إرهاب وتطرّف

الدولة الإسلامية كما القاعدة وسواها
إعداد: العقيد الركن جان جبور

جاذبية التوحش تصطدم بخيبات متكررة

في أواخر آذار الماضي سرت شائعات مفادها أنّ مجموعة مقاتلين من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب يريدون الانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى بعض أعضاء حركة الشباب في الصومال. وجاء ذلك عقب انضمام مجموعة بوكوحرام الإرهابية النيجيرية إلى الدولة الإسلامية فضلاً عن انضمام انتحاريين من باكستان والجزائر وليبيا ومصر إليه. وقد أثارت هذه التطورات الكثير من الأسئلة حول أسباب تمدد التنظيم الإرهابي المذكور على حساب تنظيمات إرهابية أخرى. فكيف يمكن فهم هذه الظاهرة؟

 

القاعدة وورثته
إثر هجمات أيلول 2001 أصبح تنظيم القاعدة «العلامة الجهادية العالمية» التي جذبت العديد من الجماعات الجهادية ومنها جماعة التوحيد والجهاد التابعة لأبو مصعب الزرقاوي في العراق، والتي أصبحت في العام 2004 تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين. وبعد سلسلة من تغيير الأسماء، إنشق هذا التنظيم عن القاعدة (2014) ليصبح إسمه تنظيم الدولة الإسلامية.
ومن المنظمات الأخرى التي اعتمدت شعارات تنظيم القاعدة، الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر (أصبحت في العام 2006 تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي)، وأخرى أصغر منها في اليمن انضوت (العام 2009) تحت قيادة ناصر الوحيشي لتصبح تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية.
كان ينظر إلى اعتماد شعارات تنظيم القاعدة على أنها وسيلة لتجديد شباب الجماعات الجهادية القائمة من خلال اكتسابها الشهرة التي حققها هذا التنظيم، بالإضافة إلى الأموال والمجندين. نجحت هذه الاستراتيجية في بعض الأماكن. كما في العراق على سبيل المثال، حيث حصل تنظيم القاعدة فيها على الكثير من التمويل والقوى العاملة إلى درجة أن القيادة الرئيسية طلبت من الزرقاوي بعض المساعدات المالية في العام 2005. ولكنّ شعارات تنظيم القاعدة كانت غير فعاّلة في أماكن أخرى. فقد ذبلت الجماعة الإسلامية في إندونيسيا، بعدما غيّرت اسمها إلى قاعدة تنظيم الجهاد.
بعد أن تركّزت جهود الولايات المتحدة وحلفائها على محاربة القاعدة، تدهور وضع هذه الجماعة بشدة وانخفضت قدراتها على شن الهجمات بشكل كبير. وفيما نمت قوة مجموعات أخرى في أماكن مثل العراق، كافحت نواة القاعدة لإظهار أهميتها. لم يكن هذا الصراع فقط في ساحة المعركة المادية، ولكن في ساحة المعركة الإيديولوجية أيضًا. كان هناك الكثير من التوتر الإيديولوجي بين نواة القاعدة وبعض التنظيمات الطفيلية الجديدة. في أوائل 2006، خرج هذا التوتر إلى العلن عبر المساجلات بين زعيم القاعدة الأساسي أيمن الظواهري وبين الزرقاوي. كان هناك توترات أيضًا داخل التنظيمات الجهادية الأخرى، وخصوصًا تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، حول الإستمرار في تبني فكر القاعدة.
تقلّص نفوذ تنظيم القاعدة الأساسي كثيرًا بحلول منتصف العام 2013، وانشقت عنه مجموعة في كانون الثاني 2014 ما لبثت أن أعلنت قيام الخلافة في 29 حزيران 2014.
أحد العوامل الأساسية التي ساهمت في تراجع تنظيم القاعدة هو شعور العديد من الجهاديين بالإحباط من جراء إدعاءات التنظيم وتهديداته الفارغة. فقد هددت القاعدة مرارًا وتكرارًا بمهاجمة الولايات المتحدة بضربة أكثر تدميرًا من ضربة أيلول 2001، مولدة الكثير من الإثارة في عالم الجهاديين. ولكن مرّت السنوات ولم يكن تنظيم القاعدة قادرًا على تنفيذ تهديداته.
الجهاديون الذين كانوا نشطين ومتحمسين منذ البداية لفكرة أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين والمسلمين قد تعرضوا لضربات وانهزموا، أصبحوا على نحو متزايد ساخطين وغير راضين عن عدم فعالية تنظيم القاعدة. وأسامة بن لادن الذي أصبح زعيمًا لتحدّيه الأميركيين وحلفاءهم، تعرّض قبيل وفاته لانتقادات الجهاديين ذوي الرتب العليا لكونه جبانًا، يختبىء من الأميركيين بدل القتال في الخطوط الأمامية. بعد ذلك، كان مقتل بن لادن وحلول الظواهري مكانه حدثًا بالغ الأهمية قوض الروح المعنوية لتنظيم القاعدة العالمي.
في أقل من عقد من الزمن، تلاشى وهج القاعدة التي كانت في البداية بديلاً جديدًا ومثيرًا عن الجماعات الجهادية الأقدم التي ضعفت وانحدرت.

روافد تنمو ثمّ تذوي
هذه الدينامية مشابهة جدًا لما رأيناه في الحركات الراديكالية الأخرى، بما في ذلك تلك التي شهدها الغرب: يصاب الأعضاء الشباب في الحركة بالإحباط لأن الحرس القديم لا يفعل شيئًا، فينفصلون عن التيار الرئيسي لتشكيل روافد أكثر راديكالية. تتعلم هذه الجماعات الجديدة المتطرفة بأنه ليس سهلاً أن تكون منظمة إرهابية فعّالة كما يبدو في البداية، وخصوصًا عندما تواجه ضغوطًا شديدة من السلطات الحكومية وأجهزة الأمن. في نهاية المطاف، تحتضر هذه الروافد الجديدة لتصبح مثل المنظمة الأم، وتبدأ دورة ثانية من جديد.
كان شعار تنظيم القاعدة الأساسي قيام الخلافة عبر مواصلة الهجمات. وقد أصبح هذا الشعار الذي لم يتحقق محبطًا لكثير من الجهاديين. وعندما جاء تنظيم الدولة الإسلامية ليقول «الخلافة هي هنا»، جذب الكثير من الذين كانوا غير راضين عن نهج تنظيم القاعدة الأكثر تدرجًا والذي يركز على ضرب الولايات المتحدة بدلاً من الأعداء المحليين. خدمت النجاحات الميدانية الأولية تنظيم الدولة الإسلامية في العراق حيث كانت البيئة الجهادية الحاضنة معبأة لقبول الرسالة الصارخة، المتصلبة والمروّعة لهذا التنظيم. واقتنع كثيرون من الجهاديين بأن ما كانوا ينتظرونه أتى أخيرًا.
 

الهدف والوسائل
الفظائع التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية لم تنفّر الكثير من الجهاديين، لأن الهدف الأعلى للدولة الإسلامية كان بالنسبة إليهم من القوة بحيث يتجاوز أي شكوك عن كيفية تحقيقه. وعلى حدّ تعبير الأستاذ في فن القيادة سيمون سنك «لا يؤمن الناس بما تفعله، يؤمنون لماذا تفعل ذلك. وما تفعله يثبت ببساطة ما تعتقده». ركز تنظيم الدولة الإسلامية على هذه الـ«لماذا» التي تتمتع بجاذبية قوية جدًا في البيئة الحاضنة للجهاديين في جميع أنحاء العالم.
تمتّعت فكرة دولة «الخلافة الإسلامية» بقدرة جذب قوية بالنسبة إلى الأفراد المهمشين الذين يتدفقون على الجماعات الدينية، والعصابات والجماعات المتطرفة، علمًا أنّ قوّة الجذب هذه تعمل أيضًا في البيئة الحاضنة للجهاديين التي تمارس جهادها من دون قيادة وتنفذ هجمات في أماكن أخرى. ومع ذلك، فإنّ هذا النداء قوي فقط في أوساط شريحة محدودة. فوحشية تنظيم الدولة الإسلامية والهجمات التي يشنها ضد مسلمين آخرين قد نفّرت الكثيرين ضمن الجمهور الذي يستهدفه.
جاذبية تنظيم الدولة الإسلامية جعلت مجموعات مثل بوكو حرام (قبل أن تتعهد بالولاء لهذا التنظيم) تحاول استنساخ عملياته. وقد شمل ذلك، خطف أعداد كبيرة من الفتيات، والهجوم على مسلمين اعتبروا مرتدّين وإعلان الخلافة الإسلامية بعد الاستيلاء على بقعة كبيرة من الأرض. كما تظهر التفجيرات الانتحارية الأخيرة للمساجد من قبل أنصار الدولة الإسلامية في اليمن أيضًا تأثر هؤلاء بعمليات التنظيم في العراق وسوريا. فهذه الهجمات هي طريقة لتمييز أتباع تنظيم الدولة الإسلامية عن أتباع تنظيم القاعدة.
أثبت تنظيم الدولة الإسلامية أيضًا تمكنه من وسائل التواصل الاجتماعي بحيث تفوّق على تنظيم القاعدة في ذلك. هذا النشاط عبر وسائل التواصل الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع التقدم السريع الذي أحرزه التنظيم في منتصف العام 2014، اجتذب التمويل والمتطوعين الأجانب، كما ساعد في تحفيز عدد من الإرهابيين على مستوى البيئة الحاضنة لتنفيذ هجمات في الغرب. يبقى أن نرى ما إذا كانت زيادة الهجمات من البيئة الحاضنة في الأشهر الأخيرة هي ظاهرة مؤقتة أو دائمة.
 

هزائم كبيرة والخيبات تتجذّر
مع العلم أنه لم تمر سنة على إعلان إقامة دولة الخلافة، فقد بدأ تألق هذا التنظيم يخبو بفعل هزائم كبيرة ومتكررة على أرض المعركة. سوف يقوم قادة التنظيم بمحاولة لتفسير بعض هذه الهزائم من خلال رؤية أيديولوجية تدّعي أنه «سوف يعاني خسائر فادحة إلى أن تأتي مجموعة صغيرة من المؤمنين الحقيقيين وتحقق النصر في المعركة النهائية». وقد يقنع هذا التبرير البعض من الأكثر تشددًا، لكنه لن يكون مقبولاً على الصعيد العام. وسوف يحبط الآخرون مرة أخرى عندما يدركون أن تنظيم الدولة الإسلامية لن يكون قادرًا على الوفاء بوعده. هناك تقارير عديدة عن إعدام مقاتلين أجانب لمحاولتهم ترك تنظيم الدولة والعودة إلى بلادهم. لقد بدأت خيبات الأمل تتجذر وتنتشر في صفوف مقاتلي التنظيم، وسوف تعمل مثل هذه الإعدامات على تعزيز انتشارها.
عند تأملنا في تأثير جاذبية تنظيم الدولة الإسلامية، من المهم أن نأخذ في عين الاعتبار أنه خارج سوريا والعراق وحيث ادعى تنظيم الدولة الإسلامية بأنه قد أنشأ مجموعات جديدة – ما يشار إليه باعتباره «ولاية» أو مقاطعة – انتشرت تلك المجموعات الجديدة في المناطق التي كان الجهاديون نشطين فيها بالفعل.
وكما لاحظنا سابقًا، لدى الجماعات المتطرفة ميل طبيعي للانشقاق، خصوصًا بعد أن تتيقن من عدم فعاليتها في تحقيق تقدم نحو أهدافها المعلنة. وظهور تنظيم الدولة الإسلامية ونجاحه في العراق قد سرّع العملية بشكل كبير. علاوة على ذلك، فإن الهجمات المتكررة لتنظيم الدولة الإسلامية ضد قيادة القاعدة، تجعل من الصعب جدًا التعتيم على الخلافات وإعادة دمج الحركة الجهادية ما لم يكن بإمكان تنظيم الدولة الإسلامية القيام بذلك عن طريق القوة، وهذا مستبعد نظرًا للقيود التي يواجهها التنظيم.
إنّ ميل الجماعات الجهادية إلى الانشقاق يعني أن تنظيم الدولة الإسلامية «يشفط» الجهاديين السابقين من تنظيم القاعدة أو يلتقط جهاديين لا يريدهم هذا التنظيم أو آخرين لا يحبذونه بدلاً من أن يكون إضافة إلى عالم الجهاد. ولقد شاركت المجموعات المنبثقة عن تنظيم الدولة، في كثير من الأماكن مثل سوريا وباكستان وليبيا، في عمليات قتالية ضد الجهاديين الآخرين. وهذا يعني أنه بينما تنشق الجماعات الجهادية وتتقاتل وتضعف، تشهد الحركة الجهادية العالمية خسارة مدوية بدلاً من النصر.