رحلة في الانسان

الروائح عواطف وذكريات واسرار...
إعداد: غريس فرح

يعتقد كثيرون أن حاجة الإنسان الى حاسة الشم قد تضاءلت تدريجاً منذ خروجه من عالم الكهوف وتطوّر قدراته الإدراكية, التي مهدت السبيل أمام نشوء الحضارات الأولى. بهذا أصبحت هذه الحاسة أكثر ارتباطاً بخصائص بعض الحيوانات التي تستعين بها في معظم شؤون حياتها, كتحديد مصادر الطعام والخطر والتزاوج وتأمين الحماية.
إلا أن هذا الإعتقاد الراسخ قد دحضته مؤخراً آراء مغايرة أثبتت بالدراسات, أن أهمية حاسة الشم البدائية عند الإنسان لا تقل عن أهميتها عند الحيوان. ما يعني أن الإنسان المعاصر الذي بات يعتمد عموماً على إدراكه المتطوّر وما أفرزه من تقنيات معقدة, لا يزال يحتفظ بحواسه الفطرية, وخصوصاً حاسة الشم بمكانة مميزة, ويدين لها بقسط وافر من وجوده وبقائه. من هنا التركيز الحالي على أهمية الروائح في حياة الإنسان, وخصوصاً لجهة تأثيرها المباشر على الصعيدين النفسي والبيولوجي.
فكيف تؤثر الروائح في الجهاز العصبي, وكيف تنعكس على المزاج والصحة؟

 

نظام في الدماغ البشري

كما هو معروف, يشكل مركز الشم جزءاً من نظام في الدماغ البشري يتحكم بالذاكرة والعواطف والمزاج, إضافة الى المقدرة على الاستشعار. أي أن حاسة الشم ترتبط عملياً بسلسلة القدرات والإنفعالات الملازمة لعمل هذا النظام, والذي تحتل الذاكرة أهم أجزائه. لذلك تلعب الروائح التي تنقلها حاسة الشم الى الدماغ دوراً مهماً على الصعيد العاطفي, وتنعكس سلباً أو إيجاباً على عمل أعضاء الجسم.
والمعـروف أيضـاً أن حاسـة الشم الفطـرية التي تعتبر من أقدم الحواس التي تطوّرت في الدماغ البشري البدائي, قد أسهمت ولا تزال ببقاء الأجناس وتطورها. والدليل ما نزال نلمسه في سلوك الأطفال الحديثي الولادة والبالغين على حد سواء.
فالطفـل الحديـث الولادة يتعرّف فـوراً الى رائـحة أمـه لحـظة خروجه من الرحم. بعدها يتمـكن من تميـيز رائحـة حليـبها, ويتوجـه بفمـه الى ثدييـها طلباً للبقـاء. وللغـاية نفسها تتأجـج الرغبات الجنسـية عند البالغين من ذكـور وإناث, وينجـذبون الى بعضـهم الآخر بفعل رائحة الفيرومـونات التي تفـرزها أجسامهـم. والفيـرومونات حسـب التقارير العلمـية, هي مواد كيميـائية تفـرزها أجسـام البشـر والحيوانـات لأهداف طبيعـية أهمها تنظـيم الحيض عنـد الإناث, وتأمـين الإنجذاب بين الجنسين وفـق معايير تنسـق الإختيار لصـالح تطوّر الأجـناس. تجـدر الإشارة هنا الى أن هذه الإفرازات تُلتقط عبر غدة في الأنف, علـماً أن لا رائـحة مميزة لها.

 

تأثير الرائحة على الصحة

بالإضافة الى أهمية الدور البدائي الذي تلعبه حاسة الشم على صعيدي التكاثر والإستمرار, فهي كما ثبت تلعب دوراً مميزاً على الصعيد الصحي لناحية تزويد الجسم بالنشاط والطاقة, وعلاج بعض الحالات المرضية.
هذا الدور تنبهت إليه الشعوب القديمة منذ آلاف السنين, حيث تمت معالجة بعض الأمراض الشائعة عن طريق التدليك بالأعشاب العطرية واستنشاق رائحتها. والمخطوطات القديمة بالإضافة الى الرسوم التي عثر عليها في أكثر من موقع أثري, تؤكد على الأهمية التي أولاها الأقدمون للعلاج بالروائح العطرية. كما أن المعلومات التي تحتويها هذه المخطوطات تعتبر مراجع مهمة من قبل دعاة العودة الى الطب الشعبي الذي يشمل التدليك والمداواة بالروائح والأعشاب بالإضافة الى الرياضة الروحانية القديمة.

 

كيف تؤثر الروائح في الجسم؟

دعاة العودة الى العلاج الطبيعي يعتمدون في دعوتهم على الرأي العلمي الذي يؤكد على وحدة الجسم والمشاعر. لذا فهم عندما يعالجون الأمراض بالطرق الشعبية, يدركون أن تأثير علاجهم يطال العواطف والمزاج قبل أن ينتقل الى الأعضاء المريضة. ولكن كيف يحصل ذلك؟
عندما يتنفس الإنسان الهواء العطر والمحبب, ترسل الخلايا المستقبلة للرائحة في الأنف نبضات الى مركز الشم في الدماغ, وهو بدوره يرسل جزئيات سريعة الحركة تنشّط إفراز هرمون الأدرينالين الكظري الذي يزيد تدفق الدم وسرعة التنفس ونبضات القلب, الأمر الذي يزيد النشاط, ويرفع المعنويات والثقة بالنفس. ولدى الوصول الى هذه الحالة النفسية الإيجابية, يحصل نوع من الإسترخاء والتركيز والتواصل بين مستقبلات الأعصاب وجهاز المناعة, فيتحصن الجسم ويتأمن الشفاء الذاتي.

 

تأثير الروائح السلبي

من ناحيـة أخـرى, من الممـكن أن تلعـب الروائح العطرة وحتى المحببة منها دوراً سلبياً على صعيد الصحة. وهذا يحصل عموماً في حال إرتباط هذه الروائح بالذكريات الأليمة التي تتسبب بالحزن والإكتئاب. وعلى ذكر الإكتئاب, تؤكد الدراسات التي أجريت في غير مكان على العلاقة بين هذه الحالة النفسية وبين ضعف حاسة الشم أو فقدانها, وخصوصاً في صفوف المسنين.
فمن المتعارف عليه أن حاسة الشم كسواها من الحواس تتضاءل مع التقدم بالسن بسبب وهن يصيب مستقبلات الشم في الأنف. وهذا يحصل عموماً نتيجة التلوّث والإلتهابات المتكررة التي تصيب جيوب الوجه.
وباعتبار أن الإستمتاع بالروائح العطرة وخصوصاً المرتبطة بالذكريات السعيدة يؤجج العواطف وينشط الجسم, ويرفع المعنويات, فإن فقدان المقدرة على الإستمتاع بهذه الروائح قد يؤدي حسب إعتقاد الأطباء, الى نتائج سلبية على الصعيدين الصحي والنفسي. والجدير ذكره أن الباحثين في إحدى الجامعات الأميركية, قد وجدوا مؤخراً بيّنات واضحة تشير الى العلاقة بين فقدان حاسة الشم التدريجي ومرض “ألزهايمر” الذي يؤدي الى فقدان الذاكرة والإدراك, ما يدل على الرابط الوثيق بين حاسة الشم البدائية والقدرات الدماغية المتطوّرة.
أما بالنسبة للألم الناتج عن غياب هذه الحاسة, فقد عبّرت عنه آراء مجموعات المسنين الذين شملتهم الدراسات, والذين أكدوا أن من يفقد المقدرة على الشم, كمن يفقد المقدرة على الإستيعاب والإدراك, والإستمتاع بالخيال وأحلام اليقظة وتذوّق نكهات الطعام. على كل فالطب النفسي الذي يعنى بتفاصيل العوامل المؤثرة في الحواس والمشاعر, توصل مؤخراً الى معلومات دقيقة تتعلق بتأثير كل من الروائح على المزاج والصحة وحتى الشهية والتركيز والنوم. والروائح المعلبة الموجودة في الأسواق والمعدة لتعطير المنازل والمكاتب, هي خير دليل على رواج هذا الإتجاه في صفوف الأكثرية الساحقة من الناس.
يبقى علينا أن نختار. فلكل منا ذوق ومزاج, وأسرار كامنة في روائح تعبق بها الذكريات.