الدور السوسيولوجي-السياسي للاحزاب الدينية في اسرائيل

الدور السوسيولوجي-السياسي للاحزاب الدينية في اسرائيل
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

1- نشأة ونمو الاحزاب الدينية:

في اعقاب صدور الحكم بالسجن المؤبد على جوناثان بولارد، اليهودي الاميركي الذي ادين بتهمة التجسس لصالح اسرائيل في اثناء عمله لدى البحرية الاميركية، فوجىء الاميركيون عندما سمعوا ان بعض الاسرائيليين عدّ بولارد كأسير حرب، وعدّ حبسه في سجن اميركي شبيها بحال طيار اسرائيلي اسقط وراء خطوط العدو، وهنا طرح السؤال: كيف يمكن للولايات المتحدة، الدولة التي لا مثيل لها في العالم بكرمها وسخائها حيال اسرائيل في شتى المجالات المادية والسياسية، ان توصف في اسرائيل بأنها عدو؟

في كتابه “الاصولية اليهودية في اسرائيل” رأى أيان لوستيك ان جزءاً هاما من الاجابة عن هذا السؤال، يكمن في التغيير الجذري الذي ادخلته الاصولية الدينية اليهودية في مناخ الحياة السياسية في اسرائيل، وكانت هذه الاصولية قد برزت بشكل واضح على الساحة الاسرائيلية في اعقاب حربي 1967 و1973 وتطورت تدريجيا وتنامت لتصبح قوة سياسية وثقافية كبرى.

اما الكاتب عاموس ايلون فرأى ان من سخرية القدر باسرائيل انها تحولت بعد هاتين الحربين من بلد متميز باعتزازه القومي والتفاني والحميمية والاندفاع على المستوى الداخلي، الى بلد شديد الانقسام على نفسه في ما يتعلق بالمسلمات الاساسية بحياته السوسيولوجية-السياسية وخصوصاً بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزه، الامر الذي يمكن تبسيطه بالقول ان اسرائيل في حرب عام 1967 “ألحقت هزيمة نكراء بالعالم العربي ولكنها في الوقت ذاته تسببت لنفسها ببداية ازمة سياسية وثقافية واجتماعية لا تزال تأخذ مجراها قدما من التصاعد والتعقيد” ([1]). وعناصر هذه الازمة كثيرة من ابرزها: قضية الهوية اليهودية (من هو اليهودي؟) وتطبيع الشخصية اليهودية، ومشكلة اليهود الشرقيين، وهوية الدولة اليهودية، والازمة السكانية السوسيولوجية المقترنة بالازمة الاستيطانية والديموغرافية والاثنية، وسائر الشؤون المتعلقة بحدود الدولة.

وهذه العناصر ما هي في الواقع سوى تجليات لحقيقة انفراط العقد السوسيولوجي السياسي الاسرائيلي او على الاقل تآكله بنسبة كبيرة، الامر الذي يتجلى ايضا في تزايد حدة التنافر والشرذمة والاستقطاب السياسي والاجتماعي، والى نشوء ازمات سلطة وحكم، وفي قصر عمر الحكومات وتهاوي العديد من الزعامات والقيادات خلال فترات وجيزة. ولكن على الرغم من كل هذا التداعي والتآكل فانه يظل هناك اجماع يهودي-صهيوني شبه كلي لم يتعرض للتآكل، ويتمحور حول رفض الاعتراف بحقوق الفلسطينيين الانسانية والسياسية وخصوصاً حقهم الشرعي والتاريخي في ارضهم المغتصبة ([2].

الجدير بالذكر ان الاحزاب الدينية وفّرت للكيان الصهيوني مستلزمات جموحه الامبريالي في حين كان الآباء المؤسسون لهذا الكيان كلهم تقريبا ملحدين غير مبالين بالدين، على الرغم من ان تشريعهم للمشروع الصهيوني برمته اتى من الحكايات والاساطير والمدونات التوراتية التي وجدت لها صدى لدى ما “يسمى الصهيونية المسيحية” المتمثلة في المذهب البروتستانتي الانكليكاني. ومنذ العام 1967 حولت الصهيونية الدينية، التي غالبا ما توصف بالنزعة المسيحانية الخلاصية والاصولية، الخطابة الصهيونية الهرتسلية من الطموح العلماني لانشاء “دولة اليهود” ذات السيادة، الى استعادة “ارض اسرائيل الكاملة” بحسب سفر الرؤيا. وتطورت الاصولية اليهودية ورافقت نجاحات الصهيونية في حروبها واعتداءاتها على الدول العربية، وتحولت الى قوة سياسية وثقافية رئيسية على الساحة الاسرائيلية لها بالغ التأثير في مواقف والتزامات الكثيرين من القادة الاسرائيليين من سياسيين وعسكريين في شتى المناسبات.

وهكذا ترددت التصريحات والدعوات والتحريض السياسي والديني بشأن وجوب ان يستمر الشعب الاسرائيلي في المعارك التوراتية القديمة لاستيطان “ارض اسرائيل” التي يمكن اكتسابها بالجمع ما بين الايمان الديني والقوة العسكرية تحت شعار: “ارض اسرائيل لشعب اسرائيل بحسب توراة اسرائيل” بقوة جيش اسرائيل.

وقد شجع عدوان اسرائيل الغاشم على لبنان عام 1982 الكثير من اليهود المتدينين على الخلط بين الدين والسياسة، وعلى مناقشة اوامر (الهالاخاه) - الشريعة اليهودية - الملزمة بالتوسع الاقليمي تجاه لبنان مهما يكن الثمن. وزعم هؤلاء اليهود المتدينون ان اراض واسعة من لبنان انما هي ملك لسبط آشير التوراتي، وحتى اسم بيروت جرت عبرنته الى “بـئروت”  -اي “آبار” بالعبرية. واصدر اعضاء من حاخامية الجيش الاسرائيلي منشوراً استشهد بـ”ميراث آشير” من سفر يشوع. وفي شهر ايلول من العام نفسه نشرت مجلة “نكوداه” (نقطة) دراسة ليهودا اليتسور يدعي فيها ان اخطر تشويه لحدود اسرائيل كان في الشمال، في لبنان ([3]).

واعلنت مجموعة من الحاخامات تأييدها لاجتياح لبنان الذي بحسب رأيها “اعاد ممتلكات سبطي نفتالي وآشير الى حدود اسرائيل”. وذهب الحاخام يسرائيل آريئيل الى ابعد من ذلك مؤكدا ان “حدود ارض اسرائيل تشمل لبنان حتى طرابلس في الشمال وسيناء وسوريا وجزءاً من العراق وجزءاً من الكويت”.

وصرّح اربعون حاخاما اميركيا جيء بهم لرؤية العاصمة اللبنانية التي كان يحاصرها شارون ويقصفها، ان عملية “سلامة الجليل” كانت من وجهة النظر اليهودية الدينية حربا محقة و”حربا مأموراً بها” والزامية. واوحى الحاخام بليتش وهو عالم يهودي اميركي بارز بأن مقطعا شعريا من نشيد الاناشيد التوراتي يؤيد الاستيلاء على الجنوب اللبناني. واعتبر ذلك بأنه خطوة اخرى نحو الاسترداد الكامل لهذه المنطقة. وعارض الحاخام لوبا فيتش في بروكلين الانسحاب من جنوب لبنان في العام 1985.

وعارض بعض الحاخامات البارزين من “غوش ايمونيم” الانسحاب من مستعمرة ياميت في شمالي سيناء وانشأوا لهذه الغاية منظمة دعيت “العودة الى سيناء”، وقد اضطر آرييل شارون رئيس الوزراء الجديد الى الاعتذار من هؤلاء لتأييده في حينه فكرة الانسحاب من ياميت، والى اعلان التوبة عن تكرار ذلك، وطالب حاخامون عديديون بطرد الفلسطينيين من الاراضي المحتلة باكملها ونفيهم الى دول عربية اخرى ([4]).

واعتبر اتباع الحاخام كوك ان متابعة التوسع الاقليمي مشفوعة باقامة السيادة اليهودية على كامل “ارض اسرائيل” المذكورة في التوراة وبناء الهيكل في القدس، تشكّل كلها جزءاً من تطبيق الاسترداد المشياحي (نسبة الى المشياح وهو في عقيدتهم المسيح المنتظر) المقدر إلهياً. واعتبر الحاخام شلومو آفنير، حاخام مدرسة “عطيريت كوهانيم” الدينية انه “حتى بوجود سلام، يجب علينا اثارة حروب تحرير من اجل الاستيلاء على اجزاء اضافية من ارض اسرائيل ([5]).

ويعطي العديد من حاخامات غوش ايمونيم توجيهاتهم السياسية الى انصارهم واتباعهم من عتاة المستوطنين من اجل طرد العرب الفلسطينيين من ارضهم تحت شعار “اليهود آتون والعرب ذاهبون” ومن ذلك قول زعيمم بيني كاتسوفر: “الآن هو الوقت للقيام بهجوم مركز، الآن هو الوقت لتحطيم نفسيتهم نهائيا. الآن هو الوقت لسحق قيادة الانتفاضة ولطرد القادة الخمسين الرئيسيين للمشاغبين. الآن هو الوقت لطرد 5000 محرض ومشاغب رئيسي... الآن هو الوقت لاعطاء الاوامر لجيش الدفاع الاسرائيلي باطلاق النار من دون تردد بغية اصابة كل مشاغب” ([6]).

والجدير بالذكر ان المجموعات الاستيطانية الدينية المتمثلة بانصار غوش ايمونيم والجماعات اليهودية السرية وانصار جبل الهيكل واغودات يسرائيل وسواها قد تمتعت طيلة السبعينات والثمانينات بشكل خاص بدعم حاسم من زعماء الليكود وقيادات حزبية اخرى ولا سيما من قبل مناحيم بيغن وآرييل شارون ورئيس الاركان السابق الجنرال رفائيل ايتان وايضا من قبل شامير ونتانياهو...

 

أ- المعسكر الديني وتفرعاته:

ينقسم عالم المتدينين في اسرائيل من الناحية السياسية والاجتماعية الى مجموعة من الاحزاب والحركات التي يؤيد بعضها الصهيونية ويعاديها البعض الآخر. اما الاحزاب والحركات المؤيدة للصهيونية فهي اولاً حزب مفدال (الحزب الديني القومي) الذي تشكل نتيجة اندماج حزبي همزراحي وهبوعيل همزراحي عام 1956، وحزب اغودات يسرائيل الذي انتقل من معادة الصهيونية ما قبل التأسيس عام 1948 (ما عدا مجموعة صغيرة انسلخت عن هذا الحزب وبقيت على عدائها للصهيونية ولاسرائيل معا وهي مجموعة “نواطير المدينة” او ناطوري كارتا بالآرامية) بالاضافة الى حركة كتلة الايمان (غوش ايمونيم) وحركة كاخ العنصرية وحركة الوسط الديني ميماد وحركة كاهانا حاي الشوفينية.

والحقيقة انه لا توجد احزاب معادية للصهيونية بالمعنى الحقيقي للكلمة بل هناك حالة سوء تفاهم بين اليهود الشرقيين والغربيين وبين اليهود العلمانيين والمتدينين حول اية صهيونية يريدون وحول اية دولة ينبغي ان تمثل هذه الصهيونية. الا انه توجد مع ذلك مجموعة من الحركات والجماعات الدينية الصغيرة غير الحزبية التي تعارض الصهيونية مثل حركة حباد الحسيدية (الصوفية) وحركة الطائفة الحريدية بالاضافة الى حركة حراس المدينة المشار اليها آنفا، ولكنها لا تتمتع بالثقل التمثيلي السياسي المؤثر على سياسة الدولة.

يضاف الى ما تقدم انه انشقت عن الاحزاب والحركات الدينية المذكورة حركات ومجموعات اخرى على خلفية طائفية وعرقية اكثر من اي شيء آخر، مثل حركة تامي وحركة متسادا وحركة موراشاه التي انسلخت عن حزب المفدال الذي كان يهيمن عليه اليهود الاشكينازيم، في حين ان انصار هذه الحركات كانوا من اليهود الشرقيين تحديدا.

في هذا السياق تجدر الاشارة الى ان الاحزاب والحركات الدينية الصهيونية والمعارضة للصهيونية لا تعدو كونها تندرج في احد شكلي الصراع بين الدين والدولة اللذين انتهى اليهما الفقيه الفرنسي موريس دي برجييه ([7])،  وهما الصراع من داخل اطار النظام والصراع على النظام، اي بمعنى ان الاحزاب الدينية الصهيونية (المفدال والاحزاب المنشقة عنه) تؤمن بالصهيونية وتعمل على تحقيق مطالبها ومصالحها في اطار النظام القائم، في حين ان الاحزاب الدينية الحريدية المتشددة (حزب اغودات يسرائيل) والاحزاب المنشقة عنه لاسباب طائفية وعرقية وخصوصاً حزب شاس ([8]) لا تزال حتى اليوم لا تعترف بالصهيونية العلمانية ولا باسرائيل ككيان شرعي، ولكنها ارتضت بالدولة كأمر واقع وهي تعمل على تغيير نظامها السياسي من خلال العمل في اطار النظام ذاته، انتظاراً لليوم الذين يتم فيه تحول الدولة الراهنة الى دولة تحكمها التوراة بعد قدوم المشياح. وفي هذا المجال  تأتي توصيفات الحاخام عوفديا يوسف لنتنياهو بأنه عنزة عمياء ولباراك بأنه عدو لليهود وليوسي ساريد بأنه هامان.

 

2- صعود الاحزاب الدينية:

على الرغم من معارضة قادة الدولة (وهم من الحركة الصهيونية العمالية في الاساس) اي دور سياسي للدين التقليدي، الا انهم رأوا فيه احد مقومات القومية اليهودية وبالتالي عمدوا الى استغلال الدين وما يختزنه من قيم ورموز واعياد من اجل بلوغ ثلاثة اهداف هي:

1- توحيد افراد المجتمع عن طريق ايجاد مجموعة من القيم والمعتقدات المشتركة بينهم.

2- اضفاء الشرعية على مؤسسات الدولة القائمة وعلى الاهداف التي تسعى الى انجازها.

3- تعبئة جهود وطاقات الافراد في البلد وراء اهداف ومصالح الدولة.

وبجانب استعمالها القيم الدينية، راحت الحركة الصهيونية تعيد  تفسير العديد من الاساطير الدينية القديمة او تبتدع اساطير جديدة. فقصة خروج بني اسرائيل من مصر اضحت  قصة شعب تحرر وتخلص من نير العبودية. وقصة “المكابيين” غدت قصة صراع من اجل الحرية استخدمت فيه القوة المسلحة. وقصة “الماتسادا” صارت ترمز لعدم الاستسلام والتضحية بالنفس والبطولة. وصار كل شيء تقوم به العصابات الصهيونية الارهابية يفسر تفسيرا دينيا او وطنيا، وهكذا تم توليف مفاهيم مثل مفهوم الامة والارض والدولة مع العبارات والمقولات الواردة في التوراة، وتم تشبيه بن غوريون بيوشع بن نون وموشيه ديان بالنبي موسى...

وتبّنت الدولة العديد من الرموز والشعارات الدينية، فألوان العلم  القومي للبلد صارت بألوان شال الصلاة “طاليت” في اليهودية التقليدية، والشمعدان ذو الافرع السبعة (حانوكا) الذي اقرت تعاليم “الرب” بوضعه في المعبد صار رمزا للدولة نظرا لتعدد معانيه. فقادة الدولة رأوا فيه تعبيرا عن استرجاع السيادة اليهودية والعودة الى ارض الاجداد، وذلك لأن الرومان سبق ان نهبوه عند تدمير “الهيكل” كما يرمز الى النور والتنوير، اما المتدينون فوجدوا في اتخاذه شعارا بمثابة رضوخ لتعاليم الاله ونصوص التوراة وهكذا ([9]).

وثمة انطباع لدى العديد من المثقفين بأن صعود التيارات الدينية انما جاء بسبب التنافس بين العلمانيين، ويضيف هؤلاء ان اليهودية الدينية لم تخترع اي اختراع لزيادة قوتها الجارفة، وكل ما حققته اعطي لها بملء الارادة من قبل سياسيين علمانيين. وقد حصل العناق التقليدي الاول بين بن غوريون وحزب المفدال بقصد تدمير اليسار واليمين العلمانيين. وبقدر ما تتفاقم التناقضات بين المعسكر العمالي ومعسكر الليكود، كان المعسكر الديني يحسن مواقعه ويطرح مطالب دينية اكثر. وبغية هزيمة الخصم السياسي سار قادة الامة الى باحات وكلاء الله على الارض، وكان القادة العلمانيون يكذبون على انفسهم ويعتمرون (القلنسوة الدينية) - كيباه - التي لا يؤمنون بها ويذهبون للركوع امام الحاخام بابا سالي والحاخام لوبا فيتش والحاخام شاخ ([10]).

ويرى الكاتب سامي ميخائيل ان قوة الاحزاب الدينية لم تنبع من داخل اليهودية الاصولية بل ان قادة هذه الاحزاب اكتسبوا “القوة والنفوذ على شكل رشاوى من قبل اليسار واليمين المتعطشين دوما للسلطة...

وهذا يعني ان من ضمن عملية دياليكتيكية ملتوية، جمعت اليهودية الحريدية القوة من غروب شمس الصهيونية العلمانية ووقوعها في اوحال التآمر الرخيص من اجل السلطة ([11]). وهكذا سعت الاحزاب الدينية المشياحية والحريدية واليهودية الرسمية المسيطرة على القرار الديني للدولة لجعل اسرائيل دولة تخدم الشريعة اليهودية طالما ان دولة الشريعة لن تقوم الا بمجيء المسيح المخلص. وقد رأى الكاتب مناحيم راهاط ان صعود حزب شاس اللولبي شكل دفعة قوية لنفوذ الاحزاب الدينية التي: “تحطم وتثير حنق الحكومات في اسرائيل ولسوف ترسو  الامور حسب مشيئتها، وان الدولة بكاملها في يدها كما المادة في يد صانعها... وهي (اي الاحزاب) تمسك بمفاتيح الدولة” ([12]).

لقد فرضت حرب عام 1967 ضرورة اعادة ترتيب الاولويات اليهودية والاسرائيلية والصهيونية، وهي بالنسبة لحزب العمل تبنت الاحساس بالثقة والاقتدار على التعايش مع العالم العربي وعلى الانفتاح على الآخر ورفع شعارات  القيم العالمية بالتصالح والسلام. ولكن نبوءة ارض اسرائيل الكاملة او الكبرى تغلغلت الى داخل قطاعات من الصهيونية العلمانية في حزب العمل وفي الصهيونية الليبرالية، وبذلك فقد حزب العمل الذي أعطى اسرائيل طيلة 30 سنة متواصلة، القدرة على الحسم والمبادرة، وتحول الى عنصر سياسي ينساق وراء التطورات والاحداث، الى ان حصل انقلابا عامي 1977 و1996 اللذان نقلا دفة السلطة الى اليمين الصهيوني الشوفيني المتحالف مع القوى الدينية، التي كشرت عن انيابها الحادة من خلال ايصالها كلاً من نتنياهو ثم شارون على التوالي، في ظل شعارات ايديولوجية متطرفة لا تهتم بالمغزى الرئيسي لقيمة (ارض اسرائيل) وحسب، بل ايضا بابراز معنى الدولة في حد ذاته، وابراز عناصر تكديس القوة في مجمل العلاقات سواء مع العالم بأسرة او ما العالم العربي بصفة خاصة، من خلال مقولة:”القوة تحل كل شيء” وابراز عناصر الاختلاف بين اسرائيل والعالم برفع الشعار: “الشعب يقيم لوحده” والاحتياج المتزايد للكراهية باعتبارها عنصرا رئيسيا في الايديولوجيا الصهيونية. وفي هذا السياق تزايدت قوة التوجه المشياحي في كل من اليهودية والصهيونية، بحيث حذر المفكر الصهيوني جرشون شالوم من هذا المنزلق الايديولوجي السياسي البعيد عن الموضوعية والواقعية حيث قال: “اعتقد ان كارثة عظمى ستحدث اذا ما قام الصهيونيون او الحركة الصهيونية باستبدال او طمس معالم الحدود، بين المسار الديني المشياحي وبين الواقع السياسي التاريخي” ([13]).

الجدير بالذكر ايضا انه اذا كانت الصهيونية الدينية حتى حزيران 1967 تتسم بالاعتدال في السياسات الداخلية والمطالبة بتطبيق تعاليم “الهالاخاه” - الشريعة  في قوانين وتشريعات الدولة او في ما يتصل بالسياسة الخارجية، وكانت مرتبطة دائما سياسيا بالصهيونية السياسية، في اطار من التحالف التاريخي، فان هذا الوضع تغير بصورة راديكالية بعد عام 1967، بحيث اضفى اليهود المتزمتون دينيا، وزنا لاهوتيا على المطالبات السياسية بضم الاراضي العربية المحتلة. وفي هذا المجال يقول يهوشفاط هركابي: “ان اليهودية التقليدية في السنوات التالية لحرب 1967 اخذت تغير من موقفها داخل اسرائيل: فبدلاً من الاكتفاء بالتبعية، اخذت تطالب بدور قيادي، وتصر على ان تنبع السياسات الداخلية والخارجية من التشريعات الدينية. ومن ثم اصبحت القومية اليهودية المناضلة عاملا مهما للوصول الى الهدف النهائي لليهودية وهو الخلاص، واصبحت العلاقة بين الدين والسياسة اكثر تألقا، فالدين لخدمة السياسة القومية، والسياسة القومية لتنفيذ الوصايا الدينية ([14]).

والحقيقة ان الصعود الديني اخذ مجراه شيئا فشيئا، حين برزت نقاشات سياسية من نوع جديد داخل المفدال الذي كان متماهيا؛ في مواقفه السياسية مع حزب العمل ومقرا باتفاقية “الوضع القائم” على صعيد علاقة الدين بالدولة، وبعد الحرب برز نشاط غوش ايمونيم التي ما لبثت ان حققت مكاسب ضخمة لصالح الصهيونية الدينية. اما الاحزاب المشياحية والحريدية الاقل تشددا فإنها لم تكن تعتبر “دولة اسرائيل” بداية الخلاص وتعتقد ان عليها انتظار قدوم (المشياح) الذي سيأتي بالخلاص. الا انها باستثناء ناطوري كارتا، تعترف بالوجود السياسي لاسرائيل وتمتثل لقوانينها، وتشارك في انتخابات الكنيست  وفي الائتلافات الحكومية. ولكن غالبية افرادها لا تخدم في الجيس ولديها شبكة تعليم خاصة. وبعد حرب عام 1967 اعتبرت هذه الاحزاب ان “هذه الحرب معجزة واشارة ربانية لبداية الخلاص المشياحية”. واعتبر احد حاخاماتها ان “دولة اسرائيل ككيان صهيوني هي تعبير عن الخلاص، ولكن من ناحية اخرى فأن ارض اسرائيل تحت السيادة اليهودية تنطوي على مغاز دينية ذات اهمية”([15]).

وبناء على ذلك جاءت الدعوة الى عدم التنازل عن اية قطعة من الاراضي التي احتلت عام 1967 من منطلق احكام الشريعة الدينية، ومع ذلك خرجت جماعات تتساءل: “كيف الحرب الى جانب دولة كافرة وملحدة لتنتصر في الحرب؟”، وبالتالي رفضت كل التفسيرات الاعجازية الغيبية.

ولقد شكل العام 1977 معلما بارزا آخر في تنامي قوة الاحزاب والتيارات والحركات الدينية، فمنذ تسلم الليكود بزعامة مناحيم بيغن الحكم اخذت الاحزاب الدينية تستغل المناخ الشوفيني الملتهب من اجل زيادة حمى التعصب الديني.

وقد تجلى نشاط الاحزاب الدينية في هذا الاتجاه بزيادة نشر التعليم الديني، والمزيد من الانخراط في النشاط السياسي والاستيطاني في المناطق العربية المحتلة. وبلغ هذا النشاط أوجه بظهور “الحركة السرية اليهودية” التي قام اعضاؤها بسلسلة من الاعمال الاجرامية والارهابية ضد المواطنين العرب، ومن الاعتداءات الآثمة على الاماكن العربية المقدسة، الاسلامية والمسيحية. وقد رافقت هذا النشاط ايضا الاعمال الفاشية التي كان مارسها الحاخام المتشدد مئير كاهانا ضد المواطنين العرب ومقدساتهم، جنبا لجنب مع اعمال مماثلة مارستها تنظيمات تنتمي الى بعض الاحزاب الدينية مثل غوش ايمونيم (كتلة الايمان).

لقد تحدث البروفسور اورباخ رئيس الاكاديمية الاسرائيلية للعلوم عن فساد الاحزاب الدينية الصهيونية وظاهرة خضوع الاكثرية العلمانية لأقلية دينية والصراع بينهما فقال: “عندما يتصرف اشخاص متدينون يعملون في الاحزاب الدينية، تماما كما يتصرف اشخاص في الاحزاب الاخرى، فإن مسؤولية ذلك تقع عليهم مباشرة.. فالاستقطاب الذي يصل الآن... الى درجة الكراهية والحقد، ما كان سيصل الى هذه الدرجة لولا الاحزاب الدينية وابتزازها” ([16]).

واضاف ان التعايش والمعاملة الحسنة والاحترام المتبادل والمحبة لا تحتاج كلها الى “تشريع”. واستطرد قائلا: “اننا نشهد في التعليم الديني القومي ميلا نحو التعصب الديني، اذ ان صفة التطرف هي الحاسمة”، واشار اورباخ الى فشل الصهيونية في “ايجاد نموذج لانسان جديد، اذ ان الانسان الجديد اكتسب بسرعة صفات الانسان القديم السلبية”. ثم تطرق الى بعض ظواهر فساد المجتمع الاسرائيلي والانحراف عن القيم الانسانية والاجتماعية وقال: “اننا نعيش اليوم في مجتمع يسعى للربح غير المشروع، ويسجد للعجل الذهبي. ان للتربية الدينية الصهيونية اليوم دورا كبيرا ومهما وهو... الحؤول دون الانقسام الذي يصل الى استخدام القوة والعنف” ([17]).

ويعتبر موشيه أونا احد زعماء المفدال القدامى ان “الاحزاب الدينية قد اخفقت في محاولتها الرامية الى ترسيخ مكانتها كأحزاب سياسية” ([18])، وذلك لأنها “بدلا من ان تخفف من حدة المشاحنات بين المعسكرين، ادت محاولتها الى بلورة التناقضات واضافت المزيد من القبح الى صورتها”. ويحمل أونا حزب اغودات يسرائيل وتفرعاته المسؤولية الكبرى عن هذا “الوضع البائس” لأن هذا الحزب “استغل الدولة لتحقيق اغراضه” ([19]). هذا مع العلم بأنه يبدي التحفظ ازاء قيام دولة يهودية ذات طابع علماني وسياسي.

وتجدر الاشارة الى ان تفكك المفدال لا يعني انحسار الانقسام بين التيارين العلماني والديني، بل على العكس، اذ ان العنصر الديني في اسرائيل اخذ يحتل حيزًا واسعاً من ميدان العمل السياسي ولا سيما في مجال انشاء المستعمرات والتشدد في المواقف السياسية تجاه الفلسطينيين والعرب. ولا شك بأن هذا المناخ قد تعزز خلال ولايات حكومات الليكود منذ العام 1977 وحتى الآن في اعقاب تسلم آرييل شارون السلطة وزعامة الليكود معا. ويعتقد الاستاذ آشير آريان، رئيس دائرة العلوم السياسية في جامعة تل ابيب ان “القوة الدافعة الدينية حية وقائمة، ولعلها تتعزز، غير انها تصارع عملين يلازمانها: العامل القومي المتشدد والعامل الطائفي. ان خلفية تفكك المفدال تعود الى منافسة هيئات قومية مثل: هتحيا ومتساد وغوش ايمونيم من جهة وقوائم طائفية مثل تامي وشاس من جهة اخرى” ([20]).

 

3- دور الاحزاب الدينية وتأثيرها في صنع سياسة الدولة:

اكتسبت الاحزاب الدينية، من خلال القوة الفاعلة التي حققتها في التمثيل الحزبي والاجتماعي، مجالا واسعا للمناورة الى حد انها بدأت تتحدث جهارا عن احتمال تعديل اتفاقية “الوضع القائم” التي عقدت ما بين بن غوريون والحاخام ليفين ممثلا حزب اغودات يسرائيل ذي النزعة اليهودية الرسمية عام 1947، وهي الاتفاقية التي ارست ملامح العلاقة ما بين الدين والدولة في اسرائيل منذ ذلك الحين وحتى الآن، وخصوصا في قضايا التربية التعليم والاحوال الشخصية، وذلك بهدف دفع الكيان اكثر فاكثر للتحول الى دولة دينية واضحة المعالم، او الى قيام دولتين وشعبين. وفي هذا السياق يقول عضو الكنيست ووزير الخارجية في حكومة باراك السابقة واستاذ العلوم السياسية في جامعة تل ابيب، شلومو بن عمي: “ان المجتمع الذي انشأه الآباء المؤسسون من الصهاينة وأرادوا ان يكون بوتقة صهر تمتزج فيها مختلف الثقافات  واللغات، تحول الى مجتمع متعدد الاعراف ومتعدد الثقافات ومتعدد الطوائف. لقد تغيرت وتفتت الصورة الاسطورية المأمولة لتحل محلها صور اخرى عديدة لكل منها شرعيتها... بين اليهودي والعربي والمتشددين دينيا (الحريديم) والقوميين الدينيين (غوش ايمونيم) والتقليديين والعلمانيين وغيرهم ممن تمتد جذورهم الى اصول عرقية مختلفة مثل السفاراديم والاشكنازيم والمهاجرين الروس والاثيوبيين وغيرهم. وقد ادى هذا التفتت للصيغة الاسرائيلية الى تشرذم بين ثقافات وطوائف مختلفة، ولهجات متباينة ومواقف متصارعة تجاه الدولة اليهودية”.([21]) ويضيف بن عامي ان هذه الانشقاقات “تؤهل لحدوث انفجارات عنيفة داخل المجتمع”.

اما الحاخام يسرائيل هارئيل رئيس مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية (وهو احد الحاخامات القلائل الذين ادانوا اغتيال رابين) فيرى انه يوجد “وطنان آخذان بالتكوين في اسرائيل: وطن الاسرائيليين ووطن اليهود. اما الاسرائيليون فهم اغيار (غوييم) غرباء يتكلمون اللغة العبرية لا اكثر ولا اقل. وقد انكتهم الحروب وسئموا منها، ونسوا الصهيونية، ولم يعرفوا اليهودية يوما، وقد جاء رابين ليقول لهم فوق ذلك كله ان لا خوف على امن اسرائيل، وان في وسعهم ان يطمئنوا بعد اليوم الى انهم لن يرحلوا عن هذه البلاد، فماذا بقي لهم اذن بعد هذا؟ يبقى لا شيء، يبقى الفراغ المطلق وهو فراغ لن تستطيع العلمانية او الديموقراطية ان تسده، فكلاهما لا تعتبر من القيم البنيوية الاساسية للشعب اليهودي. وبمقدار ما كنا نقترب من تنفيذ اتفاقات اوسلو كان يبدو واضحا للفريق الاول، فريق المنتمين الى وطن الاسرائيليين، ان الارض قد غدت عقبة في وجه التطبيع، بينما كان يبدو للفريق الثاني، فريق المنتمين الى وطن اليهود، ان التطبيع خطر على اليهودية الاسرائيلية” ([22]).

 

المشاركة في الحروب

لقد ادت الصهيونية الدينية في اسرائيل والمتمثلة في حزبي همزراحي وهابوعيل همزراعي دورا بارزا في حرب 1948 ضد المجتمع الفلسطيني وذلك من خلال الكيبوتس الديني الذي ساهم في المعارك والعمليات الارهابية. وفي هذا المجال قام الحاخام موشيه شابيرا بدور بارز في توجيه أنشطة عصابات الهاغانا وآتسل. وقام الحاخامان شابيرا وفيشمان بتمثيل الحزبين الدينيين في حكومة الحرب الاسرائيلية التي اعلنت عام 1948. وبعد اندماج الحزبين المذكورين ضمن حزب واحد هو حزب المفدال (الديني القومي) عام 1956 شارك هذا الحزب الديني الصهيوني في جميع الحكومات الاسرائيلية، ما خلا فترة قصيرة ما بين 1958 و1959 عندما ادى الجدال الذي ثار حول مسألة: من هو اليهودي؟ الى انسحابه المفاجىء والمؤقت من الائتلاف الحكومي، وهذا الحزب متأرجح باستمرار في مواقفه الداخلية ما بين حزبي العمل والليكود، وهو يحاول تسويغ هذه المواقف من خلال الادعاء بأن مشاركته الدائمة في الحكم تتيح له حماية المصالح  الدينية بشكل افضل مما لو كان في المعارضة.  وهكذا فالمفدال خاصة والاحزاب الدينية عامة عملت وتعمل على قولبة الشريعة اليهودية لتتلاءم مع دولة علمانية كافرة ومعتدية وذلك في سياق ادعاءتها بأنها تسعى لاضفاء الطابع اليهودي على اسلوب الحياة في اسرائيل سلما او حربا.

ويصف الكاتب اوري افنيري حزب المفدال الديني المتطرف في صهيونيته بقوله: “ان الجناح الفعال فيه ذو لون شوفيني غامض وهو الجناح الذي يملي على الحزب الخط والاسلوب” ([23]).

وتتضح شوفينية هذا الحزب وتطرفه من خلال مواقفه من قضايا الاستيطان في المناطق المحتلة ومن الحروب العدوانية التي شنتها اسرائيل ضد الشعوب العربية ومن مسألة ضم المناطق المحتلة عام 1967. فهو من المؤيدين المتحمسين للنشاطات الاجرامية التي تقوم بها عصابات المستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان في طليعة المتحمسين لحربي عام 1956 و1967 ولغزو لبنان عام 1982، وهو من مؤيدي اتباع سياسة القبضة الحديدية والارض المحروقة والتصدي بكل عنف للمقاومة الوطنية في الدول العربية كافة، وهذا على الرغم من تعرض الحزب منذ العام 1968 للعديد من الانشقاقات والتراجع في قوته التمثيلية في الكنيست والتي لا تتجاوز حاليا الخمسة مقاعد.

والجدير بالذكر ان هذا الحزب اعتبر احتلال الاراضي العربية عام 1967 بمثابة انجازات عن طريق تحقيق “الوعد الالهي” لليهود، وهو يطلب تكريس هذا الاحتلال من خلال حديثه عن “الحقوق التاريخية الدينية” وعن ضرورة تأمين الحدود الآمنة. وفي العام 1948 طرح برنامجاً يتمحور حول الاستيطان وزيادته في المناطق المحتلة ([24]).

اما بالنسبة لحزب شاس الخاص باليهود الشرقيين الذي برز على الساحة الحزبية الاسرائيلية عام 1948، فيعبر عن مواقفه الاساسية الحاخام عوفديا يوسف الذي اصدر عام 1989 فتوى شرعية تقول:  انه اذا إتضح بما لا يدع مجالا للشك انه سيحدث سلام حقيقي بيننا وبين جيراننا العرب اذا ما اعيدت لهم اراض، وفي حين يوجد خطر بنشوب حرب اذا لم تعد هذه الاراضي، فيجب اعادة الاراضي لهم، فالحفاظ على حياة الانسان يتقدم على اولوية الاحتفاظ بالارض” ([25]). وتعتمد كتلة وزراء شاس حتى اليوم على هذه الفتوى في تحديد مواقفها من السلم والحرب مع العرب، الا ان مثل هذه المواقف لا تنفي بالطبع المضمون العنصري لمواقف الحزب الذي يشبه العرب والفلسطينيين تارة بالافاعي وتارة اخرى بالحشرات.

 

مصرع رابين وانتخابات عام 1996:

فجرت عملية التسوية التي شرعت الولايات المتحدة في رعايتها في اعقاب حرب الخليج الثانية عام 1990 الصراعات بين دعاة التنازل عن اجزاء من الاراضي المحتلة عام 1967 مقابل السلام مع العرب، وبين دعاة ما يسمى “اسرائيل الكبرى”. وقد وصلت هذه الصراعات الى ذروتها مع اتفاقية اوسلو التي وقعها رئيس الحكومة الراحل اسحق رابين مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، في حين ان دعاة وانصار الصهيونية الدينية كانوا قد شرعوا منذ بداية الثمانينات ومطلع السبعينات في المطالبة بفك عرى التحالف مع الدولة العلمانية. وادت سياسات حزب العمل المتعلقة بعملية التسوية مع العرب الى تبديل حلفائه من المعسكر الديني. فحزب شاس صار حليفا له في ائتلاف عام 1992 وايد سياساته تلك في مقابل استمرار تدفق المساعدات المالية على مؤسسات شاس وهو الهدف الاول لهذا الحزب باستمرار. اما بشأن موضوع التسوية مع العرب فيرى شاس ان التنازل عن اجزاء من الاراضي المحتلة عام 1967 هو امر يحدده جنرالات الجيش الذين في استطاعتهم تحديد ما يحقق امن الدولة ويحافظ على ارواح اليهود. وبالنسبة لحزب المفدال الحليف التاريخي لحزب مباي، فقد عارض بشدة عملية التسوية وانضم الى دعاة الحفاظ على كامل الاراضي المحتلة في الضفة والقطاع والجولان، وهكذا صار حليف الامس معارضاً اليوم، ولم تقتصر المعارضة الدينية لسياسة حزب العمل بزعامة اسحق رابين على هذه الحدود، بل ان الصراع الديني العلماني تقاطع مع صراع دعاة التسوية مع العرب ودعاة “اسرائيل الكبرى” من اليهود، الامر الذي تصاعد بصورة دراماتيكية وادى الى هدر دم رئيس الحكومة اسحق رابين بفتوى شرعية من قبل الاصولية اليهودية وذلك في اعقاب حملة مسعورة من الشحن والتحريض ساهم فيها ايضا اليمين الشوفيني المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو المعروف بقدراته الديماغوجية الاعلامية المميزة.

وكان المتحدث باسم مجلس مستعمرات الضفة والقطاع اهرون دوفيف قد بعث الى رابين عام 1994 برسالة يحذره فيها من تبعات عملية التسوية الذاهبة قدماً. وقد جاء في الرسالة: “بالنسبة للكثيرين في اسرائيل يعتبر عدم انحيازك وحكومتك الى جانب معاناة اليهود، سببا في احساس مرير بالغربة، حيث تترجم هذه الغربة لدى الكثيرين الى اليأس، ولدى القلة قد يؤدي هذا اليأس الى اعمال متطرفة... وللاسف فثمة اصوات ترى ان الحل الوحيد هو الاغتيال السياسي، وهذا الاغتيال - لا سمح الله - يعد امرا خطيرا من جميع الجوانب، ولكنني وجدت انه من الصواب ان احذرك من هذا. فاذا واصلت هذا الطريق فستتحمل على الاقل المسؤولية غير المباشرة بسبب عمل شيطاني من شخص ما” ([26]).

وفي اعقاب عملية اغتيال رابين تناقلت الصحف الاسرائيلية اخبارا مفادها ان ثلاثة من الحاخامات المعروفين طالبوا باصدار فتوى بحكم الموت على رابين بسبب التسوية، وذلك من خلال اخضاعه لما يسمى في المصطلح الديني اليهودي “دين موسير” اي حكم الخائن الذي يعرض للخطر المتهم بنقل معلومات او ممتلكات تخص الشخص اليهودي الى شعب اجنبي. وقد حصل هذا الى جانب فتوى 1500 حاخام يتقدمهم الحاخام الاكبر السابق شابيرا بعدم جواز اخلاء القواعد العسكرية في الضفة والقطاع في شهر تموز 1995. وطالبت الفتوى الجنود بعدم اطاعة الاوامر العسكرية الخاصة بالانسحاب تنفيذا لاتفاقات اوسلو لأن الانسحاب المقترح يعرض حياة السكان للخطر بل ويهدد وجود دولة اسرائيل وينذر بوقوع فتنة بين الجيش والشعب. وذهب بعض الحاخامين الى ابعد من ذلك عندما رأوا ان الحكومة نفسها تفتقد الى الشرعية وبالتالي فان اوامر الجيش غير شرعية، وارتفعت اصوات بعض الحاخامين لتنادي بالانفصال عن العلمانيين لأنهم يرفضون التراث والتقاليد اليهودية ويظهرون العداوة للمستوطنين. كما دعا احد الحاخامات ([27]) الى تغيير النشيد الوطني للدولة والمسمى الامل (هاتيكفا)  وهو نشيد الحركة الصهيونية بالاساس واستبداله بالمزمور رقم 26 من مزامير التوراة.

وراح بعض الكنس يبدل الدعاء التقليدي الذي يطلب من الله حفظ زعماء الدولة ([28])، في وقت ادت مجموعة خاصة من الحاخاميين شعائر ما يسمى صلاة اللعنة ضد رابين واسمها بالآرامية “بولسانورا” اي اسواط النار او اسهم النار، التي تعني استنزال لعنة الموت بحقه بقوة روحية، وذلك امام منزله، بينما كانت تجري مظاهرة ضخمة في ساحة صهيون في القدس وتردد شعارات “خائن”، “آوشفتز”، “تصفية الدولة”، وشعارات مثل: “الحكومة غير شرعية”، “رابين قاتل”، “بالدم والنار سنطرد رابين”.

هذه الاجواء المشحونة بالتطرف والتعصب دفعت برئيس الدولة عيزر فايتسمان الى القول: “ان رابين لا يعرف جيدا ما يفعله وانه يتسرع كثيرا، وهو غير حذر... ينبغي وقف ميسرة السلام واعادة تقييم الوضع... ان اتفاقية اوسلو لا قيمة لها لأنها لم تقر الا بغالبية صوت واحد” ([29]).

اما بالنسبة للاحزاب والحركات ذات الطابع اليهودي الرسمي مثل حزب شاس وحزب يهدوت هاتوراه فرأت ان الصهيونية السياسية والدينية على حد سواء قد انحرفتا عن طريق اليهودية الحقة، وان فريضة “استيطان ارض الميعاد” ليست سوى فريضة واحدة من اصل 613 فريضة. وبالتالي فمركزية ارض اسرائيل ليست هدفا بحد ذاته ولا هي غاية الوجود اليهودي برغم انها تشكل شرطا للمحافظة على وجود الشعب اليهودي والتوراة. ومن هنا فان هذه الاحزاب توجه جلّ اهتمامها في الاساس الى شؤون العلاقة بين الدين والدولة اكثر من اهتمامها بشؤون الدولة والسياسة الخارجية، فهي تسعى الى تعزيز الطابع الديني للدولة، ولو في حدوده الرمزية الشكلية، وفرض تعاليم التوراة على المجتمع حسب رؤيتها الخاصة (فرض الطعام الحلال - كاشير - ومنع تجنيد الفتيات في الجيش...) واذا ايدت هذه الاحزاب الانسحاب من جزء من الاراضي المحتلة فهذا يكون انطلاقاً من نص توراتي يقول: “من انقذ روحا من شعب اسرائيل انقذ عالما باكمله”. ومن هنا ايد زعيم حزب شاس يتسحاق بيرتس التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية واعتبر ان الدين مفضل على الديموقراطية.

الجدير بالذكر ان اليهود الاميركيين المعارضين للتسوية ساهموا في تقوية وتأييد اليهود المتطرفين، وقد قال عنهم رابين “كلامهم كثير ومساعداتهم قليلة” كما وان اليمين المتطرف تمكن من اختراق اجهزة الاستخبارات (الشاباك) التي غطت على اعمال التحريض ضد رابين وضد اتفاق اوسلو، وعمل على تقديم عدة خدمات للمنظمة المتطرفة “ايال” التي خرج منها يغال عمير قاتل رابين.

وبمقتل رابين ابتعدت الاحزاب الصهيونية الدينية اكثر عن الدولة ومؤسساتها وشاع الحديث عن حرب اهلية وشيكة، الى ان جاءت انتخابات 1996 وفاز فيها بنيامين نتنياهو بمباركة الحاخامات، فهدأت الاجواء المتشنجة بعض الشيء تلافيا لما هو اعظم.

ومعلوم ان تطبيق اسرائيل لنظامها الانتخابي الجديد عام 1996 للمرة الاولى بطريقة الانتخاب المزدوج لكل من رئيس الحكومة واعضاء الكنيست، كلّ على حدة، سمح للناخبين المتدينين بالكسب المزدوج، لأنه صار بوسعهم التصويت لاحزابهم  وقوائمهم الخاصة، الى جانب تصويتهم لصالح مرشح الليكود. في حين ان الهدف من وضع النظام الانتخابي الجديد كان الحد من ابتزاز الاحزاب الصغيرة وخاصة الدينية منها اثناء تشكيل الحكومات الاسرائيلية.

وكان السبيل الى ذلك تقوية رئيس الحكومة تجاه الكنيست وتجاه اعضاء الحكومة من غير حزبه وباعطائه الحق بحل الكنيست. الا ان القانون الجديد اوجد نظاما هجينا يخلط ما بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني. وقد ادركت الاحزاب الدينية (وخاصة المفدال وشاس) ان ائتلافا يمينيا من الليكود وجميع احزاب اليمين والوسط لن يتمكن من تشكيل ائتلاف حكومي يحظى بثقة الكنيست من دونها، فعادت الى ممارسة لعبة ابرة الميزان، اي انها عادت لتشكل الثقل الزائد الذي بوسعه وحده ان يقرر تفوق هذا الفريق على ذاك، الامر الذي دفع باليمين واليسار على حد سواء الى الاقتناع بضرورة العودة الى النظام القديم واختيار اهون الشرين. وهكذا تمت المصادقة عى الغاء نظام الانتخاب المباشر لرئيس الحكومة واعتماد تعيين رئيس اكبر الاحزاب واقواها كمرشح لترؤس الائتلافات الحكومية المقبلة.

اما بالنسبة للمصالح التي ترتكز عليها الاحزاب الدينية وتسعى لابتزازها من اي حكومة، فهي اولا تعديل قانون العودة وترسيخ شروط “الوضع القائم” والمطالبة بالمزيد من المناصب والمسؤوليات الوزارية والسياسية (خمس وزارات على الاقل) وبالمزيد من المخصصات المالية  لمؤسساتها ومدارسها، وتوسيع صلاحيات القضاء الديني، وعدم اصدار اي تشريع من قبل القضاء المدني يتعلق بشؤون الدين والاحوال الشخصية، والاستمرار في اعفاء الشباب المتدين من الخدمة العسكرية. ومن اجل الحيلولة دون تشكيل حكومات وحدة وطنية، طالبت الاحزاب الدينية بعدم ضم اية كتلة برلمانية جديدة الى الائتلافات الا بموافقتها. والجدير بالذكر انه في حكومة نتنياهو عام 1996 تمثل حزب شاس بوزارتي الداخلية والعمل والشؤون الاجتماعية، وحصل حزب المفدال على وزارتي التعليم والطاقة والمواصلات، وبقيت وزارة الاديان في يد رئيس الحكومة بعد تنازع حاد بين حزبي شاس لليهود الشرقيين والمفدال لليهود الغربيين، واخيرا تم التوصل الى اتفاق تناوب ما بين الحزبين على الوزارة نفسها. وقد حصل الحاخام مئير بوروش من حزب يهدوت هاتوراه على منصب نائب وزير البناء وتم تعيين شخصية مستقلة قريبة من حزب المفدال في منصب وزير العدل، الامر الذي وضع نتنياهو في حالة حرجة جدا امام اعضاء حزبه، وخضع لابتزاز كل من آرييل شارون ودافيد ليفي، فانشأ وزارة جديدة خاصة بشارون سميت وزارة البنى التحتية الوطنية التي جمعت مهامها وميزانياتها من وزارات مختلفة. ([30])

في هذا السياق ايضا تجدر الاشارة الى فضيحة “بار اون” وهو عضو سابق في اللجنة المركزية لحزب الليكود وقد تم تعيينه كمستشار قانوني لحكومة نتنياهو نتيجة صفقة ما بين ارييه درعي زعيم حزب شاس ونتنياهو، اذ هدد درعي نتنياهو بأنه لن يصوّت، ومعه نواب حزبه العشر، الى جانب اتفاق الخليل مع ياسر عرفات، ما لم يتم تعيين بار اون في المنصب، املا في ان يبرئه ذلك من قضايا الفساد والاختلاس التي تلاحقه، والتي ادخلته السجن في ما بعد، اثر افتضاح امر الصفقة واستقالة بار اون من منصبه، مما اضطر نتناياهو للخضوع للاستجواب امام الشرطة ولمواجهة الاتهامات بخيانة الامانة وسوء استخدام السلطة.

وهكذا تسبب شخص واحد من حزب شاس، هو آرييه درعي بأزمة كادت تطيح نتنياهو. ولم تمض فترة وجيدة من الوقت حتي نشبت ازمة حكومية جديدة سببها احد اعضاء حزب المفدال الذي هدد بالاستقالة من الائتلاف الحكومي بعد ان تم تعيين قضاة من المتدينين (الحريديم) وقاض واحد من المتدينين الصهيونيين في المحاكم الشرعية، مما دفع بالمفدال الى التهديد بالتصويت ضد الحكومة في الكنيست وحجب الثقة عنها. وتتابعت الازمات الحكومية الواحدة تلو الاخرى، خصوصا على خلفية النزاع بين اليهود المتزمتين واليهود الاصلاحيين، الامر الذي كشف عورات وعيوب النظام الانتخابي المزدوج الذي لم يحل مشكلة الممارسات الابتزازية للاحزاب الدينية، وقد تبين ان هذه الاحزاب هي الرابح الاكبر على الدوام خاصة على اثر تراجع قوة الاحزاب الكبيرة (العمل والليكود) في الكنيست.

في انتخابات عام 1999 للكنيست الخامس فاز زعيم حزب العمل ايهود باراك وفشل نتنياهو. وفي هذه الانتخابات حصل حزب مفدال على خمسة مقاعد فقط بعد ان كانت لديه تسعة مقاعد في الكنيست الرابع عشر عام 1996. وحصل حزب شاس على 17 مقعدا، اي بزيادة سبعة مقاعد عن الدورة الانتخابية السابقة، وحصل علم التوراة (ديغل هاتوراه) على خمسة مقاعد ([31]). وبذلك تصاعدت القوة التمثيلية للاحزاب الدينية في الكنيست لتصل الى 27 مقعدا من اصل 120، وهي اعلى نسبة تمثيل في تاريخ اسرائيل، الامر الذي دفع بأحد الحاخامين الى القول “لقد حولنا الكنيست الى كنيس”.

 

الاحزاب الدينية وآليات التسوية:

سبق واشرنا الى ان النظام الانتخابي المزدوج لكل من رئيس الحكومة والكنيست، كلّ على حدة، قد مكّن ناخبي المجموعات العربية والدينية من التصويت لمرشح رئاسة الحكومة من جهة ولقوائمهم الخاصة من جهة اخرى. وصار بإمكان اليهود الشرقيين السفاراديم مثلا التصويت لنتنياهو كشخص ولشاس كحزب، بدلا من التصويت لصالح الليكود  كحزب، او التصويت لصالح شارن وحزب المفدال او شاس، بدلا من التصويت لصالح حزب شارون، وهكذا. وبالتالي فقد حصل انه في اعقاب مصرع رابين، تراجع التأييد لاتفاقية اوسلو ومسارات التسوية الاخرى، الامر الذي ادى الى سقوط بيريس وسياساته “السلمية” والى تراجع ما يسمى معسكر اليسار، حيث حصلت احزاب الليكود والمفدال وشاس ويهدوت هاتوراه على 57 مقعدا، في مقابل 52 مقعدا لاحزاب اليسار وهي: العمل وميريتس وحداش والقائمة العربية الموحدة. ومن هذا المنطلق تمكنت الاحزاب الدينية واليمينية من معاقبة بيريس وسياساته خاصة على موقفه من القوى الدينية اثر اغتيال رابين واتهامه المعسكر الديني بالتحريض على القتل بل واعتقال عدد من رموزه، مما عدّ مساسا بقدسية الحاخامات  في اوساط المتدينين ([32]).

وهكذا وفي مجال السياسة الخارجية عارضت الاحزاب الدينية قيام دولة فلسطينية واي سيادة اجنبية غربي نهر الاردن، وعارضت ايضا عودة اللاجئين والانسحاب من الجولان كما طالبت بالغاء قرار تجميد عمليات الاستيطان، والعمل على تعزيز هذا الاستيطان وعدم ازاحة اية مستوطنة يهودية من مكانها، وضمان امن المستوطنين. واكدت على التمسك بالقدس كعاصمة موحدة وابدية للدولة اليهودية، ونادت بالعمل على تكثيف عمليات البناء في المدينة المقدسة وضواحيها، الامر الذي شجع الاحزاب القطاعية والشوفينية والاتنية على  رفع سقف مطالبها المتطرفة ايضا، مما زاد في وضع العراقيل بوجه التسويات على جميع المسارات، وهو امر تجسد ايضا في القوانين المتعددة ومشاريع القوانين التي زادت من حجم القيود والشروط البرلمانية على اي قرار او اجراء يتعلق باعادة انتشار الجيش الاسرائيلي في الاراضي المحتلة، او يتعلق بتقييد الاستيطان في هذه الاراضي (ما عدا الجنوب اللبناني الذي تمكنت المقاومة فيه من تلقين العدو درسا لا ينسى في مجال رد اطماعه واعتداءاته وفرض الانسحاب غير المشروط عليه). ومما لا شك فيه ايضا ان الضغوطات والممارسات الفئوية التي قامت بها الاحزاب الدينية كان لها بالغ الاثر في عدم استقرار الحكومات الصهيونية وفي اعادة تشكيل سلم الاولويات القومي وفي اعادة ترتيب وتصنيف الزعامات القومية وفقا لمعايير وقيم دينية وتوراتية ذات طابع اسطوري واضح.

وفي ما يلي بعض المقتطفات من برامج الاحزاب الدينية لانتخابات الكنيست الرابع عشر والخامس عشر في عامي 1996 و1999 وهي كافية للدلالة على ما تسببه من مآزق وضغوطات على آليات التسوية مع العرب. فلقد طالب حزب المفدال مثلا عام 1996 بما يلي:

- القدس الموحدة عاصمة اسرائيل، تحت سيادة اسرائيل.

- سيكون نهر الاردن الحدود الامنية الشرقية لاسرائيل ولن يكون هناك جيش آخر الى الغرب منه.

- فصل بين (الاسرائيليين والفلسطينيين) يلبي حاجات والامن والهويتين القوميتين.

- تسوية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين خارج دولة اسرائيل من خلال رفض حق العودة.

- ابقاء معظم المستوطنين الاسرائيليين تحت السيادة الاسرائيلية.

 وستطرح التسوية الدائمة التي ستبلور في المفاوضات لاستفتاء عام للمصادقة عليه ([33]).

وفي ما يتعلق بالجولان اعتبر حزب المفدال بأنها منطقة ذات اهمية قومية بالنسبة الى دولة اسرائيل. وبالنسبة للبنان جاء في برنامج الحزب انه الى ان يتم التوصل الى اتفاق سلام، ستواصل اسرائيل حماية حدودها الشمالية عن طريق شريط امني في الجنوب اللبناني بواسطة قوات محلية يدعمها الجيش الاسرائيلي وعن طريق ترتيبات امنية حيوية اخرى ([34]). وفي برنامج الحزب للعام 1999 تكررت شروطه في ما يتعلق بالقدس والاستيطان والحدود الآمنة ورفض الدولة الفلسطينية ورفض عودة اللاجئين، ولكنه اضاف بالنسبة الى الجولان ما يلي: “ان هضبة الجولان طبقا لقانون هضبة الجولان جزء لا يتجزأ من دولة اسرائيل وستظل تحت سيادة اسرائيل حتى في عهد السلام” ([35]). ويرى الحزب في وجود اكثرية مطلقة في الجليل وهضبة الجولان الهدف الاهم.

اما بالنسبة لحزب شاس وسائر الاحزاب المشياحية فإنها تبني مواقفها السياسية على اساس انه يجوز التنازل عن بعض الاراضي لحقن الدم اليهودي. ومع ذلك فقد رفض “مجلس كبار التوراة” في حزب اغودات يسرائيل الانسحاب من الخليل لأنه يعرض حياة اليهود للخطر، فيما ساوم شاس على الموضوع لانقاذ زعيمه الحاخام آرييه درعي من المحاكمة على اختلاساته المالية. وقد عبّر بعض القادة والمسؤولين في حزب شاس عن مواقفهم السياسية فاعتبر ايلي يشاي وزير العمل والرفاه في حكومة باراك ان مجلس حكماء التوراة هو الذي يقرر في هذه الشؤون.

والحاخامات يأخذون في الاعتبار الامن الشخصي والقومي في اي قرار يؤدي الى اعادة اراض. واعتبر وزير البنى التحتية الياهو سويسا ان الحاخام عوفديا يوسف - الزعيم الروحي لحزب شاس - هو الذي يقرر ويحسم. و”على الرغم من وجود حنين في الوعي الداخلي نحو الجولان فان ناخبي شاس لديهم حنين اكبر نحو جبل موسى في سيناء” ([36]).

واخيرا فبالنسبة للتيار الحرادي من المتدينين فإنه لا يلتفت الى الموضوع السياسي من اصله ويعتبر الدولة كافرة، وهو بالتالي ينتظر ظهور المشياح وينتظر بظهوره يوم الخلاص، ولا يهم عندئذ من سيكون في سدة الحكم.

 

خلاصة واستنتاجات:

ان وجود سبعة وعشرين عضو كنيست من الاحزاب الدينية في الكنيست الاسرائيلي، ووجود ما يزيد عن 10% من اتباع المدرسة التلمودية داخل الجيش والاجهزة الامنية، قد بات يشكل في نظر العديد من الباحثين والمراقبين للشأن الاسرائيلي مؤشراً ذا مدلول هام لجهة الخطر الذي يهدد الكيان الصهيوني بحرب اهلية. وقد تبين ان فتاوى الحاخامات بقتل او بتوجيه الحرم او اللعنات والشتائم الى كبار المسؤولين في الدولة (وصف الحاخام عوفديا يوسف زعيم حزب شاس الروحي كلا من نتنياهو بالعنزة العمياء وباراك بهامان وشارون بآكل الخنازير والعرب بالافاعي) جنبا الى جنب مع فتاوى تدعو الجنود الاسرآئيليين الى عدم طاعة رؤسائهم بصدد قرارات سياسية معينة كما حصل بشأن منع اخلاء المواقع العسكرية والمستوطنات في الضفة الغربية عام 1995 تنفيذا لاتفاقات اوسلو او بشأن تطبيق المرحلة الانتقالية بين حكومة رابين ومنظمة التحرير الفلسطينية، انما طرحت اشكالية تضارب المصالح وتضارب الصلاحيات ما بين رؤساء الحكومات وجنرالات الجيش وكبار الحاخامات، الامر الذي يؤدي الى تعريض المجتمع والجيش (الذي هو اداة الصهر الاساسية في الكيان الصهيوني)، الى التفكك، واذا كان المسؤولون قد تمكنوا بمعجزة من اعادة الرماد الى فوق الجمر، فان احداثاً وتطورات مقبلة في سياق عرقلة جميع التسويات السلمية المطروحة على بساط البحث وفقاً للشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن المعطلة صهيونياً منذ العام 1984، يمكن لها أن تكشف الرماد عن الجمر مجدداً، وتطلق العنان لغرائز الصراع والانتقام كي تأخذ مداها من جديد.

وعلى ضوء ما عرفناه من اشكالات وتعقيدات كثيرة تسببت بها سيطرة الاحزاب الدينية على العديد من المفاصل السياسية والادارية للدولة، يمكننا ان نختم بوجهتي نظر تحذر الاولى من خطر الاحزاب الدينية على اليهودية نفسها، وتحذر الثانية من خطر سيطرة المتدينين على الدولة، وقد عبّر عن الوجهة الاولى الكاتب يعقوف حسداي الذي قال: “لو كان لدى قادة الاحزاب الدينية الحكمة التي لدى خصومهم، لتذكروا وقت انتصارهم، الدرس الذي تعلموه في الايام العسيرة التي عاشوها، ولأعربوا عن قدر من الحذر والكرم في استخدام السلطة التي وضعت بين ايديهم، وحيث اننا لم نحظ بذلك، فان الاحزاب الدينية عادت الى سالف عهدها، او اودى الانتصار الكبير بعقولها. فالسياسيون المتدينون الذين لا يضعون في افواهم لقمة من طعام غير محلل شرعيا، يغتصبون ويبتزون ويدخلون الى جيوبهم من اموال الدولة، كما لو انه ليس للتوراة او الشريعة ما تقوله في هذا الشأن. وهذه الافعال لا تلطخ وجه اليهود فحسب، بل وتثير الغضب والخشية في اوساط شرائح واسعة من الشعب وجماعات كثيرة في الجمهور العلماني تشعر انها مهددة” ([37]).

وعبّر عن وجهة النظر الثانية الكاتب موردخاي بيليد الذي يبدأ بالسؤال عما سيكون عليه الحال عندما يتحول المتدينون المتعصبون “الحريديم” الى اغلبية، متوقعا ان ذلك سيحدث عام 2020 على ابعد تقدير، وعندها حسب رأيه، سوف تفرض الشريعة اليهودية على جميع الاجهزة القضائية، وتعود الامور الى سالف عهدها، ويعيش اليهود حسب القوانين التي كانت تراث آبائهم منذ القدم، ولكن سيتضّح للسلطة الحريدية الدينية انه من العسير قيادة دولة حسب قواعد تناسب طائفة دينية معينة. وتغدو الخطوة المحتومة تشكيل مجلس فقهاء ينبغي عليه تقديم تفسير معاصر للفتاوى والسنن اليهودية. وستكشف سلطة المتدينين ان عليها تجنيد شبابها في الجيش لأنه ببساطة لن يكون هناك مجندون آخرون، وهي ايضا ستصل الى الاستنتاج بأنه لا يمكن للاقتصاد تحمل مئات الاف الناس الاصحاء في المدارس الدينية، وثمة خشية من ان التنبه الى ذلك سيتم في وقت متأخر بعدما يلحق بالدولة ضرراً لا يمكن اصلاحه، وسيزداد التردي ويتضاعف، بقدر ما تزداد قوة ونفوذ معسكر التوراة. وانتخابات عام 2020 التي ستدفع نحو انتخاب رئيس حكومة من الحريديم ستكون الخطوة الرسمية التي ستقود نحو صيرورة خطيرة.

ويختم بيليد بالقول: “ان موعد صعود رئيس حكومة حريدي يمكن ان يتقدم او يتأخر، واذا لم يستيقظ الجمهور الديموقراطي الليبرالي جنبا لجنب مع المتدينين الديموقراطيين، فإن الموعد سوف يتقدم ويكون قريبا ([38]).


[1]  لوستيك ايان - الاصولية اليهودية في اسرائيل - مؤسسة الدراسات الفلسطينية ص 5.

[2]  لمزيد من التفاصيل انظر: العرب ومواجهة اسرائيل - احتمالات المستقبل - الجزء الاول الفصل السادس ص 289 وما بعدها، مركز دراسات الوحدة العربية.

[3]  مصالحة نور الدين - اسرائيل الكبرى والفلسطينيون - سياسة التوسع 1967 - 2000، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ص 138.

[4]  المصدر نفسه.

[5]  المصدر نفسه ص 146.

[6]  المصدر نفسه.

[7]  المصدر نفسه ص 151.

[8]  محمد ماضي عبد الفتاح - الدين والسياسة في اسرائيل - مكتبة مدبولي ص 303.

[9]  شاس (اتحاد حراس التوراة السفاراديم) تأسس عام 1983 بعد اعلان التمرد من قبل جمهرة من الناخبين السفاراديم ممن رأوا في الحاخام عوفاديا يوسف زعيما لهم بدلا من الحاخام شاخ الذي هو من اصل اشكنازي غربي.

[10]  محمد ماضي عبد الفتاح - مصدر سابق ص 296

[11]  ميخائيل سامي - ان نتعلم من الشرق - معاريف 96/9/13 ترجمة حلمي موسى - السفير (بيروت 96/10/7).

[12]  المصدر نفسه.

[13]  راهط مناحيم - شاس، اعماق ظاهرة من عالم آخر - معاريف 90/3/23، ترجمة مجلة الارض السنة 17 العدد 4 نيسان 1990 ص 120.

[14]  الشامي رشاد - اشكالية الهوية في اسرائيل  - عالم المعرفة (الكويت العدد 224 آب اغسطس 1997 ص 133).

[15]  المصدر نفسه ص 226.

[16]  المصدر نفسه.

[17]  معاريف 84/4/16.

[18]  المصدر نفسه.

[19]  اونا موشيه - بطرق متصلة - الاحزاب الدينية في اسرائيل ص 417.

[20]  المصدر نفسه

[21]  من مقابلة اجراها معه يسرائيل لانديرز - دافار 84/3/30.

[22]  العرب ومواجهة اسرائيل - احتمالات المستقبل - مركز دراسات الوحدة العربية - الجزء الاول الدراسات الاساسية ص 331، عن مقال لشلومو بن عامي، ورد في صحيفة معاريف، 96/9/22

[23]  الشامي رشاد عبد الله، القوى الدينية في اسرائيل بين تكفير الدولة ولعبة السياسة - سلسلة عالم المعرفة، العدد 186، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب 1994 وص 335.

[24]  الاحزاب الاسرائيلية والحركات السياسية في الكيان الصهيوني - حبيب قهوجي - مؤسسة الارض للدراسات الفلسطينية ص 189

[25]  المصدر نفسه ص 193.

[26]  معاريف 1999/7/21 - في شاس حسموا الامر - آرييه بندر، عن مختارات اسرائيلية العدد 57 - مركز الدراسات الاستراتيجية - الاهرام، ص 48.

[27]  مختارات اسرائيلية - العدد 13 - ك2 1996 - ص 22 عن صحيفة معاريف، 10 ت2 1995

[28]  حسن جعفر هادي - المجموعات اليهودية الحريدية وعلاقاتها باسرائيل، جريدة الحياة - لندن - 93/9/3

[29]  ماضي عبد الفتاح - الدين والسياسة في اسرائيل، ص 485.

[30]  مجلة الدراسات الفلسطينية صيف 1996 - ملف الانتخابات الاسرائيلية - العدد 27 - ص 90 وما بعدها.

[31]  مختارات اسرائيلية - مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية - الاهرام - السنة السادسة تموز 2000 - ص 60.

[32]  الشامي رشاد عبد الله - اشكالية الهوية في اسرائيل، مصدر سابق ص 237

[33]  مجلسة الدراسات الفلسطينية صيف 1996 - العدد 27 - ص 82

[34]  المصدر نفسه ص 83.

[35]  مجلسة الدراسات الفلسطينية صيف 1999 العدد 39، ص 160

[36]  مختارات اسرائيلية - مصدر سابق، العدد 57 - ص 49

[37]  يعقوب حداي - اليهودية في ضائقة المصاريف - 96/9/22 ترجمة حليمة موس، السفير 96/10/21

[38]  موردخاي بيليد - اقطاع حريدي - هارتس 96/10/4، ترجمة حلمي موس - السفير 1996/10/21