جولات ميدانية

الدولة على الحدود: حدود الدولة

يتجسد مفهوم الدولة في واقع مناطقها الحدودية بقدر ما يتجسد في واقع مركزها. والواقع أنّ حدودنا الجنوبية لم ترَ وجه الدولة كثيرًا إلا من خلال الجيش، أما حدودنا الشمالية الشرقية فحدّث ولا حرج، إذ كانت زيارة الرئيس حسان دياب أول زيارة لرئيس حكومة إليها، حتى الجيش لم ينتشر فيها إلا بعد معركة «فجر الجرود» منذ ثلاث سنوات. وفي كلام رئيس الحكومة من الناقورة كما من رأس بعلبك خلال جولتين تفقّديتَين قام بهما، إقرار بهذا الواقع الأليم الذي أفضى إلى ما أفضى إليه. وفيه أيضًا أكثر من تنويه بالجيش وتحية لسواعد أبطاله، فضلًا عن الدلالات والرسائل الأخرى سواء ما يتعلق منها بدور اليونيفيل جنوبًا أو بتطلعات اللبنانيين إلى وطن يعيشون فيه بأمانٍ واستقرار وتحظى أطرافه بفرص التنمية التي تحتاج إليها.

 

عشية بحث مجلس الوزراء التمديد لقوات اليونيفيل على وقع مطالبة العدو الإسرائيلي بتعديل قواعد عمل هذه القوات، زار رئيس الحكومة حسان دياب قطاع جنوب الليطاني ومقر قيادة اليونيفيل في الناقورة، حيث التقى قائد قوات الأمم المتحدة المؤقتة العاملة في جنوب لبنان اللواء ستيفانو دل كول.

بداية، توجّه الرئيس دياب إلى ثكنة بنوا بركات، وكان في استقباله هناك نائبه وزيرة الدفاع الوطني زينة عكر وقائد الجيش العماد جوزاف عون وقائد قطاع جنوب الليطاني العميد الركن مارون القبياتي. وبعد اجتماع عُقد في الثكنة، انتقل دياب والمجتمعون إلى غرفة عمليات القطاع حيث تابع إيجازًا عن عمل الجيش في القطاعات الثلاثة الجنوبي والشرقي والغربي، وتعرّف إلى آليات التنسيق مع قوات اليونيفيل.

 

الجيش ممثلًا الشرعية ومصلحة الناس

وألقى الرئيس دياب كلمة توجه فيها إلى الجيش باعتباره يمثّل الدولة والشرعية، وأيضًا مصلحة الناس في الأمن والاستقرار، وقال: «لذلك فإنّ واجبكم كبير، وأنا أعلم أنكم أهل لهذا الدور، فالجيش هو صمام الأمان الذي يحمي الاستقرار».

وفي تنويه بقيادة الجيش أضاف قائلًا: «أدعوكم إلى أن تكونوا على صورة قيادتكم الحكيمة وقائدكم المتفاني وأن تتعاملوا بعنايةٍ مع الوقائع، وتحفظوا أهلكم، وتحموا وطنكم، وتدافعوا عن الشرعية، وتمثلوا هيبة الدولة».

وفي ما يتعلق بالوضع على الحدود قال: «لبنان متمسك بتطبيق القرار ١٧٠١، وبدور قوات الأمم المتحدة في الجنوب، والحفاظ على وكالتها وعديدها من دون أي تعديل».

 

في الناقورة: مزيد من الرسائل

في الناقورة حيث كان رئيس بعثة الأمم المتحدة وقائد اليونيفيل اللواء ستيفانو دل كول في استقبال دياب والوفد المرافق، كانت لرئيس الحكومة أيضًا كلمة شدد فيها على احترام لبنان للشرعية الدولية، وتحدث عن معاني ٢٥ أيار من العام ٢٠٠٠ الذي أصبح عيدًا رسميًا للبنان تحت اسم «عيد المقاومة والتحرير». وأكد أنّ وجود قوات اليونيفيل في لبنان ليس فقط بإرادةٍ دولية، وإنما برغبةٍ لبنانية أيضًا، وباحتضانٍ من أبناء الجنوب الصامدين. وإذ أضاف قائلًا: «إنّنا متمسكون بتطبيق القرار ١٧٠١»، دعا الأمم المتحدة إلى فرض احترام هذا القرار على العدو الإسرائيلي.

وتوجّه رئيس الحكومة بنداءٍ إلى العالم ليفرض على العدو الإسرائيلي تطبيق القرار ١٧٠١ مؤكدًا: «نحن لن نتنازل عن حبة تراب أو قطرة ماء من وطننا».

 

التعاون محور نجاحنا

من جهته، أعرب دل كول عن امتنانه لدياب وحكومته وللقوات المسلحة اللبنانية لتعاونهم المستمر في تنفيذ ولاية اليونيفيل. وقال: «إنّ هذا التعاون هو محور نجاحنا الجماعي في الحفاظ على ما يقارب ١٤ عامًا من الهدوء في جنوب لبنان» وأضاف: «علينا معًا أن نبني هذه الفترة الطويلة من الاستقرار غير المسبوق حتى نتمكن من تنفيذ ولايتنا من دون عقبات».

وقال دل كول: «إنّ وجودكم بيننا سيشجع إلى حد كبير حفظة السلام التابعين لليونيفيل، وكذلك شركاءنا الاستراتيجيين في القوات المسلحة اللبنانية، على البناء على المكاسب المتنامية لناحية الوضع الأمني منذ سريان وقف الأعمال العدائية». كما أعرب عن تطلعه للعمل مع الحكومة اللبنانية لتنفيذ القرار ١٧٠١ كاملًا ومعالجة أي قضايا عالقة. وأشار إلى أنّ «أدوات اليونيفيل لبناء الثقة ومن بينها المنتدى الثلاثي وآليات الارتباط والتنسيق، تحت تصرّف الأطراف». واعتبر أنّ الاستفادة من هذه الآليات أمر في غاية الأهمية لمنع التوترات على الأرض وتخفيف حدتها. وأثنى أخيرًا على «القيادة القوية والحاسمة لدياب في ما خص التعامل مع جائحة كوفيد-١٩». وفي ختام زيارته لليونيفيل توجّه رئيس الحكومة مع دل كول والوفد المرافق إلى قاعة الاجتماعات حيث تابع الجميع شرحًا مفصلًا عن دور قوات الأمم المتحدة المؤقتة في جنوب لبنان والمهمات التي تنفّذها.

 

على الحدود الشمالية الشرقية

كذلك كانت للرئيس دياب جولة بدأها من الهرمل وتفقد خلالها الحدود الشمالية الشرقية، وشملت نقطة البوابة في بلدة القصر، وبرج حورتا في رأس بعلبك، وقيادة فوج الحدود البرية الثاني في ثكنة إلياس الخوري. هذه الزيارة هي الأولى لرئيس حكومة إلى الحدود الشمالية الشرقية، وقد رافقه فيها كل من وزيرة الدفاع الوطني زينة عكر وقائد الجيش العماد جوزاف عون.

 

ماذا رأى وماذا سمع؟

لماذا ركزت زيارة رئيس الحكومة على نقطتَي حورتا والبوابة - القصر تحديدًا؟

مركز حورتا قريب من الحدود، وهو مركز نموذجي يبيّن بوضوحٍ كيفية انتشار الجيش في مواقع استراتيجية بهدف حماية الحدود ومكافحة التهريب، وثمة عشرة مراكز مماثلة أُنشئت خلال العام ٢٠١٨. وتتضمن هذه المراكز مباني سكنية للعسكريين مجهّزة بالمياه والمولدات الكهربائية ووسائل التدفئة. وهناك مشروع مع الاتحاد الأوروبي لتوفير الكهرباء والتدفئة لها عبر الطاقة الشمسية.

وفي مركز حورتا، عاين رئيس الحكومة كاميرات برج المراقبة التي تبث المعلومات إلى غرفة عمليات الفوج وغرفة عمليات القيادة. واطلع على كيفية تحليل المعلومات من قبل عناصر مدربة، وسوى ذلك من إجراءات.

في حورتا أيضًا قام الرئيس دياب بجولةٍ على طريق طولها ١٨ كلم تم شقها وتعبيدها خلال النصف الأول من العام الماضي بمبادرةٍ من قيادة الجيش، وهي مع طريق أخرى مماثلة وعدد من الطرقات الفرعية تسهل تنقّل العسكريين بين المراكز بسرعةٍ، وتشكل علامة حياة في الجرود القاحلة.

ماذا عن موقع البوابة – القصر؟

نتحدث هنا عن قطاع سكانه لبنانيون يتألف من ثلاثة أجزاء، ولمنع التهريب يتعامل الجيش مع كل جزء بطريقةٍ تناسب طبيعته، وقد اطلع الرئيس دياب خلال جولته على التفاصيل المتعلقة بهذا الموقع.

 

بفضل دمائهم وشجاعتهم

في المحطة الأخيرة من الجولة، كرّم رئيس الحكومة شهداء الجيش الذين بفضل دمائهم وشجاعتهم تحررت الجرود وباتت في عهدة الدولة. ففي ثكنة إلياس الخوري في رأس بعلبك، وضع دياب إكليلًا من الزهر على النصب التذكاري للشهداء قبل أن يلقي كلمة اعتبر فيها أن «الجيش يشكّل عنوان أمل بتجذّر الانتماء الوطني، وأنّه نموذج حي عن تطلعات اللبنانيين إلى وطن يعيشون فيه بأمانٍ واستقرار».

وفي تحية إلى العسكريين، استعاد الرئيس دياب وقائع عاشها لبنان قبل أن يطوي الجيش صفحة تمركز الإرهابيين في جرود عرسال وبعلبك، فقال: «قبل ست سنوات، حاولت خطط إغراق لبنان في نهر الدم خطف هذه المنطقة ورهنها في مشاريع سياسية تختبئ خلف مسمّيات دينية. يومها، تعرّض الجيش اللبناني لعملية غدر، ودفع ضريبة كبيرة في محاولة لكسر هيبته واستباحة لبنان، بهدف نقل الحرب المدمّرة من سوريا إلى لبنان. إلا أنّ الجيش اللبناني، نجح سريعًا في استعادة المبادرة، وقطع الطريق على محاولات افتعال حروب طائفية ومذهبية في لبنان».

واعتبر دياب أنّ الجيش يشكّل عنوان أمل بتجذّر الانتماء الوطني من دون منّة، ولا حساب للتضحيات التي يقدّمها في سبيل تكريس الوحدة الوطنية، وحراسة السلم الأهلي وحماية الاستقرار الأمني، وفرض هيبة الدولة وأنّه نموذج حيّ عن تطلعات اللبنانيين إلى وطن يريدون العيش فيه بأمانٍ واستقرار، خارج الاصطفافات الطائفية والمذهبية والسياسية.

 

الحرمان المزمن

وتطرق رئيس الحكومة إلى الحرمان المزمن الذي تعيشه المناطق الحدودية مشيرًا إلى أنّ السلطة لم تقدّم لهذه المناطق «إلا رذاذًا موسميًا من المشاريع التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع»، وأضاف: «للأسف الدولة اليوم منهكة. لا تملك القدرة على تعويض المناطق ما أصابها من الحرمان المزمن من زمن الإنماء المتوازن. ويقينًا، لو أنّ السلطة كانت تملك حدًا أدنى من الرؤية الاقتصادية، لكانت أعطت المناطق حاجتها من الإنماء، ولكان هذا الإنماء هو الأرضية الصلبة التي يمكن الانطلاق منها اليوم لمعالجة الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية».

 

وقف اقتصاد التهريب

ولفت دياب إلى أنّ «هذه الجرود تحتاج اليوم إلى سواعد اللبنانيين لضخ الحيوية فيها، كما احتاجت قبل سنوات إلى سواعد أبطال الجيش اللبناني لتحريرها من المجرمين وشذّاذ الآفاق. هذه الجرود هي تعبير عن الشموخ، وليست رمزًا للتهريب عبر المعابر غير الشرعية. لذلك، فإننا سنتابع الجهود، من أجل وقف اقتصاد التهريب عبر إقفال هذه المعابر التي تتسبب بأضرارٍ كبيرة للدولة، وتستفيد منها حفنة من المهربين».

وفي ختام كلمته أكد أنّ جرود لبنان «ستبقى عصية على الانكسار والاحتلال والتآمر، بحماية هذا الجيش الذي نستمد من عزيمته وتضحياته وحكمة قيادته، قوة لمواجهة التحديات الكبيرة والكثيرة».

إنّ أبرز رسالة يمكن استخلاصها من جولتَي رئيس الحكومة الحدوديتَين تتلخص بكلماتٍ معدودة: عندما تكون الدولة على الحدود ينبغي أن تكون هناك بخدماتها وسياستها الإنمائية والرعائية، وليس فقط بجيشها وقواها الأمنية.