رحلة في الإنسان

السعاة الى الكمال متى ينجحون ومتى يفشلون؟
إعداد: غريس فرح

منذ القِدَم، سعى الإنسان الى الكمال بهدف تجنّب الأخطاء التي تهدّد بقاءه.

ومنذ بداية الحضارات، بذل جهوداً كثيفة لإيصال البشرية الى ما هي عليه اليوم من تقدُّم. والمثير للسخرية، أن هذا التقدّم بالذات، أصبح في الوقت الحاضر، عبئاً يرخي بثقله على تحرّكات الكثيرين، ويضع بالتالي ميول الإنسان الفطرية على محكّ التعقيدات الحديثة. وعلى هذا الأساس، أصبح السعي الى الكمال، صفة تستحق الدراسة، لما يتخلّلها من سلبيات تطغى في معظم الأحيان على إيجابياتها.
كيف ينظر علم النفس الحديث الى سعاة الكمال، وكيف يصنّفهم؟

 

الكمال والمظاهر المرضية
منذ أعوام، طوّر الباحثون النفسيون مقاييس لمعاينة البيّنات الإيجابية والسلبية المرافقة لنزعة «الكمالية». الى ذلك، طوّروا برامج من أجل دفع ميول الكماليين بالاتجاه الإيجابي. وعلماً أن هذه الميول، لا تعتبر بحدّ ذاتها مرضاً نفسياً، إلا أنها قد تكون ملازمة لبعض أنواع هذا المرض، وفي مقدّمها، اضطرابات الشخصية والقلق واضطراب الوسواس القهري.
لم يتعمّق علم النفس الحديث بالمشاكل المرافقة لنزعة الكمالية إلا خلال الثمانينيات من القرن الماضي. وكان الطبيب النفسي الأميركي داڤيد بيرنز أول من تطرّق الى هذه الناحية عبر مقال بعنوان : «الكماليون والسعي وراء الفشل». ومن خلاله، حاول تقصّي سلوك الكماليين، وصولاً الى التأكيد على أن هذا السلوك، يعطي أحياناً عكس النتائج المرجوة.
وهذا يحصل برأيه، عندما يقدّر الكماليون أنفسهم بحسب إنجازاتهم. أي عندما يركّزون على نقاط ضعفهم وأخطائهم ويعيشون بالذنب لأي زلّة قدم يرتكبونها. عندها يفقدون ثقتهم بأنفسهم، ويتعرّضون لصراعات داخلية، وتقلّبات مزاج بالغة الخطورة. وهي بمجملها إنفعالات سلبية تتسبّب بتدنّي الإنتاج، وصولاً الى الخسارة.
الى ذلك، فهو قد أشار الى مخاطر الطموح غير العقلاني الذي يقود الى تدني سلوكيات تسيء الى الأداء، في مقدمها، التباطؤ والمماطلة في العمل بفعل الإصرار على الغوص في التفاصيل، وبالتالي إضاعة الوقت بدون نتيجة تذكر. وهو ما يرهق أعصاب الكماليين وأعصاب المحيطين بهم.  
ومع اتساع الهوّة بين توقّعات الكماليين وإنجازاتهم، يفقدون المزيد من ثقتهم بأنفسهم، وتتقلّص بالتالي إمكاناتهم، وتتحطّم آمالهم بالنجاح. وكان الشاعر الفرنسي ڤولتير قد أشار الى هذه الناحية بقوله: «الأفضل هو نقيض الجيد».
وهو تعبير يتبنّاه اليوم معظم الباحثين النفسيين ومن بينهم الباحث الأميركي هيويت فليت الذي لفت الى هذه الظاهرة بالقول: «إنها نقيض الكمال».
وتابع: «الكماليون أشخاص تحفّزهم التوقّعات وتقلقهم الأخطاء، ويحوّلون نزعاتهم المتطرّفة الى ضغوط تقوّض أجواء العمل».

 

ماذا وراء هذه الظاهرة؟
هذا المنحى السلوكي المتفشي اليوم في المجتمعات الحديثة، ينبع بحسب الباحثين من رواسب مختلفة في مقدمها الوراثة، والتربية، والمحيط الإجتماعي. وهذا يعني أن الأهل يضطلعون بدور أساسي في تمرير هذا السلوك الى الأطفال، إما عبر الجينات، أو من خلال تصرفاتهم.
فهنالك على سبيل المثال، فئة من الأهل الذين يتشدّدون في طلب الكمال من الأطفال، بينما توجد فئة ثانية لا تعطي الأمر كثيراً من الأهمية بل بالعكس، فهي تهمل الأطفال ولا تقوم بواجباتها تجاههم. ونتيجة التوجّهين معاً، تتولّد نزعة الكمالية السلبية لدى الأطفال المعنيين بهما، وهي نزعة لا تتبلور عموماً قبل بداية سن البلوغ ودخول الجامعة.
فالأهل المتشدّدون، يدخلون الأطفال في دوّامة مفرغة من القلق والخوف من الفشل، ويرغمونهم بالتالي على المغالاة بالدقة: أما بالنسبة الى الفئة الثانية، فقد تأتي النتيجة بعكس التصوّر. فالأطفال المهملين، قد يسعون الى المغالاة بطلب الكمال، من أجل لفت الأنظار، وتحقيق الثقة بالنفس.
وكما سبق وذكرنا، فإن مرحلة دخول الجامعة تصبح لدى الفئتين معاً مرحلة الحسم بالنسبة الى استمرار نزعة الكمالية الإيجابية أو تقويضها.ففي هذه المرحلة، يصعب على الطالب الاستمرار بلعبة المحاولة لكثرة المواد وتشعبها، وعندها، يدخل خضمّ الصراعات النفسية ما يؤدي به أحياناً الى الهاوية. ومن هنا دور إعادة تأهيل السلوك من أجل إعطائه الطابع الإيجابي.

 

متى يتحوّل الكماليون الى إيجابيين؟
إذا ما أخذنا بالاعتبار أن الكمالية هي مزيج من السلبية والإيجابية، يصبح بالإمكان إيجاد صيغة تحفظ توازن هذا المزيح، وتوفّر للمعنيين بهذه النزعة الحوافز الضرورية للعمل الإيجابي. والصيغة الأفضل برأي الإختصاصيين، هي تشجيع هؤلاء على الكفاح بمنأى عن النقد الذاتي السلبي. والذين يفلحون باتباع هذه الإستراتيجية، يصبحون تلقائياً إيجابيين، وسلاحهم الدقة البنّاءة والنشاط المصحوب بالاسترخاء. ولا ينسى الإختصاصيون المقدرة على التركيز بعيداً عن القلق، والعمل بهدف الوصول الى الإكتفاء الذاتي.

 

تأهيل النزعة السلبية الى الكمال
بعد معاينة بعض مجموعات الكماليين السلبيي النزعة، وخصوصاً المتّصفين منهم بالتفكير غير المنطقي، أصبح بالإمكان وضع برامج لإعادة تأهيلهم وفق متطلبات كل منهم.
في هذا السياق، يركّز الإختصاصيون النفسيون على مشكلتَي الخوف من الخطأ، والمبالغة في النقد الذاتي، وعلى هذا الأساس يتوجّهون الى المعنيين بهما بما يلي:
- التدرّب على عدم الخوف من الخطأ مع محاولة التعلّم من الأخطاء السابقة.
- الإقدام على المخاطرة بخطى إيجابية وبعيداً عن الطموح غير العقلاني أو الهوسي.
- وضع أهداف واضحة للتغيير.
- التزام النقد الذاتي الإيجابي، أي مراجعة الحسابات من أجل التعرّف على النزوات السلبية، وإعادة تصويبها.
- تعلّم كيفية الوصول الى الإكتفاء الذاتي، بغضّ النظر عن المردود المادي.
- التدرّب على عدم الخوف من نظرة الغير.
- إعادة تقييم الإعتقادات الشخصية والنظرة الى الذات، ومن ثم محاولة رؤية نتائج هذا التقييم من منظور الغير.
- في حال عدم التمكّن من التغيير من الأفضل مراجعة إختصاصي في العلاج النفسي.