رحلة في الإنسان

الرجولة والأبوّة
إعداد: غريس فرح

ظاهرتان متناقضتان لهدف واحد

 

الرجولة والأبوّة, ظاهرتان متناقضتان تتحدان بعمق منذ اللحظة التي يتلقى فيها الزوج نبأ حمل زوجته لطفل يحمل إسمه وصبغته الوراثية, ويعد باستمرار نسله.
إنها الطبيعة التي تخضع الرجولة وقساوتها لسطوة المشاعر وتغنيها بالعاطفة والحنان بانتظار القادم الجديد. وهي في ذلك تتبع أنظمة مبرمجة تحدث تغييرات بيولوجية في كيان الرجل ولا وعيه لتحضره لمواكبة الحمل والإنجاب, والمشاركة في تحمل المسؤولية.
إذن, لعبة الإستمرار هي الدافع وراء خضوع الرجل لواقع معاكس لطبيعته خدمة لبقاء ذريته.
فكيف تسير هذه اللعبة, وماذا يتغيّر في كيان الرجل أثناء حمل الزوجة ليتسبب بهذا التحوّل, وما هو رأي العلم بهذه الظاهرة؟


كيف تتكون الصفات الذكورية؟

من المعروف علمياً أن مشاعر الإنسان وسلوكه وتفكيره ترتبط الى حد بعيد بمستوى توزيع كيميائيات جسمه ودماغه. وهرمون “التيستوستيرون” المرتفع في جسم الرجل, هو المسؤول الأكبر عن صفاته الذكورية, والتي منها الشجاعة والإقدام وحب السلطة والمغامرة, الى سواها من الصفات التي تميزه عن الجنس اللطيف. وهي بمجملها صفات تبعده عن تأجج العواطف والسلوك الأنثوي الذي يذكيه هرمون “الأوستروجين” المرتفع في أجسام النساء.
والمعروف أيضاً أن هرموني “الأوستروجين” و”التيستوستيرون” موجودان معاً في أجسام الذكور والإناث بنسب تؤمن مواصفاتهم الفطرية.
إلا أن الطبيعة التي تحرّك لعبة الإستمرار لصالح الكائنات الحية, تتدخل في المراحل الإنتقالية البالغة الدقة لتعدل من صفات هذه الكائنات بحسب الظروف حفاظاً على بقائها. من هنا التغيير الذي نلحظه في صفات الرجولة منذ اللحظة التي تلي إخصاب الزوجة.

 

ماذا يحصل بالتحديد؟

حسب آخر الدراسات, تبيّن أن الرجل الذي يدين لرجولته بارتفاع هرمون التيستوستيرون, يحتفظ جسمه كما سبق وأشرنا, بهرمونات جنسية أنثوية بنسب متفاوتة. وفي مرحلة إخصاب زوجته, يحصل بينه وبينها تقارب سببه بث كيميائي غامض يرفع مستوى هرمون “الأوستروجين” الأنثوي في جسمه بهدف إثارة عاطفته وتهيئته لتقبل الجنين وإنتظار ولادته, ومن ثم إحاطته بالعناية والحماية. والجدير ذكره أن هذه الدراسات لفتت الى معاناة فئة من الرجال في هذه المرحلة من عوارض مشابهة لعوارض حمل النساء, والتي أهمها: الغثيان والقلق النفسي وزيادة الوزن نتيجة الميل الزائد الى تناول الطعام.

 

هرمونات أخرى

وبالإضافة الى “الأوستروجين”, ترتفع في جسم الرجل هرمونات أخرى مهمتها برمجة دوره الفطري في مجالات مشابهة.
فهرمون “البرولاكتين” مثلاً, الذي يعزز مقدرة الإناث على الإرضاع بعد الوضع, يرتفع نسبياً في أجسام الرجال خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من حمل الزوجات من أجل تأمين رغبتهم في المساعدة بالإعتناء بالطفل بعد ولادته, بنفس الطريقة التي تتبعها ذكور الطيور وبعض الحيوانات الثديية.
ولإثبات هذه النظرية, أجريت تجارب على ذكور بعض الحيوانات الثديية والطيور, تمثلت بحقنها بكميات زائدة من هرمون “البرولاكتين” خلال مرحلة حضانتها لصغارها. وقد ثبت بالمراقبة أن عاطفة هذه الحيوانات وحمايتها للمواليد الجدد فاقت بكثير العاطفة والحماية التي تقدمها الحيوانات والطيور الأخرى.

 

القلق ضروري للتربية

أما الهرمون الثالث الذي يلعب دوراً بالغ الأهمية في تحضير النساء للأمومة والرجال للأبوة, فهر هومون “الكورتيزول” المسبب للقلق.
فهذا الهرمون يرتفع في أجسام النساء الحوامل خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة السابقة للوضع بهدف تهيئتهن لمراقبة تقلبات الحمل وحماية الطفل بعد الولادة. وبفعل البث الكيميائي الناتج عن العلاقة الحميمة بين الزوج والزوجة, يرتفع هذا الهرمون أيضاً في أجسام الأزواج خلال المرحلة ذاتها من أجل تحضيرهم للمشاركة بالقلق والترقب والإستعداد لحماية الطفل خدمة للأهداف الطبيعية الآنفة الذكر.
وهرمون “الكورتيزول” حسب رأي الإختصاصيين, له مهمة ضرورية أخرى هي تسهيل عملية دفع الجنين أثناء الوضع, وتحضير الأم لإستقباله بشغف.

 

تأثير العلاقة الزوجية

إن نسبة إندماج الأزواج وتوحّد تطلعاتهم في مرحلة الحمل وبعده تختلف بإختلاف العلاقة القائمة بينهما. بمعنى أن تزامن التغييرات الهرمونية المشار إليها يختلف بحسب قوة الإرتباط العاطفي التي تجمعهما, والتي ترتبط الى حد بعيد بإشارات بيولوجية غامضة عجز الإختصاصيون عن تفسيرها بوضوح. مع ذلك, هنالك تكهنات تربط هذه العلاقة بهرمون يعرف “بالقيرومون”. وهو الهرمون الذي تفرزه أجسام الحيوانات وتلتقطه أنوفهم في مراحل التزاوج لإذكاء الرغبة الجنسية وتحقيق الإنجذاب بين الجنسين, وخصوصاً بين حاملي الجينات الملائمة للدمج بهدف خلق ذرية أكثر قوة ومقدرة على الإستمرار. ويعتقد العلماء أن هذا الهرمون بالذات موجود في أجسام البشر للغاية ذاتها. بهذا يتم الإستنتاج أن العلاقة الزوجية الحميمة, والبث الكيميائي, والإشارات البيولوجية, هي عوامل متداخلة تتفاعل ضمن حلقة مغلقة هدفها بقاء الأجناس وتأقلمها وتطورها وإستمرارها.

 

أهمية دور الأب في التنشئة

هذه وسواها من المعطيات, تبرز ما لدور الأب من أهمية في حياة الأطفال تفوق أهمية المعلومات المعلنة عنه.
فآخر الدراسات كشفت بوضوح عن إيجابيات مشاركة الأب المباشرة بالعناية بالمولود الجديد, وسلبيات تفرّد الأم بهذه المهمة بفعل التقاليد الموروثة.
والمجتمعات الغربية كما هو معروف وعت أهمية هذا الدور منذ عقود, وخصوصاً إثر إقتحام النساء فيها مجالات العمل إسوة بالرجال. لذا تجرأ المسؤولون في دول غربية عدة على تشريع قوانين جديدة تعطي الوالد الموظف حق طلب إجازة قانونية تخوّله ملازمة زوجته في المنزل بعد الوضع, للمشاركة في العناية بالمولود وغمره بالعاطفة والحماية الضروريتين لنموه, علماً أن رجالاً كثيرين ما زالوا يعتقدون أن العناية المباشرة بالطفل هي انتقاص من الرجولة. وهذا الإعتقاد يشمل على العموم نسبة لا يستهان بها من رجال المجتمعات الشرقية الذين تمنعهم التقاليد من الإفصاح عن مشاعرهم تجاه أطفالهم حفاظاً على كبريائهم. رغم ذلك نرى أن النخبة المثقفة والمتطوّرة من الشرقيين قد تخطوا هذه المفاهيم منذ عقود, وأقدموا على مشاركة زوجاتهم بالعناية بالأطفال بالشغف الذي تمليه عليهم رغباتهم الفطرية, وخصوصاً بعد إطلاعهم على إيجابيات دور الأب في التربية والتي كشفت عنها آخر التقارير الطبية الحديثة.

 

إيجابيات إظهار عاطفة الأبوّة

حسب آخر التقارير الصادرة عن المؤتمرات الدورية للأطباء النفسانيين, تبين أن الأطفال المحاطين بحنان الأب وعنايته المباشرة, يتمتعون بحدة ذكاء تفوق سواهم. كما ثبت أنهم يتسلحون بمقدرة على التكيّف تتيح لهم تذليل العقبات ومواجهة الصدمات. بهذا يعتبرون أقل عرضة للأمراض العقلية والنفسية وينطبق الأمر نفسه على إدمان الكحول والمخدرات. كما يعتقد أن هؤلاء الأولاد هم أكثر مناعة ضد الأمراض المتفشية.
مع ذلك نرى أن هذه المعطيات وسواها, لم تتمكن حتى الآن مع الأسف الشديد, من إيصال الرسالة التربوية المطلوبة الى شريحة كبرى من البشر.
فالتقـاليد كما سبق وذكر, حالت ولا تزال في بعض المجتمعات دون تلبيـة الآباء نداء المشاعر صوناً للرجولـة والكبرياء. ومفاهيم الحرية والعصرنة طغت في مجتمعات أخرى على التزامات الزواج, فكثر الطلاق وتفككت العائـلات. والأطفال في كلا الحالتين ضحايا الحرمان والجوع الى عناية الوالدين المشتركة.
فمتى يعي الـوالـدان عمـق الـدور الــذي منحتـه إياهما الطبيعة, ومتى يدركون أهمية الإلتـزام بأنظمتها وقوانينهـا؟