تراث

الزجل اللبناني إلى ذاكرة العالم
إعداد: جان دارك أبي ياغي


بعدما التصق بالذاكرة الشعبية ولوّنها بالجمال
للشعر الزجلي فضل كبير في صياغة الذائقة الفنية لدى اللبنانيين، وفي تنمية حسهم الجمالي.
فهذا الشعر الذي ارتقى بصياغاته وصوره من دون أن يترك نضارته وعفويته، حلّ في الذاكرة الشعبية والتصق بها ليساهم في تشكيلها.

 

كانوا زغار...
مع مبدعين مثل الأخوين رحباني وميشال طراد و«الأسعدين» (السبعلي وسابا)، وعبد الجليل وهبي وطانيوس الحملاوي، وآخرين يصعب حصرهم، بات الزجل مادة مغناة حملتها أصوات استثنائية الجمال وأخذتها إلى كل أذن وقلب. من ينسى مثلًا صوت فيروز وهو يحفر في القلب:
كانوا زغار وعمرهن بعدو طري
لا مين عرِف بهمن ولا مين دري
يقلاّ بجيب الريح تَ تلعب معك
وبكتب عيونك عَ الشتي تَ تكبري
ليردّ وديع الصافي:
كــان يــا مــا كــان في بنــت وصبــي...
هذا نموذج لارتقاء الزجل إلى مصاف الشعر المتألق صورًا وتأملًا ونضارةً وجمالًا وبساطة.

 

إلى ذاكرة العالم
اليوم بات الزجل اللبناني على لائحة التراث العالمي بعدما أدرجته الأونسكو ضمن «تُراث البشريَّة الثقافيّ غير الماديّ». فبعد 30 سنة (1984) من إدراج خمسة مواقع من لبنان (بعلبك، عنجر، بيبلوس، صور، وادي قاديشا) على لائحة «التراث العالمي الثقافي الطبيعي»، ها هي منارة لبنان تشع في العالم من جديد، وهذه المرة بنور الزَّجل، الفن اللبناني المكتنز إرثًا شفوًيًا غنيًا ينتقل إلى العالمية من حيّزه المحلي، مع أعلام موهوبين يلقونه في مناسبات محلّيّة، أو مع جوقات زجلية تغنيه على منبر في ساحة ضيعة، أو في بضعة كتب تصدح مضمونًا وتتلعثم شكلاً وكتابةً بالأحرف العربية.
أقرَّت الأونسكو البحث عن «التراث الشفوي» العام 1990، وأطلقته «لحفظ إرث البشرية غير المادي الحيّ أو المهدَّد بالزوال» وأوصت «باتخاذ التدابير الضرورية لتأمين استمراره وانتقاله من جيل إلى جيل». وبين العامين 2009 و2014 سجّلت الأونسكو 314 عنصرًا على هذه «اللائحة التمثيلية للبشرية»، وأعلنت (بقرارها الرقم 9/10-25) دخول الزجل اللبناني على تلك «اللائحة» على أنه «نوع من الشعر الشعبي اللبناني الملقى أداءً أو المغنَّى تأديةً، فرديًا أو جماعيًا، في مناسبات اجتماعية أو عائلية، وفي مبارزات شعرية مباشرة أمام الجمهور، تتجلى فيها جمالات لبنان وقيم التسامح والحوار والحق في الاختلاف».

وشدَّدت الأونسكو على أن الزجل اللبناني «صمَّام أمان ذو دور رئيس في المساعدة على تمتين التماسك الاجتماعي».
وورد في ختام القرار أن «الزَّجل اللبناني منتشر على جميع الأراضي اللبنانية، ويسهم في ترسيم الهوية الثقافية واستدامتها بين صفوف الشعب اللبناني»، وبهذه الصفة أدخلته المنظمة إلى «التراث الحي في دول المتوسط».
يتفرّد لبنان بهذا الفن المدموغ بعبقرية ارتجالٍ، ووفرة أنواعٍ، وتعدد أوزانٍ، وإبداعات شعراء، والموثق بالآثار المطبوعة والمسموعة والمرئية، ودخوله العالمية حافز لإدخاله مناهجنا التربوية الرسمية. وهو يمكن أن يدخل هذه المناهج شعرًا أو موادّ سمعية يتوافر منها كمّ من الكنوز بأصوات فيروز ووديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين... وبذلك ينتقل هذا الإرث اللبناني الجميل إلى أجيالنا الجديدة.

 

تاريخ الزجل اللبناني
الزجل هو فن من فنون الأدب الشعبي وشكل تقليدي من أشكال الشعر العربي باللغة المحكية.
وتعني كلمة زجل بالعربية «الصوت» ويكون عادةً ارتجاليًا، في شكل مناظرة بين عدد من الزجّالين (شعراء ارتجال الزجل) مصحوبًا بإيقاع لحني بمساعدة بعض الآلات الموسيقية. وينتشر الزجل بشكل كبير في لبنان وغرب سورية.
وشعر الزجل من روائع الكلام يدخل إلى القلب بيسر ويتقبله السامع لحلاوة كلماته وشفافيته. ويصف جبران خليل جبران الزجل بأنه مثل باقة من الرياحين قرب رابية من الحطب.
يتميز الزجّال بسرعة بداهته، وقوته في الارتجال والتعبير. وهو يتناول الأمجاد والوطن والطبيعة والجمال... فالزجل هو مسرح الحياة اليومية بجميع مواضيعها.

بداية الزجل المكتوب والمدوّن كانت في القرن الثاني عشر للميلاد، عندما نشر سليمان الأشلوحي (1270 - 1335)، من بلدة أشلوح في عكار، قصيدته عن نكبة طرابلس، التي سقطت في أيدي المماليك العام 1228، ويقول مطلعها:
يا حزن قلبي، وما يخلّي من أحزاني
والقلب من الحزن شاعل بنيراني...
بعد العام 1450، (ما بين التاريخين ربما كُتبت قصائد كثيرة، لكنها غير مدوَّنة)، تعرَّفنا إلى جبرائيل القلاعي (1450- 1516). هذا المطران الذي كتب الزجل موضوعًا وتأريخًا تحت عناوين مختلفة، وقد بلغت زجلياته أكثر من 25 مطوَّلة، تتعدَّى أبياتها الخمسة آلاف بيت من الشعر، وقد تطرَّق فيها إلى المواضيع الدينية والاجتماعية والتأريخية والوطنية، كما جاء في «موسوعة الشعر العامي اللبناني» للشاعر روبير خوري (2006).

وفي منتصف القرن الثامن عشر، بدأنا نتعرّف إلى أسماء كبيرة كتبت الزجل، على سبيل المثال لا الحصر: رومانوس حنيني (1800 - 1845)، وردة الترك (1797 - 1874)، محمد سلطان (1829)، يوسف الحاج متى المعلوف (1835)، الياس الفرّان (1825 - 1921)، منصور شاهين الغريّب (1848 - 1920)، وغيرهم... وصولًا إلى رشيد نخله «أمير الزجل اللبناني»، أسعد الخوري الفغالي الملقَّب بـ«شحرور الوادي» (1894 - 1937)، خليل روكز (1922 - 1962)، والعديد من الشعراء الذين لمعوا في تلك الفترة، وسواهم من الشعراء الحاليين.

 

الزجل بأقلامهم
الدكتور عدنان حيدر، الذي وضع كتابًا بالإنكليزية عن الزجل اللبناني (يصدر قريبًا لدى منشورات جامعة كمبردج في إنكلترا)، يعرّف الزجل كما اعتمدته منظمة الأونسكو بأنه «فن كسائر فنون الشعر، وإذا كان الشعر يتميز بفتنة البيان فالزجل يتميز بفتنة النغم».
وقد أوضح أن «في الزجل أسلوبين: المنفلت من الإيقاع وهو «نثر النغمات» لا انضباط موسيقيًا فيه ولا التزام بحدود الوزن وقواعده، و«نظم النغمات» وهو المتّبع قواعد النظم وبحوره وأصولها.
الأديب والشاعر جوزف أبي ضاهر، وهو صاحب موسوعة وسلسلة مؤلفات عن الزجل وأعلامه، يصف «الغزل في الزجل»، متناولًا حضور المرأة في هذا الفن التراثي منذ مطالعه، وكيف ظهرت فيه ملهمة وحبيبة وعاشقة حرّكت المشاعر والعواطف...
واختار أبي ضاهر مراحل زمنية أعقبت البدايات، في أبيات من الأمير بشير الشهابي فأمين الريحاني وجبران وناصيف اليازجي وسعيد شقير، وصولًا إلى مرحلة التجديد في الزجل مع «أميره» رشيد نخلة، وبعده عبد الله غانم، ميشال طراد، أسعد سابا، عاصي ومنصور الرحباني، غابي حداد، إيليا أبو شديد، خليل روكز، طانيوس الحملاوي وطانيوس عبده.

ثمة أنواع مختلفة من الزجل، وحسب الشاعر موسى زغيب أبرز هذه الأنواع: المعنى، القرادي، القصيد، المستحيلات، المجزم، المخمس المردود، الدلعونا، العتابا، الميجانا، الهوارة، الحداء، والشروقي.
يعتبر الشعر الزجلي، الشعر الأكثر شعبية في لبنان، أو على الأقل هذه مكانته المفترضة، وهكذا كانت حاله منذ الثلاثينيات مع الشعراء المؤسسين مثل: شحرور الوادي، ورشيد نخلة، ومع الجيل الثاني والثالث مثل: أنيس فغالي، وزغلول الدامور (جوزيف الهاشم)، وزين شعيب (أبو علي)، ومحمد مصطفى، وجان رعد، وموسى زغيب، وخليل روكز، وطليع حمدان، وإدوار حرب، وجريس البستاني وأسعد سعيد وغيرهم.

 

أشهر الجوقات الزجلية في لبنان
أسّس الشعراء جوقات زجلية وترأسوها للدلالة على مكانتهم الشعرية في المجتمع، وقد حققت هذه الجوقات شهرة كبيرة جدًا ومنها ما هو مستمر حتى يومنا هذا.

 

1. جوقة شحرور الوادي: كانت جوقة شحرور الوادي (الشاعر أسعد الخوري الفغالي) أولى الجوقات، والنواة التي انطلقت منها جوقات أخرى. تأسست في العام 1928، وضمّت في بدايتها إلى الشحرور: أمين أيوب، يوسف عبد الله الكحالة، إلياس القهوجي، ثم انضم إليها بعد ذلك علي الحاج، طانيوس عبده، وأنيس روحانا.
بعد وفاته انضم إلى الجوقة حسب وصية الشحرور الشاعر أميل رزق الله، وبقيت الجوقة محافظة على أعضائها إلى تاريخ وفاة الشاعر علي الحاج العام 1971، وكانت نواة تأسيس الجوقات.

 

2. جوقة بلبل الأرز: تألفت سنة 1928 وأسسها وليم صعب الملقب ببلبل الأرز، وكان حينها في السادسة عشر من عمره، وبقيت حتى العام 1937. بعد وفاته توقفت عن نشاطها الزجلي وتحولت إلى النشاط التمثيلي.


3. جوقة كروان الوادي: تألفت العام 1931، وكان يرأسها الشاعر كميل خليفة الملقب بكروان الوادي، وضمّت عباس الحوميني، جورج سعادة حرب، والياس نجيب الخوري، وكانت في منافسة شديدة مع جوقة الشحرور. وفي منتصف الخمسينيات اتجه الكروان لتأسيس مجلة «كروان الوادي» وتوقفت الجوقة عن إحياء الحفلات الزجلية نهائيًا في بداية الستينيات.

 

4. فرقة زغلول كفرشيما: تألفت في العام 1932 وكانت برئاسة ميشال القهوجي الملقب بزغلول كفرشيما، وفي العام 1938 استبدل اسمها لتصبح فرقة الزغلول، وبقيت حتى العام 1965 حيث اعتزل المنبر وتوجه إلى مجلته «الأدب الشعبي». وفي العام 1944 كانت أول فرقة تدشن إذاعة لبنان بحفلة عن الاستقلال دامت نصف ساعة، وكانت فرقة زغلول كفرشيما منافسة لجوقتي شحرور الوادي والكروان.

 

5. جوقة نسر المزرعة: تأسست العام 1934 من الشعراء أمين أيوب والياس القهوجي وسليم الفران ومتري الدَرَزي.

 

6. الرابطة العاملية: تألفت الرابطة العاملية الزجلية في العام 1943 برئاسة الشاعر علي الحاج البعلبكي وعضوية السيد محمد المصطفى، عبدالجليل وهبه، أسعد سعيد وعبدالمنعم فقيه.

 

7. جوقة أهل الإذاعة: تأسست في مطلع أيار 1955 وقدمت حفلتها الأولى من الإذاعة اللبنانية بمناسبة عيد الشهداء، وكانت تضم طانيوس الحملاوي، أسعد السبعلي، عبدالجليل وهبة وأسعد سابا.

 

8. جوقة الأرز: أسسها الشاعر حنا موسى العام 1944 وكانت تضم الشعراء شحادة الفغاـلي وأنيـس الفغالي (تركها أنيس بعد فترة ليلتحق بالتدريس)، وخليل روكـز وزين شعيـب ودامت ثلاث سنوات. تعاقبت الأسماء وتبدلت خلال عمر الجوقة، إلى أن انتهت في العام 1997 حيث أودى حادث سير أليم برئيسها حنا موسى وهو في طريقه لإحياء حفلة زجلية في شويت – المتن الأعلى.

 

9. جوقة زغلول الدامور: أسسها الشاعر جوزيف الهاشم الملقب بزغلول الدامور في العام 1944 وكانت تضم جوزيف الخويري، وطانيوس الحاج وواكيم سعادة. وهي لا تزال حتى يومنا هذا، مع تبدل أسماء الشعراء فيها من وقت لآخر، فيخرج منها شاعر ليدخلها آخر. عرفت هذه الجوقة الكثير من الشعراء المشهورين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: خليل روكز، زين شعيب، جان رعد، أسعد سعيد، جوزيف الخويري، فرحان العريضي، طانيوس الحاج، موسى زغيب، كميل زيادة، أنطوان باسيل، كميل شلهوب، طليع حمدان، إدوار حرب، الياس خليل، أديب محاسب، فايز المغربي، سمير عبدالنور، وغيرهم.
وقد خاضت مباراة المشرف في أيلول 1970 التي سجلت أكبر حضور حاشد لمستمعي الزجل، ومن ثم مباراة القلعة – بيت مري في تموز 1971، وبعدها مهرجانات المدينة الرياضية في حزيران 1972، كما شاركت في حفلات في بلاد الاغتراب، وفي مهرجانين من مهرجانات جرش، ولم تتوقف عن إحياء الحفلات لا صيفًا ولا شتاءً ولم تزل حتى اليوم.

 

10. جوقة الجبل: تأسست العام 1953 برئاسة فرحان العريضي وعضوية الشعراء أنطوان عيد، حنينة ضاهر، مزيد حمزة وشارك في بعض حفلاتها رفعت مبارك. لم تحيي الكثير من الحفلات لكنها كانت ذات حضور إعلامي.

 

11- جوقة خليل روكز: على أثر وفاة الشاعر خليل روكز في العام 1962، قرر أعضاء الفرقة وهم موسى زغيب وجريس البستاني وأنيس الفغالي وبطرس ديب، تغيير اسم فرقة الجبل التي كانت برئاسة خليل روكز وإطلاق اسمه عليها تخليدًا لذكراه. وقد كانت الجوقة الأكثر نشاطًا إذ أحيت في شهر آب من العام 1969 30 حفلة زجلية بمعدل حفلة كل ليلة.

 

12- جوقة القلعة: في تشرين الثاني من العام 1972، أي بعد عشر سنوات على وفاة الشاعر خليل روكز، تأسست جوقة القلعة تيمنًا بمباراة القلعة. واستمرت هذه الجوقة في تألقها الشعري وتحدياتها المنبرية إلى أن توقفت جزئيًا في العام 1975 بسبب الأحداث، ثم عادت واستأنفت نشاطها في العام 1990، وما زالت حتى اليوم في طليعة الجوقات.

 

من كنوز الزَّجل اللبناني
إن بكيتي
الكون من أجلك بكي
وإن ضْحِكتي انْهزّ عرش المملكه
وكلّ شي ربي خَلَق لُطْف وجمال
أعطى البشر قيراط..
والباقي كلّو لِكِي
                        
            رشيد نخله

 

دقت على صدري وقالتلي: افتحو
تشوف قلبي ان كان بعدو مطرحو
وِانْ صَحّ ظني وشِفتلو عندك رفاقْ
بِسترجعو وما بْعود خلِّيك تلمحو
                      
          عبدالله غانم

 

ليلى عروس شعري خَلَقها ربّْها
وكسَّر القالب منْ بعدْ ما صَبّْها
قَلّي وصفها قلْتْ دخْلك عِيْفني
بْخاف أوصُفها إلك وتْحبْها
                    
          رامز البستاني

 

  تبسَّمتْ لْلمَيْ منها لْحالْها
قرَّبتْ حتى شوفْ شو فيه قْبالْها
تاري السَّمك بالمَيّ بيحبّ الحلو
وتْجمَّعو السَّمْكات حول خْيالها
                      
           طانيوس عبدو

 

ما ضلّ عاشق من صدودك تَ شِكي
وقلبِك محَجّر ما يْلينْ لْمِشْتِكي
عَ سلامتو يلي شَمَطْ قلبِكْ وراح
تَ يعلّمِك يا ظالمه كيف البِكي
             
          الياس الحويك

 

واقفي عَ شط البحر بكّاني السفر
مين قدّي تلوّع... ومتلي نَطَر
مع كل موجه رايحه ببعت سلام
ومع كل موجه راجعه بنطر خبر
                 
     طانيوس الحملاوي


قد يكون غناء صباح لهذا الموال واحدًا من أسباب التصاقه بالذاكرة الشعبية اللبنانية. لكن مواويل أخرى وقصائد، ما فتئت تكرج من جيل إلى جيل، ترش فيها عطر الكلمة ورونق الصورة، وإن طغى عليها أحيانًا كثيرة طابع التحدي و«العنتريات».