نحن والقانون

السرية المصرفية في لبنان والحالات التي تجيز رفعها
إعداد: د. نادر عبد العزيز شافي
محام بالإستئناف

اعتمد لبنان السرية المصرفية اعتبارًا من العام 1956 وكان لذلك أثر كبير في جذب رؤوس الأموال والودائع وتوفير مناخ الإستقرار الإقتصادي.
ما هو مفهوم السرية المصرفية وكيف تطبق الأحكام المتعلقة بها، وهل ما زالت اليوم ملائمة لتحقيق الغاية التي وضعت لأجلها؟


مفهوم السرية المصرفية
يندرج السر المصرفي بمعناه الواسع في إطار سر المهنة، وتحديدًا الموجب الملقى على عاتق المصرف بعدم افشاء الأسرار المصرفية المتعلقة بزبائنه والتي آلت إليه بحكم وظيفته أو بمعرض قيامه بهذه الوظيفة، وهذا الموجب فرضته نصوص عامة، كنص المادة 579 من قانون العقوبات اللبناني.
أما السرية المصرفية بمعناها الضيق فهي الموجب الملقى على عاتق المصرف بعدم افشاء الأسرار التي حازها بفعل وظيفته، ولكن بموجب نصوص قانونية صريحة تفرض التكتم وتعاقب الإفشاء.
وتفرض الأنظمة المصرفية المعتمدة في مختلف الدول، السرية على العمل المصرفي، ولكن بدرجات متفاوتة، كما تحرص البنوك على عدم تقديم المعلومات عن العملاء إلا لمن تحددهم القوانين، وذلك انطلاقًا من الحرص على حماية الحق الشخصي للعميل الذي يخشى المزاحمة القائمة في حقل الصناعة أو التجارة واطلاع منافسيه على حقيقة أموره. هذا بالإضافة إلى مصلحة المصرف نفسه في الإحتفاظ بسرية اعماله عن غيره من المصارف الأخرى التي تنافسه محليًا وعالميًا.
كما أن السرية المصرفية تساهم في جذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، وتدعم الثقة بالإقتصاد القومي وبالجهاز المصرفي، وتشجع الإستثمار، وتوفر الثـقـة بالإئتمان المصرفي، مما ينعكس ايجابًا على مناخ الإستقرار الإقتصادي. وعلى الرغم من الإيجابيات المرتبطة بسرية الحسابات المصرفية، هناك آراء معارضة لنظام السرية المصرفية لأسباب كثيرة كالتستر على الأموال القذرة.

 

السرية المصرفية في لبنان
اعتمد لبنان السرية المصرفية بموجب القانون الصادر بتاريخ 3 أيلول 1956، مع وجود المادة 579 من قانون العقوبات التي تعاقب على افشاء الأسرار من قبل الأفراد الذين يعلمون بها بحكم وضعهم أو وظيفتهم، أو مهنتهم أو فنهم، من دون أن يكون هناك سبب شرعي أو استعمال لمنفعة خاصة أو لمنفعة أخرى.
وقد أُطلِق على لبنان تسمية سويسرا الشرق، من خلال مقارنته أو مقاربته لسويسرا في كونه ملجأ للأموال الخارجية الهاربة، ومن خلال اعتماده قانونًا للسرية المصرفية، متوخيًا منها دوافع اقتصادية تهدف إلى جذب رؤوس الأموال، لتعزيز الوضع الإقتصادي في البلاد، وحفظ سيادتها واستقلالها .

 

حالات رفع السرية المصرفية
بموجب قانون 3 أيلول 1956، تلتزم المصارف الخاضعة لأحكامه السرية المطلقة، إذ لا يجوز كشف السر المصرفي سواء في مواجهة الجهات الخاصة أو السلطات العامة، وسواء كانت قضائية أو إدارية أو مالية، إلا في حالات معينة في القانون وردت على سبيل الحصر، وهي:
1- إذن العميل او ورثته خطيًا.
2- صدور حكم بإشهار افلاس العميل.
3- وجود نزاع قضائي بينه وبين البنك بمناسبة الروابط المصرفية (المادة 2 من قانون السرية المصرفية).
4- وجود دعاوى تتعلق بجريمة الكسب غير المشروع (المادة 7 من قانون السرية المصرفية).
5- توقف المصرف عن الدفع، إذ ترفع في هذه الحالة السرية المصرفية عن حسابات أعضاء مجلس الادارة والمفوضين بالتوقيع ومراقبي الحسابات، وذلك وفق المادة 15 معطوفة على المادة 13 من القانون الرقم 2 تاريخ 16/1/1967، المتعلق باخضاع المصارف التي تتوقف عن الدفع لأحكام خاصة.
6- الاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها، وعندها ترفع السرية المصرفية بقرار من هيئة التحقيق الخاصة لمصلحة المراجع القضائية المختصة والهيئة المصرفية العليا، وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية، ووفق الفقرة الثانية من البند 4 من المادة 6 من القانون الرقم 318/2001 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال.

 

المسؤولية عن مخالفة أحكام السرية المصرفية
جعل القانون اللبناني من إفشاء السر عمدًا، جريمة جزائية يعاقب عليها القانون بجزاء أشد من الجزاء المقرر في القانون السويسري، ويتثمل بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة وفق المادة 8 من قانون السرية المصرفية (تاريخ 3/9/1956)، ولا تقام الدعوى الجزائية إلا بناءً على شكوى المتضرر.
وهذا يدل على ان السرية المصرفية في لبنان هي أشدّ مما هي عليه في سويسرا، حيث يمكن خرق السرية المصرفية بموجب حكم قضائي من المحكمة السويسرية، أما في لبنان فلا يجوز ذلك إلا في حالات محددة حصرًا.
وقد اعتبر بعض الفقهاء اللبنانيين أن نظام السرية المصرفية في لبنان، يشكل غطاء كاملاً لمن يريد القيام بعملية تبييض أموال، وهو يتمتع بمزايا تشجع على القيام بعمليات تبييض الأموال؛ مثل الاستعمال الكثيف للنقد الأجنبي، والتحويل من دون قيد أو شرط، وتجيير الشيكات عدة مرات إلى حدّ يصعب معه الرجوع الى نقطة الانطلاق.

 

السرية المصرفية كعقبة تواجه مكافحة بعض الجرائم
إن أولى الخطوات التي يجب اتخاذها من أجل مكافحة بعض الجرائم، وخصوصًا الجرائم المالية مثل تبييض الأموال، هي الإستقصاء والتفتيش عن الأموال غير المشروعة وعن مصادرها، بالإضافة إلى دراسة العمليات النقدية وتحليلها، وجمع المعلومات المتعلقة بتطور عمليات تبادل الأموال... إلا أن القيام بهذه الخطوات يتطلب الكشف عن الودائع الموجودة في المؤسسات المالية، وخصوصًا المصارف، الأمر الذي يصطدم بسرية الحسابات المصرفية.  وقد تضافرت كل الجهود الدولية لرفع السرية المصرفية التي تعيق مكافحة بعض الجرائم وعمليات تبييض الأموال، وذلك من خلال المعاهدات الدولية، فكانت اتفاقية فيينا العام 1988، والتي ركزت على ضرورة عدم الإحتجاج بسرية العمليات المصرفية من أجل تقديم السجلات المصرفية (البند الثالث من المادة الخامسة من الإتفاقية)، وتوفير النسخ الأصلية او الصور المصدَّق عليها من السجلات والمستندات المصرفية (الفقرة «و» من البند الثاني من المادة السابعة من الإتفاقية)، ولا شك بأن القيام بهذه الإجراءات يتطلب رفع السرية المصرفية.
وهذا يدل بشكل واضح على أن السرية المصرفية وتقييد رفعها بحالات ضيقة جدًا، يؤديان إلى قطع الطريق أمام تتبع الأموال غير المشروعة، وبالتالي اعاقة عملية مكافحة بعض الجرائم وتبييض الأموال التي تتم عبر المصارف، الأمر الذي يجعل المؤسسات المصرفية، جنةً وملاذًا لأصحاب الأموال القذرة الذين يبحثون عن مكان آمن لإضفاء الشرعية على أموالهم من دون حسيب او رقيب.
وقد تساءل البعض، عما إذا كانت السرية المصرفية سببًا لبعض الجرائم وتبييض الأموال، بالإضافة إلى تساؤل الفقهاء عما إذا كان السر المصرفي هو تغطية لجرائم معينة! وذلك بالإشارة إلى اخفاء او تمويه المصادر غير المشروعة للأموال المشبوهة التي تودع في حسابات مصرفية.
ويعتبر بعض الفقهاء  بأن جريمة تبييض الأموال تكثر وتنشط في الدول التي لها قانون صارم وحازم بشأن سرية المعاملات المصرفية. فالعلاقة عكسية، كلما كان القانون يتجه نحو السرية زادت هذه الجرائم (مثل الأمر في سويسرا)، وبالعكس كلما قلت أو تراخت هذه السرية، قلت هذه الجرائم.
وعلى الرغم من أن التحليل القانوني والمنطقي الصحيح، ينتهي إلى أن السرية المصرفية تشكل عقبة في وجه مكافحة بعض الجرائم وعمليات تبييض الأموال، فإن لبنان ما زال يتشبث بالمحافظة على السرية المصرفية ويحرص على عدم المس بها، مع تحديد الحالات التي يجوز فيها رفعها.
لقد استفاد لبنان من اعتماد السرية المصرفية في ظل الظروف السياسية والإقتصادية التي كانت سائدة العام 1956، (تاريخ اعتماد لبنان السرية المصرفية)، والتي ساهمت في جذب رؤوس الأموال الأجنبية وبخاصة الخليجية، وبات عليه اليوم أن يطور هذه السياسة وفق المتغيرات التي طرأت في الداخل والخارج، وأدت إلى نشوء انماط جديدة في المناهج الإقتصادية الدولية ومن بينها توزيع الثروات الطبيعية وبرامج التنمية والقروض والمساعدات المالية، والتعاون الدولي لمكافحة الأعمال الإرهابية ومظاهر الإستغلال والتحكم والإبتزاز والسياسة التشريعية المرنة، ومثل هذه الإعتبارات تجعل حركة رؤوس الأموال تعود إلى لبنان بصورة كبيرة في حال توافرت تدابير ملائمة وواضحة تنسجم مع مجالها الحيوي. ولا جدوى من ملاحقة المجرمين الصغار إذا تعذر ضرب منظمات الإجرام وتجار المخدرات. وبالتالي، لا بد من تمكين المحققين من بلوغ المصارف للحصول على براهين، لمنع المجرمين من ايداع اموالهم فيها من دون أن يزعجهم أحد.
وفي هذا المجال اعتمد لبنان عدة تدابير وإجراءات (القانون 318/2001 واتفاقيات بازل 1 وبازل 2 وغيرها...) أدّت إلى التوفيق بين حاجته إلى السرية المصرفية وضرورة انخراطه في الجهود الدولية لمكافحة جريمة تبييض الأموال القذرة. كما أضيفت حالة أخرى إلى الحالات التي ترفع  فيها السرية المصرفية، خصوصًا وأن هذه الحالات هي أقل خطرًا من حالة تبييض الأموال.

 

والتعليل المنطقي والقانوني لإضافة حالة تبييض الأموال إلى حالات رفع السرية المصرفية يستند إلى ما يلي:
1- إن الغاية القانونية من اعتماد لبنان السرية المصرفية هي اجتذاب الأموال المشروعة وليس اضفاء هالة من الحماية القانونية على الأموال القذرة.
2- إن سويسرا نفسها التي تعتبر مهد نظام السرية المصرفية، أجازت رفعها في حالة تبييض الأموال ابتداء من نيسان 1998.
3- إن الحالات التي تُمكن من رفع السرية المصرفي هي أقل خطورة من جريمة تبييض الأموال.
4- إن جريمة تبييض الأموال لم تكن مطروحة العام 1956، تاريخ اعتماد لبنان السرية المصرفية.
إن إرادة المشترع اللبناني، عند اصداره قانون السرية المصرفية، لم تكن منصرفة إلى بسط حماية قانونية على أموال محصلة بطرق غير مشروعة، بدليل ما ورد في أسبابه الموجبة حول الغاية منه، وهي: السعي لجذب الرساميل الأجنبية إلى لبنان وبصورة خاصة رساميل الدول العربية، وإن المنافع التي سيجنيها الإقتصاد ستعوض كفاية عن الأضرار التي قد يلحقها هذا التشريع بخزينة الدولة لجهة تحصيل الضرائب.

 

المراجع:
 - القاضي الدكتور روكس رزق: السر المصرفي، صادر من المؤسسة الحديثة للكتاب.
 - د. بيار صفا: السر المصرفي، محاضرات مطبوعة على الآلة الناسخة، الجامعة اللبنانية - كلية الحقوق.
- القاضي الدكتور غسان رباح: قانون العقوبات الإقتصادي.
 - د. محمود الكندري: مجلة الحقوق الكويتية.