وجهة نظر

الدكتور محمد شيّا: العقل لا الغرائز لتنظيم العلاقات اللبنانية والعربية
إعداد: جان دارك ابي ياغي

حاضر في قاعة العماد نجيم

«الدين ليس سبباً للتأخر والانحطاط، ولكن إذا دبّت عوامل الجمود والضعف والتأخر والانحطاط في أمة من الأمم، فليس في وسع الدين أن يمنع عن هذه الأمة تأخرها وتخلّفها».
هذا الكلام جاء خلال محاضرة ألقاها الدكتور محمد شيّا (أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية) بعنوان: «العقل لا الغرائز، لتنظيم العلاقات اللبنانية والعربية، وذلك في قاعة العماد نجيم في وزارة الدفاع - اليرزة، بحضور نائب رئيس الأركان للتجهيز العميد الركن جورج مسعد ممثلاً قائد الجيش العماد ميشال سليمان، وعدد كبير من ضباط الألوية والأجهزة والإدارات العسكرية في الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والمجلس الأعلى للدفاع.
بداية، قدّم العقيد الركن إميل منذر المحاضر، وقال: «هما خصمان منذ أن نفخ الله في الإنسان روحاً، ونقيضان منذ أن شرع الإنسان يُلبس الأشياء أسماءً. إني أتكلم على العقل والغريزة. هو يضيء في درب صاحبه سراجاً فيظهر له دربه، ويُعلي له بنياناً على الصخر فيثبُتُ بنيانه، وهي تسدل على عينيه ستاراً فيسير على غير هديٍ، وتقيم له عمائر على الرمل فتميد عمائره، فشتّان بين ما يُبنى على الرمل وما يُقام على الصخر...».

 

الثوابت التاريخية

 إستهل للدكتور محمد شيا محاضرته بالقول:
الثابت الوحيد والنهائي في التاريخ، كل تاريخ، هو أنه لا يمكن اطلاق حكم نهائي وتعميمه على جماعة أو شعب في مراحل حياته كافة. والعرب في ذلك ونحن منهم، كسواهم من الشعوب العريقة في التاريخ، مروا في صعود وفي هبوط. فحين توافرت لهم أسباب الصعود بلغوا الذروة في القوة والعلم والتمدن والأخذ بأسباب الحضارة قاطبة. وحين تراكمت عندهم أسباب الهبوط بلغوا الحضيض في ذلك كله.
حين كان العرب أهل حضارة منتصرة صاعدة، إلتزم حكامهم الحق والعدل على أنفسهم قبل الآخرين، وعلى أبناء جلدتهم قبل الأغراب، فبات عدلهم مضرب مثل. وشجعوا العلم وقرّبوا العلماء واعتبروهم ورثة الأنبياء، فدفعوا وزن الكتاب ذهباً، فكانت معرفة العربية  شرطاً لكل متعلم شرقاً وغرباً، ويصل الأمر بالمؤرخة هنغريد زونكه لتقول في كتابها «شمس العرب تسطع على العالم»: إن نهضة أوروبا تأخرت خمسة قرون لأن العرب أوقفوا في بواتييه ولم يدخلوا حضارتهم الى أوروبا.
كما مارس العرب قيم التسامح والانفتاح وقبول التنوع والاعتراف بالآخر قبل أوروبا بألف سنة...
وحين أفِلت شمسهم وتكاثرت هزائمهم، وتخلفوا عن الركب الحضاري الصاعد، إنقلب كل ما كان مُبهراً ولافتاً في حضارتهم الى ضده، وبدل تشجيع العلم شطبوه وانتهى العلماء خدماً أو خدناً أو سجناء أو قتلى أو مطرودين الى كل أرض استقبلتهم. ووجد الحكام من وسائل التحريض للجمهور والعامة ما تكفّل بخلق جمهور متعصّب، شوفيني حتى درجة العنصرية معادٍ لكل تغيير أو تجديد حقيقي، وغاب من سلوكه التسامح مع الآخر، لا بل انقلب تشدداً.

 

أين الخطأ؟

ويسأل الدكتور شيّا:
من أين دخل علينا هذا التخلف كله؟ أين الخطأ؟
ويجيب رداً على المزاعم التي تقول ان الدين عندنا هو سبب تأخرنا، والعقبة التي تمنع علينا دخول العصر، بالقول:
لم يكن الدين، كل دين، وفي أي يوم من الأيام سبباً في تخلّف جماعة أو شعب أو أمة. الدين بعكس ذلك تماماً، وبخاصة في فجر دعوته، كان ثورة بالمقاييس الروحية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية كلها. أكثر من ذلك، لقد كان الدين سبباً إضافياً في تقدم الشعوب التي تمكنت من أسباب التقدّم فكان دينها عاملاً إضافياً إيجابياً في صيرورة تقدمها، ولم يكن عاملاً سلبياً معيقاً. والأمثلة على ذلك كثيرة: من نهضة الشعوب العربية بعيد صعود الاسلام وانتشاره، الى نهضة أوروبا الغربية بدءاً من القرن السادس عشر، الى نهضة اميركا واليابان في القرن التاسع عشر، الى نهضة دول جنوب شرق آسيا منذ عقدين (وبخاصة ماليزيا الاسلامية حتى العظم).
الدين إذاً ليس سبباً للتأخر والانحطاط، ولكن إذا دبّت عوامل الجمود والضعف والتأخر والانحطاط في روح أمة من الأمم وفي جسدها، فليس في وسع الدين أن يمنع عن هذه الأمة تأخرها وتخلّفها.
ويعود ويسأل: أين الخطأ؟ ما الذي حدث؟ وما الذي جعلنا نخسر معركة التحدي الحضاري والصعود الحضاري؟
السبب، في رأيي ورأي الكثيرين من المفكرين، وباختصار، هو: استقالة العقل من حياتنا العربية الراهنة من موقعه ودوره ووظيفته. وإذ يخرج العقل من حياتنا تتقدم الغريزة، بل الغرائز، الى الواجهة فتحتل الفراغ الذي خلا بخروج العقل - والطبيعة كما تعرفون لا تحتمل الفراغ.

 

آفة الغرائز

استقالة العقل وحلول الغرائز بديلاً منه، يتابع د. شيا، هي إذاً السمة الطاغية على حياتنا العربية الراهنة، أفراداً أو جماعات، إقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً بل وسياسياً - على الرغم من أن السياسة يجب أن تكون نقيض الغرائز.
الأكثر إلحاحاً الآن هو توصيف مظاهر الغريزة الضاربة في سلوكنا وحياتنا وفكرنا، والتفكير في الطرق الآيلة للخروج من النفق المظلم الذي بتنا فيه.
الناظر اليوم في السياسات العربية (وبعضها السياسات اللبنانية) سيجد أنها، في الممارسة لا في النظرية، محكومة بسلسلة من السلوكيات وردود الأفعال الغريزية، اليكم عينات منها لا أكثر:
- غريزة الأنا، فالأنا محور الدنيا عندنا، لا شيء سواها أو بعدها.
- غريزة العشيرة والقبيلة، وهي الأنا الممتدة، فالأقرب لي هو ابني وأخي ثم أولاد عمومتي وأبناء حارتي، ولو كانوا على خطأ، بينما الأبعدون مبعدون ولو كانوا على حق.
- غريزة الطائفية، لا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد. عمل على زرعها في النفوس، كل من في رأسه غرض أو مرض، وبكل وسيلة، أما الغاية فالكسب والوصولية السياسية والمادية بأقصر الطرق ولكن بأبشعها.
- غريزة الغنيمة والكسب، فالوظيفة العامة هي في الغالب لتسهيل نهب ما ليس لنا، بل ما يفترض أن يكون للناس ونحن مجرد حراس له.
- وأخيراً غريزة التعصب، وهي تلي ذلك كله. فالتعصب مرض، بل آفة، لا تصلح للدفاع عن رأي أو دين أو حق. بل هي تضعف رأينا وديننا وحقنا. فتعيق تبادل الرأي، والنقاش الصريح بلا خوف، وننتهي بتكفير وتخوين بعضنا بعضاً، فيما دعت كتب السماء وبوضوح الى الجدل بالحسنى، لا بالعنف، أياً كان شكله.
هذه الغرائز بل الآفات أحالت الحياة العربية السياسية والاجتماعية والثقافية الى صحراء كبرى من الخوف والصمت والقحط. وأرقام الأونيسكو حول عدد ترجماتنا وإبداعاتنا وما ننفق على البحث العلمي ونسبية الأمية لدينا، كلها إن دلت الى شيء فإلى حال الخواء الذي تعيشه المجتمعات العربية، وليس الأنظمة السياسية وحسب - خلا قلة من الجزر الناجحة هنا أو هناك.

 

بين الماضي والحاضر

في نظرة الى الواقع اللبناني، قال الدكتور شيا: كان لبنان قاطرة الحداثة والتحديث للمنطقة العربية منذ احتضن دير مار قزحيا أول مطبعة عربية قبل أكثر من ثلاثمئة عام، ومنذ احتضن أول جامعتين عربيتين بالمعنى الحديث سنتي 6681 و5781 على التوالي. وكان لبنان قاطرة التحديث يوم كان له أول دستور مدني، شبه علماني حيث لم تذكر فيه الطائفة الا عرضاً ولوقت قصير - هكذا ظن الآباء المؤسسون.
لبنان الذي استمر حتى سبعينيات القرن الماضي جامعة العرب ومطبعتهم ومصرفهم ومستشفاهم ومتنفس مثقفيهم وأحرارهم، لبنان هذا لم نكتشف خصوصية تجربته الا بعد ذبحه، ولم نكتشف سحره وغناه الا بعدما خسرناه.
خسرناه ببساطة يوم تخلّى اللبناني عن نقطة قوته وتميّزه وهي العقل؛ وانساق في الأوهام تتحكم به نقطة ضعفه وهي: الغريزة.
لقد خسر اللبناني يوم تخلّى عمّا عنده من عقل وحكمة وذكاء وتنوع وتسامح وحداثة، وانساق في لحظة ضعف وراء غرائزه، لنصل اليوم الى ما نحن فيه من جمود اقتصادي، وبطالة، وهجرة شباب وأدمغة، وجبل من الدَين بات يعادل ضعفي كل الناتج الوطني.
واستنتج الدكتور شيّا أن: لهذا الخراب الروحي والمادي الجاثم في نفوسنا وعلى صدورنا والذي قادتنا الغرائز اليه، بديل واحد هو باختصار: العودة الى العقل.
هذا البديل ليس طوباوياً كما قد يُظن، بل هو واقعي ممكن ويجد ترجمته العملية في برنامج من نقطتين لا أكثر:
1 - العودة الى الدولة بدلاً من الطائفة.
2 - العودة الى القانون بدلاً من شريعة الغاب والغنيمة والكسب.
كفى خلطاً، إذاً، بين الدين والطائفة، وبين الديني والطائفي!
فبقدر ما كان الدين في فجر دعوته ثورة روحية وأخلاقية على الجمود والتقليد والانحراف، تبدو الطائفية وبالمقدار نفسه انقلاباً على الدين، بل ردة ضد إنجازاته، وإعلاناً لعودة البربرية والجاهلية الى الحياة، وانتقامهما من الدين نفسه...

 

ماذا عن المستقبل؟

إذا كان الدين الضحية الأولى للطائفية فالضحية المباشرة الثانية هي الدولة.
واذ رأى ان الدولة تعبير أخلاقي عن الحرية، حرية الكل في سبيل الكل، ختم د. شيا بالقول:
إذا كان نصف الايمان لا يصنع إيماناً، ونصف العلم لا يصنع مثقفاً، فإن نصف المواطنية، وبالميزان نفسه، لا يصنع وطناً.
لم يعد في وسع الوطن، بعد هذه المعاناة الطويلة، أن يحتمل أنصاف مواطنين، وأنصاف ولاءات، وأنصاف إنتماءات، وأنصاف حلول...
 على اللبنانيين أن يقرروا مرة واحدة وأخيرة:
الوطن أم الطائفة؟
وبكلام آخر: العقل أم الغرائز؟
وتبعاً لإجاباتنا، يكون ما نورثه لأولادنا وأولاد أولادنا: إما وطناً، أو ساحة لحروب لا تنتهي.
وفي الختام، شكر ممثل قائد الجيش العميد الركن جورج مسعد الدكتور المحاضر وأثنى على مضمون محاضرته، ثم قدّم له درع الجيش عربون تقدير.