قضايا إقليمية

الديمقراطية العنصرية في اسرائيل: واقع وممارسات
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

لقد تبلور مفهوم الديمقراطيّة في جوهره في العالم من الفكرة القائلة بأنّ الدولة إنما اقيمت من أجل الناس الذين يعيشون في داخلها وليس العكس. وانطلاقًا من هذا المفهوم نجد أن القواعد الأخلاقيّة للنظام الديمقراطي منوطة بتحقيق قيم حقوق الإنسان والمواطنية والمساواة بين بني البشر وبممارستها، وذلك من خلال الاعتراف بقيمة اي إنسان وكرامته انطلاقًا من كونه مخلوقًا حرًّا مكرمًا. على هذا النحو يُفترض في الدولة الديمقراطيّة أن تكون بمثابة الجسم الذي يخدم اعضاءه، أي المواطنين، ويُفترَض في حقوق هؤلاء، واحتياجاتهم، ورغباتهم أن تقف في طليعة اهتمامات هذه الدولة. لكن المبادئ المثالية بالنسبة الى اسرائيل في وادٍ، والواقع على الأرض في وادٍ آخر.

 

الممارسات التعسفية
في هذا الكيان تتجلّى صورة السلطة التعسفية في تجاهل حقوق الناس والاستهتار بها على اقبح وجه، على الرغم من الالتزام الشكلي بهذه الحقوق على المستوى التصريحي أو الدعائي. وعندما يدور الحديث عن الأقلّيّات، أو من ليسوا من اليهود، تتحوّل المعاملة المستهترة والمتجاهلة في غالبية الأحيان إلى ممارسات طاغية واستعراض عنصري للعضلات. والعام 2012، برز هذا الأمر على نحو خاص في التعامل مع اللاجئين وطالبي اللجوء إلى الكيان حسبما كشفه تقرير جمعيّة حقوق المواطن في إسرائيل. وعندما دخل «قانون التسلّل» الخاص بدخول الاجانب من غير اليهود إلى اراضي العدو كلاجئين إلى حيّز التنفيذ، بدأت السلطات تزجّ بطالبي اللجوء السياسي أو الإنساني في المعتقلات لفترات طويلة وفي ظروف مأسوية مخزية. وهذا القانون يُفرغ حقّ آلاف الناس في الحرّيّة من مضمونه، ويحرمهم من الحماية القضائيّة ويميّز بين اللاجئين وطالبي اللجوء ومهاجري العمل، ويخرق واجبات إسرائيل الأخلاقيّة والدوليّة في هذا المجال. لقد قامت الدولة مثلًا بطرد طالبي اللجوء الوافدين من جنوب السودان، ورفضت إدخال طالبي لجوء آخرين قرعوا جدرانها، ومضت في بناء المعتقَل الأضخم في العالم للمهاجرين الغرباء «غوييم». وبدل رسم سياسات وحلول منظّمة تدعم حقوق طالبي اللجوء، انقادت الحكومة والكنيست وراء مبادرات تشريعيّة اعتباطيّة وشديدة التطرّف إذ املت الحكومة والكنيست أن يحوِّل منعُ العمل وسجن طالبي اللجوء حياةَ هؤلاء إلى أمر لا يطاق، ومن ثَمّ تختفي المشكلة تلقائيًا. والتصريحات العنصريّة التي أطلقها أعضاء كنيست ووزراء وموظّفون مرموقون وشخصيّات عامّة ضدّ اللاجئين وطالبي اللجوء وضدّ المنظّمات التي تمدّ لهم يد العون، وصلت إلى أسفل الدرك، وتحوّلت إلى تحريض سافر وأرعن، وشكّلت أرضيّة خصبة لاعتداءات عنيفة ضدهم من قبل المستوطنين . لقد تميّز العام 2012 في كيان العدو بمناخ عنصري ونزعة «كزانوفية» (كراهية الغريب والخوف منه) تجاه طالبي اللجوء من أفريقيا، إذ اطلقت تصريحات عنصريّة ضدّ اللاجئين وطالبي اللجوء والمنظّمات التي تقدّم لهم المساعدة. وهذه التصريحات التي وصلت إلى حد التحريض الأهوج، صدرت عن أعضاء كنيست، ووزراء، وموظّفين، وشخصيّات عامّة، وشخصيّات عسكريّة وبوليسيّة، وأطبّاء وحاخامات، وناشطين في الأحياء وغيرهم، وشكّلت أرضيّة خصبة للكثير من الأحداث العنيفة، فالعام الفائت قام مستوطنون إسرائيليّون بعمليّات حرق وضرب وشتم ونهب ضدّ اللاجئين وطالبي اللجوء وممتلكاتهم بمستويات غير مسبوقة، مع توجيه الشتائم من قبيل: إنّهم متسلّلون؛ إنّهم مجرمون؛ إنّهم ينقلون الأمراض؛ إنّهم تهديد ديمغرافيّ وأمنيّ. والحقيقة أنّ غالبيّة هذه الشتائم لا تمتّ للواقع بِصِلة. أما في النقب، فتمضي الحكومة الاسرائيلية قُدُمًا بإجراءات تخطيطيّة (وعلى رأسها خطّة برافر) تتبنّى منهجًا يتجاهل حقوق المواطنين العرب البدو وارتباطهم بالأرض، وأسلوب حياتهم ورغباتهم الخاصة، وتفرض حلولًا أحاديّة الجانب عليهم. وممارسات الدولة العنيفة تجاه رعاياها البدو تجسّدت العام الماضي بحادثين مُورِسَ فيهما عنف بوليسي خطير في قرية بير هدّاج، عندما قام أفراد من الشرطة بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص المطّاطيّ على المواطنين هناك، ويبدو أنّ الحديث يدور عن المرّة الأولى التي يمارَس فيها عنف بوليسيّ خطير ضدّ مجموعة من المواطنين العرب منذ أحداث تشــرين الاول - أكـتوبر الــعام 2000 التي قُتل فيها 12 مواطنًا إسـرائيليًّا عربيًّا برصاص الشرطة من دون أي ذنب سوى التظاهر السلمي.

 

العنصريّة والتحريض
في القدس الشرقيّة، التي تَسود فيها التوتّرات والاحتكاكات، تكثُر ايضًا أعمال العنف التي تمارسها الشرطة الاسرائيلية ضدّ السكان الفلسطينيّين، لذا لا يَعتبر هؤلاء شرطةَ لواء القدس جسمًا يحميهم أو يخدمهم. وبالنسبة الى المقدسيّين، الشرطة جسم يعاديهم ويتنكّر لهم ويتآمر عليهم، ويمارس القوّة والبطش تجاههم ويتجاهل احتياجاتهم وأمنهم، ويفضّل مصالح السكّان اليهود في المدينة على مصالحهم، والشكاوى التي يقدّمها الفلسطينيّون في القدس لقسم التحقيق مع أفراد الشرطة (ماحاش) تعالَج في مرّات عديدة على نحوٍ رديء ومنقوص، ممّا يعزّز أكثر فأكثر التنافرَ وغيابَ الثقة بين سكّان القدس الشرقيّة والسلطات. التعبير الأكثر تطرّفًا للطغيان والظلم يظهر -بطبيعة الحال- من خلال الاحتلال في الضفّة الغربيّة، حيث تواصل إسرائيل بسْطَ سيطرتها على ملايين الناس الذين يرزحون تحت وطأة الحكم العسكري. وهؤلاء يفتقرون إلى قدرة التأثير على الجهاز السياسيّ الذي يحدّد مصائرهم، وتُداس حقوقهم الأساسيّة على نحوٍ ثابت. وقد تَمَيَّزَ العام المنصرم بإجراءات ومبادرات تشريعيّة تبتغي تسريع «الضمّ الفعليّ» للأراضي المحتلّة إلى إسرائيل، وتعزيز النزعة السائدة المتمثّلة في تأسيس منظومتين قانونيّتين: واحدة إسرائيليّة مدنيّة لليهود الذين يقطنون في المستوطنات، وأخرى عسكريّة للفلسطينيّين، وبديهي انه لا يمكن تحقيق العدالة في المكان الذي تسري فيها منظومتان قانونيّتان منفصلتان وتمييزيتان. بالإضافة إلى انتهاك الحقّ في مساواة المواطنين العرب وقدرتهم على الوصول إلى الخدمات المختلفة، يتم ايضًا انتهاك آخر له طابع ثقافي عبر ممارسة إقصاء اللغة العربيّة من الحيّز العامّ (منعها من المطبوعات الرسمية ومنع التكلم بها في الدوائر الرسمية ومنع العرب من الدخول الى اماكن الترفيه...) مما يخلق لدى خُمس مواطني إسرائيل شعورًا بالغبن والاغتراب والنفور، ويشير إلى دونيّة مكانتهم المدنيّة ويُلحق ضررًا بإحساسهم في الانتماء إلى المجتمع الإسرائيلي حيث يطبق مبدأ لاهوية من دون ولاء لاسرائيل اليهودية. وقد كتب غلعاد كريف، مدير الحركة اليهوديّة التقدّميّة: المواطن العربيّ والمواطن اليهوديّ يكادان لا يلتقيان: لا في المدرسة، ولا في الشارع، ولا في مكان العمل. جدار من الفصل العنصري الاجتماعي والاقتصادي بُنِيَ على مرّ السنين بين المجتمعَين، وها هو آخذ في الارتفاع.
وفي هذا السياق يمنح القانون نظريًا، على سبيل المثال، سكّان القدس الشرقيّة الفلسطينيّين، بكونهم مقيمين ثابتين، حقَّ الحصول على جميع الخدمات والحقوق التي يتلقّاها مواطنو إسرائيل (باستثناء الحق في التصويت للكنيست). لكن الأمور مغايرة على أرض الواقع؛ فعلى امتداد عشرات السنين، لم تُخصِّص السلطات الإسرائيليّة الموارد اللازمة لصيانة المدينة الشرقيّة، ولا لتطوير الخدمات والبنى التحتيّة فيها، وقد نتج عن ذلك أن سكّان القدس الشرقيّة يعيشون حاليًا في ضائقة صعبة للغاية وتمارس بحقهم ممارسات عنصرية بغيضة، ولا تحصل غالبيّتهم على الخدمات الأساسيّة، ولا تستطيع دفع المتوجبات المالية مقابل هذه الخدمات الباهظة الكلفة.