رحلة في الإنسان

السعادة موجـودة في داخلنا لماذا لا نبحث عنها؟
إعداد: غريس فرح

من الشائع الاعتقاد أن السعادة في الحياة هي لحظات تصنعها الظروف الإيجابية، ومنها النجاح والكسب المادي والعلاقات الحميمة الاّ أن الباحثين بخصائص الإنسان ومشاعره، يؤكدون عكس ذلك. والسبب حسب رأيهم هو أن السعادة الحقيقية هي في داخل كل منا، وأن الظروف الإيجابية التي تمدنا بلحظات الفرح، لا تتحقق إلاّ من خلال إحساسنا بهذه السعادة، والعمل للوصول إليها وترجمتها بأساليب تتوافق مع شخصياتنا وطباعنا.
والسؤال المطروح: أين نجد السعادة وكيف نصل إليها؟

 

شعور مرتبط بالفكر

حسب رأي الدكتور كوفمان، الطبيب النفساني والمؤلف الأميركي المعروف، فإن الشعور بالسعادة يرتبط مباشرة بالفكر وبالقدرات الكامنة من جهة، وبكيفية الإستفادة منهما من جهة ثانية وهذا يعود إلى نسبة معرفة الإنسان بنفسه وبمقدرته على التحكم بأفكاره، بالإضافة إلى مستوى رؤيته لمرتبة وجوده في محيطه الاجتماعي. ومن هنا الاعتقاد أن تحقيق السعادة ينبع من قرار نتّخذه بملئ إرادتنا، وخصوصاً بعد التعرّف إلى مسبِّبات الحزن والفشل والإحباط وسواها من المشاعر السلبية.

 

دور الشعور بالحزن

حسب الدكتور كوفمان، فإن الشعور بالحزن قد يشكل بحدّ ذاته طريقاً إلى السعادة الداخلية باعتباره حالة تعكس مفارقات الواقع.
فهذا الشعور الذي ينشأ عموماً نتيجة الأحداث الأليمة والفشل أو الشعور بالعجز تجاه تحقيق الأهداف، قد يقودنا آلياً إلى تحليل مسبّباته وبالتالي إلى تقييم ردّات الفعل السلبية التي تطرأ على سلوكنا بفعل تأثيراته، الأمر الذي يجعلنا نكوّن قناعات أكثر واقعية وفي حال اقتنعنا نتيجة التحليل المنطقي أن الحزن وما يتفرع عنه من ردات فعل غير سوية، هو احتجاج ضمني على واقع مغاير لتطلعاتنا وآمالنا، لاتخذنا القرار بمعالجة هذا الواقع وصولاً إلى التأقلم معه أو تغييره وهذا بالطبع يمنحنا الشعور بالتفوّق والمقدرة على المواجهة وصولاً إلى بناء الثقة القوية بالنفس والاعتزاز بتحمّل المسؤولية وبالتالي ملامسة إطار السعادة الداخلية.

 

الخوف من تحمّل المسؤولية

يؤكد الاختصاصيون بالعلاج النفسي عموماً على أن المشاعر السلبية وفي مقدمتها الحزن والقلق، مبطنة بميول فطرية إلى المواجهة والتحدّي وإثبات الذات لأهداف تخدم البقاء والتطوّر. لذا فإن إدراك الإنسان اللاّواعي لضرورة تحقيق هذه الأهداف، وعجزه عن ذلك بسبب الشعور بالنقص والخوف من تحمّل المسؤولية، يزيد من حزنه وقلقه، ويبعده عن الاحساس بشعور السعادة. وقد يتفاقم شعوره هذا في حال وجود ضغوطات تؤثر على توازن رؤيته لنفسه، وإحساسه برؤية الناس له؛ والمعنيون بهذه الحالة النفسية، يشكلون كما ثبت نسبة لا يستهان بها من مختلف الفئات الإجتماعية، وتجمعهم صفات مشتركة في مقدمتها الميل إلى التصرّف كمستضعفين يستجدون رضى الغير ويضعون اللّوم على الظروف.
لمعالجة هذا الواقع، ينصح الاختصاصيون المعنيين بالاعتياد تدريجاً على القيام بواجباتهم والعمل على اكتشاف قدراتهم الفردية التي تجعلهم يتساوون مع أقرانهم من حيث القوة والإرادة الحرة والمقدرة على تحمّل المسؤولية والشعور بالاطمئنان. وهذا يؤكد على نظرية الدكتور كوفمان التي تعرّف محققي الإنجازات، بالسعداء من ذوي الثقة بالنفس والذين أسهم شعورهم بالثقة والسعادة بتربّعهم على عرش النجاح وليس العكس.

 

كيف نواجه الظروف الأليمة؟

المعروف أن في الحياة محطّات للألم والحزن سببها أحداث غير متوقّعة تحدث خللاً في الإيقاع الحياتي اليومي، الأمر الذي يحرّك عوامل الرفض الفطرية وما يرافقها من مشاعر سلبية.
لنأخذ مثلاً المعاناة الناجمة عن فراق قريب أو حبيب  أبعده السفر أو الموت. فهذه المعاناة تنشأ عموماً من فقدان علاقة هي جزء من الذات، لأنها حققت أثناء وجودها مشاركة حية في تحمّل الأعباء والمسؤوليات، وتبادل الأحاسيس. لذا فإذا ما استوعبنا بعمق سبب الألم وخلفياته ودوافعه، تعلّمنا كيف نخفّف من وطأة المعاناة على طريق اتّخاذ القرار بتحمّل المسؤوليات التي كان يواجهها الشريك الغائب، واعترفنا حتماً بحقّ الموت والفراق وشعرنا بالإطمئنان المستمد من القوة.

 

كيف نستفيد من الشعور بالخوف؟

يلفت الباحثون إلى استراتيجية فطرية ترتكز على الاستعانة بالخوف لمواجهة الكثير من العوامل المقلقة التي تحول دون الشعور بالسعادة والاطمئنان.
فمثلاً، إن مدمن التدخين أو الكحول والمخدّرات لا يتخلى بسهولة عن عادته السيئة، إلاّ إذا شعر أنه مهدّد بالمرض أو الموت من جرّاء ممارستها. من هنا يصبح خوفه من تداعيات إدمانه سبباً وجيهاً يدفعه إلى التخلّي عن هذا الإدمان وما يسببه من قلق واضطراب.
كذلك فإن المعاني من السمنة، قد لا يتمكَّن من تخفيض وزنه والشعور بسعادة سيطرته على قراره الذاتي، إلاّ إذا ما مرَّ بمرحلة الخوف والقلق والإكتئاب الناجمة عن التوجس من عواقب السمنة على صحته أو من إمكانية رفض الناس له وسخريتهم من شكله القبيح. وهذا يعني أننا نتمكّن بالفطرة من هندسة ردّات فعلنا تجاه الأمــور المقلـقـة وصـولاً إـلى مواجهتها. وفي كتابه "السعادة قرار"، "Happiness is a choice" يوضح الدكتور كوفمان خيارات عدّة من شأنها توطيد السعادة الداخلية، وهي خيارات استقاها من خلال تعاطيه مع مجموعات بشرية مختلفة المنشأ خلال العقود الأخيرة، ونؤكد أهمّها:
* تقييم ومقارنة المشاعر المتناقضة:
عندما نتعلّم عن طريق التجارب والخبرة كيف نقيّم انعكاسات المشاعر السلبية بالمقارنة مع المشاعر الإيجابية، على الصحّة والسلوك والعلاقات العائلية والاجتماعية، نصبح قادرين على معرفة الفرق الشاسع بينهما، وبالتالي مؤهلين لضبط مشاعر الحقد والبغض والعنف، لصالح التسامح والحب والسلام، الأمر الذي يقودنا إلى ينابيع سعادتنا الداخلية.
* التخلي عن الأقنعة:
إن التخلّي عن الأقنعة الاجتماعية الكاذبة التي تقيّد حرية التعبير الصادق عن الرأي، يشعرنا بالثقة والمقدرة على صياغة القرار الذاتي بالتالي مواجهة المصاعب بدون خوف أو قلق:
* التركيز على رؤية الوجه المضيء:
للحياة وجهان، أحدهما مضيء والآخر مظلم فإذا ما تدرّبنا تدريجاً على رؤية الوجه المضيء، وحكمنا على الأمور إنطلاقاً من هذه الرؤية، لتغيّرت نظرتنا إلى الأشياء من حولنا، وأحللنا التفاؤل مكان التشاؤم في معظم توجهاتنا.
* التركيز على الحاضر:
إن أكثر ما يحزننا ويسلبنا الشعور بالسعادة، هو استعادة ذكريات الفشل والخيبة، بالإضافة إلى الخوف من المستقبل وما يخبّئه من مجهول. لذا ينصحنا الاختصاصيون بالسعي إلى تحصيل النجاح من خلال التركيز على الحاضر، مع السعي إلى تخطي الماضي وتجاهل المستقبل. هنا يشير الاختصاصيون إلى أن التخطيط الناجح للمستقبل يندرج في إطار الرؤية الواقعية الملموسة للمعطيات الراهنة

 

الشعور بالشكر والامتنان

السعادة الموجودة في أعماقنا تحتاج إلى دوافع لكي تتفجر وتضيء جوانب حياتنا. وهذه الدوافع يغذّيها الشعور بالرضى، والافصاح عن الشكر والامتنان لأقل ما نحصل عليه والأهم هو التركيز على دور الممارسات الروحانية، وخصوصاً الصلاة التي تبعد الأفكار المشوشة وترسخ الشعور بالسعادة.
وتولي الدراسات الحديثة أهمية بالغة للعودة إلى الطبيعة والاندماج في كائناتها لاكتساب السكينة والهدوء الذي يمنحنا السعادة، ونفتقده في غمرة النمو التكنولوجي، وضجيج شوارع المدن.