- En
- Fr
- عربي
علوم وتقنيات
ثورة تكنولوجية في خدمة العدالة
شهد الذكاء الاصطناعي تطورًا هائلًا في العقود الأخيرة، مما جعله عنصرًا أساسيًا في العديد من المجالات، ومنها الطب الشرعي. بفضل قدرته على تحليل كميات ضخمة من البيانات بدقّة وسرعة، أصبح الذكاء الاصطناعي أداة واعدة في تحديد الهوية، وتحليل الأدلة، وإعادة بناء الحوادث الجنائية. في هذا السياق، يبرز دوره في طب الأسنان الشرعي، حيث يمكنه تعزيز دقة التحليلات وتقليل هامش الخطأ مقارنةً بالطرق التقليدية.
يُعتبر الذكاء الاصطناعي من أبرز الابتكارات التكنولوجية التي أحدثت تحولًا جذريًا في مختلف المجالات في عصرنا الحديث، بدءًا من الرعاية الصحية مرورًا بالعلوم والطب وصولًا إلى القطاعات الاجتماعية والتجارية. يهدف الذكاء الاصطناعي إلى محاكاة الأنماط العقلية البشرية عبر تطوير أنظمة قادرة على التفكير، التعلم، واتخاذ القرارات بشكل مستقل.
تعود بدايات الذكاء الاصطناعي إلى منتصف القرن العشرين، وتحديدًا إلى العام 1956، حين عُقِد مؤتمر «دارتموث» في الولايات المتحدة الأميركية، وهو الحدث الذي شكّل بداية رسمية لهذا المجال. خلال المؤتمر، طرح علماء أمثال جون مكارثي وآلن نيويل وهيربرت سايمون مفهوم الذكاء الاصطناعي، مستندين إلى فكرة تطوير أنظمة تملك القدرة على التفكير وحل المشكلات بطريقة مشابهة للبشر. ومن هنا، بدأت أولى التجارب العملية لتطوير الأنظمة الذكية.
في البداية، كانت القدرة على الوصول إلى الذكاء الاصطناعي محدودة جدًا، إلّا أنّه أصبح متاحًا للجميع مع بداية الألفية الجديدة، بفضل تقدم التكنولوجيا وزيادة قدرة المعالجات الحاسوبية. ومنذ العقد الأخير، أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، إذ يُستخدم في الهواتف الذكية، المساعدات الشخصية الافتراضية، السيارات ذاتية القيادة، وتطبيقات البحث والخرائط، فضلًا عن استخدامه في مجالات متقدمة مثل الطب، والتجارة الإلكترونية، وأبحاث الفضاء.
نقلة نوعية في الطب الشرعي
في المجال الطبي، أثبت الذكاء الاصطناعي فاعليته في التشخيص والعلاج، كما بدأ يجد طريقه إلى الطب الشرعي، بما في ذلك طب الأسنان الشرعي. يُعد هذا التخصّص من الأدوات الحيوية في الكشف عن الهوية، تحليل الأدلة الجنائية، وتقديم المعلومات المهمّة التي قد تكون حاسمة في مسار التحقيقات الجنائية.
يُذكر في هذا الإطار، أنّ الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يُحدث تحولًا جوهريًا في كيفية تحليل الأدلة والربط بين المعلومات المختلفة. فمن خلال تقنيات التعرف على الأنماط والمقارنة الدقيقة، أصبح بالإمكان التعرف على الهوية، تقدير العمر، تحديد الجنس، بل وحتى توقّع ومقارنة الأضرار التي تلحق بالأسنان في الحوادث أو الجرائم.
هامش الخطأ بين الإنسان والذكاء الاصطناعي
في مجال الطب الشرعي، وخصوصًا في طب الأسنان الشرعي، هناك فارق كبير بين الإنسان والذكاء الاصطناعي من حيث هامش الخطأ. فأطباء الأسنان الشرعيون يتمتعون بخبرة واسعة في تحليل الأدلة، مثل الأسنان والجماجم، من خلال فحص الخصائص الفريدة للأسنان بما في ذلك الحشوات، التآكل، التشوّهات الوراثية، والأنماط المختلفة. مع ذلك، هناك دائمًا حدود للقدرات البشرية. فرغم أنّ الأطباء ذوي الخبرة قادرون على إجراء تقييمات دقيقة، إلّا أنّهم يعتمدون على الذاكرة والتفسير الشخصي، ما يمكن أن يسبب أخطاء بشرية ناتجة عن الإرهاق، التحليل غير الدقيق، أو حتى الانحياز. وقد يراوح هامش الخطأ البشري بين أخطاء طبية بسيطة وأخرى أكثر تعقيدًا تؤثر في استنتاجات الطب الشرعي. وقد يكون التفسير غير دقيق في بعض الحالات بسبب صعوبة تمييز تبدلات بسيطة في الأسنان أو عوامل متغيرة.
في المقابل، فإنّ الذكاء الاصطناعي قادرٌ على معالجة كميات ضخمة من البيانات بشكلٍ أسرع وأكثر دقة، مثل فحص الصور الشعاعية للأسنان أو مقارنة سماتها البنيوية في ملفات متعددة في آن واحد. ومع تقدّم تقنياته، وتحديدًا لجهة التعلّم العميق، وتعلّمه من أخطاء سابقة، بات بإمكان الذكاء الاصطناعي تقديم نتائج أكثر دقّة بوتيرة سريعة جدًا.
ومع ذلك، لا يخلو الذكاء الاصطناعي من هامش الخطأ، الذي قد ينشأ نتيجة نقصٍ في البيانات، أو أخطاء في التدريب على مجموعات بيانات غير تمثيلية، أو تداخل في نتائج الصور الطبية. كما أنّه يعتمد على الجودة الكاملة للبيانات المدخّلة، لذلك فإنّ أي خطأ فيها قد يؤدي إلى استنتاجات غير دقيقة.
في النتيجة، قد يكون هامش الخطأ في الطب الشرعي البشري أكبر نظرًا لارتباط التفسير بالعوامل البشرية مثل الإرهاق أو النسيان أو الانحياز الشخصي، فيما يقدّم الذكاء الاصطناعي تحليلات دقيقة، ولكنّه قد يخطئ في حالة البيانات غير المكتملة أو التفاعلات التي لم يتدرب عليها. أمّا في حال التدريب الجيد والبيانات المناسبة، فيمكن أن يكون هامش خطئه أقل بكثير من هامش الخطأ البشري. لذا، يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كأداة داعمة تعزّز دقة التحليل في الطب الشرعي، لكنه لا يُغني عن الدور الأساسي للإنسان في تفسير الحالات المعقّدة وتحليلها.
تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الطب الشرعي
تحديد الهوية باستخدام الأسنان
في الحالات التي يصعب فيها التعرف على الشخص من خلال ملامح الوجه أو بصمات الأصابع، بسبب الحروق الشديدة، التشوّهات أو الحالات الأخرى التي تؤدي إلى تغيرات جسدية جسيمة، تصبح الأسنان من الأدلة الثابتة والموثوقة. وهنا يبرز دور الذكاء الاصطناعي، إذ تُستخدم تقنيات التعرف على الأنماط ومقارنة الأشكال لتحليل الصور الشعاعية للأسنان ومقارنتها مع قواعد البيانات الكبيرة التي تحتوي على سجلات أسنان الأفراد. يتيح ذلك إمكان التعرف على الهوية بناءً على معايير دقيقة مثل شكل الأسنان، التكوين الهيكلي، وأماكن الحشوات أو الكسور. كما أنّ هذه الأنظمة قادرة على إجراء مقارنة سريعة وموثوقة بين الأسنان المأخوذة من الجثث وسجلات الأشخاص المفقودين. وما يميّز هذه الطريقة هو إمكان تطبيقها على الصور الشعاعية، كما يمكن تطبيقها من خلال مقارنة صور فوتوغرافية قديمة للضحية مع الرفات أو البقايا الموجودة. من هنا تبرز أهمية إعداد قائمة بيانات مسبقة للأفراد، لأنّه في حال عدم وجود أي مصدر للمقارنة، سيضطر الخبراء إلى استعمال الطرق التقليدية القديمة.
أحد أبرز الأمثلة على استخدام الذكاء الاصطناعي في تحديد الهوية هو «الأودونتوغرام الحاسوبي»، وهو نظام متطور يدمج تقنيات الذكاء الاصطناعي مع قواعد بيانات غنية تحتوي على صور الأسنان ومواصفات دقيقة حول الأسنان البشرية. من خلال استخدام خوارزميات التعلم العميق، يتمكن النظام من مقارنة صور الأسنان (الشعاعية أو الفوتوغرافية)، المأخوذة من جثث الضحايا ومقارنتها بسجلات الأشخاص المفقودين، ما يساعد في تحديد الهوية بدقة كبيرة.
تحليل الأسنان للكشف عن المعلومات البيولوجية
لا يقتصر استخدام الذكاء الاصطناعي في طب الأسنان الشرعي على تحديد الهوية، بل يُستخدم أيضًا في تحليل الأسنان لتحديد العمر البيولوجي، والجنس، وحتى العرق في بعض الحالات. تعتمد هذه التقنيات على خوارزميات التعلّم الآلي التي تدقّق في التغيرات الهيكلية للأسنان وتُستغل بشكل رئيسي في التحقيقات الجنائية.
في إحدى الدراسات التي أُجريت في جامعة «كامبريدج» في المملكة المتحدة، تم تطبيق خوارزميات التعلّم العميق على صور الأشعة السينية للأسنان، باستخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل التغيرات في تكوين الأسنان والأنسجة المحيطة بها، مثل تطور التسوّس والتآكل. وقد أسهم ذلك في التوصل إلى تقديرات دقيقة للعمر البيولوجي للأفراد، وهو أمر بالغ الأهمية في التحقيقات الجنائية، خصوصًا في قضايا الأطفال أو الأشخاص المفقودين.
وفي جامعة أوهايو، أُجريت دراسة أخرى استخدمت الذكاء الاصطناعي لتحليل صور الأشعة السينية للأسنان بهدف تقدير أعمار الأشخاص. اعتمدت الدراسة خوارزميات التعلم العميق لتحليل التغيرات في طبقات الأسنان، مثل تآكل المينا ونمو الأسنان، وقد أظهر هذا النظام دقة عالية في تحديد الأعمار، ما جعله أداة مهمة في تحديد أعمار الضحايا الذين لا يمتلكون سجلات رسمية أو هوية واضحة. وتُعد هذه التقنية مفيدة بشكل خاص في قضايا الأطفال والمراهقين.
في السياق، ساعد الذكاء الاصطناعي في تحديد الجنس بناءً على خصائص الأسنان، إذ استطاعت بعض الأنظمة المدعَّمة بالذكاء الاصطناعي تمييز جنس الأفراد بناءً على شكل الأسنان. يمكن لهذا الأمر أن يساعد في تحديد معالم بيولوجية دقيقة، وهو مفيد في التحقيقات الجنائية التي تتطلب المزيد من المعلومات حول الضحايا أو المشتبه بهم.
إلى ذلك، أظهر الذكاء الاصطناعي قدرته على تحليل تأثير العادات المختلفة على الأسنان، مثل تناول الأطعمة الحمضية لفترات طويلة، مضغ التبغ، أو غيرها من العادات التي تترك بصماتها على بنية الأسنان. فبعد تدريب الأنظمة على مجموعة واسعة من الصور والبيانات، باتت قادرة على تحليل أي صورة جديدة بدقة ومقارنتها مع قاعدة بيانات ضخمة، مما يسهم في استخلاص استنتاجات دقيقة حول الفرد بناءً على حالة أسنانه.
التعرف على الوجوه باستخدام الذكاء الاصطناعي
أصبحت تقنية التعرف على الوجوه من الأدوات الأساسية في تطبيقات الأمن والمراقبة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد هوية الأشخاص في الأماكن العامة، ولا سيّما في المطارات حيث تعتمد لتسريع حركة المسافرين وضمان إجراءات أمنية أكثر كفاءة. فبفضل الذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان التحقق من بصمة الوجه بسرعة ودقة عالية وتأكيد هوية المسافر من خلال مقارنة البصمة مع قاعدة البيانات المخزّنة. إذ يتم التعرف على المسافرين من خلال كاميرات ذكية مزوَّدة أنظمة الذكاء الاصطناعي، التي تقارن ملامح الوجه بالصور الموجودة في جوازات السفر. أسهم هذا النظام في تقليل الوقت الذي يستغرقه المسافر في إجراءات التفتيش، وأصبح بإمكان المسافرين المرور عبر البوّابات الإلكترونية من دون الحاجة إلى تدخّل مباشر من عناصر الأمن.
تُعتبر تقنية بصمة الوجه إحدى أدوات الذكاء الاصطناعي البارزة كونها تعتمد على الخصائص الفريدة لكل وجه بشري، وهي واحدة من أكثر تقنيات الذكاء الاصطناعي انتشارًا اليوم وخصوصًا في المجالات الاستخباراتية والأمنية.
محاكاة الذكاء الاصطناعي للحوادث أو الاعتداءات
تُعد محاكاة الحوادث باستخدام الذكاء الاصطناعي واحدة من الأدوات المتقدمة في تحليل المشاهد الجنائية، إذ تقوم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بتحليل البيانات الواردة من مختلف المصادر مثل كاميرات المراقبة، صور الجريمة، النتائج الطبية للضحايا، وسجلات الشهادات الشفوية أو المكتوبة. ويتم تدريب النماذج الحاسوبية على هذه البيانات لإعادة بناء سيناريو الحادث بناءً على الأدلة المتاحة.
على سبيل المثال، يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاة حركة الأجسام في موقع الحادث وتحليل تأثير القوى الفيزيائية مثل سرعة الحركة، الزوايا، والاصطدامات لتحديد كيفية وقوع الحادث. إحدى الفوائد الكبرى لهذه المحاكاة هي إمكان مقارنة النتائج التي توصل إليها الذكاء الاصطناعي مع الشهادات أو البيانات التي تم جمعها من التحقيقات التقليدية. فعلى سبيل المثال، قد يقدّم المعتدي أو الضحية رواية معينة حول الحادث، وعند استخدام الذكاء الاصطناعي لمحاكاة الحادث بناءً على الأدلة الفيزيائية، يمكن التحقق ما إذا كانت تلك الرواية تتوافق مع البيانات الحقيقية مثل موقع الضحية، اتجاه الحركات، وأثر الاصطدام، مما يتيح التأكد من مدى مصداقية الأدلة والشهادات.
التحديات المستقبلية
على الرغم من التطورات الكبيرة في استخدام الذكاء الاصطناعي في الطب الشرعي وطب الأسنان الشرعي، ما زالت هناك تحديات في هذا المجال، أبرزها نقص قواعد البيانات، التي تُعد نقطة ارتكاز أساسية يعتمد عليها الذكاء الاصطناعي، بخاصة في مجال طب الأسنان الشرعي. فهذه القواعد يجب أن تضم معلومات دقيقة وشاملة عن الأسنان، إلّا أنّها في بعض الحالات تكون غير كافية أو غير دقيقة بما فيه الكفاية، مما يؤثر على قدرة الأنظمة على الوصول إلى استنتاجات دقيقة.
إلى ذلك، يثير الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي في الطب الشرعي مخاوف تتعلق بالخصوصية والأخلاقيات، خصوصًا في ما يتعلق بحماية البيانات الشخصية. فالبيانات الطبية تُعد من أكثر المعلومات حساسية، ما يستدعي الالتزام الصارم بالقوانين والتشريعات المعمول بها، مثل قوانين حماية البيانات، وهو ما قد يشكّل عائقًا أمام جمع هذه البيانات وتخزينها.
ومع ذلك، هناك العديد من الفرص التي يمكن أن تجعل هذا المجال أكثر إفادة ودقة وفعالية لمساعدة الأطباء في الوصول إلى نتائج دقيقة في وقت أسرع، مثل التكامل بين الذكاء الاصطناعي والتقنيات الأخرى وقدرة هذا الذكاء على التعلّم المستمر والتكيّف مع الحالات الجديدة مما يؤدي الى تحسين دقة التشخيص والتوثيق وإصدار النتائج.
رغم التحديات التي تواجه الذكاء الاصطناعي في مجالات الطب الشرعي وطب الأسنان الشرعي، إلّا أنّ الفرص المستقبلية في هذا المجال تتزايد بشكل كبير. فمن خلال تحسين قواعد البيانات، وتطوير التقنيات المتكاملة، والاستفادة من التعلم المستمر، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح أداة حاسمة في تحليل الأدلة، وتعزيز دقة التحقيقات، وتحقيق العدالة بشكلٍ أكثر فعالية وكفاءة.











