شؤون اقتصادية

الذهب يواصل التحليق مسجّلاً أرقامًا جديدة في أسواقه والعالم يتجه نحو المعدن الأصفر للاستثمار الآمن
إعداد: د. تراز منصور

يشهد المعدن الأصفر تحوّلًا لافتًا في موقعه ضمن خارطة الاستثمار العالمية، وقد بات قُبلة أنظار جميع المستثمرين حول العالم اليوم بصفته الملاذ الآمن خلال الأزمات والاضطرابات الأمنية وحالات عدم الاستقرار الاقتصادي والجيوسياسي. ونتيجة للطلب المتزايد عليه، تجاوز سعر الأونصة الـ 3200 دولار في نيسان الفائت، في سابقة تاريخية لم تشهدها أسواق الذهب من قبل.

 

سجّل الذهب في العام 2024 متوسط سعر بلغ 2663 دولارًا للأوقية في الربع الرابع، ليصل متوسط السعر السنوي إلى 2386 دولارًا للأوقية. وما لفت الانتباه هو ارتفاع الطلب على الذهب من حيث القيمة، إذ قفزت التداولات العالمية إلى مستويات تاريخية، مسجلةً قيمة ربح سنوية بلغت 111 مليار دولار، لتصل القيمة الإجمالية للتداولات خلال العام إلى 382 مليار دولار، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ السوق.

يوضح المنسّق والأستاذ المحاضر في كلية إدارة الأعمال في جامعة البلمند، والأستاذ في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية، الدكتور شادي خنيزير، أنّ الأسباب الكامنة وراء ارتفاع أسعار الذهب إلى مستويات قياسية، قد تعود إلى تصاعد التوترات في الشرق الأوسط وتزايد المخاطر الاقتصادية العالمية، إضافةً إلى الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي تشمل ضريبة بنسبة 25% على المواد الصلبة والألومنيوم. وقد أسهمت هذه العوامل مجتمعةً في زيادة الطلب على الذهب، كملاذٍ آمن، وارتفاع نسبة التضخم وخلق أجواء من عدم اليقين والتباطؤ في النمو الاقتصادي.

وأكّد خنيزير أنّ الذهب لا يزال الملاذ الآمن في ظل الأزمات والحروب التجارية، إذ يميل المستثمرون إلى اللجوء إليه كوسيلة للتحوّط ضد المخاطر في ظل تزايد الضبابية الاقتصادية. وفيما نفى وجود علاقة مباشرة واضحة بين الرسوم الجمركية وسعر الذهب في الاحتياطيات الأميركية، أوضح أنّ هذه الرسوم يمكن أن تترك أثرًا غير مباشر على الطلب العام في السوق، نظرًا إلى مكانة الذهب كملاذٍ تقليدي في الأوقات المضطربة. وقد شهدت الأسواق هذا النمط من التفاعل في محطات تاريخية عدة تخلّلتها توترات تجارية واقتصادية ناجمة عن سياساتٍ معينة. من أبرز هذه المحطات:

1- حرب الرسوم في ثلاثينيات القرن الماضي (1929-1939)، حين فرضت الولايات المتحدة رسوم حماية مرتفعة مثل قانون «سموت-هاولي». تسبّبت هذه الرسوم في انكماش التجارة العالمية وارتفاع معدلات البطالة. وفي ظل هذا الوضع، الذي ترافق مع تفاقم الكساد الكبير، ارتفع الطلب على الذهب كملاذٍ آمن، ممّا أسهم في ارتفاع الأسعار.

2- الأزمة المالية العالمية (2008)، التي تسبّبت بانهيارت واسعة في الأسواق المالية، ولجأت الحكومات على أثرها إلى سياسات نقدية مرنة كخفض أسعار الفائدة وشراء الأصول. هذا التوجه دفع المستثمرين إلى الذهب كوسيلة للتحوّط من التقلبات الاقتصادية، مما أدى إلى ارتفاع حاد في قيمته، لا سيما في ظل تراجع ثقة الأسواق بالعملات.

3- أزمة اليورو (2010)، التي نشأت بفعل الأزمات المالية المتتالية في اليونان ودول أخرى في منطقة اليورو، حيث تمّ فرض تدابير تقشّفية صارمة، وخُلقت حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي، ما عزّز الطلب على الذهب كملاذٍ آمن للمستثمرين يعوّض حالة التقلّب في الأسواق.

4- الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين (2018-2020)، حين فرضت الولايات المتحدة رسومًا جمركية على الواردات الصينية، ما أدّى إلى تصعيد التوترات التجارية، وحدوث تقلّبات ملحوظة في الأسواق العالمية. وقد انعكس هذا الوضع مجددًا بزيادة الطلب على الذهب وارتفاع أسعاره.

وفي هذا السياق، يسعى الرئيس ترامب اليوم إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، من خلال فرض تعريفات جمركية تُعد الأشد وطأة والأكثر انتشارًا في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، وربما أوسع نطاقًا من تعريفات سموت-هاولي في العام 1930، والتي وصفها المؤرخون بـ «أنّها أدت إلى أزمة الكساد الكبير».

وأكّد الدكتور خنيزير أنّ الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب تُعد جزءًا من استراتيجية أشمل تهدف إلى تعزيز الاقتصاد الأميركي على حساب منافسيه. وقد تؤدي هذه السياسات إلى تصعيد التوترات التجارية وتؤثر في الأسواق العالمية.

 

سعر ثابت للذهب في أميركا

وعن مدى صحة القول بأنّ سعر أونصة الذهب في الولايات المتحدة ما زال أدنى بكثير من السعر العالمي، أوضح الدكتور خنيزير أنّ السعر الثابت للذهب في الاحتياط الأميركي يعود إلى العام 1934، إذ تمّ تحديده حينها بـ 35 دولارًا للأوقية، في إطار نظام الذهب العالمي. وقد استمر العمل بهذا السعر حتى العام 1971، عندما قررت الولايات المتحدة التخلّي عن معيار الذهب، ما أدى إلى تحرير سعره في السوق العالمية.

حاليًا، يحتفظ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بسعر ثابت للذهب قدره 42.22 دولارًا للأوقية، وهو السعر الذي تمّ تحديده في العام 1973، ويُستخدم لتقييم احتياطات الذهب في الميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي، رغم أنّ السعر الفعلي في الأسواق يتغير باستمرار.

ويعود هذا السعر الثابت في احتياطات الولايات المتحدة إلى النظام المالي الذي كان معمولًا به في الماضي، عندما كانت الحكومات تربط عملاتها بالذهب، الأمر الذي حتّم عليها ضرورة الحفاظ على سعرٍ ثابت. لذا، فإنّ تغييره اليوم، ليتماشى مع قيمته السوقية الحالية، قد يؤدي إلى تقلبات حادة في الأسواق المالية العالمية، وقد يؤثر سلبًا في الاقتصاد الأميركي ويخلق أجواء من عدم الاستقرار.

وأشار خنيزير إلى احتفاظ الولايات المتحدة الأميركية باحتياطيات من الذهب، كجزءٍ من استراتيجيتها الاقتصادية. وبالتالي، فإن رفع السعر الرسمي للذهب قد يُضعف الثقة بالدولار الأميركي كعملة احتياطية عالمية، ويؤدي إلى تضخم في حجم الدين العام بصورة غير متناسبة، ما سينعكس سلبًا على الميزانية الفيدرالية.

في الوقت الحالي، لا تحتاج الولايات المتحدة إلى تعديل في سعر الذهب في احتياطياتها، إذ أنّ الدولار الأميركي ما زال قويًا ويُستخدم على نطاق واسع في التجارة الدولية. وبناءً على هذه المعطيات، يبدو أنّ إبقاء سعر الذهب في احتياطات الولايات المتحدة عند 42.22 دولارًا للأوقية هو قرار استراتيجي يهدف إلى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والمالي.

ولفت الدكتور خنيزير إلى وجود عدة عوامل قد تدفع إلى إعادة تقييم سعر الذهب المعتمد في الاحتياطي الفيدرالي، مشيرًا إلى أنّ قرارًا كهذا يُعتبر بالغ التعقيد، ويتطلب دراسة معمّقة للظروف الاقتصادية والسياسية العالمية. ومن أبرز العوامل المذكورة:

- تغييرات في السياسة النقدية: في حال قررت الحكومة الأميركية أو الاحتياطي الفيدرالي تغيير استراتيجياتهما النقدية بشكلٍ جذري، قد يتمّ النظر في إعادة تقييم سعر الذهب كجزءٍ من هذه السياسات.

- الأزمات الاقتصادية: في حالات الانهيارات المالية الكبرى أو الأزمات الاقتصادية الحادة، قد يُستخدم الذهب كأداة لتعزيز الثقة بالنظام المالي، ما يدفع نحو إعادة تقييم قيمته الرسمية.

- التضخم المرتفع: في حال شهد الاقتصاد الأميركي تضخّمًا مفرطًا، قد تُطرح فكرة تعديل سعر الذهب الرسمي بوصفه وسيلة تحوّط من تآكل قيمة العملة.

- التغيرات الجيوسياسية: قد تؤثر التوترات الجيوسياسية على الاستقرار المالي، مما يستدعي إعادة النظر في قيمة الأصول.

- التوجهات العالمية: إذا اتجهت دول أخرى إلى إعادة تقييم احتياطياتها من الذهب، قد يشعر الفيدرالي بالضغط للقيام بخطوة مماثلة حفاظًا على التوازن في الأسواق المالية.

وتوقّع الدكتور خنيزير استمرار ارتفاع أسعار الذهب في المرحلة المقبلة، في ظلّ التوترات الجيوسياسية والاقتصادية المتصاعدة، باعتباره الملاذ الآمن للمستثمرين. ومن المرجح أن تؤدي السياسات التجارية، مثل الرسوم الجمركية، إلى تفاقم عدم اليقين الاقتصادي ممّا يعزّز الإقبال على الذهب. كما أنّ أي أزمة مالية أو اقتصادية جديدة، قد تؤدي إلى تحفيز استثمارات أكبر في الذهب كوسيلة للتحوّط في المستقبل. وفي حال تطلبت الظروف تغييرات جذرية في السياسة النقدية، قد يلجأ الاحتياطي الفيدرالي إلى إعادة تقييم السعر الرسمي للذهب ضمن احتياطياته.

وأكّد أنّه في ظل الظروف الاقتصادية العالمية المتقلّبة، سيبقى الذهب الخيار المفضل للمستثمرين الذين يسعون إلى حماية أموالهم من مخاطر التضخم وعدم الاستقرار. وأضاف أنّ فهم العوامل التي تؤثر على أسعار الذهب، وما يرتبط بها من سياسات اقتصادية، يُعد أساسيًا لاتخاذ قرارات استثمارية مدروسة.

مع كل قمة جديدة يصل إليها الذهب، يتوقع المستثمرون والمتداولون حدوث تصحيح أو هبوط كبير في الأسعار، إلّا أنّ الواقع يثبت للجميع اليوم، أنّ المعدن الأصفر ما زال يواصل طريقه بثبات، مسجّلًا قممًا جديدة في الأسواق العالمية.