إعرف عدوّك

السلاح الذي قلب الموازين
إعداد: المقدم باسم شعبان - دكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر

مع انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في الرابع عشر من أيار 1948، أعلن رئيس اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية آنذاك دايفيد بن غوريون قيام «دولة إسرائيل». كان هذا الإعلان الشرارة التي أشعلت الصراع العربي- الإسرائيلي، فاندلعت الحرب العربية - الإسرائيلية الأولى وكانت نتيجتها كارثية، إذ فشل العرب في وأد الدولة المُعلنة في مهدها، واصطُلح على تسمية هذه الحرب بالنكبة.

 

منذ ما قبل إعلان الدولة، سعت الوكالة اليهودية جاهدة في سبيل البحث عن مصادر لتسليح عصاباتها المنتشرة على أرض فلسطين، وهدفها خلق بيئة مسلّحة تُرهب الفلسطينيين وتدفعهم لمغادرة أراضيهم تمهيدًا لخلق واقع ديموغرافي جديد بقوّة السلاح، واستثمار هذا الواقع لاحقًا في تنفيذ المخطّط الرامي لإنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين.
بين حزيران 1947 و 31 تشرين الأول 1949، تمكَّنت الوكالة اليهودية من شراء عدة دفعات من الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا. كان بعض هذا السلاح من مخلّفات الجيش الألماني النازي التي صادرها الجيش التشيكوسلوفاكي على أراضيه عند انتهاء الحرب، أو أسلحة ألمانية جديدة أُنتجت في تشيكوسلوفاكيا ما بعد الحرب. وكانت وزارة الدفاع التشيكوسلوفاكية الطرف الشريك في هذه الصفقة.
عقدت الوكالة اليهودية في 14 كانون الثاني 1948، أحد أكبر عقود التسلّح مع تشيكوسلوفاكيا، وقد تضمَّن تسليم العصابات الإسرائيلية مئتي رشيش وأربعة آلاف وخمسماية بندقية وأكثر من خمسين مليون طلقة. كان للأسلحة المستوردة من تشيكوسلوفاكيا، كمًّا ونوعًا، دورٌ بارزٌ وحاسمٌ في رسم موازين القوى بين العرب والإسرائيليين، ما أسهم إلى حدّ بعيد في إنجاح جهود العصابات اليهودية وقيام دولة إسرائيل.

 

الصهاينة استغلّوا الهدنة لاستيراد السلاح
حقَّقت الجيوش العربية في بداية الحرب تقدّمًا ملحوظًا، وبخاصة الجيش اللبناني الذي أبلى بلاءً حسنًا وقدَّم باكورة شهدائه، قائد المفرزة اللبنانية الملازم الأول محمد زغيب، الذي استشهد على التلال المحيطة ببلدة المالكية. في خضم النجاحات العربية فرض مجلس الأمن الدولي، بموجب القرار الرقم 50، هدنة لمدة 4 أسابيع اعتبارًا من 11 حزيران 1948، ففقد العرب زخم هجومهم والتقطت العصابات الصهيونية أنفاسها.
التزم العرب مندرجات قرار مجلس الأمن جميعها، في المقابل استغل الصهاينة الهدنة لتحسين موقفهم العسكري، فانتهكت العصابات الصهيونية هذا القرار بأشكال متعدّدة، منها عمليات التحصين والترصين، ومهاجمة بعض المراكز العربية لتحقيق ميزات عسكرية. لكن الأخطر كان عدم وقف عمليات استيراد السلاح، وأبرز هذه العمليات تلك التي أُطلق عليها تسمية «عملية بالاك» Operation Balak.
تمّ تهريب السلاح من أوروبا إلى اليهود في فلسطين، في انتهاكٍ واضح لقرار مجلس الأمن الداعي إلى مقاطعة الأسلحة وحظر توريدها لطرفي النزاع طوال فترة الهدنة. أدّت هذه العملية إلى حصول الوكالة اليهودية على 25 طائرة مقاتلة من نوع Avia S-199 تشيكوسلوفاكية الصنع، وهي أنموذج ما بعد الحرب للمقاتلة الألمانيـة الشهيـرة Messerschmitt Bf 109، و 61 طائرة مقاتلة نوع Super Marine Spitfire.
على الرغم من عدم وصول كامل الكمية قبل اندلاع القتال، إلّا أنّ عدد الطائرات الذي توافر عشية الحرب يُظهر بوضوح حجم الترسانة الحربية الإسرائيلية الضخمة، نسبة إلى تلك التي كانت متوافرة لدى العرب. قاد عملية تهريب الطائرات المقاتلة طيار بريطاني سابق من القوات الجوية الملكية يُدعى غوردون ليفيت Gordon Levett. في البداية كان يُنظر إليه برَيْبَة، ليس لكونه غير يهودي فقط، بل لكونِه بريطانيًا أيضًا، في وقت كان اليهود يعتبرون فيه سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين داعمة للعرب ومناهضة للصهيونية.

 

طائرات وأطنان من الأسلحة والذخيرة
اعتبارًا من حزيران 1948، تمّ تكليف ليفيت بمهمة قيادة مقاتلات Avia S-199 من مطار القوات الجوية التشيكوسلوفاكية في مدينة زاتك ?atec التي تبعد نحو 75 كلم غرب العاصمة براغ إلى مطار إيكرون (حاليًا قاعدة تل نوف الجوية الإسرائيلية)، وكان وزير الخارجية التشيكوسلوفاكي فلاديمير كليمنتس Vladimir Clementis قد وضع مطار بلاده بتصرّف عصابة الهاغانا.

بدأت عملية نقل الطائرات المقاتلة في20 أيار 1948، كانت عملية صعبة، ولم تصل الطائرات جميعها التي أقلعت من تشيكوسلوفاكيا إلى وجهتها، إذ فُقِدَ بعضها خلال الانتقال، كما أنّ بعضها تمّ تسليمه بعد وقف الأعمال العدائية (الهدنة). في المحصّلة، لا يوجد مصدر يُحدّد بدقّة عدد المقاتلات التي وصلت خلال الحرب، غير أنّ عددها كان كافيًا لقلب موازين القتال.
استمرّت العملية حوالى ثلاثة أشهر، تمكَّن خلالها الإسرائيليون من تهريب أعدادٍ كبيرة من المقاتلين وأطنان من الأسلحة والذخيرة، ولم تتوقَّف على الرغم من فضحها وإقفال المطار التشيكوسلوفاكي الذي كان يُستخدم للتصدير نتيجة ضغوطات مارستها الولايات المتحدة الأميركية من خلال الأمم المتحدة، بل تمّ نقل النشاطات إلى مطارٍ عسكريٍ آخر قرب مدينة نيكشيك Nik?i? اليوغوسلافية.
مع إنجاز «عملية بالاك» تمكَّن الإسرائيليون من تهريب كميات ضخمة من الأسلحة والذخائر والمعدّات من مختلف العيارات (خفيفة ومتوسطة وثقيلة)، إضافة إلى الطائرات المقاتلة التي سبق ذكرها. ويظهر في الجدولين الآتيين مجموع ما تمّ تهريبه في ظلّ هذه العملية:

يظهر من أرقام الجدولين حجم الدعم العسكري الذي تلقّته الوكالة اليهودية (أصبحت لاحقًا الحكومة الإسرائيلية)، واستثمرته في تسليح العصابات التي نكَّلت بالسكان الأصليين وروَّعتهم، فخرجوا من أرضهم خوفًا على أرواحهم وأرواح أطفالهم ونسائهم وشيوخهم. في المحصّلة أدّى هذا السلاح الدور المطلوب منه في قلب موازين القوى وخلق معادلة جديدة في الشرق الأوسط.
بالعودة إلى أرقام الجدول الأول، نلاحظ أنّ عدد البنادق المهرَّبة، خلال هذه العملية فقط، يناهز الـ35 ألف بندقية، وهذا بطبيعة الحال لا يشمل البنادق التي كانت موجودة أساسًا بحوزة العصابات اليهودية قبل ذلك. يعكس هذا العدد الضخم من البنادق، حجم التجنيد الذي حقَّقته الوكالة اليهودية في صفوف اليهود، فكما هو معروف «لكل مقاتل بندقيته». وبالطبع، فإنّ الملاحظة نفسها تشمل الأسلحة الأخرى.
أمّا الكمّيات الضخمة من الذخائر التي تسلّمتها العصابات اليهودية (الجدول الثاني)، فتشكّل مؤشّرًا صريحًا لحجم الدعم الذي تلقّته هذه العصابات، وبخاصة وأنّها كميات تكفي للقتال لفترات طويلة نسبيًا، وتوفّر الاكتفاء الذاتي للمقاتلين المنتشرين على أكثر من جبهة من دون الحاجة لإعادة تزوّد الذخيرة.
أخيرًا، إنّ تسلّم كميات بهذه الضخامة من الأسلحة أو من الذخيرة، يتطلَّب مقدارًا مماثلًا من الخبرات والمهارات في التخزين والتوزيع وحُسن الاستثمار في المعارك. ومن الطبيعي عدم توافر هكذا خبرات ومهارات في صفوف العصابات إلّا بنسبة محدودة، ما يؤكد اكتمال الجهوزية التنظيمية للعصابات اليهودية عشية اندلاع المعارك.

 

الجدول رقم (1): السلاح المهرَّب من تشيكوسلوفاكيا إلى إسرائيل في «عملية بالاك»

نوع السلاح

الكمية

العيار

الرشاش الأوتوماتيكي VZ 37

900

ثقيل

الرشاش الأوتوماتيكي MG 34

5.515

متوسط

الرشاش الأوتوماتيكي VZ 26

500

خفيف

رشيش ZK-383

12

متوسط

بندقية P 18

34.500

بندقية نصف أوتوماتيكية ZK 420

10

مسدس VZ 27

500

حربة VZ 24

10.000

 

 

الجدول رقم (2): الذخيرة المهرَّبة من تشيكوسلوفاكيا إلى إسرائيل في «عملية بالاك»

نوع السلاح

الكمية

ملاحظات

مشيطة MG 34

10.000

يتضمّن كلّ منها مئة طلقة

ذخيرة 7.92 ملم

91.500.000

 

ذخيرة 9 ملم

15.000.000

 

ذخيرة 13 ملم للرشاش MG 131

375.000

 

ذخيرة 20 ملم للرشاش MG 151

150.000

 

ذخيرة للمسدس VZ 27 عيار 7.65

375.000

 

 

المراجع:
1- قرار مجلس الأمن الدولي رقم 50.
2- Cohen, Eliezer: Israel's Best Defense, Orion Books, New York, 1993, p.: 504.
3- Greenberg, Joel: Fun Stuff' in '48: British Gentile in Israel Air Force, The New York Times, May 10, 1998.
4- 101st Israeli Fighter Squadron History, University of Nebraska Press, 1984.
5- Rothkirchen, Livia: The Jews of Bohemia and Moravia: Facing the Holocaust, University of Nebraska Press, 2006.
6- Luttrell, Robert J.: I flew for Israel, Flying Magazine, May 1949.
7- Arms shipments from Czechoslovakia to Israel 1947–49, From Wikipedia, the free encyclopedia.
 
• اعتاد الإسرائيليون تسمية عملياتهم من وحي أحداث تاريخية راسخة في معتقداتهم، قد تكون وقائع حقيقية أو من نسج خيالهم، و«بالاك» هو ملك المؤابيين المذكور في سفر الأعداد من العهد القديم، حيث تُروى علاقته بالنبي «بلعام». بعد خروج العبرانيين من مصر بحثًا عن الأرض الموعودة اصطدموا بالكنعانيين، فانتصروا عليهم وعلى العمّوريين وأكملوا طريقهم نحو المؤابيين. تصِف القصة الخوف العظيم الذي انتاب المؤابيين من حجم الشعب العبراني القادم، وما سيتسبب به من استنزاف للموارد إذا ما انتصر واستقرّ في أرضهم. تشاور «بالاك» مع حلفائه المدينيين حول كيفية صدّ القادمين، وأرسل في طلب «لعنة بلعام» عليهم. كان المؤابيون والمدينيون متّحدين ويسكنون الأرض ذاتها، وكان من مصلحتهم المشتركة منع العبرانيين من الاستيطان في أرضهم. بعد فشله في تحقيق «لعنة بلعام»، قرَّر بالاك التعاون مع المدينيين على جمع العذارى وتقديمهم لذكور العبرانيين لإفسادهم وجرَّهم إلى الرذيلة.