من التاريخ

السلطان الذي تمتع بكل «الكمالات»
إعداد: د. شادية علاء الدين

سليمان القانوني: عظمة القيادة ومآسيها

على الأرجح، مرّ الســلطان ســـليمان الأول (المعـــــروف بســـليمان القــانوني لكثرة ما سنّ من قوانين) مرور الكرام في ذاكرة معظم التلامذة حين درسوا سيرته في كتب التاريخ. وهو يتساوى في ذلك مع كثر من عظماء التاريخ الذين يغادرون ذاكرة التلامذة مباشرة بعد الإمتحان.
غير أن سير العظماء عندما تتحول إلى أفلام أو مسلسلات قد تصبح حديث الناس وهذا ما حققه مسلسل «حريم السطان». المسلسل الذي حصد نسبة متابعة قياسية يكمل في جزئه الثالث روايته لسيرة السلطان وحاشيته، لكن ما الذي تقوله كتب التاريخ عن أبرز المحطات في حياة هذا السطان؟

 

أعظم قائد عسكري في عصره
ولد السلطان سليمان الأول، إبن السلطان سليم الأول، في 27 أبريل 1494م، هو عاشر ملوك آل عثمان، وقد بلغت الامبراطورية العثمانية خلال حكمه أعلى درجات الكمال والقوة، حيث توسعت الفتوحات توسعًا كبيرًا، ما أوصل السلطنة الى أوج مجدها في آواخر القرن السادس عشر.
ويعتبر السلطان سليمان أعظم قائد حربي في عصره، فقد سيطر على عدة بلدان في آسيا وأفريقيا واوروبا، وحارب النمسا وحاصر فيينا وفتح بلاد المجر وعاصمتها ودخل مدينة تبريز عدة مرات، ووقّع معاهدة مع فرنسا.
لُقّب السلطان سليمان بـ«الأول» واشتهر بـ«القانوني» نظرًا لما سنّه من القوانين والأنظمة الداخلية في مختلف فروع الدولة، وسميّ بـ«السلطان سليمان خان الأول القانوني». إتصف السلطان سليمان بكل «الكمالات»، وكان ملمًا إلمامًا تامًا بالتاريخ والمعارف والنوادر، ويكتب الشعر باللغتين التركية والفارسية وله ديوانا شعر بهاتين اللغتين.

 

توليه العرش
عندما وصله خبر موت والده، دخل السلطان سليمان القسطنطنية في 30 سبتمبر من العام 1520م حيث كان بانتظاره جنود الانكشارية الذين قابلوه بالتهليل. وأقيمت مراسم المقابلات السلطانية في اليوم التالي بحضور الأمراء والوزراء والأعيان الذين قاموا بواجب التعزية بوالده وتهنئته بالخلافة.
استهلّ السلطان سليمان أعماله بتوزيع الهدايا على الإنكشارية وتعيين مربيه قاسم باشا مستشارًا خاصًا له، وأرسل الخطابات إلى كبار الموظفين في الدولة العثمانية لإبلاغهم بتوليته عرش الخلافة. تمرّد حاكم الشام جان بردى الغزالي فاحتل مدن دمشق وحمص وحماة وطرابلس الشام وبيروت بقصد الاستقلال بالحكم. وحاول استمالة خير بك حاكم مصر إليه وحثّه على التمرد، مبينًا له سهولة النجاح بالنظر إلى بعد المنطقة عن مقرّ الخلافة و حداثة سن السطان سليمان الأول. غير أن خير بك، والي مصر، أرسل خطابات الغزالي إلى السلطان سليمان الأول، فأرسل السلطان جيشًا إلى حلب بقيادة وزيره فرحات باشا لإخماد الثورة قبل امتدادها.
انتصر الوزير قائد الجيش العثماني على حاكم الشام الغزالي في دمـشق فقتله وأرسل رأسه إلى القسطنطنية كهدية للسلطان.
كان هذا العصيان أولى الثورات التي قامت بوجه السلطان سليمان الاول خلال الفترة الممتدة بين 1520 و 1521 م.
أراد السلطان سليمان، منذ توليه العرش، التوسع في فتوحاته وتأسيس الامبراطورية العالمية التي كان والده السلطان سليم الأول يسعى إلى تحقيقها في حياته، فخطط للسيطرة على الحدود الشمالية لمملكته. ووجد السلطان سليمان الفرصة سانحة لتحقيق أمنيته حين وصله نبأ قتل السفير العثماني الذي كان قد أرسله إلى ملك المجر لويس الثاني ليطلب منه دفع الجزية مهددًا بالحرب إن تمنّع عن دفعها. توجه السلطان إلى مدينة بلغراد وسيطر عليها في 29 اغسطس 1521م. ومنها انطلق لفتح ما وراء نهر الدانوب من الأقاليم والبلدان، بعد أن كانت هذه المدينة أمنع حصن للمجر ضد تقدم الدولة العثمانية.
اعتاد السلاطين العثمانيون إعلان خبر انتصارهم في الولايات التابعة للدولة العثمانية وفي اوروبا، وهذا ما فعله السلطان سليمان الذي تلقى التهنئة بالفوز من قيصر الروس ورؤساء جمهوريتي البندقية واراجوزة (ميناء تجاري على الساحل الشرقي للبحر الادرياتيكي). وعقدت معاهدة تجارية بين الدولة العثمانية وجمهورية البندقية ثبتت المعاهدات السابقة بين الدولتين مع بعض التعديلات. وكانت هذه المعاهدة المهمة اساسًا للامتيازات القنصلية في الامبراطورية العثمانية.
استعد السلطان سليمان الأول لفتح جزيرة رودس برًا وبحرًا، وهي الجزيرة التي عجز اسلافه السلاطين عن احتلالها، فانتهز فرصة انشغال ملوك اوروبا بمحاربة بعضهم البعض، ليحاصر الجزيرة التي صبّت المدفعية العثمانية حممها عليها، حينها طلب المدافعون عن الجزيرة من السلطان سليمان السماح لهم باخلائها ضمن مهلة قصيرة.
سيطر السلطان سليمان على جزيرة رودس (1522_1523م) وكان لاحتلالها وقع أليم لدى ملوك اوروبا الذين شعروا بخطورة الوضع، فعقدوا المؤتمرات المتتالية للتصدي للخطر العثماني.

 

تعيين الصدر الأعظم ابراهيم باشا
اصدر السلطان الأوامر القاضية بعزل الوزير الأول بير محمد باشا في شهر كانون الثاني من العام 1523م، وتعيين ابراهيم باشا مكانه.
والعام 1524 م، رزق السلطان سليمان غلامًا سميّ سليم الثاني (خليفة السلطان سليمان الأول بعد وفاته). تزوج الصدر الأعظم ابراهيم باشا بإحدى أخوات السلطان في احتفال بالاستانة. وأدى ابراهيم باشا دورًا مهمًا في تنظيم امور الدولة وتوطيد الأمن وإدارة الحروب، ونال الاحترام والإجلال لعلو منزلته عند السلطان. غير أن نفوذ ابراهيم باشا على القادة العسكريين والجنود تعاظم إلى حد دفع السلطان الى الحذر منه، خصوصًا بعد قيام الصدر الأعظم بمحاربة العجم كقائد لجميع الجيوش وتوقيعه بعض الأوامر العسكرية بلقب «سرعسكر سلطان»، فاعتقد السلطان أن تلك الاعمال التي يقوم بها ابراهيم باشا ربما تكون مقدمة لاغتصابه العرش لنفسه، فأمر بقتله في 5 مارس 1536م وعيّن مكانه أياس باشا.

 

الصراع بين ابناء السلطان سليمان
تزوّج السلطان من احدى المحظيات، المسماة في الكتب الأجنبية بـ«روكسلان» أما في الكتب التركية فإسمها «خورّم» او «خُرَّم» أي الباسمة، وهي روسية الأصل، دبّرت مؤامرة لقتل مصطفى، وهو الإبن الأكبر للسلطان سليمان من إحدى زوجاته، بالإتفاق مع صهرها زوج ابنتها الصدر الأعظم رستم باشا، الذي تم تعيينه بمساعيها لدى السلطان بعد موت أياس باشا.
انتهز الصدر الأعظم رستم باشا فرصة الحرب بين الدولة العثمانية ومملكة العجم العام 1553م حين كان مصطفى يقود احد الجيوش العثمانية هناك، وكتب رسالة الى السلطان تتضمن الأكاذيب حول ولده مصطفى ومفادها أنه يحرض جيش الانكشارية على عزل السلطان ليأخذ مكانه. صدّق السلطان ما نُمي اليه واستدعى ابنه الى سرادقه حيث امر بقتله خنقًا في 21 سبتمبر 1553م. دفن مصطفى في مدينة بورصة مع جثث اجداده، وكان له طفل رضيع في تلك المدينة، فأرسلت زوجة السلطان روكسلان من قتله. قتله حزن أحد أبناء للسلطان على موت اخيه حزنًا شديدًا فتوفي، وتوفيت بعد ذلك بقليل روكسلان.
العام 1561م قتل السلطان ابنه بايزيد واولاده الخمسة بناء على دسيسة ابنه سليم الثاني الذي اصبح بعد موت اخيه بايزيد الوارث الوحيد لـ آل عثمان.
ويمكن القول أن السلطان سليمان، بقتله اولاده قد استند إلى القانون الدموي العثماني المشهور، فالمعروف أن سلاطين آل عثمان قد سنّوا قانون «السنّة الدمويّة» الذي يقضي بقتل جميع إخوة «السلطان الجديد» يوم اعتلائه العرش، منعًا لحدوث فتنة في المستقبل بسبب خروج احدهم على أخيه السلطان، وقد صدرت في تلك الفترة فتوى تنص على شرعية قتل السلطان لأخوته.

 

وفاة السلطان سليمان الأول
اشتد مرض السلطان الذي توفي في 5 سبتمبر 1566م عن اربع وسبعين سنة، وبلغت مدة حكمه ثمانٍ واربعين سنة قضاها في إعلاء شأن الدولة العثمانية وتوسيع نطاقها. وخلفه على العرش ابنه السلطان سليم الثاني.
بانتهاء عهد السلطان سليمان الأول انتهى «طور التوسع والإستيلاء» في الدولة العثمانية التي أخذت تتقلص وتتراجع، شيئًا فشيئًا.

 

المراجع والمصادر:
- محمد فريد بك المحامي: تاريخ الدولة العلية العثمانية، دار الجيل، بيروت،1397هـ_1977م.
- علي حسون: تاريخ الدولة العثمانية، المكتب الاسلامي، 1982م.
- سعيد أحمد برجاوي: الأمبراطورية العثمانية، تاريخها السياسي والعسكري، الأهلية للنشر والتوزيع،بيروت 1993.
- ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، دار العلم للملايين، بيروت 1960.