ لا شيء يمنع من أن يُنزَل بالمعتدي ضرر أشدّ مما كان ينوي إحداثه؛ كما لو حاول شخص اغتصاب امرأة, فدافعت عن نفسها بقتله؛ أو حاول شخص اختطاف فتاة, فألحقت به الأذى الشديد. ولكن, يُشترط طبعاً ألا يكون في الوسائل المُتاحة للمعتدى عليه ما يسمح له بدرء الخطر عنه بضرر أقل من الذي أحدثه المعتدي, فإذا تعددت الوسائل المُتاحة أمامه, توجّب عليه اختيار أهونها وأقلّها خطورة.

 

أثر الدفاع المشروع

متى توافرت الشروط الآنفة الذكر في كل من فعل الإعتداء وفعل الدفاع, اعتُبر فعل الدفاع المشروع مبرراً ومشروعاً, بمعنى أنه لا يشكّل جريمة جزائية.
يترتب على ذلك أن لا مسؤولية جزائية على المُدافع, فلا تُنزَل به أية عقوبة جزائية؛ وكذلك, لا مسؤولية مدنية عليه, فلا يُلزم بدفع أي تعويض عن الضرر الحاصل نتيجة فعله (أو عدم فعله).
إضافة الى ذلك, يمتد أثر الإباحة (الإجازة) الى كلّ فعل مرتبط بفعل الدفاع الأصلي, فيصبح بدوره مُباحاً, ويمتد الى كل من ساهم فيه, سواءً علم بتوافر حالة الدفاع المشروع, أم لم يعلم بها.
هذا, في حال كانت شروط الدفاع المشروع كلّها متوافرة.
أما في حال أفرط المدافع في الدفاع (أي تجاوز حدوده), فلا يكون في حالة الدفاع المشروع, ويزول تبعاً لذلك السبب التبريري, الذي يُزيل الصفة الجرمية عن الفعل, فيُسأل عن فعله مسؤولية قصدية (في حال كان التجاوز مقصوداً), أو مسؤولية غير قصدية (إذا أتمّ التجاوز بالخطأ, من دون القصد).
غير أنه يمكن في هذه الحالة أن يُعفى المدافع من العقاب إذا ما تبيّن أنه أقدم على الفعل (فعل الدفاع) في ثورة إنفعال شديد انعدمت معها قوة وعيه وإرادته. ولكن لا يكون لهذا الإعفاء (من العقاب) أي مفعول تجاه مسؤوليته المدنية, ويُلزَم بالتعويض للمتضرر.
تُطرح في هذا الصدد مسألتان:
أولاً: ماذا لو توافرت شروط الدفاع المشروع كافةً, ولكنّ المدافع أخطأ في رده, فأصاب, عن غير قصد, حقاً للغير (أي لغير المعتدي)؟
ويتحقـق ذلك, إما في حـال أصـاب المُدافـع شخصاً غير المعتدي, إعتقاداً منه أنه هو المعتـدي (كما لو تعرّض لهجـوم في الظلام, فأطـلق الـنار على مَن يسـير خلفـه, ظنـاً منـه أنـه هو مَن اعـتدى عليـه, في حين أن المعتدي هو شخص آخر), أو في حال أخطأ المُدافع في توجيه الدفاع, نظراً لعدم دقته في التصويب, فأصاب شخصاً آخر غير المعتدي (كأن يكون هذا الشخص مارّاً بالصدفة في مكان الحادث).
في هاتين الحالتين, يتجه الرأي الراجح في الفقه الى اعتبار أنّ فعل الدفاع مبرر (أي يشكّل دفاعاً مشروعاً) طالما أن المُدافع لم يرتكب أي خطأ, وبذل كلّ ما يلزم من عناية واحتياط, لإصابة المعتدي وحده, إلا أنه, ولأسباب لا سيطرة لإرادته عليها, حدث أن أصاب الغير. أما في حال ثبت أنه ارتكب خطأ ما في دفاعه, فيُسأل عن جريمة غير قصدية.
ثانياً: ماذا لو توافرت شروط الدفاع المشروع, إنما اضطر المدافع, عن قصد, وكي يتمكن من الدفاع, المساس بحقّ للغير (أي لغير المعتدي)؟
مثال على ذلك أن يُتلف المُدافع شجرة يملكها الغير, كي يحصل على عصا يستعملها في دفاعه بوجه المعتدي.
في هـذه الحالة, يتّجه الرأي الراجـح في الفقـه الى اعتبـار أن فعـل المُدافـع لا يُعتـبر من قبيل المشروع, طالما أنه لم يُوَجّـه الى مصدر الخطر, أي الى المعتدي بالذات, ولكن ­ وبحسب الرأي الراجح ­ لا مانع من الاستعانة بحالـة الضـرورة إذا مـا توافـرت شروطـها (ومن بينها أن يكـون الخطـر الذي تعـرّض له المـدافع جـسيماً).
 

الحالتان الخاصتان للدفاع المشروع

في الأصل, يتعين على من يدعي أنه كان في حالة الدفاع المشروع أن يثبت توافر كافة الشروط (المذكورة آنفاً), سواءً لجهة فعل الإعتداء, أم لجهة فعل الدفاع. وهو أمر ليس باليسير دوماً.
لذلك, أوجد المشترع حالتين, إفترض فيهما (بموجب قرينة قانونية) أن الفاعل (المُدافع) كان مهدداً بخطر (حالّ وغير محقّ... الخ), وأنّ دفاعه كان لازماً لدفع الخطر, ومُتناسباً معه, فأعفاه من إثبات توفّر كافة هذه الشروط, للتذرّع بالدفاع المشروع, مكتفياً بإثبات الظروف الواقعية للحادثة.

وهاتان الحالتان هما:
­ فعل مَن يدافع عن نفسه أو عن نفس الغير, أو عن أمواله, تجاه مَن يُقدم باستعمال العنف على السرقة والنهب.
­ الفعل المقتَرَف عند دفع شخص, دخل أو حاول الدخول ليلاً الى منزل آهل (أي مسكون), أو الى أحد ملحقاته الملاصقة, بتسلّق السياجات أو الجدران أو المداخل, أو ثقبها أو كسرها, أو باستعمال مفاتيح مُقلّدة أو أدوات خاصة.
مع الإشارة الى أن هذه القرينة القانونية, الموضوعة لمصلحة المُدافع ليست إلا قرينة بسيطة, أي قابلة لإثبات العكس, بمعنى أنه يجوز لمن تلقى فعل الدفاع (أي من اعتُبر معتدياً) أن يثبت أنّ المُدافع المزعوم لم يكن على اعتقاد بأن الاعتداء على الأشخاص أو الأموال كان غرضه المباشر. فتزول عندها حالة الدفاع المشروع, ويُعاقَب المُدافع المزعوم على فعله.

 

المراجع

­ القانون الجنائي العام ­ المسؤولية الجنائية (الجزء الثاني) ­ د. مصطفى العوجي.
­ شرح قـانـون العقوبـات اللبـناني ­ القسـم العــام (المجــلّد الأول) ­ د. محــمـود نجيـب حسني.
­ مجموعة محاضرات في قانون العقوبات العام ­ د. وليد غمرة.