مؤتمر

الرعاية الصحية من الجيش إلى كل الوطن: هكذا نجحنا ... هكذا ننجح
إعداد: ريما سليم - د.تراز منصور

يعاني قطاع الرعاية الصحية في لبنان منذ بداية الأزمة الاقتصادية صعوباتٍ كبيرة، ما جعل الهم الصحي يتقدم على سائر الهموم التي يعانيها المواطن اللبناني بعد أن بات عاجزًا عن تحمّل كلفة الطبابة والاستشفاء. 

وحدها الطبابة العسكرية ظلت صامدة في وجه التحديات، إذ تمكنت من تأمين الرعاية والخدمات للعسكريين في الخدمة الفعلية وفي التقاعد ولعائلاتهم، موفرةً التغطية الطبية الكاملة للمستفيدين مع المحافظة على جودة الخدمات، وذلك من خلال نظام إدارة فعال وإرادة عمل وطاقم طبي كفوء، بالإضافة إلى دعم محلي وخارجي مرده الثقة بالمؤسسة العسكرية وحسن أدائها. 

ولأنّ عين المؤسسة العسكرية على لبنان وعلى مواطنيه وهمومهم، كانت مبادرتها إلى مشاركة خبراتها مع المعنيين في الشأن الصحي من خلال مؤتمر طبي وطني بعنوان «الرعاية الصحية العسكرية من الجيش إلى كل الوطن». نظمت الطبابة العسكرية المؤتمر الذي عُقد في فندق هيلتون حبتور، برعاية قائد الجيش العماد جوزاف عون وحضور وزير الصحة العامة الدكتور فراس الأبيض، ورئيس الطبابة العسكرية العميد الركن ماهر أبو شعر، إلى فعاليات طبية، نقابية، جامعية، سياسية، وممثلين عن الأجهزة العسكرية والمدنية. 

 

المؤتمر الذي أرادته قيادة الجيش مساحة لتبادل الآراء والخبرات وتكوين تصوّر موحّد عن كيفية إعادة إحياء القطاع الصحي ومنعه من الانهيار التام، تناول التحديات التي يواجهها هذا القطاع بشكل عام. كما عرضت خلاله تجربة المؤسسة العسكرية التي أثبتت نجاحها في ظل أزمةٍ اقتصادية لم ترحم أي قطاع في لبنان. في المقابل، عرض المشاركون أبرز التحديات التي تواجه تطبيق نظام الرعاية الشاملة في لبنان والتي لا يمكن التغلّب عليها من دون إجراء إصلاحات جادّة، وتنفيذ خطط فوريّة وخطط على المدى الطويل.

قسّم المؤتمر إلى عدة جلسات، واختتم باقتراحات وتوصيات، وتولت الإعلامية ريمي درباس تقديم المشاركين فيه.

 

رئيس الطبابة العسكرية: واجب وطني ومهني وإنساني

بدأت الجلسة الافتتاحية بكلمة رئيس الطبابة العسكرية العميد الركن ماهر أبو شعر الذي أشار إلى التحديات التي يواجهها القطاع الصحي في لبنان، وتأثيرها السلبي على تأمين الاستشفاء اللازم والكامل للمرضى، مؤكدًا أنّ الواجب الوطنيّ والمهنيّ والإنسانيّ يقضي بالبحث عن أيّ حلولٍ ممكنة لمواجهة التحدّيات وتَخَطّي العقبات.

وتطرق إلى تجربة الجيش في الرعاية الصحية، موضحًا أنّ توفير هذه الرعاية اللازمة للعسكريّين وعائلاتهم هدف تسعى إليه الطبابة العسكرية دائمًا، من خلال التزام أعضاء الجسم الطبي واجبهم المهني وجهوزيتهم التامّة. كما أشار إلى الجهود الجبّارة التي تبذلها قيادة الجيش في دعم الطبابة لإعطائها الأولوية لجهة تأمين جميع المستلزمات والمتطلّبات لتمكين العسكريين من متابعة مهماتهم، من دون أن يتحمَّلوا عبء التفكير في تأمين الرعاية الصحية لهم ولعائلاتهم. وتوقّف عند دور الطبابة خلال العمليات العسكرية كمعركة «فجر الجرود»، وفي أثناء جائحة كورونا، إذ شكلت المرتكز الأول الذي انطلقت منه جهود التلقيح والتوعية في المؤسسة، فضلًا عن مساهمتها الفاعلة في الخطة الوطنية للتصدي للجائحة، كما أدت دورًا أساسيًا في معالجة جرحى انفجار مرفأ بيروت، مؤكدًا أنّ صحة العسكريين وعائلاتهم أولوية قصوى ستبذل الطبابة كل ما في وسعها للحفاظ عليها. كذلك، أشار إلى أهمية المؤتمر الذي يستضيف مجموعة كبيرة من الاختصاصيين والخبراء في القطاع الصحي، ويشكّل مساحة لمشاركة الخبرات والأفكار، وإيجاد الحلول للمشكلات التي يعانيها القطاع الصحي وتعرّض المريض لمخاطر جمّة.

وختم مؤكدًا ثقته في أن الجهود المشتركة ستذلل العقبات وتسجل تقدمًا في تطوير نظامنا الصحي، فنقدم لمجتمعنا رعاية صحية تليق بالإنسان.

 

وزير الصحة: الأزمة في الأساس أخلاقية

اعتبر وزير الصحة الدكتور فراس الأبيض أنّ ما يعانيه النظام الصحي في لبنان هو انعكاس لواقع نظامه المالي والسياسي. وقال: «إنّ انهيار مالية الدولة والقطاع المصرفي انعكس سلبًا على قدرة القطاع الصحي القائم على الاستيراد، ولم يعد بإمكانه تقديم الخدمات الصحية الأساسية. كما أنّ عجز القطاع الصحي ناتج عن السياسات الخاطئة ضمن هذا النظام الذي يعتمد على الاستشفاء وعلى الأدوية الجديدة باهظة الثمن وعلى المستلزمات الطبية، ما جعل من كلفة فاتورة الاستشفاء الكلفة الأعلى في العالم».

ولفت إلى أنّ «نسبة مواكبة الحالات الطبية والاستشفائية هي أقل من المطلوب اليوم لناحية العمليات والمختبر والخدمات، وما زاد الأمر سوءًا هجرة النخبة من طاقمنا الطبي والتمريضي، ما ضرب هذا النظام الغني بكوادره في الصميم».

وتطرّق الوزير الأبيض إلى أنّه من الأخطاء الأساسية في هذا النظام عدم مواكبته للتحوّل الرقمي والمكننة بشكل كبير ورسمي، ما يؤدي إلى هدر للوقت وزيادة في الكلفة. واعتبر أنّ أزمة النظام الصحي هي في الأساس أزمة أخلاق، لناحية تفضيل المصلحة الخاصة على العامة، وبالتالي فإنّ المريض هو من يدفع ثمن الممارسات اللاأخلاقية.

وإذ أشار إلى مسألة تشرذم الهيئات الضامنة، وجد في الأزمة اليوم فرصة لتوحيد هذه الهيئات والتعاون في ما بينها لتقريب وجهات النظر المختلفة، وتوحيد التعرفات بين الصناديق لما فيه مصلحة هذه الجهات والمواطن معًا. ولفت إلى إنشاء نظام لتتبّع حركة الدواء، الأمر الذي قد يجدي نفعًا على صعيد تحقيق الاستثمار الأفضل والإدارة الحكيمة للصناديق الضامنة وحسن استعمال المال العام.

وأشار أخيرًا إلى التجربة الناجحة التي نشأت بين الطبابة العسكرية ومستشفى رفيق الحريري، والتي أظهرت حسن استعمال الجيش للمال العام، وتقديمه أفضل الخدمات.

 

قائد الجيش: ثلاثة عوامل خلف نجاحنا

أكد العماد عون أنّ قيادة الجيش أولت الطبابة العسكرية منذ البداية اهتمامًا كبيرًا، متقدّمًا حتى على التسليح والتدريب، وقد تم وضع خطة استراتيجية لتطويرها، بما يحفظ كرامة العسكريين وعائلاتهم ويوفّر لهم كل الخدمات الصحية اللازمة. 

وقال: بدأنا تعزيز قدرات الطبابة، عبر تطوير المستشفى العسكري المركزي وطبابات المناطق، إضافة إلى توفير كل المعدّات والأدوية اللازمة. واجهنا في البداية مشكلة تخفيض موازنة الجيش، لكننا تخطّيناه بقدرتنا على التكيّف وطبقنا تدابير لخفض النفقات، إلا تلك المتعلّقة بالطبابة إذ ليس مسموحًا المسّ بصحة عسكريينا وعائلاتهم، كما المتقاعدين وعائلاتهم، وهم يشكّلون حوالى ٤٠٠ ألف من عدد سكان لبنان.

بدأنا مسيرة التفتيش عن حلول بديلة للمحافظة على مستوى الخدمات الطبية، في حين بذل طاقم الطبابة جهودًا جبّارة في هذا المجال، بفضل إرادتهم وثقتهم بالمؤسسة العسكرية، على الرغم من الإمكانات المتواضعة والصعوبات الجسيمة، وكان أبرزها تدهور قيمة الليرة، وانتشار جائحة كورونا، وكيفية التعامل مع المرضى من دون تسجيل أي حالة وفاة في المستشفى العسكري».

وأضاف: «نُسأل عن نجاحنا كمؤسسة عسكرية في الحفاظ على الطبابة، في ظل كل التحدّيات التي نواجهها وتدهور القطاع الصحي الرسمي والخاص في لبنان، الجواب واضح وصريح ويتلخّص في ثلاثة عوامل:

أولًا: الإرادة التي يتحلّى بها أفراد الطبابة العسكرية وإيمانهم بنبل مهمّتهم وتَمسّكهم بها، كلها عوامل جعلَتْهم يتحدّون الظروف ويبتكرون المعجزات للاستمرار وتوفير كل الخدمات الصحية التي يحتاج إليها مرضانا، وذلك على الرغم من تدنّي قيمة رواتبهم والظروف المعيشية التي يواجهونها. فالأزمات تضعنا أمام خيارين: الرضوخ والاستسلام أو المواجهة والتحدّي، ونحن اخترنا المواجهة.

ثانيًا: الخطوات التي قمنا بها سابقًا ومنها تخفيض الفاتورة الطبية، من خلال المراقبة والمتابعة والملاحقة والتدقيق وغيرها، فضلًا عن استشراف الأزمة منذ بدايتها والعمل على تداركها سواء لجهة الخدمات الطبية أم الأدوية.

ثالثًا: وهو الأهم، ثقة أبناء وطننا بنا كمؤسسة حافظة للأمن وضامنة للاستقرار في ظل انحلال معظم مؤسسات الدولة وتفكّكها. هذه الثقة تتجلّى يوميًّا في المساعدات التي يقدّمونها لنا سواء أكانوا مقيمين أم مغتربين، أو من الدول الصديقة. ونظرًا لأهمية الطبابة بالنسبة لنا، حوّلنا معظم هذه المساعدات إليها ولا نزال»...

والنتيجة قال العماد عون، هي «أنّنا المؤسسة الوحيدة اليوم التي توفّر الخدمات الطبية لعناصرها على الرغم من كل العوائق التي تواجه هذا القطاع وتراجع عدد الأطباء، والشح في الأدوية وبخاصة أدوية الأمراض المزمنة. خدماتنا الطبية لا تقتصر على العلاج داخل لبنان، إذ حوّلنا بعض الحالات الخاصة إلى الخارج أيضًا».

وأشار أيضًا إلى أنّ «كل ذلك تحقق بفضل المساعدات التي ما زالت تصلنا، وأكرر لثقتهم بنا، فهم يعلمون أنّ أموالهم تصل إلى مستحقيها، بعيدًا من التحريض والشائعات والاتهامات التي لن نتوقف عندها، ولن تمس بمعنويات المؤسسة ولا بمعنويات عناصرها».

وتابع قائلًا: انطلاقًا من موقعنا ومسؤوليتنا تجاه شعبنا ومن تجربتنا في الطبابة العسكرية، وفي ظل هذا الواقع المرير، أردنا من هذا المؤتمر، وبحضور وزير الصحة وكل الفاعليات المعنية، أن نضع رؤية واستراتيجية موحّدة تساهم في منع الانهيار التام للقطاع الصحي في لبنان، على أمل أن يستعيد لبنان عافيته وبريقه ومكانته المشعّة في المنطقة، وبخاصة بما يتعلّق بالقطاع الصحي فيستعيد حينها لقبه «مستشفى الشرق».

وختم مشيرًا إلى أنّ وطننا يحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى إرادة أبنائه وعزيمتهم وثقتهم به، وإلى تضافر كل الجهود وتوحيدها بعيدًا من الانقسامات السياسية والحزبية والطائفية، لأنّ ما يجمع اللبنانيين أكثر بكثير مما يُفرقّهم. وهمهم اليوم أبعد من الحسابات السياسية الضيقة)، همهم صحتهم التي باتت مهددة، همهم توفير الأدوية لأمراضهم المستعصية، همهم مستشفى يستقبلهم ويُبعد عنهم شبح الموت، وبفاتورة لا تُذلهم... فشعبنا الذي يعيش معاناة يومية، يستحق منّا التفاتة واهتمامًا بأقل حقوقه وهي الصحّة، ثم الصحّة، ثمّ الصحّة. 

 

تغيير نظامنا الصحي وتطويره

أعقب ذلك عرض حول نظرة وزارة الصحة لمستقبل النظام الصحي في لبنان، قدّمه وزير الصحة الدكتور فراس الأبيض، فشدد على الحوكمة الرشيدة والتشاركية في إطار الاستراتيجية التي تمّت مناقشتها مع جميع المعنيين بالقطاع الصحي، وأشار إلى عمق الأزمة في القطاع الصحي، فبعد أن كانت موازنة وزارة الصحة تساوي ٥٠٠ مليون دولار، أصبحت قيمتها اليوم ٤٠ مليون دولار. وكانت الموازنة بنسبة ٩٥٪ منها تتوزع بين تقديم الاستشفاء للبنانيين والأدوية، ولا سيّما المزمنة منها كالسرطان، علمًا أننا كنا نستورد الأدوية الحديثة من أرقى مصانع الأدوية في العالم، واليوم بتنا عاجزين عن كل هذا.

وتطرق إلى الكلفة الاستشفائية الباهظة في لبنان مقارنًا إياها بالكلفة في بعض الدول، ففي حين تصل في لبنان إلى نحو ٦٨٠ دولار في السنة ولا تشمل الرعاية الصحية الشاملة، تبلغ في تركيا مثلًا ٣٦٠ مليون دولار في السنة وتشمل كل شيء. كما أجرى مقارنة بين فاتورة الدواء التي تبلغ في لبنان نحو المليار و٤٠٠ مليون دولار في السنة، علمًا أنّ عدد سكانه لا يتجاوز الخمسة ملايين نسمة، ومثيلتها في الأردن التي لا تتجاوز ٨٠٠ مليون دولار في السنة بينما عدد سكانه أكثر من ١١ مليونًا.

ولفت إلى قضية الحوكمة وتعدّد مصادر تمويل المؤسسات الضامنة، التي أُديرت بشكل غير سليم، والنتيجة أنّه بدلًا من أن يحصل المريض على استشفاء مجاني، أصبح يصرف من جيبه الخاص نحو ٩٠ في المئة على فاتورته الاستشفائية. واعتبر أنّ هذا الموضوع غير مقبول، لأنّ المواطن يضطر إلى بيع أملاكه كي يتعالج، فالمعدل المقبول عالميًا هو ١٠ في المئة.

وأكد الوزير الأبيض أخيرًا أنّه على الدولة استعادة ثقة المواطنين ببلدهم، والتطلّع معًا نحو تحويل النظام الصحي الحالي إلى نظام أقل كلفة وهو نظام خدمات الرعاية الصحية الأولية المعتمدة في معظم دول العالم، الذي يرتكز على نظام ضرائبي يموّل الخدمات الطبية.

 

مدير الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي: السيناريوهات الواقعية مخيفة

عرض الدكتور محمد الكركي واقع الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يعاني حاليًا انعدام التوازن المالي في فرع ضمان المرض والأمومة، والناتج عن عدة أسباب أهمها: تخفيض الاشتراكات بنسبة تقدّر بحوالى ٤٠٪، وعدم سداد الدولة (حوالى ٥ آلاف مليار ليرة لبنانية) وبعض المؤسسات العامة متوجباتها المالية للصندوق.

وأوضح الكركي أنّ الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مثل باقي المؤسسات المشابهة له في العالم يعمل على أربعة محاور هي: توسعة شمولية الضمان (إدخال فئات جديدة وصولًا لضمان جميع اللبنانيين)، زيادة تقديمات الضمان (التقاعد والحماية الاجتماعية- البطالة- طب الأسنان)، تطوير وعصرنة المؤسسة وجودة الخدمات، والاستدامة المالية للمؤسسة.

وإذ اعتبر أنّ تأمين الطبابة والاستشفاء للمضمونين وتوسعة الضمان أساس في موضوع إصلاح القطاع الصحي، أوضح أنّ الرؤية التي يعمل الصندوق على تحقيقها وفق استراتيجية طويلة الأمد هي توسيع مظلة التغطية الصحية لتشمل جميع اللبنانيين، ولا سيما أنّ الهدف من إنشاء الصندوق هو إدارة نظام الضمان الاجتماعي الذي اعتمده لبنان منذ العام ١٩٦٣ وتغطيته شرائح المجتمع كافة.

في هذا الإطار، تسعى إدارة الصندوق إلى شمول تقديمات العناية الطبية جميع فئات المجتمع اللبناني من أصحاب العمل وعمال البلديات والعمال الزراعيين وخبراء المحاسبة والأجراء المؤقتين والموسميين وغيرهم، على أن تحدد الاشتراكات المتوجبة عليهم بموجب دراسات مالية واكتوارية.

ولتحقيق هذه الرؤية يتوجب على الدولة اللبنانية:

• التسليم بدور الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بكل ما يتعلق بالتغطية الصحية الشاملة.

• تسديد متوجبات الدولة للصندوق والتي تجاوزت الـ٥٠٠٠ مليار ليرة لبنانية مع نهاية العام ٢٠٢١.

• تسهيل وتسريع عملية التوظيف لملء الشواغر التي فاقت ٦٠٪ من الصندوق، ولرفده بالموارد البشرية الكفوءة والمتخصصة.

• استكمال التعيينات في مجلس الإدارة واللجنة الفنية واللجنة المالية (مدراء، رؤساء دوائر).

وأشار إلى أنّه في ظل الأزمة الحالية، اعتمد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي استراتيجية مؤقتة تتمثل بعدد من التدابير والخطوات التي من شأنها تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية الحالية والعبور منها بأقل ضرر ممكن على شرائح المضمونين من الشعب اللبناني. وقبل أن يعرض هذه التدابير لفت إلى أنّ الدراسة التي تعدها منظمة العمل الدولية للفترة الممتدة بين ٢٠٢٢ و٢٠٢٦ توقعت أنّه في حال أردنا البقاء ضمن السيناريوهات الواقعية، فإنّ حجم تقديمات الصندوق سيكون حوالى ١٥٪ إلى ١٧ ٪ من حجم تقديماته السابقة. وفي حال وجود سيناريو تفاؤلي لن يتجاوز الـ٥٠٪ مما كان يقدمه سابقًا إذ من المتوقع أن يبلغ مجموع النفقات في العام ٢٠٢٣ حوالى ٢٤ ألف مليار (سعر دولار ٣٥ ألف ل.ل) في حين أنّ الإيرادات المحصلة لن تتجاوز ال ٥٠٠٠ مليار ليرة (أي أقل من ٢٠٪ من النفقات).

أما التدابير التي تعمل الإدارة حاليًا على تطبيقها ضمن استراتيجية قصيرة الأمد فتشمل:

استكمال مشروع المكننة الشاملة والتحول الرقمي والربط الإلكتروني، الاستمرار في تغطية علاج غسيل الكلى بنسبة ١٠٠٪، متابعة تأمين أدوية الأمراض المستعصية والسرطانية بالتعاون مع وزارة الصحة العامة، وزيادة التعرفات الاستشفائية إلى ٦ أو ٧ مرات للاستشفاء والعمليات الجراحية التي لا تتطلب مستلزمات طبية.

 

خبرات الجيش اللبناني في النظام الصحي

محاضرة المقدم الصيدلي حبيب عبده كانت عرضًا حول خبرات الجيش اللبناني في النظام الصحي، تناول فيه عمل الرعاية الصحية العسكرية واستراتيجياتها الرئيسية والرؤية التي تنطلق منها، مركزًا على نقاط قوتها، وكيف يمكن أن تساعد في إصلاح الرعاية الصحية في لبنان. وقد لفت إلى أنّه «سواء كنا متخصصين في الرعاية الصحية أو صانعي سياسات أو رجال أعمال، فلدينا جميعًا مصلحة في ضمان الوصول إلى نظام الرعاية الصحية بأسعار معقولة وبأعلى جودة». 

وإذ أشار المقدم الصيدلي عبده إلى أقسام الرعاية الصحية في الجيش والمراكز التابعة لها ومنها خمسة إقليمية و٤٢ مستوصفًا منتشرة في جميع أنحاء الأراضي اللبنانية، بيّن كيف تعمل الرعاية الصحية العسكرية، على مستويات مختلفة: استراتيجية وعملانية وتكتيكية. 

وبالنسبة إلى المعايير المعتمدة ذكر أهمها وفق الآتي: 

- الوصول إلى الرعاية، وهذا ما يضمنه وجود ٤٢ مركزًا صحيًا للجيش على جميع الأراضي اللبنانية. 

- جودة الرعاية، يحدد الجيش مواصفات خاصة للأدوية والمعدات الطبية، والمغروسات (Implants). حتى في حالات التعامل مع المستشفيات المدنية، يتم التعامل مع كل مستفيد وفق معايير الرعاية الصحية العسكرية.

- تكلفة الرعاية، هنا أشار المحاضر إلى أنّ الإنفاق على الرعاية الصحية للفرد في لبنان هو عادةً أعلى من الإنفاق العسكري، مع ملاحظة أن الرعاية الصحية العسكرية توفّر واحدة من أوسع مجموعة من الخدمات وتستعمل معدات ذات جودة عالية. 

- العدالة: وهي واحدة من أقوى نقاط نظام الرعاية الصحية في الجيش. فكلّ مريض مؤهل للحصول على العلاج نفسه بغض النظر عن رتبته أو كونه في الخدمة الفعلية أو متقاعدًا أو أحد أفراد الأسرة. ويرجع ذلك إلى سموّ الروح المعنوية كركيزة رابعة في الجيش إلى جانب الركائز الثلاث الأخرى للصحة، أي الطبية والاقتصادية والإنسانية.

- الاستدامة، أدى التقدير الدقيق للحاجة من قبل قسم المشتريات الطبية وقسم الاستشفاء الخارجي إلى تقييم صحيح للاحتياجات المستقبلية للرعاية الصحية العسكرية، وكانت النتيجة التوفير الصحيح للموارد، في ما يخص الأدوية والمعدات وفواتير الاستشفاء التي تشكّل الحجم الأكبر من الإنفاق.

- تجربة المريض، على الرغم من عدم وجود نظام راسخ لتتبّع تجربة المريض، إلا أنّ شبكة الاتصال في الرعاية الصحية العسكرية بسيطة للغاية، إذ يمكن الإبلاغ عن سوء السلوك بسهولة واتخاذ الإجراءات التصحيحية.

- صحة السكان: هناك حاجة إلى الكثير من العمل لتحقيق هذا المعيار وفق ما أشار المقدم الصيدلي عبده مضيفًا: لدينا بالفعل نظام معلومات معمول به، ولكننا لم نستفد منه بالكامل حتى الآن. غير أنّه من خلال توفير المعطيات، نستطيع اتخاذ تدابير استباقية بدلًا من أن نبقى على مستوى رد الفعل.

كما تحدث عن الاستراتيجيات التي يسير العمل انطلاقًا منها، فأوضح أنّ الاستراتيجية الرئيسية هي مركزية القرارات واللامركزية في الخدمات، وقد تبيّن أنّ ذلك مفيد للغاية في إدارة الأزمات. وأشار إلى أنّ الأمور المركزية هي: تطوير السياسات والمبادئ التوجيهية للصحة العسكرية، تخصيص الموارد والتمويل، تنفيذ نظام مركزي للمعلومات الصحية، وتوحيد برامج التعليم والتدريب الطبي. ومن بين الأمور اللامركزية: الخدمات والعيادات الصحية المجتمعية، برامج التثقيف الصحي والتوعية في المجتمعات المحلية، والخدمات الطبية الطارئة في المناطق الريفية والنائية. 

الاستراتيجية الثانية هي المرونة في تخصيص الموارد وحشدها، والهدف الأساسي هو الحفاظ على استعداد الجيش اللبناني لأداء مهمته الأساسية المتمثّلة بالحفاظ على الأمن في جميع أنحاء البلاد. وهنا تناول تجربة الجيش الناجحة في التعامل مع وباء كورونا، والتي شملت إنشاء عيادات خاصة في المراكز الإقليمية وتوسيع وحدات العناية المركزة والحصول على ٤٦ سريرًا في المستشفى اللبناني الكندي، إذ قضت الاستراتيجية المعتمدة أن يذهب كل مريض من مرضى COVID ICU إلى المستشفى العسكري المركزي بينما يتم تقديم الرعاية للمرضى الآخرين في المستشفيات المدنية. وفي كثير من الحالات، وبسبب نقص الأدوية الحرجة لمرضى كوفيد-١٩، زودت الطبابة العسكرية المستشفيات المدنية بهذه الأدوية لأنّها توقعت احتياطيًا كبيرًا إلى حد ما في بداية الوباء.

الاستراتيجية الثالثة هي سهولة تغيير الأولويات حسب الظروف، وقد تم اتخاذ عدة إجراءات بدءًا بتقليل عدد المستوصفات وتخصيص مواردها. كما تم التركيز على عمليات ترشيد الإنفاق؛ من الموافقة المسبقة للعمليات إلى التدقيق اللاحق للمستشفيات بعد الخروج منها وتجديد قسم العمليات واستحداث غرف حديثة فيه، فضلًا عن التعاون مع مستشفى رفيق الحريري الحكومي للحصول على ٤ غرف عمليات و٢٥ سريرًا، ما ساعد في خفض التكاليف بشكل كبير. كذلك تم تقليل الفحوصات المخبرية والتصوير التشخيصي، وتقليل عدد حالات الدخول بنسبة ٢٥٪. بالإضافة إلى ذلك، ذهب جزء من التبرعات الدولية إلى المستشفى العسكري المركزي الذي ساعد أيضًا في تخفيف العبء الاقتصادي، وكان هذا الأمر ركيزة القرار الذي اتخذته الرعاية الصحية العسكرية برفع التعرفة التي تُدفع للمستشفيات بنسبة ٧٠٪. 

وتحدث عن الاستراتيجية المركزية الخاصة بالمشتريات، والتي تتأثر بالسياسات التنظيمية وسياسات السداد. فعلى سبيل المثال، يتم شراء المستلزمات الطبية من خلال عرض مركزي واستبدالها أو تسليمها إلى المستشفى المدني عند الحاجة مع لحظ نسبة إضافية لتغطية رسوم المستشفى. وأكد في هذا السياق أنّ «جميع المغروسات المستخدمة خارج المستشفى العسكري المركزي يجب أن تتوافق مع مواصفاتنا».

وعرض المقدم الصيدلي عبده رؤية واضحة لنموذج أكثر فعالية وكفاءة وإنصافًا يمكن أن يوفر رعاية عالية الجودة لجميع المرضى. وذلك من خلال: زيادة توافر خدمات الرعاية الأولية، تعزيز قدرة المستشفى العسكري المركزي، تحسين الكفاءة والفعالية من خلال استخدام التكنولوجيا الصحية، تعزيز الرعاية الوقائية، زيادة الاستثمار في التكنولوجيا باستخدام السجلات الصحية الإلكترونية Electronic Health Record

(EHR) لتقليل الأعباء الإدارية وتحسين تنسيق الرعاية، والفوترة الإلكترونية (e-billing) للمساعدة في خفض التكلفة، وتحسين الدقة وتحسين تحليلات البيانات والتطبيب عن بُعد لتعزيز الحصول على الرعاية الطبية، وتعزيز الطب القائم على القيمة باستخدام الممارسات المستندة إلى الأدلة، والمبادئ التوجيهية السريرية، والرعاية التي تركز على المريض.

وختم قائلًا: باختصار، الرعاية الصحية هي أحد أهم ركائز التضامن الوطني، وإن الطريق إلى إصلاح نظام الرعاية الصحية ممكن وقابل للتحقيق ومجزٍ. 

 

الواقع والحلول في نقاشات

في نقاش أداره الدكتور زياد نجيم عرض المعنيون في مختلف القطاعات الطبية واقع قطاعاتهم وقدموا اقتراحاتهم لإصلاح نظام الرعاية الصحية في لبنان وتطويره وصولًا إلى أعلى مستوى من الخدمات الصحية.

 

الطواقم الطبية

ممثل نقيب الأطباء ورئيس لجنة التحقيقات المهنية في نقابة الأطباء الدكتور بول معربس رأى في مقاربته أنّ الخروج من المشاكل التي يعانيها القطاع يقتضي السعي لتثبيت الأطباء في لبنان بعد أن باتت هجرتهم تهدد سلامته. وأشار في هذا السياق إلى عدم تقاضيهم بدل أتعابهم من الجهات الضامنة منذ العام ٢٠٢١ وتزايد الإجحاف بحقّهم في ظلّ قرارات تعسفية اتخذتها شركات التأمين.

الوضع في القطاع التمريضي ليس بأفضل وفق العرض الذي قدمته نقيبة الممرضات والممرضين في لبنان الدكتورة ريما ساسين قازان، فقد لفتت إلى أنّ حوالى ٢٠ بالمئة من الممرضين قد غادروا بهدف تأمين مستوى معيشي أفضل، ما خلّف هوة كبيرة بين عدد الممرضين والمرضى في لبنان، إذ أصبح الأدنى بحسب منظمة الصحة العالمية (ممرضة واحدة لكل ألف شخص)، وهذا أدى إلى تداعيات كثيرة. ورأت أن الحل هو تحسين شروط العمل التمريضي، وتوحيد الرواتب المتفاوتة، وتأمين الضمان الصحي، إضافة إلى تطوير الكفاءات ما يخفف الأخطاء التمريضية والمضاعفات ومدة الاستشفاء وكلفته. 

 

الدواء

من جهته رأى نقيب الصيادلة الدكتور جو سلّوم أنّ اتباع النموذج الذي تقدمه الطبابة العسكرية يوفّر الحلول العملية لتحسين القطاع الصحي. ودعا إلى اعتماد نظام يتيح المتابعة ومركزية الدعم التي نادوا بها كنقابة منذ وقت طويل عندما كان دعم الأدوية عشوائيًا. ولفت إلى أنّ دور النقابة محصور في الصيدليات والمستوصفات الشرعية التي تتم مراقبتها بالتعاون مع وزارة الصحة، إلا أنّ المشكلة تكمن في المستوصفات غير الشرعية التي توزّع الأدوية المزوّرة والمهرّبة.

في ما يتعلق بدعم الأدوية، أشار نقيب مستوردي الأدوية في لبنان الأستاذ كريم جبارة إلى أنّ الأموال تضاءلت كثيرًا ولم تعد تكفي طويلًا لدعم كل الأدوية التي ما زالت مدعومة، وعددها يقارب الألف، ورأى أنّه يجب حصر الدعم بأدوية الأمراض المستعصية والمزمنة، ليشمل حوالى ٢٥٠ دواء أساسيًا فقط. ومنعًا للتهريب يجب السماح للمستورد بتأمين أدوية غير مدعومة لتغطية الطلب وحاجة السوق من الأدوية التي تدخل لبنان، والأهم وقف التهريب.

وشددت نائب رئيس تجمع شركات الأدوية العالمية في لبنان كارول حسون على أهمية المحافظة على لبنان كمركز امتياز وتميّز رغم الأزمة؛ إلا أنّها أشارت إلى تراجع مكانته ما يقتضي إعادة وضعه على السكة الصحيحة، من خلال تقديم التزام واضح وصريح من قِبل السياسيين للمحافظة على المستوى العالي للرعاية الصحية بغضّ النظر عن الثمن. وشددت على أهمية توافر الكادر الطبي والموارد البشرية في القطاع الصحي، وتفعيل دور مراكز الرعاية الأولية مع الحفاظ على توافر الدواء الحديث الفعّال ووصوله وتسجيله في البلاد. وإذا حُلّت الأزمة المالية فإنّ الحلول لوصول الدواء المبتكر سوف تكون سريعة جدًا.

وأشارت الدكتورة كارول أبي كرم نقيبة مصانع الأدوية في لبنان إلى أنّ هذه المصانع تحمّلت مسؤوليتها خلال الأزمة، وأمّنت ٧٥ ٪ من حاجة المريض للدواء. ورأت أنّه من الضروري الوصول إلى الاكتفاء الذاتي والاعتماد على الصناعة الوطنية بدءًا بالأدوية المزمنة وصولًا إلى الباقي. لذا يجب تطوير لائحة الأدوية الأساسية من خلال نظام شراء موحّد وأسس موحّدة، مع العلم أنّ الطبابة العسكرية كانت السبّاقة لإيجاد الحلول في هذا المجال. وبهذه الطريقة تصبح الصناعة الوطنية أولوية من خلال اتفاقيات متبادلة ملزمة تؤمّن بدورها الدواء النوعي بالسعر المناسب.

 

المستشفيات

نقيب أصحاب المستشفيات في لبنان المهندس سليمان هارون لفت إلى أنّه في العام ٢٠١٨ كانت الجهات الضامنة الرسمية في الدولة تدفع ١٥٦٢ مليار ليرة لبنانية سنويًا، أما في العام ٢٠٢٢ فقد ارتفع الرقم ليصل إلى ٧٠٤٣ مليار ليرة لبنانية، لكنّه بالمقابل لم يشكّل إلا ٩ بالمئة من المبلغ السابق. إذًا فالحل العملي يتطلّب توجّهات استراتيجية محدّدة منها: وضع خريطة صحية من أجل ترشيد الاستثمارات في القطاع الصحي، تشجيع المستشفيات على اتباع التخصصية بهدف خلق مراكز متفوّقة الجودة، تحديد الاحتياجات الطبية كما الإمكانات المتاحة والمواءمة بينهما، توحيد المبادئ التوجيهية السريرية، ووضع لغة معلوماتية موحدة بين المستشفيات والجهات المعنية بالشأن الصحي والجهات الضامنة.

 

المستلزمات والمعدات الطبية

السيدة سلمى عاصي نقيبة مستوردي المستلزمات والمعدات الطبية في لبنان، أشارت إلى أنّه ولسوء الحظ لم تعد المعدات والمستلزمات الطبية المستوردة تتطابق مع معايير الجودة العالمية المطلوبة حاليًا. فالبضائع تدخل بشكلٍ غير شرعي وثمة معدات طبية غير مطابقة للشروط تدخلها شركات غير شرعية وغير مسجّلة في النقابة، أما الشركات الأساسية فما زالت ملتزمة تطبيق المعايير المحددة، مع العلم أنّ أموالها مجمّدة في مصرف لبنان في حين تبلغ قيمة الأموال التي ديّنتها للسوق المحلي حوالى ٢٠٠ مليون دولار على سعر الـ١٥٠٠ للدولار الواحد. 

 

خبرات دولية

ثم كانت مداخلة للدكتور عمر دبوس (طبيب ذو خبرة طويلة في مجال التكنولوجيا الحيوية والأدوية) ناقش خلاها مستقبل النظام الصحي من خلال الخبرات الدولية، التي تعتمد في معظمها نظام الرعاية الصحية الشامل. وتطرّق إلى قضية مساهمة المواطنين في هذا النظام، من خلال دفع مبالغ شهرية معينة، مقابل خدمات صحية شاملة. 

وعرض الدكتور دبوس نماذج بعض الدول مثل رواندا التي كانت أنظمتها الصحية ضعيفة ولم يتم استخدام المرافق إلا بصعوبة. ومن نظام هشّ وغير فعال ظهر نظام CBHI) Community Based Health Insurance) التجريبي الذي تمّ منعه خلال الإبادة الجماعية. وجنبًا إلى جنب مع الصعوبات الاقتصادية للمواطنين، تمّ وضع خطة أساسية طويلة الأمد لنظام صحي جديد، يتضمن إشراك الإدارة المركزية للمخطط واستخدام الأموال، واستشارة السكان والقادة المحليين والعاملين الصحيين. وبدأت السياسات الوطنية في العام ١٩٩٥ تستثمر النتائج لدعمها ماليًا ووضع النظام الصحي المجتمعي الشامل، بالإضافة إلى أنشطة التأمين الأخرى... ثم أعيد تطوير البرنامج في العام ٢٠٠٧ الذي دعا إلى عدم دفع الرسوم والاتكال على المساعدات الخارجية...

وتحدث عن تجربة النظام الصحي في اليونان وتطوره منذ أن تأسست الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي في العام ١٩٣٤، ثم تمّت الدعوة إلى اللامركزية في أعقاب الحرب العالمية الثانية والحرب الأهلية اليونانية، ثم تمّ التوسّع في قطاع وصندوق التأمين الصحي الاجتماعي في الستينيات، إلى أن تأسس النظام الصحي الوطني في العام ١٩٨١ بهدف توفير التغطية الصحية الشاملة لجميع السكان. 

كما تطرق الدكتور دبوس إلى الأنظمة الصحية في كل من ألمانيا، مصر، تركيا والمملكة العربية السعودية، والتي تعتمد بمجملها على النظام الصحي الشامل. وختم مشيرًا إلى النقاط الواجب التشديد عليها في المشاريع الهادفة إلى تحقيق الرعاية الصحية المطلوبة في لبنان، ومن أبرزها:

-تأمين تغطية صحية وطنية شاملة.

-خلق شراكة بين القطاع العام والمؤسسات الخاصة لخدمة الخطة الصحية .

-السعي إلى اعتماد نماذج تمويل مبتكرة.

-إجراء إصلاحات في قطاع الصيدلة.

-اتخاذ التدابير الوقائية والتوعية في مجال الصحة العامة.

-إيجاد توازن بين خدمات الرعاية الصحية والطاقم الصحي المناسب.

-اعتماد النظام الرقمي في قطاع الرعاية الصحية. 

 

الفرصة سانحة لتغيير نظامنا الصحي

كما تحدّث البروفسور شادي صالح (المدير المؤسس لمعهد الصحة العالمية في الجامعة الأميركية) فأكد أن المقولة التي ادعت طوال السنوات الثلاثين الماضية أن القطاع الصحي في لبنان فعّال هي مجرد أسطورة وذلك أنّ عبء الفاتورة الصحية كان يُلقى على عاتق المواطن.

وتطرق في حديثه إلى الاستراتيجية الصحية التي عرضها وزير الصحة، مشيرًا إلى ثغرة أساسية في المدة المحددة للتنفيذ، وذلك أنّه من غير المنطقي وضع خطة بعيدة الأمد ( سبع سنوات) في بلد يعاني أزمة اقتصادية وهبوط يومي في القيمة الشرائية لعملته الوطنية.

وأشار إلى الكلفة المالية لتحويل واستدامة النظام الصحي في لبنان، موضحًا أنّه من الضروري إجراء نقاش بنّاء في وزارة الصحة بين جميع المعنيين بالقطاع الصحي، والتأكد من أنّ العمل يتمّ بطريقة مُمنهجة، لأنّه من المستحيل أن تستطيع الوزارة لوحدها تغيير هذا النظام الصحي. وأكّد أنّ المضمونين اليوم هم غير مضمونين، لأنّهم باتوا يدفعون ثمن كلفة الاستشفاء من جيوبهم بنسبة تراوح بين ٨٠ و٨٥ في المئة.

وفي إطار الدعم المالي الممنوح للقطاع الصحي أشار إلى إسهام الجهات المانحة في هذا المجال بدءًا من المنظمات الدولية كالاتحاد الأوروبي، مرورًا بمنظمات المجتمع المدني والتي يبلغ عددها في لبنان نحو الـ٦٠ منظمة، والمنظمات غير الحكومية والتي يبلغ عددها نحو الألف. وأوضح أنّه من الضروري إدارة هذه الأموال بطريقة شفافة ورشيدة، وصرفها بطريقة عادلة.

وإذ رأى أنّه في ظل الأزمة الصحيّة الخطرة في لبنان ثمة فرصة كبيرة لتغيير النظام الصحي المعتمد، أشار إلى ضرورة إنشاء برنامج طارئ للحماية الصحية

Protection Program Emergency Health.

وتطرق البروفسور صالح إلى مسألة الدواء وأهمية تطوير صناعته في لبنان، مشيرًا إلى فقدان الدواء الجنريك منذ العام ٢٠١٩، مشدّدًا على أهمية إنشاء الـ Mega Center الخاص بالدواء في مختلف المناطق اللبنانية، إضافة إلى تنظيم وحدات صحية في المناطق، مع ضرورة ترك الحرية للمريض في اختيار مستشفاه.

 

حول استراتيجية وزارة الصحة

ناقش الاختصاصيون في مجال الصحة والتأمين والقانون الثغرات في الاستراتيجية الصحية التي وضعتها وزارة الصحة مع الأطراف المعنيين بالقطاع الصحي والصعوبات التي يمكن أن تعيق التنفيذ، وقد أدار النقاش الأستاذ فادي الجردلي طارحًا عدة أسئلة حول مسائل التشريع والتمويل والدراسات الاكتوارية ودور المؤسسات في دعم الاستراتيجية. 

 

لنظام ضريبي عادل

وفي هذا السياق، قدم النائب الدكتور بلال عبدالله مداخلة استهلها بالتساؤل حول النظام الصحي الذي يريده لبنان، مؤكدًا وجوب الخروج من النظام الحالي الذي هو ملك الأحزاب والطوائف والمناطق، ويعتمد على الهبات الخارجية ودعم المنظمات خصوصًا وأنّ الأخيرة يتأثر عطاؤها بالقرارات والمواقف السياسية. وأشار في المقابل إلى ضرورة بناء نظام صحي يتوافق مع حاجات اللبنانيين والإمكانات المتوافرة، موضحًا أنّه يتم التشاور بين جميع الفرقاء في القطاع الصحي عما إذا كان من الأفضل توسيع شبكة الضمان الاجتماعي بمعنى التكافل والتضامن الاجتماعي، أو خلق نظام صحي رديف، له علاقة بالتغطية الصحية الشاملة أو ما يسمونه بالبطاقة الصحية. وأشار في هذا الإطار إلى مشكلتين تواجهان التنفيذ، الأولى تتعلق بمن سيدير النظام، مشيرًا إلى تدخل السياسة والأحزاب في كل مشروع ما يؤدي إلى تخريبه. أما الثانية فتتعلق بالتمويل، موضحًا أنّ موازنة الدولة في الوضع الحالي معروفة، وهي لا تسمح بوضع خطة استراتيجية طويلة الأمد. وختم بالقول أنّه آن الأوان كي يكون هناك تكافل وتضامن اجتماعي. فالدولة باتت عاجزة عن الدفع، فيما نجد أن أغنياء البلد لا يدفعون الضرائب. وأشار إلى أنّ الحل هو بتحقيق نظام ضريبي عادل يُخصَّص جزء منه للبطاقة الصحية والتغطية الاستشفائية وتقديمات الدواء وغيرها من الخدمات الصحية.

 

دور الجامعة اللبنانية 

من جهته، تطرق رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور بسام بدران إلى دور الجامعة في دعم القطاع الصحي، موضحًا أنّه خلال أزمة الكوفيد-١٩، كان أطباء كلية الطب وممرضوها في خط الدفاع الأمامي، من خلال وجودهم في جميع المستشفيات الحكومية وبعض المستشفيات الجامعية، مشيرًا إلى أن هذا الدعم العملي مستمر من خلال رفد المستشفيات بالأطباء والممرضين لتغطية الفجوات في مختلف الاختصاصات. وأكد أنّ الجامعة قادرة، من خلال كفاءاتها ومبانيها، على تشغيل مختبر مركزي وعلى تغطية جزء كبير من النقص في الأدوية من خلال معمل للأدوية تعمل على تأسيسه، لكن المشكلة هي النقص في التمويل. وتحاول الجامعة اللبنانية حلها عن طريق مشاريع إنتاجية مثل مشروع فحوصات PCR للوافدين إلى لبنان الذي نفذته خلال أزمة الكوفيد وتمكنت من خلاله جمع مبلغٍ من المال، وإن كان لا يكفي لتلبية مشاريعها الهادفة لخدمة المجتمع. 

 

الشراكة مع القطاع العام

من جهته، أشار عضو جمعية شركات الضمان في لبنان السيد إيلي نسناس، إلى حلٍّ عملي يطبق حاليًا ويخدم المواطن ويزيل عبئًا كبيرًا عن الدولة في الوقت نفسه، وهو إرشاد أرباب العمل لشراء بوالص تأمين لعمالهم تشمل الطبابة والاستشفاء وفارق الضمان. 

كما تحدث عن عمل مشترك مع وزارة الصحة يهدف إلى إحياء العلاقة بين شركات الضمان ومراكز الرعاية الصحية الأولية والمستشفيات الحكومية، مؤكدًا أنّ إقامة الشراكة مع القطاع العام ستؤدي إلى خفض كلفة الطبابة، وستسهم في تحقيق التغطية الصحية الشاملة. 

 

ضرورة وجود قاعدة معلومات

بدوره، أكد الخبير الاكتواري السيد إبراهيم مهنا أنّه لا يمكن القيام بدراسات اكتوارية في لبنان لأنّ المؤسسات المعنية بما فيها شركات التأمين والضمان الاجتماعي وغيرها، تحمي بياناتها ولا تسمح بالدخول إليها ما يحول دون إمكان معرفة الأرقام الحقيقية التي يجب دراستها. وأضاف أنّه في لبنان، هناك من لا يدفعون الضرائب ولكنهم في المقابل يستفيدون من خدمات وزارة الصحة، لذلك يجب أن يكون هناك قاعدة معلومات لتوثيق كمية الأموال الداخلة إلى القطاع مقابل الأموال التي تُصرف على المستفيدين، وبالتالي معرفة الحاجات المادية للقطاع. 

كذلك تطرق السيد مهنا إلى دور الممرضين مشيرًا إلى ضرورة الأخذ برأي نقابتهم في أي مشروع للرعاية الصحية وذلك أنها الطرف الوحيد الذي لا مصلحة مادية له في أي خطة، كما أنها مطلعة على مشاكل القطاع عن كثب وتدرك تمامًا الصعوبات والمشاكل التي يعانيها.

 

تعزيز الرقابة والتخطيط 

وتناول النائب السابق الأستاذ غسان مخيبر دور المؤسسات في دعم مشروع الرعاية الصحية، كما تطرق إلى الشق التشريعي في الخطة الصحية. وأوضح أنّه على المستوى السياسي، يجب بناء مؤسسات دستورية فعالة قادرة على اتخاذ القرارات المتعلقة بالتدابير الصحية الضرورية، لا سيما وأنّ الجهات المانحة تربط تقديم المساعدات بوجود هذه المؤسسات التي تضمن حسن التنفيذ. وبالنسبة إلى الشق التشريعي، أشار إلى أنّ مجلس النواب لا يقتصر دوره على تشريع القوانين، وإنما يشمل الرقابة والتمثيل اللذين لا يطبقان كما يجب. وأضاف أنّ القوانين التي تطرح في المجلس النيابي غالبًا ما تفتقر إلى الاستراتيجية والدراسات الشاملة، ما يشير إلى أنّ هناك انفصامًا كاملًا ما بين مشاريع القوانين وحاجات البلد للإصلاح الشامل. ولفت في هذا الإطار إلى مشكلة غياب التخطيط، التي ردّها إلى أنّ المشاريع تنفذ وفق مصالح سياسية وطائفية ومجموعات اقتصادية، وليس بناءً على خطة متفق عليها لتلبية حاجات المواطنين. 

كذلك أشار مخيبر إلى ضرورة إعادة النظر في استراتيجية الصحة لأكثر من سبب، فهي أولًا تشمل خططًا على المدى المتوسط والطويل في حين أنّ القطاع الصحي في لبنان بحاجة لخطط آنية ومباشرة. كما أنها لا تعطي مسألة التمويل وزنها، فليس هناك دراسات حول ما إذا كانت نسبة الأموال التي ترد عن طريق الضرائب والهبات واشتراكات الأعضاء كافية لتنفيذ الخطة، وهنا تطرق إلى غياب الحسابات الاكتوارية التي يفترض الاستناد إليها قبل وضع التشريعات. وختم مؤكدًا ضرورة بناء مؤسسات دستورية وتعزيز دور الرقابة والتخطيط.

 

التعاون بين المؤسسات

تناول السيد جو أبو شقرا مدير عام شركة GlobeMed مسألة البيانات الضرورية للدراسات الاكتوارية، مشيرًا إلى أن شركات مقدمي الخدمات الصحية تراقب الفواتير الاستشفائية وتساعد المرضى لدخول المستشفيات، وتملك بالتالي قاعدة بيانات مهمة في هذا الإطار، مبديًا نيته في وضع بيانات شركة GlobeMed التي تشكل حوالى ثلاثين بالمئة من سوق القطاع الخاص في تصرف الدراسات المذكورة. وتحدث من جهةٍ أخرى، عن ضرورة التعاون بين مؤسسات القطاع الطبي لخدمة المواطن وذلك عن طريق تخفيض الفاتورة الاستشفائية ما يقود إلى تخفيض فاتورة التأمين إلى ما دون الألف وخمسمئة دولار أميركي في العام لعائلة مكونة من أربعة أشخاص. 

 

التوصيات

في ختام المناقشات والاقتراحات، أعلن العقيد الطبيب وجدي حداد أنّ المؤتمر تمكن من بلوغ الأهداف المرجوة، ألا وهي فتح نقاش حول القطاع الصحي ومشاركة تجربة المؤسسة العسكرية بهدف الوصول إلى حلولٍ تحيي القطاع الصحي وتمنعه من الانهيار. وقد عرض أبرز التوصيات التي خلص إليها المؤتمر على الشكل الآتي:

• تعزيز الحوكمة في المؤسسات عن طريق زيادة الشفافية، ووضع سياسات وإجراءات واضحة، بالإضافة إلى تنفيذ أنظمة مراقبة وتقييم فعالة.

• توحيد المعايير والمبادئ التوجيهية من خلال التعاون بين الجهات الحكومية ومقدمي الرعاية الصحية وشركات التأمين.

• اعتماد نهج الشراء المركزي، الذي يؤدي إلى خفض التكاليف وتوحيد الجودة من خلال تعزيز القوة الشرائية لدى مختلف الأطراف المعنية بالرعاية الصحية.

• تأمين الحد الأدنى من التغطية الصحية بمعنى تمكّن الجميع من الاستفادة من الخدمات والمزايا الطبية الأساسية. وتهدف هذه الخطوة إلى تأمين خدمات رعاية صحية عالية الجودة من جهة وتقليل تكاليف الرعاية الصحية من جهة أخرى.

• إعادة النظر في الرعاية الأولية عبر إعادة الهيكلة التنظيمية والتمويل، ووضع سياسات وإرشادات واضحة، بالإضافة إلى تدريب مقدمي الرعاية الأولية.

• الشراكة بين أجهزة القطاع العام من جهة وبين القطاعين العام والخاص من جهة أخرى، والتي تؤدي إلى تقاسم الموارد والخبرة والمعرفة، كما تتيح مشاريع مشتركة وترتيبات الإدارة المشتركة، بالإضافة إلى الاستعانة بمصادر خارجية.