"الدولة اليهودية": إشكاليات الهوية، الجغرافيا السياسية، الديمغرافيا

"الدولة اليهودية": إشكاليات الهوية، الجغرافيا السياسية، الديمغرافيا
إعداد: أ.د. محمد مراد
باحث وأستاذ جامعي

مقدمة

ارتكز مشروع الدولة اليهودية، منذ نشأته كفكرة أولية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى القومية اليهودية بوصفها خصوصية دينية توراتية وتاريخية. من هنا، كان الربط الجدلي لدعاة الصهيونية الأوائل، بين الدين والتاريخ من جهة، والجغرافيا، أي الأرض والمقصود بها «أرض الميعاد» أي فلسطين، من جهة أخرى.

تحوَّلت الأيديولوجيا القومية، خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلى مشروع صهيوني استيطاني – إحلالي في فلسطين، قلب المجال الحيوي للمشرق العربي، وقد برز كاستجابة لزعم توراتي يقوم على مبدأ «الإسترجاعية»، أي العودة إلى أرض الميعاد (فلسطين) حيث تنشأ الدولة اليهودية على مدى جغرافي سياسي مفتوح يغطي مساحة فلسطين التاريخية، ويكون قادراً على التحوُّل إلى مشروع جيوسياسي يضمن السيطرة والتفوّق على كامل المجال الحيوي العربي الذي يربط بين أربع نقاط ارتكاز: بلاد ما بين النهرين (الفرات) شرقاً، ومصر (النيل) غرباً، وبلاد الشام (البحر المتوسط) شمالاً، وشبه الجزيرة العربية (البحر الأحمر) جنوباً.

جاء قيام إسرائيل العام 1948 ليشكِّل الحلقة المركزية في بنيان صرح الدولة اليهودية المزعومة. وكانت حروب التفوُّق الإسرائيلي المتواصلة ضد العرب والفلسطينيين، ومخطَّطات الاستيطان التي لم تتوقَّف، والتي كانت تحصل بموازاة الطرد الإكراهي للفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئي شتات، منسجمةً مع استراتيجية صهيونية هادفة إلى إنجاز تهويد الدولة كهدف أعلى للمشروع الصهيوني.

إلا أنَّ هذا المشروع، وعلى الرغم من كل التعبئة الأيديولوجية التي منحت له، وتوافر وسائل الدعم المادي والعسكري والسياسي كلها من جانب رأسماليات المركز الغربي لمصلحته، فإنه، في الواقع، كان يتطوَّر على قاعدة مأزق استكمال الدولة الذي يقوم على ثلاث إشكاليات أساسية ما زالت، حتى اليوم، عصيَّة على الحلول الحاسمة، وهي إشكاليات الهوية، والجغرافيا السياسية والديمغرافيا.

بسبب هذه الإشكاليات، باتت مقولة «يهودية الدولة» تحتلُّ في الآونة الأخيرة أولوية مطلقة في الخطاب السياسي الإسرائيلي إذ برزت بقوة على طاولة المفاوضات المباشرة التي دارت مؤخراً بين الوفدين الإسرائيلي والفلسطيني في واشنطن وشرم الشيخ والقدس. وإذا كانت هذه المفاوضات قد جرت بتحفيز سياسي ودبلوماسي من قبل الإدارة الحالية الحاكمة في البيت الأبيض، إذ رأى فيها الرئيس باراك أوباما عنصراً مساعداً لإدارته ولحزبه الديمقراطي في توظيفها إعلامياً لمصلحة حملته الانتخابية النصفية – انتخابات نصف الكونغرس في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر 2010 والتي انتهت بخسارة الديموقراطيين الأغلبية في مجلس النواب وتقليص أغلبيتهم في مجلس الشيوخ ، فإنَّ المفاوض الإسرائيلي بالمقابل، يسعى إلى تحقيق جملة من المكاسب ما استطاع تحقيقها في السابق عبر سلسلة الحروب التي خاضتها إسرائيل وما تزال، مع غير جبهة عربية أو فلسطينية منذ قيامها ككيان سياسي منذ العام 1948 وحتى الآن.

إنَّ سيطرة مقولة «يهودية الدولة» على الخطاب السياسي الإسرائيلي في الوقت الراهن، إنما تهدف إلى إعادة التركيز على العامل الأيديولوجي في شدّ عصبية اليهود داخل فلسطين المحتلة وخارجها من أجل مواجهة التحديَّات التي ما زالت تحول دون استكمال مشروع الدولة، لا بل أنها تضع مصير هذه الدولة ووجودها على مفترق طرق.

 

فكرة الدولة اليهودية

بدأت ملامح الظهور الأول لفكرة «الدولة اليهودية» مع مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي فكرة لم تكن معزولة عن التطوُّرات النوعية التي شهدتها الرأسماليات الأوروبية سواء على مستوى صعودها التراكمي من جهة، أم على مستوى التحوُّلات الفكرية والأيديولوجية والسياسية الناشئة عنها من جهة أخرى. ولم تلبث أن شهدت مزيداً من التبلور على أيدي عناصر نخبوية يهودية أوروبية عاصرت التحوُّلات الهامة التي عرفتها أوروبا في الاقتصاد والأيديولوجيا والعلاقات الدولية، وكان أبرزها قد تمثّل بظاهرتين إثنتين: الأولى، تحوُّل رأسمالية المركز الأوروبي باتجاه الكولونيالية، وهي نزعة استعمارية قائمة على التوسّع والسيطرة على بلدان خارج أراضيها لا سيما في آسيا وإفريقيا بهدف تأمين التراكم في دوراتها الاقتصادية عبر فتح المزيد من الأسواق الخارجية والحصول على المواد الخام الضرورية لصناعاتها المتطورة، والثانية، ظاهرة الدولة – الأمة أو الدولة القومية، وهي مستجدَّة على الاجتماع السياسي الأوروبي الذي أُرسيت دعائمه على أساس الربط العضوي بين ثلاثة مرتكزات أساسية هي الأرض كجغرافيا سياسية، والشعب كجماعة بشرية متفاعلة، والهيئة الحاكمة أي السلطة المركزية على رأس الهرم السياسي.

كانت الحركة الصهيونية (Le Sionisme) بمنزلة النواة الفكرية التي راحت تضع المنطلقات النظرية لقيام دولة تجمع شمل اليهود من الشتات العالمي. وقد ارتكزت في مشروعها إلى مرتكزين أساسيين: الأول، ديني أيديولوجي، من خلال العودة إلى مقولات توراتية تضمَّنها العهد القديم، وهي مقولات تعبوية ثقافية تدعو اليهود إلى العودة إلى أرض الميعاد (فلسطين) بوصفهم الجماعة البشرية المختارة إلهياً من أجل سلام العالم وخلاصه من الشرور والآثام، والثاني، تاريخي انتسابي من حيث استحضار «صهيون» في الذاكرة التاريخية اليهودية عبر الربط بين تسمية الحركة بالصهيونية وصهيون الذي ورد في العهد القديم، وهو يرمز إلى مدينة الملك الأعظم، أي مدينة الإله (ملك إسرائيل). فالمدينة كانت قد حملت إسم الجبل الذي بنيت عليه، وهو جبل عالٍ في فلسطين. كل ذلك من أجل إيجاد مرتكز جغرافي تبريري (أرض) لقيام الدولة اليهودية المزعومة[1].

 

دعاة الصهيونية والدولة اليهودية

كان موسى هيس (Moussa Hess) في طليعة العناصر النخبويين اليهود الذين أسهموا في إنطلاقة الحركة الصهيونية، وفي رسم هدفها المركزي بتقوية الروابط الدينية بين اليهود المنتشرين في غير بلدٍ في العالم. ففي كتابه «روما والقدس» الذي أصدره العام 1862، لم يتطرَّق هيس إلى قيام دولة يهودية ولكنه بحث السبل المثلى لتحقيق أحلام اليهود في إقامة نظام إجتماعي في فلسطين. فهو يرى أنَّ مثل هذا النظام ينسجم مع الوظيفة اليهودية في قيادة العالم، وهي الوظيفة التي خصَّ بها الله اليهود في التاريخ. وحسب زعمه «إنَّ أوامر الله لليهود هي تطبيقهم القانون الذي أرسلهم الله ليعلّموه للشعوب الأخرى، وإنَّ أقسى عقوبة فرضت عليهم كانت لانحرافهم عن الطريق الذي وضعته العناية الإلهية. أما عجزهم عن عبادة الله كأمّة متكاملة فكان بسبب فقدهم لأرضهم».

ويتوقَّف هيس عند أرض فلسطين ليس فحسب بوصفها أرضاً تتسم بخصوصية تاريخية بالنسبة إلى اليهود، وإنما أيضاً بوصفها موقعاً جيو - استراتيجياً من حيث أنها تمثّل الطريق الرئيس والمركز الجغرافي المهم للمدينة الغربية على الطريق المتجهة إلى الهند، وحتى يتمكَّن اليهود من تحقيق مركز لهم على هذا الطريق لا ينقصهم المال والكفاءات أو العمال وغيرهم[2].

وأشار هيس إلى أنّ قيام دولة يهودية في فلسطين «سوف يحقِّق الرسالة الحضارية لليهود في نقل الحضارة إلى الشعوب المتخلِّفة في آسيا وإفريقيا، وأنّ ذلك سيكون من خلال تأسيس المستوطنات اليهودية عبر رقعةٍ ممتدة من السويس إلى القدس، ومن نهر الأردن حتى البحر المتوسط»[3].

مع الكاتب اليهودي «نورمان بنتويتش» (Norman Bentwitch) إرتدى مشروع الدولة اليهودية في فلسطين – قلب الشرق الأوسط – أهمية جيوبوليتيكية بحكم خصوصية الموقع الفلسطيني كنقطة ارتكاز لمجال حيوي يربط بين شبه الجزيرة العربية ومصر وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. والمعروف أنّ هذه المناطق تتميَّز بحضارات تاريخية شكّلت تقاطعات لحضارات عالمية. فقد أوضح بنتويتش هذه الخصوصية لفلسطين إلى القادة الإنكليز مظهراً لهم الدور الذي يمكن أن تقوم به دولة يهودية في المستقبل[4].

مع مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان مشروع الدولة اليهودية قد عرف بعض الترجمة الميدانية عندما بدأ المليونير اليهودي «روتشيلد» يغذِّي اليهود بتأسيس مزارع في فلسطين، ثم تبعته مؤسسات مالية أخرى في عدة دول من العالم من أجل تشجيع الهجرة الزراعية تمهيداً للإستيلاء على الأراضي في فلسطين. كما عمل المفكِّرون اليهود على تكثيف الدعاية الإعلامية التي تحرِّض على هجرة اليهود إلى فلسطين عبر حملات دعائية منظمة قامت بها جمعيات ومؤتمرات عديدة لتحقيق الحلم الذي كان يراود اليهودي، وبخاصة البائس والمضطهد والمنعزل داخل أسوار «الغيتو» في بلدان أوروبا، في المجيء إلى فلسطين ليعمل في الأراضي الزراعية تمهيداً للإستيلاء عليها بعد طرد سكانها الأصليين.

من بين الجمعيات التي راحت تُؤلب الرأي العام اليهودي للهجرة إلى فلسطين، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت «محبي صهيون»، التي أنشأها كتّاب وطلاّب جامعيون في روسيا وعمّال يهود العام 1867، وكذلك جمعية أخرى ناشطة في أوكرانيا كانت قد أرسلت أول فوج من مهاجري يهود أوروبا الشرقية إلى فلسطين العام 1882 [5].

 

هرتزل والدولة اليهودية

اعتُبر «تيودور هرتزل»، وهو صحافي نمسوي ذاع صيته في عالم الصحافة الأوروبية خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، بحق بمنزلة الأب الروحي للحركة الصهيونية، والمؤسس لمشروع الدولة اليهودية وفق مقولات فكرية أيديولوجية وسياسية.

العام 1896 نشر هرتزل كتابه «الدولة اليهودية» موضحاً فيه أنّ فكرة هذه الدولة ليست بالطارئة أو الجديدة، وإنما هي «فكرة موغلة في القدم، وهي فكرة استعادة الدولة اليهودية»[6]. وهنا يريد هرتزل أن يُضفي على مشروع الدولة بعداً تاريخياً من أجل تقديم مسوّغ تبريري لكون استعادة هذه الدولة هي بمنزلة «حق تاريخي» لليهود. ولمّا كانت الدولة متماهية مع القومية فإنَّ قومية اليهود «لا يمكن أن تفنى ولن تفنى ولا ينبغي لها أن تفنى. وقد تبلى فروع كثيرة من اليهودية وتسقط أما الجذوع فإنها تبقى ثابتة»[7].

في الواقع، ربط هرتزل أيديولوجياً بين ثلاثة أبعاد لدولته اليهودية: الأول، البعد الاجتماعي من خلال التوجُّه إلى يهود الطبقات الدنيا في السلّم الاجتماعي الأوروبي، والثاني، البعد الديني التوراتي، في محاولة لاستحضار مقولتي «أرض الميعاد» و«شعب الله المختار»، وإظهار أنَّ استعادة إحياء الدولة اليهودية هي مسألة تكليف إلهي، والثالث، البعد القومي على اعتبار أنّ اليهود، على الرغم من توزيعهم في الشتات، هم شعب واحد. فقد جاء في قوله: «أعتقد أنّ المسألة اليهودية لم تعد مجرد مشكلة إجتماعية بقدر ما هي قضية دينية، ومع ذلك قد تتخذ أشكالاً أخرى، إنها قضية قومية يمكن حلُّها فحسب عندما تعالج كقضية سياسية عالمية تناقشها شعوب العالم المتحضِّر في مجلس دولي. إننا شعب.. وشعب واحد»[8].

أما مرتكزات قيام الدولة اليهودية فقد حدّدها هرتزل بثلاثة أساسية[9]:

الأول، السيادة اليهودية على جزء من الأرض، يكون كافياً للاحتياجات الحقيقية للأمة. وبعد ذلك يعود الأمر إلى اليهود بتقدير الجغرافيا السياسية للدولة – الأمة على قاعدة أنّ الأرض هي الأساس الموضوعي للدولة في حين يمثل الشعب الأساس الذاتي.

الثاني، النخبة السياسية التي تتولَّى التخطيط وإجراء المباحثات والتفاوض، وهي عبارة عن جمعية سوف تنال اعتراف الحكومات العالمية بوصفها سلطة لإقامة الدولة.

الثالث، الشركة اليهودية التي تمثِّل الشرط الاقتصادي لإقامة الدولة، وعليها يتوقَّف توفير رأس المال وتحقيق المصالح المالية لليهود الوافدين، وسوف تُنظم الاقتصاد والتجارة في الدولة الجديدة.

وبالنسبة إلى الأرض التي ستنشأ عليها الدولة أو بالأحرى الجغرافية السياسية للدولة اليهودية، فقد حسم هرتزل الجدل عندما أعطى الأولوية لفلسطين على الأرجنتين حيث جاء في قوله: «إنّ الأرجنتين من أكثر بلاد العالم خصوبة، وهي تمتد على مساحات شاسعة وفيها عدد قليل من السكان، ومناخها معتدل. وجمهورية الأرجنتين سوف تحصل على مكاسب كبيرة إذا تنازلت لنا عن قطعة من أراضيها.. أما فلسطين فإنها وطننا التاريخي الذي لا تُمحى ذكراه، إنّ اسم فلسطين بحدّ ذاته سيجتذب شعبنا بقوة ذات فعالية رائعة. فإذا منحنا جلالة السلطان فلسطين سنأخذ على عاتقنا بالمقابل، تنظيم مالية تركيا. ومن هناك سوف نشكِّل جزءاً من استحكامات أوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية. وعلينا – كدولة طبيعية – أن نبقى على اتصال بكل أوروبا التي سيكون من واجبها أن تضمن وجودنا»[10].

في خاتمة كتابه يطلق هرتزل نداءً إلى يهود العالم يخاطبهم بالقول: «فيا إخواننا اليهود هذه هي «أرض الميعاد»! لا أسطورة هي ولا خدعة، وكل إنسان يستطيع أن يختبر حقيقتها بنفسه، لأن كل إنسان سيحمل معه قطعة من أرض الميعاد: بعضها في رأسه، وبعضها بين ذراعيه، وبعضها في ملكيتها المكتسبة»[11].

هكذا وضع هرتزل الأساس الأيديولوجي لدولته اليهودية، وهو أساس مزج بين التوراتي التاريخي من جهة، والقومي العلماني من جهة أخرى. فهو أعار أهمية بالغة للاعتبارات الدينية، إلا أنها اعتبارات لم تخرج عن كونها وسيلة ضرورية للتعبئة والشحن النفسي ليهود العالم من أجل دفعهم تحت توهَّج الحرارة الدينية إلى الهجرة باتجاه فلسطين. وقد أوضح هرتزل هذه الوسيلة عندما أناط وظيفة الهجرة برجال دين أي بحاخامات يهود يتولَّون قيادة المجموعات المهاجرة. إنّ «كلَّ مجموعة سيكون لها حاخامها يسافر مع رعيته. وسوف تتشكَّل المجموعات المحلية في ما بعد تشكيلاً تطوعياً حول حاخاماتها، وسوف يكون لكل مجموعة محليَّة قائدها الروحي». وعن وظيفة هؤلاء الحاخامات أوضحها هرتزل بالقول: «إنّ حاخاماتنا الذين نوجِّه إليهم دعوة خاصة سيكرِّسون طاقاتهم في خدمة فكرتنا، وسيحفزون رعاياهم بالوعظ من فوق منابرهم.. فدعوة كهذه جديرة بأن يتردّد صداها بين جدران المعابد»[12].

هذه الوظيفة الوعظية لمدرسة المعابد هي وظيفة مكيافللية من حيث أنّها وسيلة في خدمة الغاية أو الهدف الأعلى الذي يتمثّل بإقامة الدولة اليهودية وغير الدينية حسب هرتزل نفسه. فالدولة الدينية باتت من الماضي في التاريخ الأوروبي، وباتت ظاهرة أخرى مسيطرة في أوروبا والعالم هي ظاهرة الدولة القومية العلمانية. لذلك يتساءل هرتزل: «هل سننتهي إلى حكومة ثيوقراطية؟»، ويجيب على الفور: «لا بالتأكيد. إن العقيدة تجمعنا والمعرفة تمنحنا الحرية. ولذلك سنمنع أي اتجاهات ثيوقراطية تتصدَّر قيادتنا من جانب الكهنوت. سوف نحصر كهنتنا داخل حدود المعابد، كما سنحصر بالمثل جيشنا داخل حدود معسكراته. ولسوف يتلقَّى جيشنا وكهنتنا منا كل احترام رفيع بقدر ما تستحقه وظيفتهما القيّمة، ولكنهما لا يجب أن يتدخلا في إدارة شؤون الدولة التي تُخلع عليها مكانة سامية، وإلا فسيجلبان علينا صعوبات في الداخل والخارج»[13].

 

الدولة اليهودية في المؤتمرات الصهيونية

لم تمضِ سنة واحدة على المنطلقات النظرية التي أطلقها هرتزل في كتابه «الدولة اليهودية» حتى كرَّس العقد الأخير من حياته (توفي العام 1904) لتطوير أفكاره ووضع الإطار التنظيمي لها تمهيداً لتحقيق إنجازات عملية تأخذ صيغة المراحل المتدرِّجة وصولاً إلى إنجاز قيام الدولة الموعودة.

إعتمد هرتزل صيغة المؤتمرات الصهيونية المتتالية، فكان أولها في مدينة «بال» السويسرية بين 27 - 30 آب/أغسطس 1897 والذي حدَّد هدف الصهيونية الاستراتيجي بقيام «وطن للشعب اليهودي في فلسطين»، كما عيَّن الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف وهي[14]:

-1  استعمال فلسطين زراعياً وصناعياً.

-2  تنظيم اليهودية العالمية.

-3  تقوية المشاعر اليهودية والوعي القومي اليهودي.

تتالى بعد ذلك عقد المؤتمرات الصهيونية التي ارتدت طابع الدورية شبه السنوية وبخاصة في السنوات الأولى من القرن العشرين التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى. فقد عُقد بين العامين 1897 - 1913 أحد عشر مؤتمراً. وحتى العام 1951، أي بعد ثلاث سنوات فقط من قيام «دولة إسرائيل»، بلغ العدد الإجمالي للمؤتمرات الصهيونية ثلاثة وعشرين مؤتمراً[15]، الأمر الذي يشكّل سابقة في التاريخ الحديث والمعاصر على مستوى الحركات والمنظمات في العالم.

اعتمدت الحركة الصهيونية في مؤتمراتها المتواصلة[16] مبدأ التراكمية في تحقيق الانجازات الآيلة إلى قيام دولتها على أرض فلسطين العام 1948:

-  في مؤتمرها الثاني 1898 تمّ تحديد آليات اكتساب الجماعات اليهودية في العالم إلى جانب المشروع الصهيوني في إقامته الدولة اليهودية.

-  العام 1899 قرَّر المؤتمر الثالث تأسيس المصرف اليهودي تحت اسم «صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار» بغية تمويل النشاط الاستيطاني في فلسطين.

-  العام 1900 عُقد المؤتمر الرابع تحت شعار أيديولوجي عرقي ديني (العمل اليهودي على الأرض اليهودية)، أي اعتبار فلسطين أرضاً لليهود.

-  العام 1901 أسّس المؤتمر الخامس «الصندوق القومي اليهودي».

-  العام 1903 ناقش المؤتمر السادس عرضاً بريطانياً باستعمار أوغندا (إفريقيا) أو العريش المصرية، وخرج المؤتمر برفض الإقتراح.

-  العام 1905 حسم المؤتمر السابع مسألة إنشاء الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين.

-  العام 1907 أصدر المؤتمر الثامن قراراً بإنشاء «مكتب فلسطين» في مدينة يافا لمتابعة الأنشطة الاستيطانية بشكل واسع ومنظَّم. وقد عبَّر الكاتب الصهيوني «أوتو داربورغ» عن هذه الخطوة بقوله: «إنَّ الحق التاريخي الذي يستند إلى ملكيتنا لفلسطين قبل ألفي سنة لا مفعول له وحده لدى الدول الكبرى، بل يتوجَّب علينا إيجاد صيغة عنصرية لذلك الحق كي تضاف إليه. إنَّ فلسطين تخضع إقتصادياً لنفوذنا، وإنّ جميع ما أحرزه ذلك البلد من تقدم كبير وملموس يرجع في الأصل إلى مبادرتنا نحن وقوة وسائلنا الاقتصادية وفعاليتها، ولم ينشأ إلا بفضلها».

-  من المفيد ذكره في هذا المجال أنّ الرأسمال الصهيوني كان قد بدأ يتغلغل بكثافة في فلسطين، وبخاصة في المناطق الساحلية في يافا وحيفا وعكا وغزة، وراح يُوظف كرأسمال زراعي في الزراعات الحمضية الساحلية (الليمون والبرتقال)[17].

-  العام 1909 عُقد المؤتمر التاسع وفيه طرح الاقتصادي اليهودي الألماني فرانز أوبنهايمر فكرة إنشاء مستوطنات ومستعمرات زراعية في فلسطين تقوم على المبادئ التعاونية.

-  العام 1910 انتخب المؤتمر العاشر واربورغ رئيساً للمنظمة الصهيونية، وقد برز في هذا المؤتمر إسم حاييم وايزمن الذي راح يتحوَّل إلى مركز استقطاب صهيوني، وإلى شخصية مؤثّرة لدى الدول الكبرى، لا سيما بريطانيا القوة الاستعمارية الوازنة آنذاك.

-  العام 1913 عُقد المؤتمر الحادي عشر في ظل أجواء التأزّم المسيطرة على العلاقات الدولية، والتي كانت تنذر بقرب انفجار الحرب العالمية الأولى. في هذا المؤتمر ترأس وايزمن «اللجنة الدائمة» للمنظمة الصهيونية وراح يسعى لدى الدول المتحاربة بهدف الحصول على براءة الاستيطان اليهودي في فلسطين تمهيداً لإعلان الدولة اليهودية على أراضيها. ومن أجل تحقيق هذا الهدف رسم وايزمن المخطط الآتي[18]:

-1  الوقوف إلى جانب الحلفاء لضمان انتصارهم في الحرب الدائرة.

-2  وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني كثمرة لانتصار الحلفاء.

-3  قيام الدولة المنتدبة بتسهيل دخول مليون يهودي أو أكثر إلى فلسطين.

-4  تزامن انتهاء الانتداب مع الإعلان عن دولة اليهود وتوفير الضمانات الدولية اللازمة لمثل هذا الأمر.

 

ثمة ثلاثة عوامل مفصلية أسهمت في إخراج مشروع الحركة الصهيونية إلى النور:

الأول، «وعد بلفور» بإقامة «وطن قومي لليهود في فلسطين»[19] في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، وقد اعتُبر بمنزلة الحدث التاريخي المصيري على طريق تحقيق الحلم الصهيوني في إقامة الدولة اليهودية.

الثاني، دور الانتداب البريطاني على فلسطين (1920-1948) في تهيئة الظروف الإدارية والأمنية والاقتصادية والسياسية من أجل مستلزمات قيام الدولة اليهودية. فقد ساهمت إدارة الانتداب بإعداد النخبة اليهودية بيروقراطياً وسياسياً وعسكرياً في وقت كانت النخبة الفلسطينية مهمَّشة ومقتصرة على مرجعيات دينية وسياسية تفتقر إلى المشروع السياسي الذي يبقى أحد أبرز الشروط لإدارة الدولة ومؤسساتها المختلفة.

الثالث، انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، ولجوء الصهاينة إلى نسج علاقات وطيدة مع رأسمالية المركز الأميركي التي شهدت صعوداً خطياً إلى قمة الهرم الرأسمالي العالمي في فترة ما بعد الحرب، الأمر الذي وفَّر للمشروع الصهيوني سنداً دولياً هو الأقدر على التحكم في العلاقات الدولية، وبالتالي على رسم خرائط الجغرافية السياسية لكيانات ودول عديدة كانت «دولة إسرائيل» في مقدّمها.

منذ قيامها العام 1948، واجهت «دولة إسرائيل» وما زالت تواجه حتى اليوم، ثلاث إشكاليات ضاغطة يتوقف على تجاوزها أو عدمه المستقبل الوجودي للدولة وهي:

-  إشكالية هوية الدولة.

-  إشكالية الجغرافية السياسية.

-  إشكالية تهويد الديمغرافيا.

 

أولاً: إسرائيل وإشكالية هوية الدولة

في الخامس عشر من أيار/مايو 1948 شهدت الصهيونية ميلاد الدولة التي حلمت بقيامها لأكثر من قرن من الزمن، وأطلقت عليها إسم «إسرائيل»، وهي تسمية استعارتها من التوراة للتدليل على الإسم العبري لفلسطين وهو «إيرتس يسرائيل» أي «أرض إسرائيل». إلا أن هذه التسمية أثارت موجات احتجاجية ونقدية صاخبة، الأمر الذي دفع حكومة بن غوريون، وهي الحكومة الأولى في الدولة الناشئة، إلى تغيير الإسم إلى «دولة إسرائيل»[20].

ثمة أسباب كامنة وراء تسمية الدولة «دولة إسرائيل» بدلاً من «الدولة اليهودية» التي اختارها هرتزل، منها نذكر:

1) المواءمة بين إسم «دولة إسرائيل» كمصطلح سياسي، والاسم العبري لفلسطين (أرض إسرائيل) كمصطلح جغرافي.

2) المواطنة داخل الدولة الجديدة لا تنطبق فحسب على العناصر اليهود على أساس الانتماء الديني، وإنما أيضاً على كل من يقيم داخل إسرائيل من العرب الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين، حيث اعتبر هؤلاء العرب في عداد المواطنين الذين يتمتَّعون بالجنسية الإسرائيلية.

3) إن مصطلح «الدولة اليهودية» يثير إشكالية على مستوى الجغرافية السياسية للدولة المعلنة. فالدولة – المملكة التي ظهرت قديماً باسم «مملكة يهودا»، لم تكن تشمل إلا القسم الجنوبي من فلسطين من دون ساحل البحر، الأمر الذي لا يفي بحاجات المشروع الصهيوني الاستيطاني – الإحلالي في السيطرة ليس فحسب على جغرافية فلسطين التاريخية، وإنما أيضاً يتجاوزها إلى المجال العربي المجاور بما يستجيب لحاجات الدولة في الأمن العسكري والسياسي والاقتصادي.

4) إطلاق الصفة «الإسرائيلية» على الدولة يفتح طريق الهجرة إليها أمام العديد من العناصر اليهود العلمانيين في الشتات اليهودي. فهؤلاء يفرِّقون بين اليهودية كهوية ثقافية حضارية واليهودية الدينية التي ترى في الدين اليهودي العامل المقرر في تكوين الجماعة اليهودية. من هنا، أصدرت الحكومة الإسرائيلية «قانون العودة» في الخامس من تموز/يوليو 1950، الذي أصبح بموجبه اليهودي المقيم خارج إسرائيل، هو الآخر «إسرائيلياً»[21]. وعليه، فقد ارتسمت وفق هذا القانون المعادلة الآتية: كل يهودي هو إسرائيلي، ولكن ليس كل إسرائيلي يهودياً. وبموجب هذه المعادلة بات كل يهودي مقيم داخل إسرائيل أو خارجها هو إسرائيلي بشرط إعلان ولائه لإسرائيل. من هنا اكتسبت تسمية الدولة بـ«دولة إسرائيل» كمصطلح سياسي معاصر، دلالة مختلفة تماماً عن الدولة اليهودية التوراتية المحدودة، وكذلك عن الدولة اليهودية الدينية التي تضم كل يهود العالم على أساس الرابطة الدينية وحدها.

وما يجدر بالإشارة إليه هو أنَّ إعلان الدولة باسم «دولة إسرائيل» لم يكن يعني لدى النخبة السياسية والفكرية لقادة هذه الدولة ومفكِّريها من اليهود، الانقطاع أو الانفصال عن الماضي التاريخي اليهودي، وإنما على العكس من ذلك، فقد جهد أولئك القادة والمفكرون في إيجاد مبرر أيديولوجي لوجود تجربة تاريخية لدولة يهودية في الماضي. وأما الإعلان عن قيامها مجدداً فهو ليس أكثر من إعادة بناء أو ولادة جديدة. ففي 14 أيار/مايو 1948، أشار إعلان الإستقلال لدولة إسرائيل الحديثة إلى أنّ هذا الاستقلال هو «إعادة بناء الدولة اليهودية»[22] (Re-establishment of the Jewish State).

عكست وثيقة إعلان الإستقلال الإسرائيلي نزعة فكرية استرجاعية، أي استرجاع الأرض (فلسطين أرض الميعاد)، والشعب (اليهود شعب الله المختار)، والدولة ذات التجربة التاريخية القديمة. جاء في افتتاحية إعلان الإستقلال ما يأتي: «لقد كانت أرض إسرائيل مسقط رأس الشعب اليهودي. هنا تكوَّنت هويتهم الروحية والدينية والقومية، وهنا حقَّق هذا الشعب الاستقلال وأنشأ ثقافة كان لها أثر قومي وعالمي. وهنا أيضاً كتبوا الكتاب المقدس ووهبوه للعالم. وبعد النفي من أرض إسرائيل، ظل الشعب اليهودي وفياً لهذه الأرض في جميع البلدان التي تشتَّت فيها، ولم ينقطع قط عن الصلاة والأمل بالعودة إليها لاستعادة استقلاله القومي بدافع هذا الربط التاريخي»[23].

وتشير الوثيقة إلى تعاظم حركة الإستيطان اليهودي داخل فلسطين، هذه الحركة التي بدأت بدعم الرأسماليات الأوروبية مع مطلع الثمانينيات من القرن التاسع عشر، ولم تلبث أن تسارعت وتائرها في ظل الإنتداب البريطاني على فلسطين بعد العام 1920. لقد «جاهد اليهود طوال القرون الماضية للعودة إلى أرض آبائهم واستعادة دولتهم. وعادوا بأعداد كبيرة في العقود الأخيرة، واستصلحوا القفار، وأعادوا إحياء لغتهم، وبنوا المدن والقرى، وأسَّسوا مجتمعاً قوياً دائم النمو، له حياته الاقتصادية والثقافية الخاصة. سعوا إلى السلام، لكنهم في الوقت نفسه استعدوا للدفاع عن أنفسهم. لقد جلبوا نعمة التقدم لجميع سكان البلد وتطلَّعوا للتحرر والاستقلال»[24].

مهما يكن من أمر الطروحات السياسية والفكرية التي انصبت على توصيف طبيعة الدولة التي أعلنت في 15 أيار/مايو 1948، فإنّ هذا التاريخ كان بمنزلة محطة مفصلية لتطور الهياكل البنيوية لكل من المجتمع والدولة الإسرائيليين، سواء على مستوى التركيب المجتمعي الاجتماعي والديني والقومي من ناحية، أم على مستوى أيديولوجيا الحكم والسلطة السياسية من ناحية أخرى.

لقد شرَّعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أبواب الهجرة اليهودية الاستيطانية إلى فلسطين. أما التصنيف الطوائفي للمهاجرين وفق مناطقهم الطاردة الأساسية فكان على الوجه الآتي[25]:

-  طائفة اليهود الغربيين ومعظمها من يهود غرب أوروبا بشكل أساسي، وقد عرفت بيهود الاشكنازيم، وتدفَّقت مجموعاتهم بشكل مكثَّف خلال السنوات الأولى التي أعقبت قيام الدولة. الوزن النسبي لهذه الطائفة يصل إلى حوالى 45 % من إجمالي يهود الدولة، ومنها خرجت الصفوة السياسية التي استأثرت بمواقع السلطة الحاكمة في الدولة ومؤسساتها. وعلى صعيد التقسيم الاجتماعي للعمل، اتجهت غالبية المهاجرين «الاشكناز» إلى المدن، حيث اشتغلوا بالصناعة والتجارة والخدمات حتى تميَّزوا بصعودهم الإجتماعي وباتوا في عداد الطبقتين الوسطى والعليا.

-  طائفة اليهود الشرقيين أو «السفاراديم» ومنها يهود شرق أوروبا ويهود البلاد العربية والإسلامية. وفي السبعينيات من القرن المنصرم تكثَّفت هجرة اليهود الأثيوبيين (الفالاشا)، وخلال النصف الأول من عقد التسعينيات شهدت الهجرة الاستيطانية التي ترافق دخولها إلى فلسطين مع السقوط الدرامي للاتحاد السوفياتي، قدوم ما يقارب مليون مهاجر يهودي روسي. انضوت هذه المجموعات على اختلاف بيئاتها الثقافية والفكرية والاجتماعية، في دائرة «السفاراديم» الذين شكَّلوا الكتلة الأكثر وزناً على الصعيد السكاني بحيث سجَّل حجمهم النسبي حوالى 55 % من إجمالي خارطة التوزُّع الديمغرافي اليهودي في فلسطين.

-  على صعيد المتكوّن الطبقي إحتل السفاراديم (يهود الشرق) المساحة الأوسع من طبقة البروليتاريا التي يعيش أفرادها في أكواخ على هوامش «مدن التنمية» التي أقامتها الدولة في حالةٍ من الفقر الاقتصادي والاجتماعي. ففي مجالات العمل والمدارس والجيش، اعتبروا أنفسهم ضحايا التفرقة والتمييز العرقي والقومي. وقد أعربت صفوة الأشكناز الحاكمة عن استيائها وقلقها من اتساع فضاء الثقافة «الشرقية» أو «العربية» داخل المجتمع الإسرائيلي. ومن وجهة نظرها، فإن الفلسطينيين (عرب إسرائيل)، واليهود الشرقيين، هم جماعات ثقافية تعيش كل منها، بشكل أو بآخر، في حالة من الانفصال، وكذلك في حالة متدنِّية في المجتمع الإسرائيلي من الناحية الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وإذا كان الاجتماع اليهودي داخل إسرائيل تحكمه خطوط الانقسام العمودي بين طائفتي الاشكناز والسفاراديم، فإنّ تقسيماً آخر يبرز أيضاً على مستوى الانتماء القومي إلى يهود وعرب (عرب 1948). أما التوزع النسبي وفق هذا الإنتماء فهو 81 % لليهود مقابل 19 % للعرب. وإذا كان يهود إسرائيل يتحدَّرون من إثنيات عرقية وقومية وبيئات ثقافية مختلفة، فإنَّ عرب إسرائيل ينتمون إلى قومية واحدة هي القومية العربية مع تنوُّعهم الديني (14.2 % مسلمون، 2.8 % مسيحيون، 1.7 % دروز وشركس).

هذه التركيبة الانقسامية في المجتمع الإسرائيلي تجعله أقرب إلى مجتمع فسيفسائي صراعي تناحري، الأمر الذي يزيد في فجوة الاختلاف حول هوية الدولة، ويفتح بالتالي، مصير هذه الدولة على المجهول.

 

يحتدم الجدل حالياً حول ثلاثة طروحات رئيسة بشأن هوية الدولة:

-  دولة يهودية دينية.

-  دولة يهودية قومية.

-  دولة إسرائيلية.

1

- دولة يهودية دينية

الاتجاه الغالب على هذا الطرح تمثِّله الجماعات اليهودية الاستيطانية التي جذبتها إلى فلسطين دوافع توراتية، ذلك أنّ أرض فلسطين تمثِّل خصوصية في الاعتقاد الديني اليهودي بوصفها الأرض المقدَّسة، وأنَّ العودة إليها هي فرض ديني منسجم مع مشيئة الرب في إعادة اليهود إلى ما يسمى «أرض الميعاد» مع حلول الخلاص المسيحاني.

حملت الموجات المهاجرة، من يهود غرب أوروبا وشرقها ووسطها، إلى فلسطين، ثقافتها وقيمها الروحية التي سادت طويلاً في أحيائها المنعزلة المسماة «الجيتو». وقد عمَّق هذا الانعزال عند اليهودي النزعة الاعتقادية الدينية، الأمر الذي جعله أكثر محافظة وتمسكاً بتعاليم الشريعة اليهودية.

وجدت الجماعات الدينية في قيام «دولة إسرائيل» البيئة الملائمة لممارسة معتقداتها وطقوسها الدينية في مناخات من الحرية. فقد ظل الدين اليهودي بمنزلة العامل الرئيس في توجيه حياة اليهود سواء على الصعيد الطقسي التعبدي (قدسية يوم السبت، الأعياد الدينية، الصوم اليهودي الخ...) من جهة، أم على الصعيد السياسي وخيارات السلطات الحاكمة في إدارة شؤون الدولة وتعاطيها مع ملفات ذات أهمية حاسمة تتعلَّق بالحرب والسلام في المنطقة من جهة أخرى.

بعد حرب 1967 شهد الوسط الاجتماعي والسياسي في إسرائيل مداً دينياً ملفتاً. فقد ظهرت مقولات دينية راحت تفسر انتصار إسرائيل على ثلاث جبهات عربية على أنه معجزة إلهية. لم يقتصر تصاعد هذا المدّ الديني على الجماعات اليهودية الدينية وحدها، وإنما جرف معه عناصر وقوى علمانية كثيرة انبهرت بالانتصار الحاسم، وراحت تتلاقى في طروحاتها مع المتديِّنين بشأن القضايا المصيرية وخصوصاً حول هوية الدولة ومستقبلها.

ومنذ مطلع الثمانينيات بدأت الجماعات الدينية تظهر على صورة جمعيات وأحزاب دينية – سياسية مثل: «جمعية أبناء الهيكل»، وحركة «غوش إيمونيم»، و«كاهانا حي»، و«آيل»، و«دولة يهودا»، و«أمانا»، و«قمع الخونة»، و«سيف داود»، و«السيكريكسين» و«كاخ» وسواها[26].

ربطت الأحزاب المذكورة بين الديني والسياسي. وكانت أبرز طروحاتها قد تمحورت حول ثلاثة مواقف أساسية[27]:

الأول، تميّز الشعب اليهودي عن بقية شعوب العالم، فهو الشعب المختار وقد تمَّ اختياره من بين سائر الشعوب، وعقيدته نقيَّة.

الثاني، المناداة بإسرائيل دولة يهودية دينية، ينبغي أن تقوم على الشريعة وعلى القانون العبري. فهذان المرتكزان للدولة بإمكانهما حلّ جميع المشاكل المعاصرة، في حين اعتماد الدولة على القانون العلماني الغريب عن روح اليهودية يعتبر بمنزلة كارثة لا بدّ من إصلاحها.

الثالث، المناداة بديمغرافية يهودية خالصة تتناسب مع هوية الدولة الدينية. لذلك، ينبغي على إسرائيل إعلان سيادتها على جميع الأراضي المحتلَّة لأسباب دينية، وحل مشكلة الشعب الفلسطيني عن طريق الترحيل الإكراهي إلى خارج البلاد[28].

 

2- دولة يهودية قومية:

بدأت طروحات القومية العلمانية بالظهور في أوساط الشتات اليهودي في أوروبا مع قيام حركة «التنوير اليهودية» (الهسكالاه)، التي تأثَّرت بزحمة الأفكار الجديدة بشأن الحرية والمساواة والديمقراطية، وبروز الظاهرة القومية العلمانية على مستوى الدولة، فكانت الدولة القومية أو الدولة – الأمة بمنزلة الحدث التاريخي الذي ساد في أوروبا ومنها انطلق إلى العالم.

سعت الحركة الصهيونية في إبان المرحلة الانتقالية، أي بين نشأة هذه الحركة في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر، وحتى إعلان قيام «دولة إسرائيل» العام 1948، إلى جذب قطاعات عريضة من العلمانيين اليهود إلى جانب جذبها، بالمقابل، قطاعات هامشية من الدينيين، في وقت رفضها اليهود «الحريديم» المتشددون دينياً، والذين يرفضون أي شكل من أشكال الخلاص قبل مجيء المسيح المخلص.

نادت الصهيونية العلمانية بدولة يهودية متنوِّرة وليبرالية تفصل بين الدين والدولة، وتحصر الدين في إطار حرية الفرد، وتخلق «عبرياً جديداً» بدلاً من «اليهودي الشتاتي».

لكن بعد العام 1948، أي بعد قيام الدولة، وفي ظل تعدُّد الهويات الثقافية والقومية للجماعات اليهودية التي استوطنت فلسطين، بدأت تتبلور طروحات جديدة تتجاوز الصهيونية بشأن هوية الدولة ومستقبل وجودها، لا بل إنَّ أكثر هذه الطروحات «راحت تعلن صراحة أنّ الصهيونية قد أنهت دورها»، وأن الضرورة تقضي بتبلور طروحات أكثر واقعية من شأنها أن تستجيب لمستقبل الوجود اليهودي في الدولة وللتحديات الصعبة التي تواجهها أمنياً وسياسياً وسكانياً»[29].

جاء الطرح الجديد ليؤكد يهودية الدولة، وهو يربط ما بين القومي الديني والقومي العلماني في توليفة جديدة من شأنها إنتاج يهودية ذات خصوصية ثقافية واجتماعية وسياسية. أبرز الخطوط العريضة لهذا الطرح:

1) تأكيد أهمية العناصر التي تشكل التراث الديني اليهودي وفي مقدّمها الدين اليهودي، والأخلاق اليهودية، والقيم اليهودية، وتقاليد الحياة اليهودية عبر الأجيال.

2) التأكيد على أنّ الوطن القومي اليهودي هو أساس مشترك لجميع اليهود سواء أكانوا داخل «أرض إسرائيل» أم في الخارج.

3) السعي لتأكيد الطابع اليهودي للدولة، وأنه لا مكان فيها لأي قومية أو ديانة أخرى، أو بمعنى آخر أكثر وضوحاً الرفض بشدة للطرح الإسرائيلي للهوية الذي ينطلق من اعتبار أنّ «دولة إسرائيل هي دولة كل مواطنيها». والنظر إلى اليسار الإسرائيلي العلماني على أنه معادٍ للدين وللقومية، ويعمل على طمس القيم اليهودية في الدولة، ويتخلَّى عن «حق» شعب إسرائيل التاريخي والديني في «أرض إسرائيل».

4) إن مسلسل الحروب العربية – الإسرائيلية (1948-2009) أضاف بعداً تكوينياً لمكوّنات الهويّة اليهودية، هو البعد التوحيدي التضامني في مواجهة الأعداء التاريخيين العرب مهدِّدي الدولة والشعب اليهوديين في آنٍ معاً.

5) على الصعيد الديمغرافي ينبغي تحقيق التلازم الكلي بين يهودية الاجتماع السياسي وتهويد الديمغرافيا، وأن مثل هذا الأمر لن يكون إلا بضمان أكثرية يهودية ساحقة تحقق التفوق العددي الدائم على سائر المجموعات العربية سواء عرب 1948 أو عرب الضفة الغربية وقطاع غزة.

6) بشأن احتمالات التسوية للصراع العربي – الإسرائيلي، يعتمد الطرح اليهودي للدولة نظرية «السلام اليهودي». وتفسير هذه النظرية أنّ أي تسوية سلميّة في المنطقة ينبغي أن تستجيب لحاجات الدولة اليهودية في الأمن والأرض وتوفير مقوِّمات السلام المستمر[30].

7) يتبنَّى دعاة الطرح اليهودي للدولة حلاً مع الفلسطينيين على أساس إقامة دولتين: دولة يهودية للشعب اليهودي غرب نهر الأردن، ودولة عربية للفلسطينيين شرق الأردن، وأنه يجب على إسرائيل أن تجد طريقة لتخفيف عداء السكان العرب الذين سيبقون تحت سيطرتها من دون التنازل عن المناطق التي تعتبرها حيوية لوجودها[31].

يأتي حزب «الليكود» اليميني في طليعة القوى السياسية التي تطرح مقولات أدلجة الدولة اليهودية، إلى جانب اعتماد سياسة إجرائية تقضي بضمّ الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى إسرائيل، ومنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً محدوداً، في المسائل المتعلِّقة بالتعليم والأحوال الشخصية والقضاء والصحة وغيرها من المجالات، مع الإبقاء على السيطرة الأمنية وتوسيع المستوطنات.

 

3- دولة إسرائيلية

ظهرت مقولة «إسرائيلية الدولة» في أوساط اليهود الإسرائيليين الذين ولدوا على أرض فلسطين قبل قيام «دولة إسرائيل» وبعدها وعرفوا باسم «الصبّاريم»، وهم يتميّزون بشخصية ثقافية تحتمل الكثير من سمات التمايز عن الثقافات الاستيطانية الوافدة إلى فلسطين من بيئات خارجية مختلفة.

إنّ أهمّ ما يميّز هؤلاء «الصّباريم» هو أن ارتباطهم بإسرائيل لم يكن لدوافع اعتقادية أيديولوجية، فهم لم يواجهوا اللاسامية وحملات الاضطهاد المعادية لليهود في أوروبا وسواها، وليس لديهم عقدة الدونية والأقلية المهمّشة، كما أحسَّ آباؤهم وأجدادهم في أماكن عزلتهم الجيتوية قبل هجرتهم إلى فلسطين. من هنا، فإنَّهم يضعون إسرائيليتهم قبل يهوديتهم، ويشعرون بالمواطنة الإسرائيلية ليس لأنهم يهود، وإنما لأنّهم ولدوا وتربوا على هذه الأرض[32].

أفضت نتائج حرب حزيران/يونيو 1967، إلى تبلور الهوية الوطنية الإسرائيلية؛ ذلك أن التأثيرات السياسية والأيديولوجية التي تركها الانتصار العسكري الإسرائيلي في تلك الحرب، ربطت بقوة بين الانتماء السياسي والوطنية الإسرائيلية. وقد أسَّس هذا الترابط بدوره لمرحلة جديدة من التحوُّل في التاريخ الإسرائيلي المعاصر بالنسبة إلى تنمية الإحساس بالوطنية الإسرائيلية وتأكيده لدى الشخصية اليهودية التي وُلدت ونشأت في إسرائيل[33].

الطرح الإسرائيلي للدولة يعكس ميلاً نحو الديمقراطية والليبرالية، الأمر الذي يجعله أكثر انفتاحاً على الحداثة بفضائها الكوني، وهو يرى في النموذج الديمقراطي الأميركي النموذج الأفضل.

على المستوى الثقافي – الأيديولوجي لا يعكس الطرح الإسرائيلي للدولة هوية قومية - يهودية، بل هوية متعدِّدة القومية على أساس مدني – سياسي يقوم على أساس الانتماء المدني للدولة. وهكذا، فإنّ هذا الطرح يمكن أن يكون هوية مشتركة لكل مواطني الدولة من دون تفرقة في الدين أو في الأصل القومي[34].

الخلاف بين إسرائيلية الدولة ويهودية الدولة لم يقتصر فحسب على التباينات الثقافية والأيديولوجية، وإنما يطال أيضاً التوجُّهات السياسية بشأن احتمالات التسوية للصراع العربي- الإسرائيلي. فإذا كان منظور التيارين اليهودي الديني واليهودي القومي للتسوية يقوم على ترحيل الفلسطينيين أو إعطائهم حكماً ذاتياً محدوداً في أحسن الحالات، فإنّ منظور التيار الإسرائيلي يرتكز إلى مبدأ «الأرض مقابل السلام» مع بعض الترتيبات الأمنية التي تضمن أمن إسرائيل، وعدم تعرضها لهجوم عربي مباغت، وهو حل يحظى بتأييد الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والرأي العام العالمي.

 

ثانياً: إسرائيل وإشكالية الجغرافيا السياسية

إذا كانت هوية الدولة في إسرائيل لم تنتهِ بعد 62 سنة على قيامها، إلى صيغة ثابتة ومستقرة تعكس صورة المجتمع الإسرائيلي بكل تلويناته الدينية والقومية والسياسية والأيديولوجية، فإنّ إشكالية الجغرافيا السياسية لهذه الدولة ما زالت، من المنظور الجيوبوليتيكي، إشكالية عصيَّة على التجاوز حتى الآن.

تبرز إشكالية الجغرافيا السياسية للدولة الإسرائيلية على مستويين إثنين: مستوى الجغرافية المساحية من جهة، ومستوى الجغرافية الجيوبوليتيكية من جهة أخرى.

1- الجغرافية المساحية

الجغرافية المساحية لدولة إسرائيل لم تتحدَّد قبل قيام الدولة وبعدها وفق معطيات طوبوغرافية محددة وثابتة، وإنما تحدَّدت وفق معطيات أيديولوجية توراتية دينية وتاريخية. فهناك إشارات تتردد كثيراً في الأدبيات السياسية لقادة وزعماء إسرائيليين يشيرون فيها إلى «أرض إسرائيل التاريخية». وهذا ما عبَّر عنه «حاييم وايزمن» في توصيفه إعلان الاستقلال العام 1948 بأنّه تعبير واضح عن «الحق» في إنشاء دولة يهودية لا مجرد وطن قومي[35]، وذلك على أساس السابقة التاريخية. وعلى هذا الأساس فإنّ «دولة إسرائيل» المعاصرة ما هي إلا «إعادة بناء» لما كان موجوداً في الماضي[36].

أما المقصود بأرض إسرائيل التاريخية، حسب الزعماء الصهاينة، فهو يدل على عدم الاكتفاء بأرض فلسطين وحدها وإنما يتعدَّاها إلى مناطق أخرى في الجوار العربي تتسع لقيام «إسرائيل الكبرى» وهي عبارة عن إمبراطورية توراتية تمتد حدودها من خليج العقبة إلى البحر المتوسط، ومن وادي العريش في الجنوب إلى لبنان وقاديش[37] (Kadesh) حول نهر العاصي في الشمال[38].

وكان بن غوريون الذي تولَّى رئاسة أول حكومة في الدولة الإسرائيلية المعلنة العام 1948، قد أوضح أنّ حدود إسرائيل يجب أن تتضمَّن القسم الجنوبي من لبنان، والقسم الجنوبي من سوريا، والأردن وشرق الأردن بأكمله، بالإضافة إلى سيناء المصرية. ومما قاله: «لا يستطيع أحد أن يطلب من الآخرين أن يتخلَّوا عن أحلامهم. سوف نقبل بحدود الدولة كما ستحدَّد الآن، ولكن حدود الآمال الصهيونية هي شأن الشعب اليهودي وحده، ولن يستطيع أي عامل خارجي الحدّ منها»[39]. يتَّضح من هذا القول أنّ حدوداً غير معلنة سوف يتم الحصول عليها في المستقبل. لذلك، بعد العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر العام 1956, والاستيلاء على سيناء، صرّح بن غوريون بأن هذا الإستيلاء يمثّل استكمال المرحلة الثالثة من إنشاء «مملكة إسرائيل»[40].

ومن جهته، أدلى مناحيم بيغن، الذي سيصبح زعيماً لحزب الليكود اليمني ورئيساً للوزراء في ما بعد، بتصريح عقب إعلان الإستقلال العام 1948، أكّد فيه أنّ «القدس كانت وستظل عاصمتنا إلى الأبد. وأرض إسرائيل سوف تعود إلى شعب إسرائيل، برمتها وإلى الأبد»[41].

إنّ حدود إسرائيل ليست مرسومة مساحياً، ولكنها مرسومة أيديولوجياً في مشروع توسّعي إستعماري يعتمد المراحل المتدرِّجة ويتخذ من الحرب وسيلة استراتيجية لإنجاز مشروع الدولة في ضوء الاستجابة لحاجاتها الأمنية والسياسية والاقتصادية، وقبل كل شيء لتأمين استمراريتها ووجودها.

2- الجغرافية الجيوبوليتيكية

التزم مهندسو الكيان الصهيوني تنفيذ مخط إنشاء الدولة اليهودية على ثلاث مراحل تتضمَّن تحقيق ثلاثة إنجازات كبرى هي بمنزلة حلقات متكاملة في تظهير الجغرافية الساسية للدولة المزعومة.

المرحلة الأولى، إنجاز قيام الدولة – النواة أو الدولة – القلب (Etat– Coeur). وهذا ما حصل فعلاً في إبان حرب 1948 عندما أُعلنت «دولة إسرائيل» على مساحة تزيد قليلاً عن 21000 كلم2، أي ما يقرب من حوالى 78 % من جغرافية فلسطين التاريخية.

المرحلة الثانية، إنجاز جغرافية الغلاف الضروري لدولة القلب، وهذا ما تحقق أيضاً في إبان حرب حزيران/يونيو 1967 باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة (استكمال جغرافية فلسطين التاريخية)، إضافة إلى سيناء المصرية، والجولان السورية، وجزء من الأراضي اللبنانية المتاخمة لمرتفعات جبل حرمون (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا..).

المرحلة الثالثة، وتقضي بإنشاء المناطق العازلة (الحزام) وهي مناطق منزوعة السلاح الهدف الأساسي منها صيانة أمن الدولة الإسرائيلية عبر اتفاقيات أمنية يجري إبرامها مع دول الجوار الفلسطيني لهذه الغاية. وبالفعل تمكنت إسرائيل من توقيع إتفاقيتين من هذا القبيل: الأولى، اتفاقية كامب ديفيد مع مصر العام 1979، والثانية، إتفاقية وادي عربة مع الأردن العام 1994، إلا أنها أخفقت في إخراج إتفاقية 17 أيار/مايو 1983 مع لبنان إلى حيِّز التنفيذ، وكذلك لم تنجح في حمل سوريا على إبرام أي اتفاق يلتزم أمن إسرائيل وحمايتها.

إنَّ إسرائيل اليوم، لا تعاني فحسب عدم إنجاز جغرافيتها السياسية الملائمة لدولتها الموعودة، وإنما تعاني أيضاً اللاإستقرارية المهدِّدة لهذه الجغرافية الساسية.

 

هناك أربعة أسباب قوية ما زالت كامنة وراء عدم الاستقرار في جغرافية إسرائيل السياسية هي[42]:

-1  المسافات القصيرة بين الحدود وعاصمة الدولة (القدس)، الأمر الذي يعزِّز النزعة التوسعية ويزيد من احتمال شنَّ الحروب من قبل إسرائيل على الدول العربية المجاورة من أجل زيادة المسافة المترية الفاصلة بين الحدود والعاصمة.

-2  نقصان العمق الإستراتيجي للدولة الإسرائيلية الحالية، الأمر الذي يجعلها محرومة من إقامة علاقات تفاعل إقليمي سياسي وإقتصادي وعسكري. العام 1998 أبرمت إسرائيل حلفاً مع تركيا إلا أن هذا الحلف لم يحقِّق الفعالية المطلوبة بسبب عدم التواصل الجغرافي بين الطرفين.

-3  انكشاف خطوط المواصلات الإسرائيلية، لا سيما البحرية منها، الأمر الذي يُبقي على هواجس الخوف من الهجمات المفاجئة.

-4  مناطق الجوار الإسرائيلي في غزة ولبنان وسوريا ما زالت عصية على الأمن الإسرائيلي، الأمر الذي يهدِّد الإستقرار الأمني والسياسي للدولة الإسرائيلية.

إذن، على ضوء الإشكالية التي تواجهها إسرائيل في جغرافيتها السياسية، فانَّ استكمال حلقات هذه الجغرافية ما زال يمثل حتى اليوم، أولوية في الأجندة السياسية الإسرائيلية. من هنا، فإن إسرائيل لا يمكن أن تنخرط أو تستجيب لأي تسوية مع الفلسطينيين والعرب إلاَّ في ضوء الاستجابة لحاجات جغرافيتها السياسية، والتي هي جغرافية الدولة اليهودية التي تبقى الشرط الحاسم لوجود اليهود وبقائهم في المنطقة العربية.

 

ثالثاً: إسرائيل وإشكالية تهويد الديمغرافيا[43]:

يُعتبر العامل الديمغرافي العامل الأكثر حسماً في تسجيل الغلبة لأحد طرفي الصراع على أرض فلسطين: اليهود والعرب. فبعد مضي 62 سنة على قيام الكيان الصهيوني في فلسطين لم يستطع قادة هذا الكيان، لا سيما أولئك الذين تولَّوا مهمات السلطة الحاكمة في تسلسل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، من إضفاء الطابع اليهودي الخالص على المجتمع والدولة وذلك على الرغم من تكثيف الدعاية الأيديولوجية والإعلامية وتوفير المستلزمات المادية والمعنوية لجذب المزيد من الهجرة الإستيطانية إلى فلسطين، مقابل تواصل السياسات الطردية والإكراهية للفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئي شتات خارج أراضيهم.

تبرز حالياً إشكالية التهويد الديمغرافي من خلال أربع مقاربات ديمغرافية بين اليهود والعرب ترتكز إلى معطيات إحصائية علمية ذات دلالات في غاية الأهمية ليس فحسب على مستوى المؤشرات الرقمية، وإنما على مستوى مستقبل الوزن الاجتماعي والسياسي للمجموعتين اليهودية والعربية، وكذلك، وهذا هو الأهم، على مستقبل توزُّعات السلطة وهوية الدولة وتركيب المجتمع بوجه عام.

المقاربة الأولى: معدلات التكاثر السكاني والخصوبة

سجّلت إحصاءات العام 2006 المعدلات النسبية الآتية:

-1  معدّل الزيادة السنوية الطبيعية: 1,8  % لليهود مقابل 3,3 % للفلسطينيين. وهنا يُلاحظ أن معدل الزيادة عند اليهود هي نصف معدل الزيادة عند الفلسطينيين.

-2  معدل الخصوبة: عند اليهود 2,6 من الأطفال لكل امرأة أي 26 طفلاً لكل 10 نساء يهوديات. بالمقابل المرأة الفلسطينية تلد ما متوسطه 4,2 طفلاً أي 42 طفلاً لكل 10 نساء. إذن معدل الخصوبة عند المرأة الفلسطينية هو مرة ونصف المرة مثيله عند المرأة اليهودية داخل فلسطين.

المقاربة الثانية: المخزون البشري الاحتياطي لكل من اليهود والفلسطينيين خارج فلسطين

-1 اليهود في العالم:

العام 2007 كان التوزيع العالمي لليهود وفق الجدول الآتي[44]:

الدولة

العدد

%

الدولة

العدد

%

الولايات المتحدة

5,275,000

40

روسيا

225,000

1,7

كندا

374,000

2,8

الأرجنتين

184,000

1,4

فرنسا

490,000

3,7

بقية دول أميركا اللاتينية

209,000

1,6

بريطانيا

295,000

2,2

جنوب أفريقيا

72,000

0,5

ألمانيا

120,000

0,9

المغرب

2500

0,02

المجر

49,000

0,4

بقية دول أفريقيا

2500

0,02

باقي دول أوروبا

200,000

1,5

القارة الاسترالية

111,000

0,8

بقية الاتحاد السوفياتي

152,000

1,15

 

 

 

المجموع العالمي ما عدا إسرائيل

7,762,000

59 %

يهود إسرائيل

5,393,000

41 %

إجمالي اليهود في العالم

13,155,000

100 %

 

يتضح من أرقام الجدول أنّ المجموع العالمي لليهود (ما عدا إسرائيل) بلغ حتى نهاية العام 2007 حوالى 7,762,000 يهودي بينهم 5,275,000 يهودي في الولايات المتحدة الأميركية أي ما نسبته قرابة 68 % من إجمالي الانتشار العالمي لليهود باستثناء إسرائيل، وحوالى 40 % من إجمالي اليهود في العالم بما فيهم يهود إسرائيل. وإذا ما عرفنا أنَّ يهود إسرائيل بلغوا العام 2007 حوالى 5,393,000 يهودي أي ما يمثل 41 % من إجمالي اليهود في العالم، لأدركنا أنَّ ثمة تقارباً من حيث حجما الكتلتين السكانيتين اليهوديتين في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. ولهذا الأمر دلالته لجهة أنَّ يهود أميركا يشكّلون حوالى 2 % من إجمالي السكان إلا أنهم يستأثرون بمواقع متقدّمة على مستوى الجهاز البيروقراطي وكذلك على مستويات الإعلام والاقتصاد والمهن الحرة وبخاصة في مجالات الطب والمحاماة والصيرفة وغير ذلك. وهذا يعني أنَّ يهود أميركا باتوا يحتلون مواقع اجتماعية مهمة داخل الهرم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الأميركي، الأمر الذي يجعلهم لا يحبِّذون الهجرة إلى إسرائيل مع أنهم يشكِّلون مجموعات ضاغطة (لوبي) داخل أميركا، وهي مجموعات تدعو إلى دعم إسرائيل بكل الإمكانات الأميركية المتاحة.

ومع إنتهاء موسم الهجرة المزدهرة لليهود السوفيات في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، فإنّ ثمة عوائق أساسية تحول، اليوم، دون تدفق موجات كثيفة من اليهود المهاجرين إلى إسرائيل، وفي مقدَّمها يأتي عدم توافر عوامل طاردة وجاذبة في الوقت نفسه لمثل تلك الهجرة. فأكثرية يهود الخارج هم في مستويات معيشية مرتفعة من حيث دخل الفرد والرفاه الاجتماعي، ومن حيث التأقلم مع بيئات دولية من الصعوبة التخلي عنها من أجل الدخول إلى بيئة إسرائيلية مختلفة، ولا سيما أنّ هناك تراجعاً في مؤشرات النمو والرفاه داخل المجتمع الإسرائيلي، ناهيك من التوتُّرات الأمنية داخل إسرائيل (الانتفاضات الفلسطينية)، أم في دول الجوار (حماس والجهاد الإسلامي في غزة، وحزب الله في لبنان)، كل ذلك أدَّى إلى نمو سلبي لمعدلات الهجرة الوافدة إلى إسرائيل. فالعام 2003 لم يتعدَّ عدد المهاجرين 25 ألفاً، وتراجع العام 2007 إلى 19700 مهاجر فقط بعد أن كان هذا العدد يقترب من هامش الـ 100 ألف سنوياً خلال العقد الأخير من القرن الماضي[45].

2- فلسطينيو اللجوء والشتات

حتى نهاية العام 2008 كان توزّع الفلسطينيين عالمياً وفق الجدول الآتي[46]:

 

الفئة

العدد (نسمة)

 % إلى إجمالي الفلسطينيين في العالم

فلسطينيو الداخل (عرب 1948، الضفة وقطاع غزة)

5,100,000

48 %

فلسطينيو الشتات

5,500,000

52 %

الفلسطينيون في العالم

10,600,000

100 %

 

تظهر معطيات الجدول التي أعدّها جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني أنَّ العدد الإجمالي للفلسطينيين بلغ العام 2008 حوالى 10,600,000 نسمة توزَّعوا كالآتي:

-  5,100,000 فلسطيني داخل فلسطين المحتلة منهم حوالى 1,450,000 نسمة يطلق عليهم إسم عرب إسرائيل أي عرب 1948، والباقي حوالى 3,650,000 نسمة هم سكان الضفة الغربية وقطاع غزة.

-  فلسطينيو الشتات يقدرون بحوالى 5,5 مليون نسمة أكثريتهم الساحقة، وبنسبة تصل إلى أكثر من 75 %، هم في عداد اللاجئين المقيمين في مخيمات أقامتها الدول العربية المجاورة في الأردن ولبنان وسوريا، إضافة إلى البلاد العربية الأخرى في العراق ودول الخليج العربية ومصر وليبيا وغيرها.

إنَّ الأمر المهم الذي يميِّز فلسطينيي اللجوء والشتات عن اليهود خارج إسرائيل، هو أنَّ الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني اللاجئ تكافح من أجل العودة إلى فلسطين، لا بل أنَّ هذه الأغلبية تضع مسألة العودة وفق القرار الأممي الرقم 194 كأولوية مطلقة على أجندة أي تسوية سياسية للقضية الفلسطينية.

وبذلك فإنَّ فلسطينيي الداخل يعتمدون على مخزون بشري إحتياطي خارج فلسطين؛ الأمر الذي يجعل الكتلة الفلسطينية هي الأكبر حجماً على الصعيد الديمغرافي في ظل أي تسوية محتملة للصراع العربي – الإسرائيلي، بينما مثل هذا الأمر سوف لن يتوافر لصالح قيام كتلة سكانية إسرائيلية مقابلة بسبب إحجام الكثير من يهود العالم عن المجيء إلى الإستيطان داخل فلسطين للأسباب التي أشرنا إليها.

المقاربة الثالثة: الميزان الديمغرافي بين اليهود والفلسطينيين

لعلَّ الجدول الآتي يظهر تطور الميزان الديمغرافي بين اليهود والعرب في فلسطين التاريخية أي من البحر إلى النهر، وذلك خلال الفترة الممتدة بين العامين 1997 و2007 أي خلال عقد واحد من الزمن[47]:

العام

الفئة

العدد (نسمة)

النسبة إلى الإجمالي %

1997

يهود

4,701,600

55,5

عرب

3,765,700

44,5

2007

يهود

5,478,200

52,5

عرب

4,947,226

47,5

 

تبين الإحصاءات الواردة في الجدول أنه بين العامين 1997 و2007 يكون العرب فوق أرض فلسطين المحتلة قد حسَّنوا نسبتهم مقابل اليهود بعشر درجات مئوية خلال عقد زمني واحد، إذ ارتفعت من 80 عربياً مقابل كل مئة يهودي العام 1997 إلى 90 عربياً مقابل كل مئة يهودي العام 2007. والحال هذه تتجه نحو التوازن والتعادل في وقت لا يتجاوز العقد الواحد من الزمن، بحيث يبدأ بعد ذلك إختلال هذا الميزان لصالح العرب الفلسطينيين[48].

المقاربة الرابعة: الهجرة العكسية أو المضادة من إسرائيل

أظهرت دراسة إحصائية إسرائيلية أعدّها المكتب المركزي للإحصاء في القدس أنَّ صافي ميزان الهجرة التراكمية لليهود القادمين إلى فلسطين طوال الفترة من 15 أيار/مايو 1948 وحتى نهاية العام 2007، بلغ 2,448,000 يهودي من أصل هجرة إجمالية سجَّلت 3,087,400 مهاجر. وهذا يدل على أنَّ هناك هجرة مضادة تبلغ 639400 مهاجر وتمثل نسبة 20,7 % من إجمالي الهجرة، وبالمقابل فإنَّ صافي الهجرة يمثل 79,3 % من كامل الهجرة إلى فلسطين طوال المدة المشار إليها[49].

وإذا كانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين قد أخذت شكل الموجات المدّية الكثيفة خلال العقود الستة التي أعقبت قيام «دولة إسرائيل» العام 1948، فإنّ العقد الأخير (2000-2010) كان، على العكس، قد اتسم بتثاقل الهجرة بعد استنفاذ الخزانات البشرية اليهودية المستعدة للهجرة الواسعة، واقتصار معظم يهود الخارج حالياً، على مراكز متقدّمة في أميركا وأوروبا وغيرها من البلدان التي لا يجد يهودها حافزاً جدياً لمغادرتها على نحو واسع.

وإذا كانت العوامل الثلاثة: تراجع الهجرة الاستيطانية، واستمرار الهجرة المضادة، وتدني معدل النمو الطبيعي لليهود في العالم وإسرائيل (1,37 %)[50]، قد أفضت إلى إشكالية في المسألة الديمغرافية الإسرائيلية، فإنَّ هناك عاملاً رابعاً، وهو الأخطر، يتمثَّل في أنَّ الكثير من يهود العالم باتوا في حالةٍ من هجران اليهودية (التخلي عن اليهودية). كل هذه العوامل بدأت تعمل سلباً على الواقع الديمغرافي في إسرائيل لجهة انقلاب المعادلة السكانية لصالح عرب فلسطين في المنظورين القريب والمتوسط، وهذا ما تخشاه الطبقة السياسية في إسرائيل من أن يتحوَّل العامل الديمغرافي إلى سلاح مؤثر بيد الفلسطينيين. من هنا، راحت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على السلطة، تعمل منذ فترة على تنفيذ برامج استيطانية مكثَّفة بموازاة سياسات التدمير لمنازل الفلسطينيين وإجبار العديد منهم على الهجرة الإكراهية إلى الخارج. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ترفض إسرائيل بشدة أي طرح أو محاولة لتسوية أوضاع اللاجئين، لا سيما تنفيذ القرار الأممي الرقم 194 الذي ينصُّ على حق العودة للاجئي الشتات.

إنَّ مثل هذه العودة، من المنظور الإسرائيلي، لا تحدث انقلاباً هائلاً في المعادلة الديمغرافية لمصلحة العرب الفلسطينيين وحسب، وإنما تهدِّد المشروع الصهيوني التهويدي برمته.

إنَّ إختلال الميزان الديمغرافي داخل فلسطين سينتهي قريباً إلى فجوة رقمية لمصلحة الفلسطينيين في وقت يخشى معه اليهود أن يتحوَّلوا إلى أقليَّة حاكمة لأكثرية فلسطينية متزايدة باستمرار، الأمر الذي لا يستجيب لحاجات الاجتماع السياسي اليهودي من حيث تلازم التهويد بين الجغرافيا (الأرض)، والديمغرافيا (الشعب)، والسلطة السياسية (الهيئة الحاكمة).

استنتاجات

على الرغم من مصادفة المشروع الصهيوني الكثير من الفرص والعوامل المساعدة في تحقيقه العديد من الانجازات المعتبرة، إلا أنّه ما زال يواجه مأزق الانتقال من الأسرلة كمرحلة ظرفية انتقالية إلى التهويد كمرحلة استراتيجية. ثمة إشكاليات قاهرة تحول دون التقدم على طريق التهويد، أبرزها ثلاث أساسية: هوية الدولة، الجغرافيا السياسية لهذه الدولة والتهويد الديمغرافي للعنصر السكاني فيها.

أمام الاشكاليات – التحديات التي تواجه «دولة إسرائيل» في الزمن الحاضر، فإنّ هذه الأخيرة تحرص على اعماد مخطط تهويدي يرتكز إلى ثلاث خطوات متلازمة:

الخطوة الأولى، وتقضي بتسريع وتائر الهجرة الإكراهية للفلسطينيين تلافياً لتحوُّلهم إلى أكثرية سكانية داخل فلسطين التاريخية.

الخطوة الثانية، استحالة القبول الإسرائيلي بعودة اللاجئين الفلسطينيين المسجَّلين منهم وغير المسجَّلين لدى «الأونروا» في أي تسوية محتملة في المستقبل.

الخطوة الثالثة، توسيع نطاق الدعاية في الإعلام السياسي الإسرائيلي حول الإكثار من رفع شعار «يهودية الدولة» توخياً للأهداف الآتية:

-1  انتزاع إعتراف سياسي فلسطيني وعربي بالهوية اليهودية للدولة في ظل أي تفاوض على إيجاد تسوية لإنهاء النزاع في المنطقة.

-2  تكثيف عمليات «الترانسفير» بين المناطق على أساس تغليب العنصر اليهودي في منطقة معيَّنة، مقابل تغليب العنصر الفلسطيني في منطقة أخرى. وبذلك تحل مسألة مبادلة منطقة بمنطقة بدل شعار «الأرض مقابل السلام» الذي حظي بتأييد واسع عربياً ودولياً.

-3  شرعنة الإستيطان اليهودي في أماكن يزعم الزعماء اليهود الدينيون والسياسيون بأنها يهودية. وهذا ما يجري حالياً في القدس من حفريات بالقرب من المسجد الأقصى بحجة أنَّ هناك مقدّسات يهودية هي جزء من هيكل توراتي؛ الأمر الذي يعني أنَّ هناك مخططاً لهدم المسجد الأقصى بحجة إعادة إكتشاف الهيكل اليهودي وبنائه من جديد.

إنَّ مقولة «يهودية الدولة» تعني سعي الجانب الإسرائيلي إلى إعتراف تاريخي دولي وعربي وفلسطيني بيهودية الهوية للدولة، والجغرافيا السياسية، والديمغرافيا. وهذا يعني تشريع الاستيطان وتهويد الفضاء العمراني والأركيولوجي، مقابل تشريع طرد الفلسطينيين، وحرمان اللاجئين من حق العودة، وجعل قيام الدولة الفلسطينية على جزء من أرض فلسطين التاريخية ضرباً من الاستحالة.

 

[1]-     للمزيد من التفاصيل بشأن تغليف الدعوة الصهيونية بالأيديولوجية الدينية التبريرية واستحضار النص التوراتي القديم، راجع كتابنا: المدارس التاريخية الكبرى: دراسات نظرية في مناهج البحث وفلسفة التاريخ، مكتبة الفقيه للنشر، بيروت، طبعة أولى، 1996، ص50-55

 

[2]-     علي وهب، الأداء الصهيوني – البريطاني في فلسطين، المنطلق، العددان 88-89، آذار-نيسان 1992، ص 73-74.

 

[3]-     نظام محمود بركات، الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين بين النظرية والتطبيق، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، طبعة أولى، 1988، ص 189

 

[4]-     نورمان بنتويتش، بعث إسرائيل (Israel Resurgent) ورد في: علي وهب، مرجع سابق، ص 74.

 

[5]-     علي محمد علي، موجز القضية الفلسطينية، القاهرة، لا. ت.، ص 5-4.

 

[6]-     تيودور هرتزل، الدولة اليهودية، ص 1.

 

[7]-     المرجع نفسه، ص 9.

 

[8]-     المرجع نفسه، ص 6.

 

[9]-     المرجع نفسه، ص 17-18 و47. وعن مركز الشركة يذكر هرتزل لندن، ويحدد رأسمالها بألف مليار مارك أو 50 مليون جنيه استرليني أو 200 مليون دولار. أنظر المرجع نفسه، ص 21.

 

[10]-    المرجع نفسه، ص 19.

 

[11]-    المرجع نفسه، ص 60.

 

[12]-    المرجع نفسه، ص 38.

 

[13]-    المرجع نفسه، ص 53.

 

[14]-    ياسين سويد (العميد)، الصهيونية من فكرة خرافية إلى دولة توسعية، نشأتها وتطورها وأطماعها في لبنان، المنطلق، العددان 88-89، آذار – نيسان 1992، ص 18.

 

[15]-    بروتوكولات حكماء صهيون أو الخطر الصهيوني، أول ترجمة عربية أمينة كاملة مع مقدِّمة تحليلية في مائة صفحة، ترجمة محمد خليفة التونسي، د.ن.، الطبعة الخامسة، 1400هـ-1980م، ص 28.

 

[16]-    للمزيد من التفاصيل بشأن هذه المؤتمرات، أنظر ياسين سويد، مرجع مذكور، ص: 18-20.

 

[17]-    بشأن كثافة الرساميل الصهيونية الموظَّفة في الزراعات الحمضية الفلسطينية راجع: ماهر الشريف، تاريخ فلسطين الاقتصادي الاجتماعي، دار إبن خلدون، بيروت، طبعة أولى، 1985، صفحات متفرِّقة.

 

[18]-    ورد في: ياسين سويد (اللواء)، مرجع سابق، ص 19.

 

[19]-    العام 1919 أي بعد مرور سنتين على «وعد بلفور» كتب هذا الأخير مذكَّرة جاء منها: «إنّ القوى الأربع العظمى ملتزمة الصهيونية، وسواء أكانت الصهيونية على خطأ أم على صواب، أو كانت شيئاً جيداً أو سيئاً، فإنها متأصلة بعمق في تراث من الماضي البعيد وفي حاجات الحاضر وآمال المستقبل، وهي أهمّ بكثير من رغبات وتحيزات الـ 700 ألف عربي الذين يقطنون الآن تلك الأرض القديمة». ورد في وليد الخالدي،

Khalidi, W.: «From Haven to conquest. Reading in Zionism and the Palestinian problem until 1948", Beirut, Institute of Palestine studies, 1971, P. 208.

 

[20]-    رشاد عبد الله الشامي، إشكالية الهوية في إسرائيل، سلسلة عالم المعرفة، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون الآداب، الكويت، العدد 224، ربيع الأول 1418هـ - أغسطس/آب 1997م، ص 113-114.

 

[21]-    المرجع نفسه، ص 114.

 

[22]-    Laqueur, W. and Rubin, B. (eds), «The Israel and Arab Reader:

        A Documentary History of the Middle East conflict», New York: Penguin, 1984, P. 126.

[23]-    Op. Cit., P. 125.

 

[24]-    Op. Cit., p. 125.

 

[25]-    رشاد عبد الله الشامي، إشكالية الهوية في إسرائيل، مرجع سابق، ص 242.

 

[26]-    في انتخابات الكنيست (البرلمان) الرابع عشر العام 1996، حصدت الأحزاب الدينية، ولأول مرة منذ قيام إسرائيل العام 1948، حوالى 20 % من المقاعد، الأمر الذي يشير إلى تصاعد المد الديني في الوسطين الاجتماعي والسياسي في إسرائيل، أنظر، رشاد عبد الله الشامي، المرجع نفسه، ص 250.

 

[27]-    المرجع نفسه، ص 284.

 

[28]-    المرجع نفسه، ص 18.

 

[29]-    المرجع نفسه، ص 213.

 

[30]-    بنيامين نتنياهو، مكان تحت الشمس، ترجمة محمد عودة الدميري، مراجعة كلثوم السعدي، (شخصيات صهيونية «14»)، دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، عمَّان، 1996، ص 375.

 

[31]-    المرجع نفسه، ص 377-386.

 

[32]-    العام 1958 أجرى قسم الاجتماع في الجامعة العبرية استفتاءً لعيِّنة من «الصبّاريم» عمّا إذا كانوا يهوداً أم إسرائيليين، فكانت النتيجة: 58 % إسرائيليين، 19 % يهوداً و23 % غير متأكد.

رشاد عبد الله الشامي، الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 102، حزيران (يونيو) 1986، ص: 119.

[33]-    المرجع نفسه، ص 120.

 

[34]-    رشاد عبد الله الشامي، إشكالية الهوية في إسرائيل، عالم المعرفة، العدد 224، ص 119.

 

[35]-    Said, E.W., «The Question of Palestine», London, vintage, 1992, P. 86.

 

[36]-    كيث وايتلام، اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني، ترجمة سحر الهنيدي، مراجعة فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 249، أيلول (سبتمبر) 1999، ص: 203.

 

[37]-    قاديش: إسم لعدد من المواقع القديمة في فلسطين، وهو إسم سامي معناه مقدَّس. وقاديش المعنية هنا هي التي تقع شمال غرب بحيرة الحولة (المترجمة)، المرجع نفسه، ص: 206.

 

[38]-    Brigth, J., «A History of Israel», ed., London, 1972, P. 207-210.

 

[39]-    Chomsky, N., «The fate but triangle, The United States, Israel and Palestinians», Boston, south end press, 1983, p.

 

[40]-    Op. Cit., P. 163.

 

[41]-    Op. Cit., 161.

 

[42]-    للمزيد من التفاصيل بشأن الإشكاليات الجيوبوليتيكية لدولة إسرائيل، راجع: إلياس حنا (عميد متقاعد)، المنطقة في مرحلة ما بعد الحرب على غزة، شؤون عربية، العدد 137، ربيع 2009، ص 18-19.

 

[43]-    محمد جمعة، إشكالية الجغرافيا والديمغرافيا في إسرائيل، السياسة الدولية، العدد 172، إبريل (نيسان) 2008، ص 108، أنظر أيضاً إحصاءات أخرى وردت في صحيفة السفير اللبنانية، العدد 11309، تاريخ 4 حزيران 2009، ص 15.

 

[44]-    المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، ورد على شبكة الانترنت: www.madarcenter.org أنظر أيضاً، محمد جمعة، إشكالية الجغرافية والديمغرافيا في إسرائيل، السياسة الدولية، العدد 172، إبريل (نيسان) 2008، ص 109.

 

[45]-    محمد جمعة، إشكالية الجغرافيا والديمغرافيا في إسرائيل، السياسة الدولية، العدد 172، إبريل (نيسان) 2008، ص 108.

 

[46]-    جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، نيسان (إبريل) 2009.

 

[47]-    جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، إحصاءات العام 2008.

 

[48]-    أنظر الدراسة القيّمة التي أعدَّها الكاتب الفلسطيني حسين أبو النمل تحت عنوان، النمو السكاني والتوازن الديمغرافي بين العرب واليهود في إسرائيل وفلسطين التاريخية، المستقبل العربي، العدد 370، كانون أول (ديسمبر)، 2009، ص 73-77.

 

[49]-    الكتاب السنوي للإحصاءات الإسرائيلية، القدس، المكتب المركزي للإحصاء، 2008، ص 89.

 

[50]-    حسين أبو النمل، الهجرة والهجرة المضادة من إسرائيل، المستقبل العربي، العدد 365، تموز (يوليو) 2009، ص 67.

 

“The Jewish State”: identity problematic, geo-policy and demography


Since its rise as a prototype idea during the second half of the 19th century, the project of the Jewish State was based on Jewish nationalism as a religious and historic particularity. Accordingly, the first Zionists linked between religion, history and geography on one hand and the “promised land” i.e. Palestine on the other hand.
The nationalist ideology was transformed during the first half of the 20th century to a Zionist-settlement project in Palestine in the heart of the oriental lebensraum. This project emerged in response for an allegation mentioned in the torah and based on the principle of “restitution or the return to the promised land (Palestine) where the Jewish State will be established over an open geo-political living space that covers the area of historic Palestine and able to be transformed into a geo-political project that guarantees dominance and superiority over all the Arab lebensraum which joins between four fulcrums: Mesopotamia in the East (el-Phurat), Egypt in the West (the Nile), Bilad el-Sham (the Middle East) in the south.
The emergence of Israel in 1948 constituted the basic pillar in the construction of the alleged Jewish State. The repeated wars of Israeli superiority against the Arabs and the Palestinians and the unstoppable settlement schemes which took place in parallel with the compulsory expulsion of Palestinians and their transformation into refugees in other countries corresponds with a Zionist strategy which aims at the Judaization of the State as a higher objective of the Zionist project.
However, despite the ideological mobilization as well as the military, financial and military support granted by the western capitalist powers, this project was being developed on the deadlock of completing the bases of the State which is based on three major problematic issues. These problems remain unresolved until this day and an be summed up in the problematic of identity, geo-policy and demography.
By reason of these problematic, the issue of the “Jewish State” occupies the priority in the Israeli political speeches and was strongly present during the Peace Talks which recently took place between the Palestinian and Israeli delegations in Washington, Sharm el-Sheikh and Jerusalem. These Talks were accompanied by political and diplomatic incentives given by the ruling U.S administration since President Obama considered it as a contributive factor assisting his administration and Democratic Party and used it in the media to boost his by-elections on the 2nd of November 2010 and led to the loss of the majority in the House of Representatives and their majority in the Senate also shrank. on the other hand the Israeli negotiator aims at achieving a series of benefits which he failed to achieve in the past through a series of wars launched by Israel.
The dominance of the “Jewish State” saying over the Israeli political speech aims at refocusing on the ideological factor to boosting the Jew’s partisanship inside occupied Palestine and abroad to confront the challenges which still hamper the emergence of the State.

«L’État juif»: une identité problématique, géo-politique et la démographie

 

Depuis sa création comme une idée prototype au cours de la seconde moitié du 19e siècle, le projet de l’État juif a été basé sur le nationalisme juif en tant que particularité religieuse et historique. En conséquence, les premiers sionistes sont liés par la religion, l’histoire et la géographie d’une part et la “terre promise”, à savoir la Palestine, d’autre part.
L’idéologie nationaliste a été transformée au cours de la première moitié du 20e siècle en un projet sioniste en Palestine au centre de l’espace vital oriental. Ce projet est né en réponse à une allégation mentionnées dans la Torah et repose sur le principe de «la restitution ou le retour à la terre promise (Palestine), où l’Etat juif sera établi sur un espace de vie géopolitique ouvert qui couvre le domaine de la Palestine historique et capable de se transformer en un projet géopolitique qui garantit la domination et la supériorité sur tous les pays arabes.
L’émergence d’Israël en 1948 constitue le pilier de base dans la construction de l’État prétendument juif. Les guerres à répétition de la supériorité israélienne contre les Arabes et les Palestiniens et les plans de colonisation imparable qui a eu lieu en parallèle avec l’expulsion forcée des Palestiniens et leur transformation en réfugiés dans d’autres pays correspond à une stratégie sioniste qui vise à la judaïsation de l’Etat un objectif plus élevé du projet sioniste.
Cependant, malgré la mobilisation idéologique ainsi que le soutien militaire, financier et militaire accordé par les puissances occidentales capitalistes, ce projet a été mis en place pour compléter les bases de l’Etat qui est fondé sur trois grandes problématiques. Ces problèmes restent en suspens jusqu’à ce jour et se résument dans la problématique de l’identité, de la géopolitique et de la démographie.
En raison de ces problèmes, la question de l ‘«Etat juif» occupe la priorité dans le discours politique israélien et a été fortement présent lors des pourparlers de paix qui a récemment eu lieu entre les délégations palestinienne et israélienne à Washington, Charm el-Cheikh et à Jérusalem. Ces pourparlers ont été accompagnés par des incitations politiques et diplomatiques fournies par l’administration dirigeante américaine depuis que le président Obama l’a considérée comme un facteur contributif pour aider son administration et le Parti démocratique et l’a utilisé dans les médias pour renforcer son élections le 2 Novembre 2010 et a conduit à la perte de la majorité à la Chambre des représentants et de leur majorité au Sénat a également diminué. D’autre part le négociateur israélien vise à atteindre une série d’avantages qu’il a echouee à faire dans le passé à travers une série de guerres lancées par Israël.
La prédominance de «l’Etat juif» vise à recentrer le facteur idéologique pour stimuler la partisannerie du Juif au sein de la Palestine occupée et à l’étranger pour faire face aux défis qui entravent encore l’émergence de l’État.