- En
- Fr
- عربي
شؤون دولية
تعيش اليابان مرحلة تحوّل جذري في عقيدتها الدفاعية، بعدما ظلّت لعقود حبيسة دستورٍ سلميّ صِيغ تحت وقع الهزيمة في الحرب العالمية الثانية. يقود هذا التحوّل تيّارٌ سياسي يرى في تعزيز القدرات الدفاعية ضرورة وجودية في بيئة دولية متقلّبة، حيث تتداخل الحسابات الجيوسياسية بالمصالح الحيوية على تخوم الأرخبيل الياباني.
يواصل رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا (Shigeru Ishiba) الذي تسلّم دفّة الحكم في تشرين الأول من العام 2024، مسار الخروج من سياسة السلمية التي كرّسها الدستور زمن الوجود الأميركي في الأرخبيل عقب هزيمة الجيش الإمبراطوري العام 1947، ويمضي بخطى واثقة نحو تعزيز التوجه العسكري وبناء قدرات رادعة لاحتواء الأخطار الناجمة عن التوسّع الصيني وعدائية كوريا الشمالية، وصولًا إلى القنبلة الموقوتة التايوانية وتداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية.
ويُسجّل موقف لافت لطوكيو في هذا السياق، إذ اصطفّت إلى جانب كييف، واستقبلت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، ودعمته بالمال والخبرات في خروجٍ واضح عن سياسة الحياد التقليدية التي عُرفت بها إمبراطورية الشمس الطالعة.
وبات معروفًا أن مهندس هذا الانعطاف الجذري في الاستراتيجية الدفاعية اليابانية هو رئيس الحكومة السابق شينزو آبي، الذي أمسك بالحكم في فترتين، بين 2006-2007، ثم بين 2012-2020، فأنشأ «المجلس القومي للأمن»، ودرّب قوات الدفاع الذاتي على التقنيات العسكرية الحديثة. واقتفى خطواته فوميو كيشيدا (2021-2024) الذي صاغ خطّة خمسية خاصة بالإنفاق الدفاعي وصفها بـ «نقطة تحوّل في سياسات الأمن القومي الياباني».
وقد كانت بكين في المرصاد لهذه القفزة التي رأت فيها «نسخة أسيوية من الناتو»، خصوصًا أنّها تضمّ الفيليبين وكوريا الجنوبية، أي حلفاء أميركا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
خروج على الحيادية الرمادية
أنهت العاصمة اليابانية طوكيو، العام 2024، بحكومةٍ هشّة وسريعة العطب، بسبب انتكاسات انتخابية وأوضاع اقتصادية ضاغطة. وفي ظل هذا المشهد، تمّ انتخاب شيغيرو إيشيبا، ممثّل مديريّة توتوري، ووزير الدفاع السابق، خلفًا لـ فوميو كيشيدا في رئاسة الحزب الليبرالي الديمقراطي (PLD) الحاكم، في أيلول 2024، ومن ثمّ على رأس الحكومة، في مطلع شهر تشرين الأول الماضي، وذلك بعد أن اضطرّ كيشيدا للتنحّي بسبب فضيحة سياسية تورّط فيها العشرات من أنصار الحزب.
وفي رهانٍ على دينامية فوزه المزدوج، بادر إيشيبا إلى حلّ الجمعية الوطنية في تشرين الأول المنصرم، وإجراء انتخابات سابقة لأوانها. وركّز حملته على أمن اليابان، ورفع الأجور بنسبة 40 في المئة حتى العام 2019. وعلى الرغم من هذه الإغراءات، لم يحصل الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم وحليفه حزب «كوميه» الصغير إلّا على 215 مقعدًا، بعيدًا عن الغالبية المطلقة التي هي 233 مقعدًا للسيطرة على البرلمان. غير أن إيشيبا لا يُعدم الأوراق الرابحة من أجل تحريك مشاريعه. فقد أخرج أرنبًا من تحت قبّعته، ورمى صنّارته في مياه حزب الشعب الديمقراطي المعارض (PDP) الذي جعل من خفض الضرائب نقطة ارتكازه، لعلّه يحظى بأي صيد ثمين لدعم صفوف حزبه والتحكّم في المعادلات الداخلية. ولا شك في أنّ تمتين وضعه الداخلي دفعه إلى بلورة حزمة مواقف حاسمة وجريئة أخرجت اليابان من منطقة الحياد الرمادي. ففي 19 شباط 2024، استضافت طوكيو مؤتمرًا لإعادة إعمار أوكرانيا في خطوةٍ رمزية وسياسية لافتة. وفي هذا السياق بالذات، بدا أنّ الخلف والسلف، كيشيدا وإيشيبا يتكاملان في رسم ملامح التوجه الجديد للسلطة التنفيذية. إذ مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، تعهّدت العاصمة اليابانية تقديم سلّة دعم مالي بقيمة 10 مليارات دولار، في إطار تضامنها مع مجهود كييف الحربي، إذ لا يمكنها تقديم أسلحة ومنظومات عسكرية مباشرة بسبب القوانين التي تحظّر تصدير الأسلحة الفتّاكة. وتبيّن أنّ نحو خمسين شركة يابانية تنشط في قطاعات الزراعة، والطاقة، والبنية التحتية، وقّعت مع نظيرتها الأوكرانية اتفاقيات وصفقات، ما دفع الرئيس زيلنسكي للقول إنّ بلاده «لن تنسى أبدًا عطاءات اليابان التاريخيّة...».
حلف أطلسي - آسيوي
هذا الموقف الحاسم من الأزمة الروسية – الأوكرانية التي انطلقت شرارتها فعليًا في العام 2014 مع ضمّ شبه جزيرة القرم إلى الاتّحاد الروسي، لا ينسحب على حيادية طوكيو إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ ظلّت بعيدة عن بحيرة النار، لكنّها في المقابل سمحت بتظاهرات شاجبة للإبادة في غزّة، عمّت مختلف أرجاء الأرخبيل. وهذا التعاطف النظري مع غزّة، قفز إلى الواجهة مع الاحتفالات بذكرى القصف الأميركي النووي لمدينتَي هيروشيما ونجازاكي في 6 و9 آب 1945. وبدا أنّ عمدة هذه الأخيرة، شيرو سوزوكي، تعمّد عدم دعوة السفير الإسرائيلي لحضور المناسبة من أجل «إبقاء الحفاوة التذكارية لضحايا الضربات النووية في جو من الهدوء والأبّهة الاحتفالية». وفي غمرة هذه المشهدية الخاصة، عبّر الناجون من المجزرة الذرّية، المعروفون بالـLes Hibakusha، عن دعمهم للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وتبنّت مؤسّسات الدولة هذا الموضوع التعبوي بمناسبة فوز منظّمة Nihon Hidankyo بجائزة نوبل للسلام بفضل عملها الدؤوب من أجل نزع الأسلحة النووية.
غير أنّ العلاقات مع واشنطن تبقى الأكثر حساسية ودقّة وإشكالية على الرغم من التحالف العسكري، والمظلة الأمنية، والانتشار الأميركي المدجّج في الأرخبيل وقوامه 55 ألف جندي من مختلف الأسلحة، إضافةً إلى 15 قاعدة عسكرية رئيسية، علمًا أنّ نصف القدرات والعديد يتركز في جزيرة Okinawa في الجنوب.
ومع ذلك، كان لفوز الرئيس دونالد ترامب بولاية ثانية في 5 تشرين الثاني الماضي ارتدادات صعبة ومتشابكة على رئيس الحكومة اليابانية شيغيرو أيشيبا، خلافًا للولاية الترامبية الأولى (2017-2021) التي تميّزت بالهدوء والتعاون بفضل الروابط الشخصية الوثيقة بين المكتب البيضاوي ورئيس الحكومة اليابانية الأسبق، سينزو آبي (2012-2020 Abe). هذه الحالة النوعية لا تنطبق على وضعية رئيس الوزراء الحالي الذي من الصعب أن يستطيع الصمود إزاء متطلبات ترامب. وفي أول اتّصال مع الرئيس العائد إلى تلة الكابيتول، أبلغه أنّ بلاده حريصة ومتمسّكة بالتحالف الأمني مع واشنطن وبالتقارب مع كوريا الجنوبية، فضلًا عن اصطفافها إلى جانب تايوان، ما يُشكّل نواة صلبة لـ «حلف أطلسي – آسيوي»، ويعقّد العلاقات أكثر مع الجار الصيني.
ثورة مفهومية
سادت طويلًا مقولة مفادها أنّ اليابان قطب اقتصادي عالمي، (الثالثة في الترتيب الدولي بعد الولايات المتّحدة والصين، وقبل ألمانيا التي تحتل المركز الرابع) وقزم سياسي، ويد عسكرية مكبّلة. إذ لا يسمح دستور البلاد خصوصًا في المادة التاسعة منه، بشنّ الحرب. وقد جاء فيها ما حرفيّته: «إنّ الشعب الياباني يُقلع نهائيًّا عن الحرب. ولذلك لن يحتفظ نهائيًّا بقوّات برّية، بحرية وجوّية أو أي قدرة حربية أخرى...». هذا الدستور السلمي تمّت صياغته تحت الاحتلال الأميركي للأرخبيل، غداة استسلام الجيش الإمبراطوري، ودخل حيّز التطبيق في العام 1947، وقد خضع لقراءات واجتهادات مختلفة. وتلمّس عدد من المجتهدين والشارحين إمكان الانطلاق من النص الدستوري لبناء قدرات دفاعية، من دون انتهاك العقيدة السلمية أو المسالمة، وهي مقدّسة ويتمسّك بها الرأي العام الياباني. من رحم هذه الازدواجية، وُلدت في العام 1954 قوات الدفاع الذاتي اليابانية. وكانت بمثابة الخطوة الأولى نحو عسكرة إمبراطورية الشمس الطالعة وتزويدها أنواع المنظومات الحربية شتّى، أسوةً بالدول الأخرى. واللافت في هذا الإطار، أنّ اليابان، سواء كانت مجرّدة من السلاح أم مدجّجة به، لم تُطلق رصاصة واحدة منذ العام 1945. وفي ترسانتها اليوم، 4 حاملات طوافات وطائرات مقاتلة، و20 غوّاصة هجومية وأسراب من الطائرات الهجومية (نحو 100 طائرة)، بينها أف 35 التي تنتمي إلى الجيل الجديد. هذه الأدوات الرادعة تعزّزها مظلة حماية أميركية متكاملة الأذرع والموارد البشرية. والهدف هو امتلاك القدرة على الاستجابة عسكريًّا للسياق الأمني الإقليمي الذي يتدهور باستمرار، حاملًا بذور صراعات وانفجارات مقبلة. فالصين تزداد عدائية، وهي مصمّمة، أكثر من أي وقت مضى، على استعادة تايوان حتى ولو اضطرّت إلى استخدام القوّة. تُضاف إلى ذلك، تهديدات كوريا الشمالية التي تمارس من دون انقطاع هواية التجارب الصاروخية البالستية التي تعبر الأجواء اليابانية قبل أن تتحطّم في المحيط الهادئ. والروس بدورهم ليسوا غائبين عن هذا المشهد، فعداؤهم كبير ومشتعل إزاء طوكيو، وذاكرتهم تستحضر جراح حرب 1904 – 1905 التي لم تندمل بعد. ويُفاقم التوتر بين الجانبين النزاع المزمن حول جزر الكوريل اليابانية التي تحتلّها موسكو منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
هاجس غزو تايوان
يكشف المحلّل السياسي الأميركي هال براندز، أنّ جولته الأخيرة في طوكيو وأوساكا ولقاءاته مع كبار المسؤولين واختصاصيّي الجغرافيا السياسية اليابانية، سلطت الضوء على ثورة في الفكر الاستراتيجي الذي يتفاعل في بلاد الساموراي نتيجة ممارسات بكين في منطقة شرق آسيا، ما دفع أصحاب القرار في الأرخبيل إلى تسريع وتيرة التحضير لمواجهة أكبر دولة من حيث عدد السكان (1,411 مليار نسمة) وإحدى أكبر القوى العسكرية في العالم. ويُشير إلى أنّ الصين تشكّل خطرًا بالنسبة إلى الولايات المتّحدة، لكنّه خطرٌ بعيد. والأمر مختلف مع اليابان التي تواجه خطرًا صينيًّا وجوديًّا على أعتاب بابها.
وأظهر استطلاع للرأي أنّ تسعين في المئة من اليابانيين يعتقدون أنّ أخطارًا داهمة تتربّص ببلادهم، في صدارتها غزو الصين لتايوان. وجاءت التغييرات العسكرية الأخيرة في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني لتلهب الهواجس والوساوس من غزو قريب. ويؤكّد هنا هال براندز أنّ استيلاء الصين على تايوان سيكون كارثة لليابان، مع تداعيات مدمّرة، خصوصًا على الجزر الواقعة في أقصى الجنوب الغربي، بعد أن تصبح مجرّدة من أي قدرة دفاعية. كذلك، فإنّ إمبراطورية الوسط (Empire du Milieu)، كما يُطلق على الصين، قد تعترض خطوط التجارة الحيوية لليابان، وتُضاعف من الضغوط عليها بشأن السيادة على جزر سينكاكو، في محاولة لقهر خصمها التاريخي في الإقليم الجغرافي.
وعلى خلفية هذه التهديدات المتزايدة، واستحضارًا لشبح الحرب الكبرى بين الإمبراطوريتين الصينية واليابانية في العام 1937، أعلنت حكومة طوكيو، بوضوحٍ لا لبس فيه، أنّها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي محاولة لغزو تايوان، طاويةً صفحة الحياد والمسالمة. وقد أطلقت ورشة تعزيز قدراتها العسكرية، دفاعًا وردعًا، ضاعفت من خلالها إنفاقها العسكري حتى العام 2027، وحوّلت جزرها الجنوبية الغربية إلى قلاعٍ حصينة مزوّدة صواريخ مضادة للسفن وأنظمة دفاع جوّي، كما حصلت على صواريخ توماهوك الأميركية العابرة للقارات. وفي موازاة الورشة التعبوية، ازداد عمق التعاون العسكري والاستراتيجي، وتمثّل في مروحة من التدريبات العسكرية المشتركة وتحشيد القوى.
وثائق أمنية متكاملة
تصبّ هذه الروافد في إطار استراتيجية دفاعية يابانية جديدة، محورها «قوّة ردع متعدّدة المجالات»، كما يقول الخبير الفرنسي Philippe Pelletier في كتابه المرجعي «جيوبوليتيك اليابان» – 2023، لافتًا إلى تجهيز «قوات الدفاع الذاتي» بقدرات في الفضاء الإلكتروني والطيف الكهرومغناطيسي، إلى جانب إمكانات في المجالين البحري والجوي، فضلًا عن منظومات صاروخية شاملة. ويُميط هذا الباحث الستار عن ثلاث وثائق أمنية أقرّتها مؤخرًا الحكومة اليابانية، هي: استراتيجية الأمن القومي الجديدة (NSS)، واستراتيجية الدفاع الوطني (NDS)، وبرنامج بناء القدرات الدفاعية (PDP). والقيمة الإجمالية لهذه الورشة تلامس 350 مليار دولار، وهي الأكبر من حيث أرقامها منذ الحرب العالمية الثانية، وتغطي الأعوام الثلاثة المقبلة. وأبرمت طوكيو مؤخّرًا اتفاقية دفاعية غير مسبوقة مع بريطانيا، ودخلت في شراكة مع لندن وروما لتطوير المقاتلة «تمبست» المدعومة بالذكاء الاصطناعي. وهذا أول مشروع دفاعي دولي كبير تخوض طوكيو غماره خارج المظلة الأميركية. لكن على مدى العقود السبعة الماضية، اعتمدت إمبراطورية الشمس الطالعة، بعد أن جرّدها الأميركيون من حق شنّ الحرب إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، على حماية واشنطن في مقابل منحها قواعد انتشار كبير في شرق آسيا. وقد تحوّلت بفعل ذلك إلى حاملة طائرات أميركية عملاقة...
لا شك في أنّ الصين وكوريا الشمالية هما شرارتا تغيير العقيدة العسكرية اليابانية. لكنّهما ليستا العنصر الوحيد، ومع إطلاق «العملية العسكرية الروسية الخاصة» ضد أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022، حذّر رئيس الحكومة السابق، فوميو كيشيدا من «أنّ الشرق الأقصى قد يتحوّل غدًا إلى أوكرانيا اليوم». بكلامٍ آخر، في حال هاجمت الصين تايوان، فإنّ كل المنطقة مرشّحة للاشتعال. واليابان، بحكم تحالفها مع الولايات المتّحدة، سوف تجد نفسها منقادة بشكل شبه ميكانيكي إلى مستنقع المواجهة والمعادلة التي لوّح بها كيشيدا، وكان قد أشار إليها رئيس الحكومة الأسبق ياشيرو ناكاسوني الذي أدار دفّة الحكم بين 1982 – 1987، عندما تحدّث عن «عدم تجزئة الوقائع الاستراتيجية بين أوروبا والشرق الأقصى»، وفق ملاحظة يواشي فون باشي، مدير مركز دراسات «Asia Pacific Initiative»، وهو يذهب بالاتّجاه نفسه قائلًا: «يواجه اليابانيون اليوم التحدّيات نفسها التي يعاندها الأوروبيون والغربيون، بشكلٍ عام. وبالنظر إلى الأزمة الأوكرانية من ثقب الباب الياباني، فهي تبدو شمولية المآلات والتداعيات. وعلى هذا الأساس، دقّ اليابانيون النفير، متوجّسين من قطبة روسية مخفية ضدّهم».
قاعدة خلفية لمحاربة الشيوعية
بحسب المحلّلين والخبراء في طوكيو، فإنّ رؤية الانغماس الياباني في حروب ضد الصين، وكوريا الشمالية، وروسيا، برزت لأول مرة بهذا القدر من السطوع والواقعية، وهو تاريخ انعطاف استراتيجي سابق في كتاب العسكرة اليابانية. يومها كانت حكومة شينزو آبي في قمرة القيادة، ويُعد هذا الوزير الأول أحد مهندسي توسيع المجال العسكري لإمبراطورية الشمس الطالعة قبل أن يتم اغتياله في تموز 2022. وقد أرسى مفهوم «الحق في الدفاع الذاتي الجماعي» الذي تحوّل إلى قانون في البرلمان واقترع لصالحه في شبه إجماع ناجز. وهو يخوّل قوات الدفاع الذاتي المشاركة في عمليات عسكرية إلى جانب أحد الحلفاء الذي يتعرّض لهجوم من دولة عدوّة بعد أن كان دورها مقتصرًا على حماية الأرخبيل فقط.
والمفارقة في هذا الإطار هي أن اليابان دولة ذات سيادة على أراضيها، غير أنّها ما زالت تعتمد بشكلٍ واسع على الولايات المتّحدة في الحقول العسكرية والاستراتيجية. ويُلاحظ هنا، خبير عسكري أجنبي مقيم في طوكيو، «أن الأميركيين لهم كل الحقوق». في معرض حديثه عن الهامش الواسع للقوات الأميركية المرابطة على الأراضي اليابانية. بالطبع، إنّ العلاقة الأميركية اليابانية، تمّ نسجها وصياغتها في قلب معمعة التاريخ التراجيدي والمتشابك لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتركّز التعاون في تلك المرحلة المأزقية الحسّاسة على حماية الأراضي اليابانية المدمّرة، منزوعة السلاح، والعاجزة، تاليًا، عن تأمين أي دفاع ذاتي لها. وهنا، لا بدّ من التقاط جوانب من الحنكة والدراية الاستراتيجية لدى الأميركيين الذين استشعروا أهميّة الموقع الجغرافي الياباني في النطاق الآسيوي، فأحاطوا طوكيو بالعناية، وجعلوا منها شريكًا عسكريًا وتجاريًا كبيرًا، بهدف بلورة دورهم وحضورهم الفاعل في زمن الثنائية القطبية مع الاتحاد السوفياتي سابقًا، ومع العملاق الصيني راهنًا. وكانت اليابان قاعدة خلفية لمحاربة الشيوعية فوق المدى الواسع للهند الصينية، كما جاء في أوراق معهد Erips للدراسات السياسية. وفي قراءة لمعاهدة الأمن والتعاون المشترك الأميركية - اليابانية المبرمة في العام 1960، يتّضح أنّ واشنطن تلتزم الدفاع عن طوكيو في حال تعرّضها لأي هجوم. في المقابل، تسمح العاصمة اليابانية بانتشار قوات أميركية في أراضيها، وهذه التبادلية قائمة وسارية المفعول على الرغم من رفض أحزاب اليسار لها.
مفارقة مزدوجة ولعبة خيارات
بالطبع، إنّ اليسار الياباني فَقَدَ أي تأثير فوق رقعة الشطرنج السياسية، وأقطابه عُرفوا بعدائهم للمؤسّسات، للرأسمالية ولأميركا، وجاهروا باصطفافهم في الملعب الصيني، ولكن سرعان ما جرى تقليم أظافرهم، وغابوا عن المشهد لمصلحة جيلٍ جديد يدعم خيارات تزويد الأرخبيل بالقدرات الاستراتيجية. والمعروف أنّه في العام 2015، وبعد تبنّي البرلمان قانون «الحق في الدفاع الذاتي الجماعي»، خرجت تظاهرات المعارضة في طوكيو والمدن الرئيسية، خلافًا لغياب أي تظاهر في نهاية العام 2022، مع صدور الوثائق الاستراتيجية الثلاث: الأمن القومي، الدفاع الوطني، وبناء قدرات الردع. وكانت بمثابة خريطة طريق لعسكرة الإمبراطورية، والقول وداعًا للحيادية والسلمية اللتين فرضتهما الهزيمة العسكرية في الحرب الكونية الثانية. وتبدو هنا، المفارقة اليابانية الأكثر تعقيدًا: إنّ الصين عدوّ سياسي أول، لكنّها أيضًا شريك اقتصادي أول. وهذه الازدواجية، تحدّث عنها الجنرال كويشي ايزوب قائلًا: «علينا أن نستوعب ثنائية الواقع الصيني، من جهة، تشّكل بكين تحدّيًا عسكريًا، ومن جهة ثانية، هي أكبر شريك تجاري لنا. والعلاقات معها حيوية لاقتصادنا...». ويذهب في المسار ذاته نائب وزير الخارجية بين 2002 – 2005، هيتومي تاناكا، الذي يعمل الآن مستشارًا في أحد مراكز الأبحاث في طوكيو، ويسعى إلى حشد رأيٍ عام مناهض لأي تدهور في العلاقات الصينية - اليابانية، وهو القائل إنّ امتلاك صواريخ بالستية وفرط صوتية لا يمنع أي هجوم، إذا قرّرت بكين أو بيونغ يانغ ذلك... داعيًا إلى إيجاد بدائل سلمية مثل الحوار والمواءمة بين الضرورات الاقتصادية والموجبات الاستراتيجية من أجل تجنّب الحرب. لكن الجدل الداخلي لا يعلو على صوت المعركة، والكلمة الأخيرة للأميركيين الذين رسموا دور اليابان في أي نزاعٍ لهم مع الصينيين.
حوافز وإغراءات
يشير أستاذ العلاقات الدولية في جامعة Keio، في طوكيو، ماسايوكي تادوكورو إلى أنّ القيادة العليا في أركان «قوات الدفاع الذاتي» اتّخذت احتياطات عملياتية لحماية الأرخبيل في حال غزو الجيش الصيني لتايوان. ويرتكز درع الحماية في جنوب البلاد، حيث تقع جزيرة Yonaguni الأقرب إلى تايوان، وقد تحوّلت إلى حصنٍ منيع متّصل بسلسلة الجزر اليابانية المتاخمة في عمقٍ يتجاوز المئتي كيلومتر.
هذه الخريطة التعبوية، وما تقتضيه من نشر أفضل الوحدات القتالية، تستلزم نفقات دفاعية إضافية وافقت عليها الحكومة بالإجماع. وفي العام 2024، بلغت ميزانية الدفاع اليابانية نحو 7,7 مليار ين (Yen)، مسجّلة زيادة كبيرة بنسبة 150% مقارنةً بميزانية السنة المالية 2022. ويتوقّع أن تصل هذه الميزانية إلى 68 مليار دولار بحلول العام 2027، في قفزة نوعية تغطي بشكلٍ خاص كلفة نشر صواريخ كروز بعيدة المدى ومنظومات هجومية متطوّرة.
تستند هذه الزيادات التصاعدية إلى اقتصادٍ متين، يتبوأ المركز الثالث في العالم، ويتمتّع بمقوّمات إنتاجية متقدمة وصناعات متنوّعة في حقول الإلكترونيات والميكانيك والكيمياء، تتّسم بجودة عالية. ويُجمع الخبراء على أنّ «المعجزة الاقتصادية» اليابانية نتجت عن أربعة عوامل رئيسية: التحوّل التكنولوجي، تراكم رأس المال، تطوّر نوعي وكمي في اليد العاملة المدرّبة، وتوسّع التجارة الدولية. ويتكئ اليابانيون على التخطيط الاستراتيجي كما على تضافر الجهود بين القطاعين الخاص والعام، مع تركيزٍ على الصناعات اللامتناهية الصغر (النانوتكنولوجيا) بما يشمل الحواسيب والتقنيات الإلكترونية، الروبوتات، السيارات الكهربائية والهجينة (Hybrides)، والهندسة الكيميائية إضافةً إلى العقاقير ذات المفاعيل الخارقة.
ولهذه العوامل، يُعمّر المواطنون اليابانيون، إذ بلغ متوسط العمر 88 عامًا للنساء و82 عامًا للرجال، وفق وزارة الصحّة والعمل والشؤون الاجتماعية في طوكيو، ويُعزى ذلك إلى النظام الغذائي البحري. غير أنّ المجتمع الياباني يعاني في المقابل تحديات ديموغرافية حادّة، أبرزها ارتفاع معدلات الشيخوخة وتراجع معدلات الولادة، رغم الحوافز والإغراءات الحكومية، ما يشكّل نقطة الضعف الأساسية في «إمبراطورية الشمس الطالعة»، ويُصار إلى معالجتها بتؤدة.
الابتكار والمجتمع الرقمي
وفي غوصٍ أعمق في أسرار المعجزة الاقتصادية اليابانية، يتّضح أنّ الابتكار التكنولوجي هو المفتاح لفهمها والإحاطة بها. فثمة التزام من أعلى مستويات القيادة السياسية بدعم البحث والتطوير. وتدرك الشركات أنّ الابتكار والتحديث يتطلّبان استثمارًا مستدامًا وأدمغة وظروفًا مؤاتية. ولذلك تخصّص موارد كبيرة لاستكشاف وصوغ التقنيات الجديدة.
وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى المنافسة الحامية بين ألمانيا واليابان في مجال الابتكار، وكلتاهما خرجتا مدمّرتين من الحرب العالمية الثانية، وخاضتا سباق بناء اقتصاد جديد تنافسي، يتميّز بالجودة ويغزو الأسواق العالمية. والمعروف أن مؤشر الابتكار العالمي يتشكّل من نحو 80 معيارًا ترصد الجوانب متعدّدة الأبعاد له. نذكر على سبيل المثال: براءات الاختراع التي هي عامل محوري في تعزيز التنمية الصناعية والمنافسة في الأسواق. وفي هذا المجال بالذات، أقام أصحاب القرار في طوكيو وأوساكا شراكة وثيقة بين شركات الابتكار التكنولوجي ومؤسّسات البحث الأكاديمي لخلق واستحداث حقول ابتكار فريدة ذات قدرة واسعة على استقطاب المهتمّين مثل تجسيدات الذكاء الاصطناعي والروبوتات والأجهزة الطبّية المسرفة في دقّتها، والنوعية في فاعليتها. بهذه الطريقة تخطو اليابان بسرعة نحو المجتمع الرقمي أو ما يُعرف بـ «المجتمع الخامس» (Society 5)، وهو مرحلة جديدة في مسار تطوّر البشرية، تمامًا مثل مرحلة «المجتمع الزراعي»، ومن ثم «المجتمع الصناعي» وبعده «عصر المعلومات». من هذا المنطلق، قامت المصانع الذكية الكبرى في أنحاء الأرخبيل، مع تركيز على المدن الكبرى، وبدا أنّ سنغافورة منافس مخيف في هذا المجال. ولا شك في أنّ رأس المال البشري هو الأداة الأولى والأساسية للثورة الابتكارية. والشرق الأقصى، تحديدًا، المنطقة الهندية والكورية الجنوبية واليابانية والصينية، باتت الساحة الأولى في العالم لسباق الأدمغة والابتكار والحداثة.
هموم الديموغرافيا والجيولوجيا
لكن هناك وجهٌ آخر للميدالية اليابانية، حافلٌ بالمشكلات والنقائص، وفي مقدمتها هموم الديموغرافيا، واختلال هرم الأعمار، وشيخوخة المجتمع، والنقص في اليد العاملة، وأخيرًا وليس آخرًا، استنقاع القيادة السياسية العصية على التغيير. فـ«شيخوخة السكان» توصف في وثائق الدولة اليابانية بأنّها تسونامي ديموغرافي ربما بلغ نقطة اللاعودة. ويعدّ الأرخبيل من أسرع البلدان شيخوخة على وجه الأرض، الأمر الذي يطرح تغييرات هيكلية عميقة في المجتمع.
أمّا في البنية السياسية، فثمة مشكلة نابعة من استمرارية الفريق الحاكم وتمرّده على التغيير ورفضه إفساح المجال لـ «الوجوه الجديدة»، ذلك أنّ الحزب الليبرالي – الديمقراطي PLD كان على رأس السلطة من 1955 إلى 1993. ومن ثم من 1994 إلى 2009. وبعد ذلك منذ 2012 حتى اليوم وهو يمسك بالدولة العميقة. ويدرك الساسة اليابانيون أنّهم، في حال رغبوا في الوصول إلى منصب أو موقع رسمي رفيع، فإنهم مضطرّون لركوب قطار حزب PLD، الأكثر خبرة في تضاريس اللعبة الداخلية. يُضاف إلى هذه الظاهرة ضعف المعارضة السياسية، الأمر الذي يحول دون عملية التناوب. لكل ذلك، يبدو تجديد الطبقة السياسية اليابانية بمثابة التحدّي الوطني. فالذين يمسكون بمقبض السلطة متقدّمون في السن وهم سليلو عائلات سياسية ذات جذور وتقاليد ومرجعيات في الحكم. ويلاحظ العدد المحدود جدًّا للنساء في الحكومات المتعاقبة، وإذا كانت التحدّيات لا تأتي فرادى، فإن الطبيعة الزلزالية للجغرافيا اليابانية تضيف همًّا آخر ليس له في اليد حيلة. فالأرخبيل يقع على 4 صفائح تكتونية رئيسية على طول الحافة الغربية لــ «حزام النار» في المحيط الهادئ. ولذلك يتعرّض سكّانه البالغ عددهم 125 مليون نسمة لنحو 1500 هزّة كل عام. ولاستيعاب النشاط الزلزالي، لجأ العقل الياباني إلى تزويد أساسات ناطحات السحاب بآليات مضادّة للاهتزاز تشمل وسائد مطّاطية ضخمة لعزلها عن الأرض.
المراجع
”على خلفية التهديدات المتزايدة، واستحضارًا لشبح الحرب الكبرى بين الإمبراطوريتين الصينية واليابانية، أعلنت حكومة طوكيو أنّها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي محاولة لغزو تايوان، وقد أطلقت ورشة تعزيز قدراتها العسكرية، وضاعفت من خلالها إنفاقها العسكري، وحوّلت جزرها إلى قلاعٍ حصينة مزوّدة صواريخ مضادة للسفن وأنظمة دفاع جوّي.“
”يُجمع الخبراء على أنّ المعجزة الاقتصادية اليابانية نتجت عن أربعة عوامل رئيسية: التحوّل التكنولوجي، تراكم رأس المال، تطوّر نوعي وكمّي في اليد العاملة المدرّبة، وتوسّع التجارة الدولية. ويتكئ اليابانيون على التخطيط الاستراتيجي كما على تضافر الجهود بين القطاعين الخاص والعام، مع تركيزٍ على الصناعات التكنولوجية.“
1- Géopolitique du Japon – L’empire insulaire. De : Philippe Pelletier, Editions PUF – Paris – Septembre 2023
2- L’Invention du Japon – Les masques de la tradition et les réalités de la modernité. De : Philippe Pelletier, Editions Le Cavalier Bleu, Nouvelle édition revue et augmentée, 2024.
3- Le Japon, un leader discret. De : Guibourg Delamotte, Edition Eyrolles, 2023.
4- Géopolitique de l’Indo-Pacifique. De : Isabelle Saint-Mezard, Editions PUF, Paris, 2022
5- Un numéro spécial de l’hebdomadaire « Le Point » sur le Japon : Les mystères d’une fascinante civilisation, 25 Décembre 2024.
6-Un hors-série du quotidien Le Monde : Le bilan du Monde 2025 (Géopolitique – Environnement-Économie).
هامش
هال براندز: مؤرّخ أميركي واختصاصي في السياسة الخارجية الأميركية، ومحاضر في جامعة هنري كيسنجر للقضايا العالمية.