الديموغرافيا الفلسطينية في حسابات الأمن القومي الإسرائيلي

الديموغرافيا الفلسطينية في حسابات الأمن القومي الإسرائيلي
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

في أعقاب انتهاء معارك عامي 1948 و1949 وعقد اتفاقيات الهدنة بين عدد من الدول العربية وإسرائيل, تشتت العرب الفلسطينيون في دول عديدة, وانقسموا بالتالي الى ثلاث فئات:
1) عرب الأرض المحتلة: وهم الفلسطينيون الذين ظلّوا في المناطق التي وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 1948 ولم يهاجروا منها.
2) اللاجئون الفلسطينيون: وهم الذين أرغمتهم مجازر الصهاينة ووحشيتهم وتآمر سلطات الانتداب البريطاني, على النزوح من أراضيهم, واللجوء الى المناطق المجاورة سعياً لتأمين الحماية والأمن للأطفال والشيوخ والنساء, وانتظاراً للعودة الى بيوتهم مع انتهاء الحرب وتوقف القتال. إلا ان تطور الأوضاع العسكرية والسياسية في فلسطين اضطرهم للبقاء في أماكن لجوئهم, والتي شملت الضفة الغربية وقطاع غزة وشرق الأردن وسوريا ولبنان,في حين اتجهت أعداد قليلة منهم الى العراق ومصر.
3) سكان الضفة الغربية وقطاع غزة الأصليون:
وهم سكان تينك المنطقتين, الذين نجت أراضيهم من الاحتلال الصهيوني عام 1948, ولم يضطروا الى مغادرتها أو التشرد عنها.
ولم يكن هذا الشتات للشعب الفلسطيني سوى حلقة أولى من سلسلة هجرات متعاقبة تلتها, دفعتهم إليها الظروف المعيشية القاسية التي واجهوها في أماكن لجوئهم. فتوجهت أعداد كبيرة منهم بحثاً عن العمل الى الدول العربية الغنية بالنفط وخصوصاً الكويت التي كانت بدورها بحاجة ماسة الى اليد العاملة وأصحاب الكفاءات لتلبية مخططات التنمية السريعة. اما الحلقة الرئيسة الثانية من حلقات التشرد والنفي التي عاشها الفلسطينيون, فكانت في حرب عام 1967, حين نزح نحو مئتي ألف من سكان الضفة الغربية بصورة خاصة, وبعضهم للمرة الثانية في حياته, الى الضفة الشرقية من الأردن([1]).
وبالإضافة إلى تقسيم الأرض الفلسطينية بين الاحتلال والإلحاق والضمّ, وتمزيق الهيكلية الاجتماعية للفلسطينيين, فقد تمّ أيضاً تدمير كيانهم السياسي والإقتصادي بحيث انتقل مسرح نشاطهم الأساسي الى الخارج ووقع نحو 156 ألف فلسطيني تحت الاحتلال المباشر. وكان واضحاً, منذ البداية, أن سلطات الاحتلال لم تكن ترحب ببقاء هذه الأعداد من السكان العرب في المناطق التي احتلتها وسيطرت عليها اثناء الحرب. فالمخططات والأطماع الصهيونية كانت تهدف دائما الى الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأرض العربية, وخصوصاً الفلسطينية, مع أقل قدر ممكن من السكان الأصليين, تمهيداً لجلب المهاجرين اليهود اليها من مختلف أنحاء الدنيا. وبالتالي, فالسياسة الإسرائيلية تجاه العرب الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال, تميزت دائماً بالمحاولات المستمرة لطمس الهوية الفلسطينية بجميع أبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية, ومحاربتها بشتى الوسائل. وقد تركزت التجمعات السكنية العربية في الجليل شمالي فلسطين حيث تعيش الأكثرية العربية (نحو60%), وفي منطقة المثلث في وسط إسرائيل, حيث يعيش30% منهم. وأما باقي السكان العرب,
أي نحو10%, فيقيمون في منطقة النقب وبئر السبع جنوب فلسطين([2]).
كان المبرر الأساسي للنظام السياسي في إسرائيل هو ضمان سيطرة العنصر اليهودي كمّاً ونوعاً, وبالتالي إلغاء الطابع العربي الفلسطيني بمختلف السبل والوسائل وأساليب الاحتيال غير القانونية تنفيذاَ للمبدأ القائل “ارض بلا شعب لشعب بلا أرض”. وقد فتحت إسرائيل منذ تأسيسها في 15 أيار 1948 أبواب الهجرة أمام اليهود من مختلف أنحاء العالم, وسارعت الى منحهم الجنسية الإسرائيلية, في حين ضيّقت الخناق على السكان العرب الأصليين وطاردتهم في ارواحهم وأموالهم وأملاكهم وأرزاقهم, لاقتلاع اكبر عدد منهم وإرغامهم على الرحيل والتشرد في الخارج. وأقرّ الكنيست الإسرائيلي في 5 تموز 1950, قانون “العودة” الذي يحق بمقتضاه لكل يهودي, أينما كان موطنه الأصلي ومهما تكن جنسيته, ان يهاجر الى إسرائيل, هذا بالإضافة الى اليهود الذين كانوا قد هاجروا الى فلسطين أثناء الانتداب البريطاني وقبله, او الذين ولدوا في فلسطين.
وتلا ذلك قانون “الجنسية” الذي أقرّه الكنيست بتاريخ 1 نيسان 1952 ويمنح بموجبه أولئك المهاجرين الجنسية الإسرائيلية على الفور.
كان الهدف من هذين القانونين وسواهما واضحاً, وهو تغليب الطابع اليهودي (تهويد) على فلسطين ومصادرة الهوية الفلسطينية. إلا انه بالرغم من تدفق الهجرة اليهودية بأعداد كبيرة, تراوحت بين 31.6% و 59.1% من مجمل الزيادة العامة في عدد السكان اليهود, فقد حافظ السكان العرب داخل اسرائيل على نسبتهم العامة من مجموع السكان العام, بل حققوا أيضا في السنوات التالية زيادة مطلقة شكّلت بالنسبة للإسرائيليين مؤشر خطر ديموغرافي وبالتالي مؤشر اندلاع صراع ديموغرافي وعرقي بالغ الشراسة.
وبالإضافة إلى إغراق الكيان الصهيوني بالمهاجرين اليهود, فقد فرضت سلطات الاحتلال الصهيونية على السكان العرب ضرورة الحصول على الجنسية الإسرائيلية, وإلا اعتبروا “غائبين” وفقدوا الحق في املاكهم وحتى في أبسط الخدمات المدنية. وعلى الرغم من فرض الجنسية الإسرائيلية على من بقي من السكان العرب في فلسطين المحتلة, فان أنظمة الطوارئ والحكم العسكري تحرمهم عملياً من معظم الحقوق والإمتيازات التي يتمتع بها اليهودي في إسرائيل, بحيث أصبح العرب هناك, وفي احسن الحالات, مواطنين من الدرجة الثانية. وتتذرع السلطات الإسرائيلية باستمرار بحجة “الأمن القومي” من أجل التدخل في مختلف الشؤون الحياتية اليومية للسكان العرب, من حرية التنقل والعمل والإقامة والسكن, الى المناهج التعليمية في المدارس العربية وميزانيات البلديات في القرى العربية وحرية التعبير عن الرأي والتنظيم والعمل السياسي, وذلك في محاولة يائسة وعقيمة لمحو الهوية الوطنية الفلسطينية. بل ان سلطات الاحتلال كثيراً ما لجأت إلى أسلوب العنف والتصفيات الجسدية وارتكاب المجازر الجماعية وتدمير المساكن لفرض الإرهاب والرعب على السكان العرب لتيئيسهم وإرغامهم على الرحيل, تحت ما يسمى “الترحيل الطوعي” (ترانسفير).
في هذا البحث سنحاول تسليط الضوء بشكل خاص على قضية الصراع الديموغرافي العربي اليهودي وخصوصاً في جوانبها المرتبطة بالأمن القومي الإسرائيلي.

المعادلة الديموغرافية الحرجة
يشكل العرب الفلسطينيون المقيمون في إسرائيل الفئة الرابعة من حيث العدد. ويمثل هؤلاء ما تبقى من أصحاب البلاد الأصليين اثر قيام الكيان الصهيوني عام 1948, فبعد ان كان سكان فلسطين 750 ألف نسمة عشية قيام دولة إسرائيل, تبقى منهم ما يقرب 156 ألف نسمة فقط([3]). وفي عام 1991 وصل عددهم إلى 900 ألف نسمة (منهم 695 ألف مسلم, و116 ألف مسيحي و85 ألف درزي و4 آلاف ارمني وذلك من جملة سكان إسرائيل الذين بلغوا وقتذاك خمسة ملايين نسمة([4]). وفي احدث تقرير حول هذا الموضوع نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت في 12/2/2003 يظهر ان معدل زيادة المسلمين فقط في اسرائيل هو ضعف معدل اليهود وان عددهم وصل الى مليون و37 الف نسمة أي مايوازي 15% من إجمالي السكان. وثمة تقديرات بان ترتفع النسبة الى 19% في نهاية العام 2020 أي الى 1.677 مليون نسمة. كما ان العمر المتوقع لهذه الفئة هو في حدود 72 سنة([5]). وتعيش الى جانب هذه الفئات السكانية, جماعات أخرى, تعد من الناحية الدينية, فرقاً دينية يهودية وتتضاءل أعداد هذه المجموعات بحيث لا يبقى لها دور يذكر في حياة إسرائيل الاجتماعية والسياسية ومنها: السامريون والقراؤون والفلاشا وغيرهم.
لقد أثبتت التجارب الاستيطانية في العالم الحديث ان تكثيف الاستيطان وتمدده, عموماً, يقومان على موجات كبرى ومتتالية من المهاجرين الوافدين الجدد, بما يؤدي الى كسر التوازن الديموغرافي مع السكان الأصليين, الأمر الذي يتطلب فائضاً ديموغرافياَ للمستوطنين يساهم في تأمين اتساع العمليات الاستيطانية, والسيطرة على الأراضي الجديدة, والتحكم في مجالاتها الجغرافية, لتنظيمها على نحو مجد.
إلا أن إسرائيل, منذ نشأتها وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين, لم تشهد سوى موجتين كبيرتين من المهاجرين الوافدين اليهود .


الموجة الأولى جرت في مرحلة النشأة, أي في أواسط القرن العشرين, والثانية في التسعينات من القرن المذكور, أطلقها انهيار الاتحاد السوفياتي, وتمثّلت بهجرة اليهود من جمهوريات الكتلة الشرقية المفككة لاسيما الروسية منها([6]).
ما بين الموجتين, لم يكن الميزان الديموغرافي, بين المهاجرين الوافدين إلى إسرائيل والمهاجرين المغادرين منها, يتمتع بالفائض الذي يمكّن المجتمع الإسرائيلي والدولة الإسرائيلية (وكلاهما في الأصل مجتمع استيطاني ودولة استيطانية) من امتلاك دينامية تنمو تلقائياَ باتجاه التوسع. ففي عاميّ 1953و1966 انخفض الفائض الديموغرافي الى درجة الصفر.
وبعد احتلال أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967, أي بعد ان اشتدت حاجة إسرائيل إلى مهاجرين وافدين جدد لتحقيق طموحاتها الاستيطانية في الأراضي التي احتلتها, شهد عاما 1975و1976 انخفاضاً حاداً في حجم المهاجرين الوافدين. أما الأخطر من ذلك فهو ما جرى بين عامي 1980و 1988 عندما سجّل عدد النازحين الإسرائيليين المغادرين, في بعض الأحيان, تفوقاً ملحوظاً على عدد المهاجرين الوافدين إليها, مما يعني حرمان دولة إسرائيل القدرة الاستيطانية السكانية التي أملت الحركة الصهيونية في ان تمارسها على اليهود في العالم([7]).
أما الموجة الأخيرة, أي التي عرفت باسم “الموجة الروسية” فعلى الرغم من أهميتها العددية وخطورة تداعياتها فإنها لم تؤد الى ارتفاع وتيرة الاستيطان في أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد قدّر مجموع الذين وصلوا الى إسرائيل, بين عامي 1989و1995 بمليون نسمة, ولكن غادر منهم حوالي300 ألف باتجاه الولايات المتحدة والدول الأميركية الأخرى. كما تبيّن بعد مدة ان عشرات الألوف من مواطني الجمهوريات السوفيتية السابقة, من غير اليهود, قد تمكنوا من ان يندسوا في صفوف القادمين إلى إسرائيل, وهؤلاء, بطبيعة الحال, غير مبالين بالشؤون الإسرائيلية, لاسيما الطموحات الاستيطانية والتوسعية منها. وقد فضّلت الأغلبية الساحقة منهم البقاء داخل الخط الأخضر (حدود عام 1948) الأمر الذي يثبت أن إسرائيل بالرغم من مرور نحو ربع قرن على احتلالها, لم تتمكن من إيجاد الشروط الاستقطابية للاستيطان اليهودي الواسع النطاق في كل من الضفة والقطاع.
وهنا يجدر بنا الربط ما بين إبرام اتفاقية أوسلو والاعتراف بشرعية قيام دولة فلسطينية, وبين بدء انحسار الموجة الروسية, بحيث ان إسرائيل أدركت في حينه عام 1993 ان أفق استيطانها الواسع للأراضي المحتلة, قد بات ضيقاً. وعلى مدى هذه الفترة الزمنية زرعت إسرائيل أكثر من 180 مستوطنة تقدر قدرتها الاستيعابية, في حال توفر الشروط المطلوبة بنحو مليون نسمة. إلا أن عدد المستوطنين الفعليين بقي حتى عام 2001 ضمن حدود 300 ألف([8]). مع العلم انه, في مطلع الثمانينات جرى احتساب استطلاعات ديموغرافية مستقبلية, فظهر ان عدد المستوطنين اليهود, في الضفة الغربية وقطاع غزة, يمكن ان يصل الى مليون نسمة, خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين([9]).
الى ذلك بلغت تكاليف المستوطنات في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة حوالي 3 مليارات دولار. وقد ساهم ارتفاع التكاليف في جعل هذه المستوطنات عبئاً على الاقتصاد الإسرائيلي مما حدّ من تمددها على نحو واسع وساهم, في الوقت عينه, في شق المجتمع الإسرائيلي, وفي إحداث خلافات في وجهات النظر, على الصعيد السياسي الخاص بالتسوية مع الفلسطينيين, بين السكان داخل الخط الأخضر من جهة, والمستوطنين المتشددين خارج الخط المذكور.
من ناحية اخرى نلاحظ ان المواجهة الديموغرافية بين الفلسطينيين واليهود تتجلى بصورة إجمالية في ان معدل التزايد السكاني الطبيعي الفلسطيني يتجاوز 4% بينما لا يتجاوز 2% في صفوف اليهود.
ويقدّر عدد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة في مطلع عام 2001, بثلاثة ملايين نسمة, مليونان منهم في الضفة الغربية, ومليون في القطاع. ويقدّر عدد الإسرائيليين بستة ملايين نسمة, إنما بينهم اكثر من مليون نسمة من الفلسطينيين العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية, مما يعني ان فلسطين, بحدودها الدولية الانتدابية, تضم خمسة ملايين نسمة من اليهود, مقابل أربعة ملايين نسمة من الفلسطينيين([10]).
ويستفاد من الإحصائيات الواردة في السجلات الإدارية ومن المجموعة الإحصائية الإسرائيلية العدد 52 لعام 2001 (إصدار المكتب المركزي للإحصاء) ومن كتاب القدس الإحصائي العدد 16 (إصدار معهد القدس للدراسات الإسرائيلية) إضافة الى تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني, ان عدد السكان الفلسطينيين داخل الخط الأخضر هو 1،002،652 نسمة في نهاية عام 2001, وكان عددهم بعد أحداث نكسة 1948 154 ألف نسمة. ويدل التركيب العمري لهؤلاء السكان على انهم مجتمع فتي, حيث بلغت نسبة الأطفال دون الخامسة عشرة 40.7% للذكور و41.4% للإناث, في حين بلغت نسبة الشيوخ فوق 65 سنة 4,3% للذكور و 8,2% للإناث. وبلغ معدل الخصوبة الكلي 4.3  وهذا المعدل مرتفع مقارنة بمعدلات الخصوبة في إسرائيل. وبلغ المعدل العام للمواليد 35 ومعدل وفيات الرضع 6,8 وبلغت نسبة الجنس 103.6. أما توقعات البقاء فكانت حوالي 75 سنة للذكور و78 سنة للإناث ومعدل النمو السنوي 34 بالألف.



[11]
وقد بلغ عدد السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة في نهاية عام 2000 نحو 3.22 مليون نسمة منهم 2.21 مليون في الضفة الغربية و1,1 مليون في قطاع غزة, وبحسب تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني فان عددهم سيتطور ليصل الى نحو 5 ملايين نسمة عام 2010 منهم 3.1 مليون في الضفة الغربية و1.9 مليون من قطاع غزة ويتوقع أن يبلغوا نحو 7.3 مليون نسمة عام 2024 منهم 4.3 مليون في الضفة الغربية و3 ملايين نسمة في قطاع غزة([12]). أما معطيات مكتب الإحصاء المركزي الأميركي ما بين أيلول 1990وآذار 1991 فتنص على أن توقعات عدد الفلسطينيين في إسرائيل ما بين 1990 و2010 هي كالتالي([13]).


إزاء هذه الأرقام والمعطيات, وحيث أنه لم يعد في الأفق موجة كبرى من الوافدين اليهود الى فلسطين, على غرار الموجة الروسية, حسبما يحلم به قادة إسرائيل وعلى رأسهم رئيس الحكومة أرييل شارون, فان الفارق العددي بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين آخذ بالتضاؤل, نظراً لارتفاع الزيادة السكانية الفلسطينية قياساً على الزيادة اليهودية, مما جعل عملية إغراق الأراضي المحتلة عام 1967 بالمستوطنين اليهود, كمقدمة افتراضية لضمّ هذه الأراضي الى الدولة العبرية, أمراً شبه مستحيل, مع العلم بأن ضمّ هذه الأراضي حالياً يؤدي الى اكتساب ثلاثة ملايين فلسطيني للجنسية الإسرائيلية, يضافون الى المليون فلسطيني ونيّف الموجودين داخل الخط الأخضر, مما يعني ان هذه الأعداد, وما ستؤول إليه من زيادة, من شأنها ان تقوّض أسس الدولة الصهيونية برمتها, اذ من المتوقع ان يتجاوز عدد الفلسطينيين عدد اليهود, في فلسطين بحدودها الدولية الانتدابية, في أقل من عقدين من الزمن. وقد شاعت إزاء هذه المعطيات, لدى الإسرائيليين, فكرة ترحيل أعداد كبيرة من الفلسطينيين الى الخارج تحت اسم ترانسفير TRANSFER([14]). وقدمت في هذا الشأن اقتراحات كثيرة ومشاريع علنية وسرية, مثل اقتراح نقل أعداد كبيرة من الفلسطينيين الى العراق او إلى شبه جزيرة سيناء او الى الأردن. الا ان الوقائع الميدانية والاقتصادية والظروف الدولية قضت بتعطيل التنفيذ الجدي لهذه الفكرة الجهنمية لغاية تاريخه.
كذلك ارتسمت محاولات صهيونية أخرى ترمي الى فرض توطين اللاجئين الفلسطينيين في بلدان الشتات وتركيز الجهد على ما يسميه الخطاب الصهيوني”القنبلة الديموغرافية” في ما يخصّ عرب فلسطين 1948 لترحيلهم وإقامة إسرائيل “نقية” يهودياً. وقد جاء في وثيقة مؤتمر هرتسليا الأول المنعقد في أواخر عام 2000 تحت عنوان “ميزان المناعة والأمن القومي­اتجاهات لسياسة عامة” والذي شاركت فيه اكثر من 300 شخصية يمثلون النخب الصهيونية في مختلف المجالات حسبما ذكره الصحافي الإسرائيلي مئير شيلغ في صحيفة هآرتس (23/3/2001) ان “الشعب الفلسطيني يضاعف عدده مرة كل عشرين سنة, حيث تبلغ نسبة زيادته السنوية 4.2% وهي من اعلى الزيادات في العالم. وان نسبة الولادة في أوساط المسلمين والمسيحيين في إسرائيل هي 4.6 مولود للمرأة. وهذا يكاد يكون ضعف نسبة الولادة عند اليهود في إسرائيل وهو 2.6 مولود للمرأة. وينطوي هذا الوضع بحسب وثيقة هرتسليا على مغزى أمني خطير يتعلق بحيوية إسرائيل كدولة يهودية, كما ينطوي على مغزى اقتصادي, اذ للوسط العربي المتكاثر في إسرائيل ميزات وخصائص اجتماعية واقتصادية تحوّله الى صخرة ثقيلة تعيق تطور الدولة ورفاهيتها, وذلك بسبب انخفاض نسبة المشاركين في قوة العمل في أوساط فلسطين 1948 (النساء والأطفال لا يعملون). وفي المقابل يستهلك هؤلاء السكان الفلسطينيون خدمات عامة (تربية, صحة, تأمينات) بدرجة تفوق نسبتهم من مجموع السكان. في ضوء ذلك توصي الوثيقة بإلغاء مخصّصات التأمين للعائلات الفلسطينية كثيرة الأولاد. كما توصي بتوطين سكان يهود في مناطق الكثافة الفلسطينية, وخصوصاً في الجليل والنقب, لمنع نشوء تواصل جغرافي, لأغلبية عربية في هذه المناطق. كما وتدعو الوثيقة الى تبادل في التجمعات السكانية بين إسرائيل والكيان الفلسطيني المنشود.
كما تقترح الوثيقة ترحيل حتى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة, لكن من دون ذكرها صراحة, وهي تربطها بظرف محدد. وفي هذا السياق جاء في الوثيقة: “ستكون هناك حاجة لإيجاد مخرج للمأزق في غير إسرائيل, ربما في شرق الاردن, لتوطين السكان الفلسطينيين في الضفة اذا لم يكبحوا من وتيرة تكاثرهم”. وطالما ان الفكر الصهيوني يخطط لحشد عشرة ملايين يهودي في فلسطين بأكملها, وطالما ان مصادر المياه والأرض محدودة, فخيار الترحيل قائم على جدول الأعمال الصهيوني باستمرار وبكل اصرار.
ومع وصول أرييل شارون الى السلطة, بات رموز الترحيل يتسنمون سدة القرار السياسي والأمني في الكيان الصهيوني من أمثال زئيفي وليبرمان وإيتام. وفي هذا السياق يقول الكاتب الإسرائيلي مئير شتيغليتس في صحيفة يديعوت أحرونوت (1/5/2001) ان مؤيدي الترحيل “يتعززون يوماَ بعد يوم. ومنذ الآن فان مسألة نقل السكان الفلسطينيين غدت جزءاَ مشروعاَ من الجدال العام, وستغدو في المرحلة التالية موضوعاَ مركزياَ, في الانتخابات, والمسألة باتت مسألة وقت حتى نحظى بمشاهدة اليافطات الكبرى بصيغة (الترحيل الآن)”.
في هذا السياق تجدر الإشارة الى ان مساعدي رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون, يعدون في هذه الأثناء, مشروع قانون جديد لمكافحة ظاهرة تعدد الزوجات بين صفوف المواطنين العرب في إسرائيل ووضع حد لها بشكل قسري.
ولا يقدم هؤلاء على هذه الخطوة بدافع تنظيم الأسرة ولا التكافل الاجتماعي, بل لدوافع عنصرية مكشوفة, اذ يعتبرون تعدّد الزوجات سبباَ لكثرة الأولاد, “الذي يقود الى أخطار كبيرة على أمن إسرائيل واقتصادها وسياساتها” حسبما جاء في تقرير سري أعده مسؤول دائرة الإسكان في وزارة الداخلية, وهو عقيد في الاحتياط يدعى هرتسل غدار. وحسب هذا التقرير الذي نشرته صحيفة معاريف بتاريخ 4/2/2003 فان هناك ما لا يقل عن 20 ألف امرأة عربية تعيش في إسرائيل بشكل غير قانوني, آتيات من المناطق الفلسطينية او الأردن او مصر او سوريا او المغرب او سواها وقد تزوجن من رجال عرب من مواطني إسرائيل بمثابة زوجة ثانية او ثالثة او رابعة.وهؤلاء النساء ينجبن اطفالاَ, والاطفال يحصلون على الجنسية الإسرائيلية ويصبحون من أصحاب حق الاقتراع في انتخابات الكنيست, مما يعني انهم يساهمون في إقرار اتجاهات الحياة السياسية ويزيدون من وزن العرب السياسي على حساب اليهود, ويحصلون على مخصصات الأطفال التي تدفعها مؤسسة الضمان الوطني وفي هذا يشكلون خطراَ كبيراَ على الدولة العبرية في شتى المجالات. والجدير بالذكر ان القانون الإسرائيلي يمنع تعدد الزوجات, ولكن السلطات التنفيذية تغض الطرف عن هذه الظاهرة خصوصاً وان الكثيرات من الزوجات وصلن الى البلد بواسطة مسؤولين حكوميين, لكون رجالهن من المتعاونين مع السلطات.
ولا يخفى ان خطورة موضوع “القنبلة الديموغرافية” العربية في فلسطين المحتلة تبرز بشكل أوضح وأدق اذا علمنا ان المجتمع الإسرائيلي ما يزال حتى الآن مجتمع مهاجرين, بحيث لا يزال نحو 40% من بين أفراده من اليهود المولودين خارج إسرائيل. كما وان هذا المجتمع يختلف عن مجتمعات المهاجرين الأخرى في العالم, مثل المجتمع الأميركي او الأسترالي, في انه يقتصر على المهاجرين اليهود فقط ويرفض استيعاب غيرهم([15]). وهذا يؤكد على ان المعركة مع الصهيونية ودولتها الزاحفة إسرائيل, هي في جوهرها, معركة ديموغرافية في صراع مرير وطويل الأمد على تفاصيل الجغرافيا والتاريخ والحضارة والمستقبل والمصير. وعلى هذا الأساس يأخذ البعد الديموغرافي طابعاً استراتيجياً في مخطط الأمن القومي الصهيوني, لاسيما وان معطيات الهجرة المعاكسة (النزوح) من دولة الاحتلال تدعو الى القلق, حيث نجد ان تزايد أرقام هذه المعطيات تخيف قادة العدو, وتشكل لهم همّاً يقضّ مضاجعهم ويؤثر تأثيراً حيوياً ومباشراً على المشروع الاستيطاني التوسعي ويخيّب آمال وتوقعات رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق اسحق شامير الذي قال متباهياً بهجرة اليهود الروس في مطلع التسعينات “ان هجرة كبرى هي بحاجة لإسرائيل كبرى”([16]).


وفي هذا الصدد أيضاً يؤكد الدكتور يسرائيل شاحاك انه “في الكتابات اليهودية المقدسة وصايا كثيرة بإبادة غير اليهود على أرض إسرائيل. وهناك مقاطع نادرة تخفف من فظاعة إبادة الجنس الكاملة, وتطرح فكرة الترانسفير”, فنحن نرى, حسب قول شاحاك, في مقطع مشهور من التلمود, يشوع بن نون قبل دخوله الى فلسطين التي سيفتحها, يوجه إنذاراَ الى السكان “إما ان تخضعوا وتقبلوا بالعبودية, وإما ان تصبحوا حطّابين وسقّائين كما حدث لأهل جفعون” (الإصحاح 9 الأسطر 27,26,23,21), “وإما ان تهاجروا بإرادتكم”([17]). وفي مطلع عام 1948 كتب دافيد بن غوريون: “عندما نقوم بهجوم يجب أن نكون مستعدين لتوجيه الضربة القاضية, أي تدمير الموقع السكاني او طرد سكانه لكي نأخذ مكانهم”([18]).
ورأى البروفسور أرنون سوفير ان “المشكلة الديموغرافية هي الخطر الأكبر الذي يتهدد أساس الدولة اليهودية الصهيونية, وهي تتطلب قرارات سياسية جريئة وصعبة من اجل استدراك المشكلة قبل فوات الأوان”([19]).
وبعد ان يعدد سوفير”الحلول المقترحة” لهذه المشكلة, بدءاً من الإبادة الجماعية, والطرد الجماعي, والدمج, يصل الى خيار “الرقابة الدائمة” لعرب فلسطين حيث اثبت هذا الأسلوب (حسب رأيه) نجاعته. وبأسلوب ناضح بالعنصرية يتساءل: “اذا طردناهم جميعاً, من سيجمع القمامة في إسرائيل؟ من سيبني البلد؟ من سيوفر الخضروات؟ ومن سيقدم (الطعام) في المطاعم ؟”([20]).
ويتطرق أرنون سوفير الى الأرقام والنسب المئوية في الموضوع الديموغرافي فيرى ان “نسبة اليهود في أرض إسرائيل انخفضت عام 1989 من 62% ألى 61% من مجموع السكان بسبب النزوح وارتفاع نسبة التكاثر لدى العرب. ومن اجل إعادة هذه النسبة المئوية يترتب على إسرائيل استيعاب 170 ألف يهودي جديد في السنة. واذا افترض بان النزوح سيكون معدوماً, ففي هذه الحالة لن يتغير الوضع الديموغرافي تغيراً مهماً في تخوم ارض إسرائيل. وحتى داخل الخط الأخضر فان هجرة مليون يهودي ستزيد نسبة السكان اليهود الى 84% بدلاً من 78% التي كانت متوقعة من دون هجرة الروس”([21])[22].
ورأى مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية السابق, شلومو غازيت ان “زيادة التأييد والحماس للترانسفير انما هي نتيجة أمرين مهمين لهما تأثير على الرأي العام والشخصيات السياسية أيضاً:
الأول: البروز الواضح لخطر المشكلة الديموغرافية العربية_اليهودية.
الثاني: صمود مواطني الأرض المحتلة وانتفاضتهم على وهم إمكانية التعايش في ظل الحكم الأجنبي”.
أما وزير السياحة الأسبق اللواء العنصري الراحل, رحبعام زئيفي, زعيم حزب موليديت, المشهور بتنظيره لسياسة ترحيل الفلسطينيين والذي وصفه اسحق رابين بأنه “رجل كل المهمات” فانه يعبر عن رأيه في هذه المسألة بكل دقة ووضوح, انطلاقاً من جوهر الصهيونية وطبيعتها, وذلك على الشكل التالي: “صحيح أنني أؤيد فكرة الترانسسفير لعرب يهودا والسامرة وغزة الى الدول العربية, إلا إنني لا أملك حق ابتكار هذه الفكرة لأنني أخذتها من معلمي الحركة الصهيونية وقادتها, مثل دافيد بن غوريون الذي قال, من جملة أمور أخرى, “ إن أي تشكيك من ناحيتنا في ضرورة ترحيل كهذا, وأي شك عندنا في إمكان تحقيقه, وأي تردد من قبلنا في صوابيته, قد تجعلنا نخسر فرصة تاريخية “([23]) ويضيف زئيفي قائلاً: “كما إنني تعلمت هذا من بيرل كتسنلسون وآرثر روبين ويوسف فايتس وموشيه شاريت وآخرين “. ثم يستطرد ويقول: “لقد زعموا ان هذه الفكرة غير خلقية, وفي رأيي انه لا توجد فكرة أكثر خلقية منها, لأنها تحول دون وقوع الحروب وتمنح شعب إسرائيل الحياة. فان كانت هذه الفكرة غير خلقية, فان الصهيونية كلها وتجسيدها خلال أكثر من مائة عام هما غير خلقيتين. ان مشروع الاستيطان وحرب الاستقلال حافلان بعمليات ترحيل ونقل العرب من قراهم. فهل كان هذا خلقياَ وهو الآن غير خلقي ؟”([24]). ثم يمضي زئيفي في منطقه التبريري المراوغ بقوله: “لقد استوعبنا في إسرائيل أغلب يهود الدول الإسلامية والعربية, والآن جاء دور هذه الدول لتستوعب السكان العرب من مناطق الضفة وغزة”([25]).

على خلفية ما تقدم ليس من الغرابة في شيء ان تقوم فكرة اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه على أسس ومقومات تتمثل بما يلي:
1­- تهجير سكان فلسطين العرب الى خارج البلد.
2­- تهجير اليهود من أرض الشتات التي يقيمون فيها وفق المبدأ الصهيوني الداعي الى “لمّ شمل المنفيين”.
3­- استيطان اليهود في فلسطين كنتيجة أساسية لفعل التهجير.
4­- نقل ملكية الأرض من العرب الى اليهود.
5­- إعادة تركيب البلد وفق الصيغة الإستيطانية الجديدة.
6­- نزع الصفة العربية في شكل خالص عن فلسطين وتغيير كل المعالم التي تؤكد هذه الصفة واستبدالها بمعالم وصفات يهودية بحتة.
7­- إقامة دولة صهيونية عنصرية خالية من أي شعب آخر, ويطلق عليها اسم “دولة اليهود” وليس “الدولة اليهودية”.
هذا وقد اقتنع آباء الصهيونية المؤسسون, منذ البداية, أن الحل الصهيوني الأساسي “للمشاكل الديموغرافية العربية” لا يؤتى الا من موقع القوة العسكرية, ومن إيجاد الحقائق الاقتصادية والعسكرية والاستيطانية وفرضها بالقوة في فلسطين العربية الإسلامية والمسيحية.
وعلى هذا الأساس, انصبت جهودهم ونشاطاتهم للاستيلاء على فلسطين, مؤكدين ان حل “المسألة العربية” لا يمكن ان يمر عبر الاتفاق مع السكان المحليين الأصليين, بل عبر فتح عسكري يجعل الترحيل أمراً واقعاً([26]).
ولعل دافيد بن غوريون يختصر سياسة الصهيونية التهجيرية ومراميها بشكل أوضح من غيره حين يقول: “إذا أردنا خلاصاً يهودياً مائة بالمائة فلا بد من استيطان عبري مائة بالمائة ومزرعة عبرية مائة بالمائة”([27]).
وفي كتابه المنشور عام 1920 بعنوان: Jerusalem the voice of يقول يسرائيل زانغويل, وهو من كبار آباء الصهيونية المؤسسين: “اذا أردنا ان نعطي بلداً لشعب بلا بلد, فمن الحق بمكان ألا نسمح بان يصبح في هذا البلد شعبان, فهذا لا يجلب سوى المتاعب. وسيعاني اليهود كما يعاني جيرانهم. ثمة واحد من أمرين: يجب إيجاد مكان آخر إما لليهود و إما لجيرانهم”. ولمّا كانت فلسطين هي “الوطن القومي اليهودي”, في التفكير الصهيوني, لذلك كان لا بد لجيرانهم من ان يجدوا لأنفسهم مكاناً آخر. من هنا ­يقول زانغويل­ بمنطقه السقيم والأعوج: “علينا ان نقنع العرب بلطف ان يرحلوا نحو البادية. أليست جزيرة العرب ومساحتها مليون ميل مربع كلها لهم؟ ليس ثمة ما يدعو العرب الى التمسك بهذه الحفنة من الكيلومترات. فمن عاداتهم وأمثالهم المأثورة: طي الخيام والتسلل, دعهم الآن يعطون المثل بذلك”([28]).
من هنا يتبين ان فكرة اقتلاع الفلسطينيين أولاَ وليس آخراَ, من أرضهم ووطنهم ورميهم في الخارج, إنما تشكل جوهر المشروع الصهيوني وعموده الفقري, فضلاً عن دورته الدموية, القائمة على حركتي التهجير والتهويد. ومن هذا المنطلق ركز قادة الصهيونية وروادها على هدف اقتلاع المزارعين الفلسطينيين أولاً, والذين كانوا يشكلون أغلبية البلد حيث ان الأرض هي الشرط الذي لابد منه للاستيطان اليهودي في فلسطين, على حد تعبير آرثر رؤوفين. ومن هنا كان هؤلاء الفلاحون أحد أهم العناصر في تأجيج الثورات في الريف الفلسطيني فيما بعد, حيث عبّر عنهم حاييم وايزمان, أول رئيس لدولة إسرائيل, بقوله: “ان عرب فلسطين كصخور منطقة يهودا, عوائق يجب إزالتها من هذا الدرب الصعب”([29]).
والجدير بالذكر انه لم يكن هناك اتفاق بين هؤلاء الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية بشأن المكان الذي سيرحل إليه العرب الفلسطينيون, بينما كان الاتفاق واضحاً على مشروع الترحيل من فلسطين الى خارجها. لذلك منهم من اقترح ترحيل العرب الفلسطينيين الى بلاد ما بين النهرين, ومنهم من اقترح منطقة الجزيرة الواقعة على الحدود السورية­العراقية كمنطقة إقامة للمرحلين, ومنهم من اقترح سوريا وشرق الأردن, في الوقت الذي رفض فيه البعض هذا الاقتراح وذلك “لأنهما جزءان من ارض إسرائيل”([30]).
لقد اجمع الصهاينة على إنجاز تخفيض جذري في عدد العرب في “الدولة اليهودية”. وتحقيقا لهذا الهدف, طبقوا سلسلة تدابير وخطوات عملية على هذا الصعيد, بدءاً بالضربات الهجومية المنسقة والمخطط لها بعناية ضد السكان المدنيين العرب في المدن الرئيسية والريف, والغارات الليلية, وعمليات التهجير العنيفة, وقطع طرق المواصلات, ونسف المنازل وتدميرها أو حرقها, وانتهاءً بالمجازر المنظمة والهادفة الى ترويع العرب وحملهم على الرحيل. وهكذا شهدت المدن الفلسطينية وقرى الريف حملات إرهابية ضخمة لم تشهد لها مثيلاً من قبل.
وقد قامت “كتائب السحق” (بلوغوت ماحاتس) بقيادة يغآل ألون, قائد البالماخ بدور أساسي في ذلك, فضلاً عن الدور الكبير الذي أدّته أيضا العصابات الصهيونية الأخرى مثل اتسل وليحي وهاغانا وسواها. كما لم يوفر القادة الصهاينة أية وسيلة أخرى إلا واستخدموها مثل الحرب النفسية وحملات الإشاعات الكاذبة التي برع فيها إلياهو ساسون, فضلاً عن خطط تسميم آبار المياه, وخصوصاً في النقب, وصولاً الى تدمير المعنويات العربية كمقدمة ضرورية للاقتلاع والطرد. ذلك ان هدف قلب الميزان السكاني لمصلحة اليهود كان دائماً في صلب جميع المخططات والمشاريع الصهيونية المتعلقة بمصير الأرض والإنسان في فلسطين المحتلة, قبل إنشاء الكيان الإسرائيلي وبعده, وما يزال قائماً أيضا في صلب كل المخططات والمشاريع الصهيونية الموجهة ضد العرب والوجود العربي في كامل فلسطين المحتلة, كما تمثل في عمليات استقدام المهاجرين اليهود من اليمن والفلاشا من أثيوبيا فضلاً عن الاتحاد السوفياتي السابق وأميركا الشمالية والجنوبية وبعض الدول الأوروبية. ذلك ان العنصرية الصهيونية كأية عنصرية فاشية أخرى, لا تقيم أي وزن للأخلاق ولا للقيم الإنسانية النبيلة, ولا تعترف بحقوق الإنسان, وحتى عندما كان القادة الصهاينة يقبلون ببعض التكتيكات السياسية المتعلقة بإعادة النظر في انتشار الاحتلال, فان ذلك ما كان يتم إلا من منطلق الحسابات الأمنية. ومن هنا جاء قول شمعون بيرس تعليقاً على اتفاق أوسلو: “إن حكومة حزب العمل لم تتخل في قطاع غزة عن الأرض, وانما تخلت عن مئات الآلاف من السكان”([31]). والحقيقة أن قطاع غزة تبلغ مساحته 370 كلم2 ويصل عدد سكانه الى مليون نسمة, وبالتالي فالكثافة السكانية فيه هي الأعلى في العالم إذ تتجاوز 2700 نسمة في الكيلو مترالمربع الواحد. وأسباب هذا الحشد البشري الهائل في هذه المساحة الضيقة تعود الى أن 800 ألف نسمة من سكان القطاع هم من اللاجئين الذين أنتجتهم المواجهات العسكرية المتكررة في فلسطين([32]).
على الرغم من ذلك فقد زرعت إسرائيل في قطاع غزة 16 مستعمرة. لكن عدد المستوطنين اليهود فيها لم يتجاوز حتى عام 2001 الستة آلاف مستوطن. وقد صادرت إسرائيل 35% من أراضي القطاع, على نحو يمكّنها من محاصرة السكان, كما ربطت المستعمرات بشبكة من الطرق يمنع على الفلسطينيين ارتيادها, مما يعني ان إسرائيل, قد وضعت في تصرف المستوطنين الستة آلاف أكثر من 120 كم2 من أراضي القطاع, بينما لم يبق للمليون فلسطيني سوى أقل من 250كم2. وعليه فان تقسيم الأراضي على هذا النحو يجعل ما معدله 250 متراَ مربعاً للفلسطيني الواحد مقابل 120 ألف متر مربع للمستوطن اليهودي الواحد, علماً بأن هذا التفاوت آخذ بالازدياد لصالح المستوطنين اليهود لأن معدل التزايد السكاني الخاص بالفلسطينيين في القطاع يصل الى 4.3% وهو أعلى من مستوى التزايد الفلسطيني العام في الضفة والقطاع مجتمعين([33]).
هذه الأوضاع تنبئ بمزيد من التفاقم وتزايد التحديات في وجه الاحتلال الإسرائيلي, بما يجعل إسرائيل عاجزة عن استنباط وسائل التعامل مع السكان الفلسطينيين بحيث تحافظ معها, الى هذه الدرجة او تلك, على صورتها الديموقراطية المزعومة, تجاه العالم الغربي الداعم لها.

 

يضاف الى ذلك انتفاء مختلف التبريرات الأمنية الإستراتيجية أو الدينية لاحتلال قطاع غزة والاستيطان فيه. ولهذا كان اسحق رابين, رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي اغتيل على أيدي أحد المستوطنين المتعصبين دينيا, يردد أمام وسائل الإعلام أثناء المواجهات الدامية بين الجيش الإسرائيلي وسكان غزة, أن القطاع يشكل له كابوساَ ولذلك فهو يتمنى ان يستيقظ يوما ويجده قد غاص في البحر.
أما في الضفة الغربية فيختلف الوضع عما هو عليه في القطاع. ففي الضفة الغربية تبدو السياسة الاستيطانية اليهودية اكثر تشدداً. كما ان لكل مجموعة من المستوطنات وظيفة تختلف عن وظيفة المجموعات الأخرى.
تصل مساحة الضفة الغربية الى نحو 6 آلاف كلم2 ويقدّر عدد سكانها, مع مطلع عام 2001, بمليون فلسطيني و300 ألف مستوطن إسرائيلي, أي بكثافة سكانية مرتفعة تتجاوز 380 نسمة للكيلومتر المربع الواحد. وبلغ معدل الزيادة السكانية للمستوطنين اليهود فيها 2,2%, مع الإشارة الى ان معدل الزيادة السكانية الطبيعية في إسرائيل, داخل الخط الأخضر, هو في حدود 1.8%, أما المدن الرئيسة في الضفة, فهي فضلاً عن القدس الشرقية, نابلس, طولكرم, قلقيليا, أريحا, بيت لحم, الجليل, رام الله. وهذه الأخيرة أهم المدن الفلسطينية في الضفة الغربية, اذ يتجاوز عدد سكانها الخمسين ألف نسمة, وتعتبر العاصمة الاقتصادية للضفة ومركز المؤسسات الرسمية للسلطة الفلسطينية, ويؤمها يومياً عشرات الألوف في النهار([34]).
كانت الضفة الغربية من أكثر المناطق التي توجه اليها اللاجئون الفلسطينيون واستقروا فيها بعد عام1948. فد خل اليها 38% من اللاجئين, في حين بلغ عدد سكانها في مطلع الخمسينات نحو 470 ألف نسمة وشكل اللاجئون 36% من ذلك المجموع, وهذه النسبة تماثل نسبة اللاجئين الى الضفة الشرقية في العام نفسه. وقد تكررت مأساة الترحيل والتهجير بحق الفلسطينيين مرة أخرى عام 1967, وتوجه العديد من اللاجئين والنازحين من الضفة الغربية الى الضفة الشرقية بعد حرب عام 1967 , وقدّرت الحكومة الأردنية عدد اللاجئين والنازحين في صيف عام 1968 بنحو 408 آلاف نسمة منهم 360 ألف نسمة من الضفة ونحو 48 ألفاً من قطاع غزة, ونتيجة لسوء الأوضاع التي سادت الأراضي المحتلة, فقد ارتفع عدد الذين قدموا الى الأردن حتى عام 1976 الى 42869 منهم 167211 لاجئاً وحوالي 231381 نازحا([35]).
وكان من أهم الأسباب التي دفعت السكان الفلسطينيين للهجرة:الضغوط التي مارستها سلطات الاحتلال الإسرائيلي, والهادفة الى تفريغ الأرض من أصحابها. وكذلك ضآلة فرص العمل في الضفة الفلسطينية, وتوفرها في الأردن, نتيجة التركيز الصناعي والتجاري, وما تمنحه وكالة الغوث للاجئين وعليه شكلت الضفة الغربية الفلسطينية منطقة الطرد البشري والأردن منطقة الجذب البشري, ونتيجة لذلك فقدت الضفة الفلسطينية جزءاً كبيراً من عوامل معدلات النمو السكاني من خلال التهجير الكبير للسكان بصورة مباشرة وغير مباشرة([36]).
وأشارت معطيات الجهاز الإحصائي الفلسطيني في رام الله الى ان مجموع الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع بلغ عشية انتفاضة الأقصى في 28/9/2000 نحو 3.2 مليون فلسطيني, ارتفع الى 3.7 مليون فلسطيني في عام 2001, ويصل المجموع تبعاً لمعدل النمو السكاني الى 3.98 مليون بحلول عام 2005, ثم الى 4.9 مليون نسمة عام 2010([37]).
في تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء في رام الله ان عدد الفلسطينيين المقدر في العالم في نهاية العام 2000 قد بلغ 9.3 ملايين نسمة منهم 3.6 ملايين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967([38]). ويعيش 2.3 مليون في الضفة الغربية ويمثلون ما نسبته 63.5% من سكان الداخل و 1.3 مليون في قطاع غزة أي ما نسبته 36.5%. يضاف الى هؤلاء أيضاً مليون فلسطيني داخل حدود الخط الأخضر.
وكان الجهاز أصدر تقريراً بتاريخ 8/1/2003 عن الفلسطينيين في نهاية العام 2002, استندت بياناته الى مصادر مختلفة, منها مسوح ميدانية وتعدادات وتقارير هيئات دولية ومراكز ومؤسسات خاصة تعنى بقضايا الفلسطينيين, والى بعض المنظمات الدولية التي تهتم باللاجئين في العالم.
وجاء في التقرير ان عدد السكان في الأراضي الفلسطينية يحتاج إلى 19 سنة ليتضاعف, بينما يحتاج عدد السكان الفلسطينيين داخل إسرائيل الى 21 سنة لتحقيق ذلك.
وتفيد البيانات المتوافرة عن الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية في نهاية عام 2002 ان نسبة الأفراد دون الخامسة عشرة من العمر هي 46.4% ونسبة الذين تبلغ أعمارهم 65 سنة فما فوق هي 3.1%. وبلغ متوسط حجم الأسرة الفلسطينية عام 2000 ما قيمته 6.1 أفراد.
وأظهرت البيانات أيضاً بشأن الفلسطينيين المقيمين في إسرائيل لعام 2001 انه مجتمع فتي, اذ بلغت نسبة الأفراد دون الخامسة عشرة من العمر 41.2% ونسبة الذين تبلغ أعمارهم 65 سنة فما فوق 3.5% وبلغ متوسط حجم الأسرة الفلسطينية 4.8 أفراد([39]).
وجاء في تقرير نشرته صحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية([40]) على أبواب العام 2003 أن عدد سكان إسرائيل يقدّر بنحو 6.6 ملايين نسمة. وتبلغ نسبة السكان اليهود (المسجلين كيهود بحسب الديانة في سجل السكان) نحو 75.6% وثمة نحو 3.5% من المهاجرين غير المسجلين كيهود في سجل السكان مع أولادهم, بينما تبلغ نسبة العرب ما يقرب من 20%. وتعتمد هذه المعطيات على تقديرات سكانية مؤقتة لنهاية العام 2002 بقيمة 127 ألف نسمة أي ما يشكل تزايدا بنسبة 1.9%, مقارنة بعدد السكان في العام الذي سبقه.
ويشار الى أن العامل الأساسي في بطء وتيرة التزايد السكاني هو الانخفاض الذي طرأ على عدد المهاجرين إلى إسرائيل. فقد شكل ميزان الهجرة في عام 2002 قرابة 23% من مجموع التزايد السكاني مقابل نسبة 29% في العام الذي سبقه.
وقد وصل الى إسرائيل عام 2002 ما يربو على 34 ألف مهاجر, مقابل 44 ألف مهاجر في العام 2001.

مأزق الديموغرفيا والتنمية والبشرية
لقد أدرك الإسرائيليون إزاء المعطيات الديموغرافية آنفة الذكر, والتي لا تعمل لصالحهم مع مرور الوقت, حجم المخاطر التي تهدد أمنهم القومي في دولتهم اليهودية التي يحاولون إعطاءها عبثاً صفة الدولة الديمقراطية التي من المفترض ان تكون لجميع مواطنيها. وفجأة وجدوا أنفسهم أمام معضلة بالغة التعقيد عندما أدركوا انه من المستحيل عليهم ان يكونوا ديموقراطيين وفي الوقت نفسه يحتلون أراض شاسعة مأهولة بهذه الكثافة السكانية.
وكان لا بدّ من إيجاد رد على هذا التحدي. هنا طرحت فكرة ارتكاب المجازر الجماعية لإحداث حركة هجرة وفرار من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. مثلما طرحت أفكار الترانسفير والترحيل الطوعي أو بالا كراه. وفي هذا السياق شن الإسرائيليون على المجتمع المدني الفلسطيني “حرب تنمية” بالغة الضراوة. وفرض الإسرائيليون حصاراً كاملاً لا ينقطع على الضفة و القطاع وعملوا على تدمير كل ما بنته حكومة رابين منذ العام 1993 من بنى تحتية لحكم ذاتي قائم على أساس اتفاقيات أوسلو. وهكذا رسمت وطبقت السياسات الاقتصادية الجائرة والقاتلة إزاء الاقتصاد الفلسطيني من أجل تفكيكه واعادة هيكلته لصالح الاقتصاد الإسرائيلي. وأكد المنسق الخاص للأمم المتحدة بتاريخ 5/12/2002 أن هناك أكثر من 260 ألف شخص في الأراضي الفلسطينية يعانون البطالة, أي ما يشكل 40% من إجمالي قوة العمل الفلسطينية في عام 2000. وقدّر مساعد الامين العام للامم المتحدة تري رود لارسن بأن أكثر من مليون فلسطيني يعانون من خسائر حادة في مداخيلهم, وهو ما يقارب ثلث الشعب الفلسطيني, وقال: إن التقدّم الذي تمّ تحقيقه خلال السنوات الثلاث الماضية, قد جرى تدميره خلال شهرين من الصراع, وأعرب عن قلقه من ارتفاع نسبة الفقر التي تصل بين الفلسطينيين في الضفة والقطاع الى 32% حسب إحصاءات البنك الدولي, مؤكداً ان نصف الفلسطينيين يعيشون بأقل من 2.10 دولار أميركي في اليوم. ولفت الى ان خسائر الاقتصاد الفلسطيني زادت عن 500 مليون دولار في الستين يوماً الأولى من الأزمة فقط. وحذر لارسن إسرائيل من نتائج إغلاق الحدود مع الفلسطينيين لأن البطالة والفقر ينتجان الإستفزاز([41]).
ونتيجة السياسات الاحتلالية أثناء فترة الانتفاضة الأخيرة (انتفاضة الأقصى) قدر مكتب الإحصاء الفلسطيني في دمشق خسائر الاقتصاد الفلسطيني خلال العام الأول من الانتفاضة بنحو 6 مليارات دولار أميركي وارتفعت نسبة الذين يعانون من الفقر الى 45.5% من اجمالي السكان الفلسطينيين في الضفة والقطاع, وقدّر الجهاز الإحصائي الفلسطيني في رام الله خسائر الاقتصاد الفلسطيني يومياً بنحو 8.4 مليون دولار.
ومع أشهر الانتفاضة التي جاءت رداً على الاحتلال وسياساته الاستيطانية والاقتصادية واجه المجتمع الفلسطيني أزمات مستعصية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي خصوصاً في ظل غياب الدعم العربي الذي لم يرقَ الى حجم التحدي الحاصل في المواجهة العنيفة ما بين المجتمع الفلسطيني والجيش الإسرائيلي الرسمي وجيش المستوطنين المدججين بمختلف أنواع الأسلحة, ما تسبب بتصعيد الأزمات المعيشية والأمنية والاجتماعية في صفوف الفلسطينيين ولا سيّما مع سقوط أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى والمعوقين مما يزيد من أعباء الإعالة في ظل غياب معيل الأسرة وغياب أعداد كبيرة من قوة العمل الفلسطينية, الأمر الذي يهيئ الأسباب والظروف الملائمة لعمليات الترحيل الطوعية والقسرية معاً.
والجدير بالذكر ان تقارير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي خلال الفترة ما بين 1990­- 2002 تخلو من أِي إشارة الى اتجاهات التنمية البشرية في الضفة والقطاع حيث أثّرت الإجراءات الإسرائيلية المبرمجة سلباً في المؤشرات ذات الدلالة على التنمية المذكورة. فمنذ عام 1967 كانت سلطات الاحتلال الإسرائيلية قد عمدت الى اتخاذ إجراءات تعسفية على صعيد الاستيطان والتدابير الأمنية الاحترازية, أدت في نهاية المطاف الى تغيير انطلاقة مستقلة بما فيها التنمية البشرية التي أصبحت معياراً لتطور الأمم والشعوب. والسنوات المقبلة مرشحة لأن تشهد المزيد من التخلف والحصار بوجه التنمية البشرية الفلسطينية حيث نجد أنه بالإضافة الى استشهاد أكثر ممن 1800 فلسطيني وجرح نحو 36 ألفاً, كانت خسائر الاقتصاد الفلسطيني أيضاً كبيرة وقدّرت بنحو 7.5 مليار دولار بحيث تراجع الاقتصاد الفلسطيني وبات يعمل بنحو 2% من قدراته. ونتيجة ذلك تراجع دخل الفرد الى أقل من 650 دولاراً في السنة في نهاية العام 2002 مقابل أكثر من 1700 دولاراً عشية انطلاقة انتفاضة الأقصى في نهاية ايلول 2000. ومع تراكم معدلات البطالة التي فاقت 65% من حجم القوة العاملة ووصول معدلات الفقر الى نحو 60% من المجتمع الفلسطيني بسبب الإجراءات الإسرائيلية من إغلاق وتدمير للبنى التحتية, لا بدّ أن يزداد الوضع سوءاً خصوصاً مع ازدياد السكان وتراجع الناتج المحلي وتراجع الخدمات الصحية وارتفاع كلفة المعالجة, ما يضع التنمية الاجتماعية الفلسطينية في حالة تدهور مستمر. والأخطر من ذلك انه نتيجة المعازل والحواجز الإسرائيلية التي قسمت الضفة الى 64 معزلاً والقطاع الى ثلاثة معازل, فقد حصل تدهور كبير في الأوضاع الصحية و الدراسية للشبان والأطفال الفلسطينيين.
وعلى ضوء ما تقدم من مؤشرات خطيرة على صعيد الصراع الكمي والنوعي بين الديموغرافيا الفلسطينية والديموغرافيا اليهودية يمكن تعداد الاستهدافات الصهيونية الحالية لجهة حماية عناصر ومقومات الأمن القومي الإسرائيلي على حساب عناصر ومقومات الأمن القومي الفلسطيني على الوجه التالي:
1­- السيطرة اليهودية على موارد الأرض الفلسطينية والمياه والموارد الطبيعية فيها.
2­- تقطيع التواصل والاتصال الحيزي (الجغرافي) والعمراني والقروي الفلسطيني وشرذمته الى وحدات تتصل بواسطة حيز مكاني تسيطر عليه المستعمرات.
3­- تكوين أطر ونظم إدارية وبلدية, مزدوجة وثنائية, للنظم الفلسطينية الأمر الذي يسبب ازدواجية إدارية, وذلك في مقابل إحالة النظم والقوانين الإدارية الإسرائيلية على جزء من الأراضي الفلسطينية.
4­- تخطيط وتنفيذ بنى تحتية مرتبطة بإسرائيل, ومنع الفلسطينيين من السيطرة على هذه البنى بهدف استغلالهم.
5­- تعميق تبعية المجتمع الفلسطيني, وخصوصاً القروي, من خلال توفير فرص العمل في قطاع البناء والعمالة الرخيصة والصناعة التي تطورت في المستعمرات, وبذلك تلحق اقتصاد هذه القرى بالمستعمرات الأمر الذي يحول دون استقلالها الاقتصادي.
هذه الإستراتيجيات التي تشمل النواحي الحيزية المكانية والإدارية والاقتصادية تؤدي الى تقليص فرص الحراك التنموي الفلسطيني لاسيما وان مفهوم إسرائيل للصراع بشأن الأرض مع الفلسطينيين بعد اتفاق أوسلو هو ان هناك أرضاً متنازعاً عليها ما بين سلطتين, لا أراض محتلة كما كانت عليه الحال قبل الاتفاق, مع الأخذ بعين الاعتبار عدم التكافؤ بين السلطتين([42]).


وبنتيجة هذه المعادلة غير المتكافئة لأوضاع الفريقين المتصارعين يمكن ملاحظة الاعتبارات السلبية التالية التي تطال المجتمع الفلسطيني تنموياً وديموغرافيا على حد سواء:
1) ان النمو الاستيطاني والديموغرافي الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 من شأنه ان يقلص الموارد التي يمكن ان تشكل رافعة للتنمية البشرية الفلسطينية (الأرض بما فيها من مياه وخيرات, والتنمية والتواصل الجغرافي) الأمر الذي يحول دون تحقيق تواصل عمراني وبيئي فلسطيني يأخذ بعين الاعتبار المصلحة والأهداف القومية الفلسطينية.
2) ازدواجيات إدارية ومؤسساتية (فلسطينية إسرائيلية) في الحيز الجغرافي نفسه يكون من الصعب, ان لم يكن من المستحيل, التنسيق بينها, والتعاون في واقع يشعر المستوطنون اليهود فيه بالفوقية, وأنهم مسيطرون على موارد وأسباب القوة من خلال دولة إسرائيل وذراعها الضاربة الجيش الإسرائيلي.
3) تهديد الأمن الشخصي والعام للفلسطيني, بنتيجة التناقض بين المصالح الفلسطينية ومصالح الاحتلال ومستعمراته, الأمر الذي يؤدي بدوره الى اعتداء المستوطنين على المدنيين الفلسطينيين وتنغيص حياتهم ومعيشتهم.
4) إهدار الموارد المتوفرة في الأراضي الفلسطينية ونقلها الى إسرائيل من خلال المستعمرات وتحجيم فرص التطوير الاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني.
5) تقليص الاستقرار والشعور بالأمن داخل المجتمع الفلسطيني الذي لا يشعر بالأمان مادام الاستقرار مهدداً بتوسيع الاستيطان وتقطيعه له, وهو ما يجعل أولويات المجتمع الفلسطيني مركزة على عملية المواجهة السياسية والعسكرية لا على عملية التنمية, خصوصاً وان أية عملية تنموية تتطلب استقراراً سياسياً واجتماعياً ونفسياً للمجتمع بأسره ولأفراده.
6) ازدواجيات مؤسساتية وخدماتية فلسطينية, نظراً الى عدم التواصل الحيزي المكاني والتكافل الفلسطيني الأمر الذي يؤدي بدوره الى إهدار موارد كثيرة, وقيام علاقات شائكة تعوق عملية التنمية مستقبلاً.
7) سيطرة إسرائيل والمستوطنين على الطرق والمعابر, التي تربط بين المناطق الفلسطينية والضفة الفلسطينية وقطاع غزة والدول العربية وغيرها من الدول. وهذه السيطرة تؤدي بدورها الى ضبط ومراقبة انتقال البضائع والتسويق وحتى إقامة المؤسسات وامدادها بالحاجات التي تساهم في انطلاقها وتنميتها. وهذا يعني ان السيطرة تؤدي الى استمرار اعتماد الاقتصاد والتنمية الفلسطينيين على إسرائيل وتبعيتهما لها بحجة المستعمرات وحمايتها وتوفير احتياجاتها الأمنية والمادية([43]).

إسرائيل في معطياتها الديموغرافية والأمنية
لما كان الهدف المركزي للمشروع الصهيوني هو إقامة الدولة اليهودية “النقية”, انطلاقاً من مقولة “الوطن القومي يحل المشكلة القومية” القائمة على الوعي الذاتي في النظر الى ان اليهود في العالم يشكلون قومية, فان “الدولة القومية” لم يكن لها ان تقوم إلا بالإستيطان الذي لابد من ان يكون إجلائياً, أي ان يقيم الصلة الجديدة بالأرض المنوي استيطانها عبر قطع العلاقة القائمة بينها وبين سكانها الأصليين. وبناءً عليه فلكي تصبح أرض فلسطين, “قاعدة آمنة” للمشروع الصهيوني, لابد من تهويدها كاملةً أرضاً وشعباً. وهذا يعني ان أمن إسرائيل القومي الاستراتيجي على هذا الصعيد, يتطلب نجاحه في هذه المهمة ( تهويد فلسطين), تغييب سكانها الأصليين وإحلال مستوطنين يهوداً او أشباه يهود مكانهم بكثافة كبيرة.
لقد كان تعداد السكان عشية إعلان دولة إسرائيل في أيار 1948 كما يلي: 55 ألف يهودي و156 ألف عربي([44]). وبسبب تزايد نسبة العرب قياساً الى نسبة اليهود, وحسب تصورات القادة الإسرائيليين ومساعيهم لتهويد الأرض والسكان, ساور مراكز التخطيط الإسرائيلية القلق. ففي العام 1970 بلغ عدد السكان 3.022.100 نسمة منهم 2.582.000 يهودي و400.000 عربي (داخل حدود الدولة 1948) من دون سكان القدس الشرقية”([45]). فبحثت إسرائيل في حينه ما سمي “حل المشكلة الديموغرافية”, ومن أبرز الوثائق التي حملت مقترحات التخلص من هذه المشكلة, مذكرة يسرائيل كينيغ. وجاءت فيها الإشارة الى ان “واقع لواء الشمال, حيث تعيش أكثرية عرب إسرائيل, وموقعه الجغرافي, ووضع السكان اليهود فيه, يبرز المشاكل التي نشأت حديثاً, وما قد ينجم عنها على المدى القريب والبعيد... فالطمأنينة الاجتماعية والاقتصادية تمنحهم (العرب) من حيث يدرون أو لا يدرون متسعاً من الوقت للتفكير في أمور اجتماعية وقومية”([46]). وأرفق كينيغ مذكرته بالمقترحات التي تبرز وجهاً عنصرياً في السعي لإكراه العرب على مغادرة أراضيهم, أو إغراقهم في مشكلات العيش الصعب والمرير حتى لا يواكبوا قضاياهم الوطنية والقومية.
ومنذ السنوات الأولى, من إعلان الدولة, تركزت الإجراءات وسنّت القوانين, في سبيل التهويد, فقامت إسرائيل “ بنزع ملكية وحقوق العرب الذين غادروا وأصبحوا لاجئين. وقلصت ملكية وحقوق العرب الذين بقوا تحت الحكم الإسرائيلي. ومن أهم القوانين التي صدرت كما سبق وأشرنا قانون العودة لعام 1950 (بخصوص هجرة اليهود الى فلسطين وتمتعهم بحقوق كاملة), وقانون أملاك الغائبين لعام 1950 ايضاً ( بخصوص الأراضي العربية والمنازل والممتلكات التي غاب أصحابها عنها), وقانون أملاك الدولة لعام 1950 كذلك وقانون الجنسية لعام 1952 وقانون استغلال الأراضي لعام 1953”([47]).
وقد واجهت إسرائيل مشكلة جديدة بعد احتلالها الضفة الغربية وقطاع غزة في حرب عام 1967. فإضافة الى مشكلة الجليل الديموغرافية, ادخل الاحتلال كتلة بشرية كبيرة, فأصبحت رقعة الأرض التي تسيطر عليها الدولة تحتوي على عدد من العرب يهدد مبدأ “يهودية الدولة”. وكان الأمل معقوداً على هجرة كبيرة من يهود العالم الى إسرائيل بعد تلك الحرب, الا ان ذلك لم يتحقق كما هو مطلوب, ولم تحقق عملية الاستيطان البشري تناسباً مع الرقعة الجغرافية المحتلة. وتعويضاً عن ذلك, ومن أجل الاحتفاظ بالأرض, تحركت الآلة العسكرية بكل شراستها ووحشيتها لإغلاق الفراغ الحاصل. ومثلما كان الجيش عام 1948 أداة إنشاء الدولة “فهو أصبح منذ العام 1948 وما بعده أداة توسّع هذه الدولة”([48]).
وفي سبيل التخلص من عبء الديموغرافيا الفلسطينية بتبعاتها الأمنية والجغرافية, اعتمدت إسرائيل سياسة الجسور المفتوحة مع الأردن, التي تهدف الى إنجاز حركة استنزاف ديموغرافية ­اقتصادية. وتضمنت تلك التسهيلات إجراءات متشددة تعطل عودة الفلسطينيين المغادرين. أما تخطيطها الاستيطاني, فبسبب ضعفه العددي, كان يركز توزيعه في كتل او أطواق لخدمة استراتيجية “الفصل” بين الفلسطينيين و”الوصل” الاستيطاني اليهودي([49]).
وتجدر الإشارة هنا الى ان إسرائيل قد طرحت بعد حرب عام 1967 مشروعاً يعرف باسم “مشروع آلون” من أجل التسوية في الضفة والقطاع, وهو يهدف الى تخفيف العبء الديموغرافي ويركز في جوهره على مقولة “أكبر مساحة ممكنة من الأرض مع أقل عدد ممكن من السكان العرب”. ولكن التناقض بين التيارين الصهيونيين في إسرائيل اللذين ينادي أحدهما بـ “يهودية الدولة” والآخر بـ “ارض إسرائيل الكاملة” عرقل اتخاذ القرار المفضي الى حل سياسي للاحتلال.
وكان الليكود على رأس اليمين الصهيوني قد اعتقد انه من خلال غزوه للبنان عام 1982 سيحقق هدفه القومي في تغييب الفلسطينيين سياسياً من المعادلات ومن حلبة الصراع, وبذلك يضمن على الأقل انكفاء الحضور الرمزي والاعتباري للديموغرافيا الفلسطينية بصفتها تشكّل شعباً له حقوق على أرضه. الا ان الفترة منذ العام 1987 وحتى اليوم, شهدت تطوراً نوعياً حدّد أمن إسرائيل بالذات داخل الخط الأخضر, وتمثل في الانتفاضتين اللتين أثبتتا بهتان الزعم الإسرائيلي بان فلسطين هي “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.
والآن وبعد أكثر من مائة عام “لم تنجح الصهيونية في تجميع أكثرية يهود العالم في فلسطين. وبهذا يمكن القول ان المؤسسات الصهيونية قد فشلت في أداء دورها كما كان متوقعاً منها في إطار العمل الصهيوني العام”([50]).
وإذ بدت هجرة يهود الاتحاد السوفياتي السابق إنقاذاً لتدهور الهجرة اليهودية, فان أزمات داخلية نشأت عنها, مما دفع الى التحذير من عدم وجود تخطيط شامل لهذه المهمة حتى الآن في مجال السكن والأشغال, وقد اعتبر ذلك من الدلائل التي لا تبشر باستيعاب ناجح لليهود السوفيات. كما كشفت دراسة أعدتها دائرة الإنعاش في الهستدروت ان 50% من المهاجرين الجدد حصلوا على أعمال في إسرائيل أدنى من مستوى الأعمال التي كانوا يقومون بها([51]).
خلاصة القول ان الأمن الإسرائيلي داخل رقعة الدولة وفي رقعة الاحتلال, بات يشكل هاجساً حقيقياً وعميقاً لقادة إسرائيل, مصدره الخلل الواضح في التركيبة الديموغرافية, وبالتالي في آليات تطور المشروع الصهيوني نحو “الدولة اليهودية” ضمن إطار ما يسمى “ارض إسرائيل الكاملة”. ومن تداعيات هذا الخلل تبرز حقيقة المساعي المتناقضة للخروج من المأزق او التخفيف من احتدامه, وهي تتمثل بنوع خاص في برامج التسوية التي تطرحها أطراف المؤسسة السياسية والعسكرية صاحبة القرار في إسرائيل. وفي هذا السياق جاء مصرع اسحق رابين, وتهاوي الحكومات الإسرائيلية ذات العمر القصير تباعاً الواحدة تلو الأخرى مع رؤسائها من شامير الى شارون مروراً ببيريس ونتنياهو وباراك.

خلاصة واستنتاجات
تبين على ضوء ما تقدم, ان تهويد فلسطين, من البحر الى النهر, في الواقع الموضوعي, كان يستلزم مسارين متواكبين ومتكاملين: تهجير أعداد كبيرة من اليهود وتوطينهم فيها, وفي المقابل, تغييب شعبها عنها, بصورة او بأخرى. إلا ان مقاومة الشعب الفلسطيني للاستيطان اليهودي جعلت منهما مسارين متناقضين, الأمر الذي عرقل المشروع الصهيوني ومنعه من التطور بوتائر متسارعة كما كان يتمنى ارباب المشروع التوسعي الاكبر, وبالتالي تسبب في خلق أزمة استراتيجية ذات أبعاد قومية تمثلت بنوع خاص في استحالة تهويد فلسطين, طالما كان شعبها حاضراً, عسكرياً وثقافياً وسياسياً. والذي حصل هو أنه كلما حققت الصهيونية نقلة في بناء مشروعها الاستيطاني, عبر هجرة يهودية جديدة, أدى ذلك الى تصعيد ردة الفعل الفلسطينية, وبالتالي العربية, الأمر الذي انعكس بالضرورة سلباً على العمل الصهيوني في إطاره اليهودي القومي. وما من شك في ان المقاومة الفلسطينية بجميع أشكالها كانت عاملاً أساسيا في ردع وإحباط الهجرة اليهودية الى فلسطين حتى ولو بصورة نسبية, ولاسيما وأنها كانت سبباً فاعلاً في عملية نزوح المستوطنين الوافدين في حركة هجرة مضادة بالغة الأهمية. ولقد تبين بوضوح ان التزام القيادات الإسرائيلية عقائدياً وسياسياً بتهجير يهود العالم الى فلسطين وتوطينهم فيها, لم يقابله حماس جامح في أوساط المستوطنين القدامى لاستقبالهم واستيعابهم. وقد عبّر رئيس دائرة الاستيعاب في الوكالة اليهودية, غيورا يوسفتال, عن ذلك في مقولة مشهورة: “ان إسرائيل تريد الهجرة, غير ان الإسرائيليين لا يريدون المهاجرين”. وفي الواقع فان قطاعات واسعة, شعبية ورسمية, لم تكن ترغب في تدفق الهجرة الواسعة على البلد, وفضّل البعض ان تكون انتقائية, حسب مواصفات حاجة الدولة للطاقة البشرية. وقال رئيس الحكومة الأسبق ليفي اشكول “ان ارض إسرائيل صغيرة, ولا نستطيع ان نستقبل كل مهووسي يهود العالم”. وتذمر آخرون أيضاً من استقدام المرضى والعجزة والمسنين والمشكوك في يهوديتهم, الأمر الذي جعل نظرة الإسرائيليين الى المهاجرين الجدد شديدة التعقيد, ومشبعة بالتناقضات, ومشحونة بالعواطف, وطافحة بالأفكار المسبقة, مما أساء الى عوامل الوحدة الوطنية وشجع أكثر فأكثر عوامل التفكك والفرقة بين يهود اشكنازيين ويهود شرقيين ويهود من البيض وآخرين من السود ويهود متدينين وآخرين علمانيين, ويهود شوفينيين وآخرين يساريين ويهود أغنياء وآخرين فقراء وهكذا.
من هنا يتبين لنا ان الواقع الديموغرافي لم يكن هو الوحيد الذي قلب ظهر المجن لأصحاب فكرة “الأغلبية اليهودية في أرض إسرائيل” وجعل من النقاش في طابع وماهية هذه الأغلبية نقاشاً حول مستقبل أمن إسرائيل كدولة في الشرق الأوسط. فهناك الواقع السياسي المعقد داخل الكيان والناجم عن تشبث الإسرائيليين بأرض الميثولوجيا اليهودية وتبنيهم نهج اليمين في “محاورة” الفلسطينيين, الأمر الذي أدى الى انعدام فرص الحل في المدى القريب لاسيما ما يتعلق بقضايا لاجئي عام 1948 والقدس والمستوطنات. وغياب أو تغييب مثل هذا الحل لم يفض إلا الى تقدم فكرة الفصل بين الشعبين اليهودي والعربي خصوصاً في أعقاب تزايد اعتماد الفلسطينيين على العمليات الاستشهادية في محاربة الاحتلال وتصاعد وتيرة المواجهات العسكرية.
في ضوء ما تقدم تجدر الإشارة الى المبادرة التي قام بها “المركز المتعدد المجالات” في هرتسيليا من أجل عقد مؤتمر دراسي سياسي بتطلعاته تحت عنوان “ميزان المناعة والأمن القومي” بمشاركة مجموعة كبيرة من الشخصيات السياسية والأمنية والأكاديمية (شارون, بيرس, باراك, نتينياهو, موفاز, وأفرايم هاليفي رئيس الموساد سابقاً). وقد أطلق البرفسور أرنون سوفير, أستاذ الجغرافيا في جامعة حيفا أثناء المؤتمر تحذيراته الساخرة من أن “الساعة الديموغرافية حول إسرائيل تتسارع بوتيرة الفهد, بينما يتسارع اتخاذ القرارات القومية بوتيرة السلحفاة في أحسن الأحوال”[52], مضيفاً أن “بإمكان النزاع أن يتواصل, لكننا نتناقص مع المزولة (الساعة الرملية) الديموغرافية, لذلك يجب على إسرائيل اتخاذ قرار شجاع وصعب للغاية والمبادرة الى فصل أحادي الجانب”.
لم يكن سوفير هو الوحيد الذي طرح فكرة الفصل, وبالإمكان القول ان تطور الواقع الديموغرافي_السياسي في البلاد, خلافاً لتطلعات المشروع الصهيوني, قد عمّق المخاوف من الزحف العربي على الدولة اليهودية, بعد ان تبلورت مجموعات سكانية عربية فلسطينية في مناطق التماس بالتحديد, محولة بعض التجمعات السكنية اليهودية الى جزر صغيرة في محيط عربي كبير, تماماً كما هي عليه الحال اليوم بالنسبة للمستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهذا ناجم بالطبع عن سياسة زرع الاستيطان اليهودي في كل مكان, في الخليل كما في الجليل, بصورة تعسفية استفزازية, الى جانب غياب أفق سياسي للحل مع حكومة إسرائيلية يمينية بقيادة آرييل شارون مما يجعل الواقع الديموغرافي المركّب يشجع على فكرة الفصل التي اعتمدها شارون بصورة جزئية في الجدار الفاصل ويعتمدها زعيم حزب العمل الحالي عميرام متسناع كمشروع استراتيجي للحل تلافياً للتدهور والفوضى التي يمكن ان تنتشر في كل الاتجاهات.
ومن المؤكد أن “الآباء المؤسسين” للصهيونية لم يحلموا بواقع فوضوي مختلط كهذا.وهناك شهادات ووثائق تدل على أنهم حرصوا كثيراً على تجنّبه. فقبل نصف قرن امتنع دافيد بن غوريون, مؤسس الدولة اليهودية, عن ضم العرب الفلسطينيين المتبقين في وطنهم بعد عمليات الترحيل في السنوات 1948­1949 خشية حصول دمج بين مناطق الدولة اليهودية والتجمعات العربية الكبيرة. ويشير الأستاذ الجامعي دان تشفتين في كتابه “حتمية الفصل” الصادر عن جامعة حيفا عام 1999 الى أن بن غوريون في أواخر ما يسمى “حرب الاستقلال” امتنع عن احتلال “البلاد كلها مع أن القوة العسكرية كانت تسمح بذلك. وقد دل هذا القرار التاريخي على الأهمية التي أولاها لتجنب نهش ما لا يمكن ابتلاعه, ومدى الخطورة الكامنة في تجربة ابتلاع ما لا يمكن هضمه من الأساس”. وفي نظرة الى الوراء, يبدو أن عدوان الخامس من حزيران 1967 قد فتح شهية حكومة إسرائيل برئاسة ليفي أشكول على الإبتلاع, مما جعلها تحصل على أكثر من مليوني فلسطيني إضافي في ما يسمى “أرض إسرائيل الغربية” وهذا كان في خطوة تمرد سافر على رغبة أولئك “الآباء” المؤسسين, مما أوقع الجميع في المأزق السياسي الأمني الدامي, المتوالية وقائعه وأحداثه الجسيمة والمأساوية يومياً في حرب وجود مفتوحة على أخطر الإحتمالات, ليس فقط على مستوى العلاقات الفلسطينية_ الإسرائيلية بل أيضاً على مستوى محنة الحسم الجيوسياسي التاريخي في المنطقة كلها.


[1]  فلسطين تاريخها وقضيتها, مؤسسة الدراسات الفلسطينية, الطبعة الأولى, 1983ص133.

[2]  المصدر نفسه ص 135.

[3]  أحمد السيد النعماني, التركيب الاجتماعي للمجتمع الإسرائيلي وأثره على الشق السياسي 1948_1975, مكتبة نهضة الشرق, القاهرة,1980 ص 81 و82.

[4]  Gilbert, M, the arab_israeli conflict: its history in maps (writen feld and nicolson, london, fifth edition) p.136.

[5]  عبد الفتاح محمد ماضي, الدين والسياسة في إسرائيل, مكتبة مدبولي 1999 ص 25.

[6]  انظر معين حداد “الشرق الأوسط” دراسة جيوبوليتيكية, قضايا الأرض والنفط والمياه شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بيروت 1996.

[7]  معين حداد, أرض لا تهدأ, الرهانات الجيوبوليتيكية, شركة المطبوعات للتوزيع والنشر الطبعة الأولى 2002 ص 26.

[8]  المصدر السابق ص 27.

[9]  Michel fouchet :israel-palestine quelles frontieres - herodot no:29-30 paris .1983

[10]  معين حداد أرض لا تهدأ, مصدر سابق ص 28.

[11]  مجلة الأرض, دمشق, العدد الرابع نيسان 2002 ص 10 وما بعدها.

[12]  مجلة الأرض, العدد الرابع مصدر سابق ص 13.

[13]  مجلة الدراسات الفلسطينية, صيف 1991, العدد 7 ص 221­222.

[14]   انظر نور الدين مصالحة, أرض أكثر وعرب أقل, سياسة الترانسفير الإسرائيلية في التطبيق 1849­1996, مؤسسة الدراسات الفلسطينية, بيروت 1997.

[15] دليل إسرائيل العام, مؤسسة الدراسات الفلسطينية, الطبعة الثالثة 1997 ص 39.

[16]  مجلة الدراسات الفلسطينية, العدد الثاني, بيروت ربيع 1990 ص 18 وانظر أيضاً مجلة الفكر الاستراتيجي العربي العدد 34 تشرين الأول / أكتوبر 1990 ص 213.

[17]  انظر أيضاً د. صالح زهر الدين, مشروع إسرائيل الكبرى بين الديموغرفيا والنفط, المركز العربي للأبحاث و التوثيق ص 15 و 16.

[18]  عبد الحليم قنديل, مقال بعنوان: الأمن العرب و الحرب الإسرائيلية المقبلة, مجلة الشاهد العدد 59­60 تموز / آب يوليو­ أغسطس 1990 ص 19.

[19] مجلة الدراسات الفلسطينية العدد الأول, بيروت شتاء 1990 ص 117 ومجلة الفكر الاستراتيجي العربي العدد 33 تموز / يوليو 1990 ص 193.

[20]  المصدر نفسه ص 131­132.

[21]  هآرتس 8 /3 /1990.

[22]  مجلة الشاهد العدد 59­60 تموز­آب 1990 ص 18.

[23]  مذكرات دافيد بن غوريون المجلة الرابع ص 299.

[24]  هآرتس 17 /8 / 1988 ومجلة الدراسات الفلسطينية العدد الأول شتاء 1990 ص 136.

[25]  عبد الحليم قنديل, مجلة الشاهد العدد 59­60, 1990 ص 22.

[26]  نور الدين مصالحة “طرد الفلسطينيين” مؤسسة الدراسات الفلسطينية بيروت الطبعة الأولى 1992 ص 25 وانظر أيضاً 53و55.

[27] مذكرات بن غوريون, تل أبيب عام عوفيد 1971­1972 المجلد الثالث ص 161.

[28]  انظر زانغويل.

[29]  نور الدين مصالحة, مصدر سابق ص 19.

[30]  المرجع نفسه.

[31]  د. صالح زهر الدين, مشروع إسرائيل الكبرى, مصدر سابق ص 90.

[32]  د. معين حداد, أرض لا تهدأ, مصدر سابق ص 32.

[33]  المصدر نفسه.

[34]  Alain,Gersh_dominique virlol, les cents portes de proche_orient.L?atelier paris 1996

[35]  كتاب باحث للدراسات السنة الأولى العدد 1 ص 179.

[36]  المصدر نفسه.

[37]  لمزيد من التوسع انظر موقع الجهاز الإحصائي على الإنترنت موقعhttp\\www.pcbs.org

[38]  صحيفة النهار 9 /1/2003.

[39]  المصدر نفسه.

[40]  يديعوت أحرنو 11//2003.

[41]  صحيفة الوطن السعودية 6/12/2000.

[42]  مجلة الدراسات الفلسطينية شتاء 1999 العدد 37 ص 56.

[43]  المصدر السابق ص 57 و58 وانظر أيضاً كتاب باحث للدراسات العدد 1 السنة الأولى ص 189.

[44]  محمود ميعاري دليل إسرائيل العام, ومرجع سابق ص 50.

[45]  المصدر السابق.

[46]  يسرائيل كيينغ, مذكرة بشأن الخطر الديموغرافي الذي يمثله العرب في الجليل, شؤون فلسطينية العدد 60 بيروت ص 167­184.

[47]  أنيس شقور, النظام القانوني والنظام القضائي, دليل إسرائيل العام مرجع سابق ص 5.

[48]  علي الدين هلال, تكوين إسرائيل (القاهرة_دار الهلال 1980) ص 135.

[49]  خالد عايد, الوجود الاستيطاني في الأراضي المحتلة, دليل اسرائيل مرجع سابق ص 337­338.

[50]  د. الياس شوفاني, التسوية المحطة (دمشق: دار النبرات للدراسات الفلسطينية 1983. ص 2 وانظر أيضا الياس شوفاني, إسرائيل في خمسين عاماً ج1 ص 454 دار جفر للدراسات و النشر.

[51]  سمير جبور, الهجرة الجماعية ليهود الاتحاد السوفيتي الى اسرائيل, مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 2 بيروت ربيع 1990 ص 214­215.

[52]  إسرائيل: ديموغرفيا 2000 - ­2020 مخاطر واحتمالات, أوراق إسرائيلية رقم 7, بقلم أرنون سوفير ترجمة وتقديم محمد حمزة غنايم ص 9.
مؤسسة بحثية حديثة العهد احتضنت مختلف الجنرالات المتقاعدين من الجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية, وعدداً كبيراً من خبراء الصراع والأساتذة الجامعيين, وفي مقدمتهم آرنون سوفير وسرجيو دي لا فرغولا.