قضايا اقليمية

السياسة الإسرائيلية بـين الحقيقة والـخداع
إعداد: احسان مرتضى
باحث في شؤون الإسرائيلية

الكاتب الإسرائيلي أمنون دنكنر يصف شارون بأنه أحد رؤساء الحكومة الأكثر رداءة في تاريخنا

 

تقول الحكمة أن بوسع الكذّاب أن يخدع بعض الناس لبعض الوقت ولكن من المستحيل عليه أن يخدع كل الناس كل الوقت. هذه الحكمة تنطبق تماماً على رئيس حكومة العدو الحالي آرييل شارون المعروف بكذبه وخداعه، والذي أودى برئيسه مناحيم بيغن عام 1982الى التهلكة والإكتئاب النفسي ثم الموت كمداً، بعدما تبين لهذا الأخير تضليل الأول وكذبه عندما كان وزيراً للدفاع. اليوم يلعب شارون اللعبة نفسها، ليس مع شخص واحد أو مجموعة محدودة من الأشخاص، بل مع كل المجتمع الإسرائيلي والأميركي والدولي، على الرغم من سقوط نحو 900 قتيل إسرائيلي ونحو 6 آلاف جريح ومصاب على مدى سنوات انتافضة الأقصى الثلاث الماضية، في مقابل أرقام مضاعفة من الشهداء والمصابين من الطرف الفلسطيني أيضاً. كل هذه المعاناة والفواجع لم تغير في شارون أي شيء، وهو اليوم كما في الأمس يحمل الحقد نفسه والإحتقار ذاته لكل ما له علاقة بالعرب والفلسطينيين. وآلية الخداع التي يستخدمها بكل خفّة ورعونة وانعدام ضمير، تقوم على قلب الحقائق رأساً على عقب من خلال النظر الى الأمور عبر مرايا مقعرة. فالعرب حسب رأيه لن يسلّموا بوجود إسرائيل وأن مفاجأة على غرار ما حصل عام 1973 ممكنة الحصول أيضاً في المستقبل. وهو بهذا الموقف إنما يتقمص شخصية سلفه المتطرّف اسحق شامير الذي كان يردد القول: "البحر هو البحر نفسه والعرب هم العرب أنفسهم". ومن هذه المقولات الثوابت ينبثق مفهوم شارون المخادع القائل: "ما لم تتوقف نار الانتفاضة وما لم يتم تفكيك البنية التحتية للإرهاب فنحن لن نقدم للفلسطينيين أي شيء".

 

هذا في وقت تستمر فيه عمليات القضم التدريجي المتوحش للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ويستمر بناء المستوطنات لليهود الروس والأثيوبيين والأرجنتينيين وسواهم، في حين تدمر بيوت الفلسطينيين وتمتهن كراماتهم ويقضى على البقية الباقية من مصادر الرزق الشحيح المتبقية لهم، من أجل حسم المعركة العسكرية والنفسية معهم لصالح التوسع والعدوان. مفهوم شارون المخادع، مع دخول العام الرابع للانتفاضة، يقوم على تقطيع الوقت وتضليل الجميع في متاهات الوعود الفارغة والتصريحات الجوفاء المتعلقة بإمكانية إقامة دولة فلسطينية، في حين ما يزال يوجد بين المحللين الإسرائيليين من يناشد شارون أن يكون ديغول الإسرائيلي، قبل أن يخسر زعامته في حزبه وقيادته للدولة، ومع ذلك فشارون لا يتغير والحقائق لن تتغير، حيث الاحتلال هو رأس كل مفسدة وكل ما عدا ذلك هو تابع. إن بقاء ثلاثة ملايين فلسطيني من دون هوية ولا مستقبل ولا حتى فرصة عيش بصورة طبيعية، فقط من أجل حفنة من المستوطنين المستوردين من الخارج، يشكل بداية درب الآلام والقلق والإضطراب على امتداد المنطقة بأكملها. إن مشاهدة الفلسطينيين لأراضيهم وهي تصادر أمام أعينهم لشق طريق استيطاني أو لبناء منازل المستوطنين الفاخرة ومنتجعات رفاهيتهم، تحمل في طياتها الكثير من العبر والمعاني الجديرة بالتأمل والتفكير السياسي والإنساني السوي وغير المختل. ثم أليست 37 سنة من الاحتلال والتنكيل بأصحاب الأرض من قبل المستوطنين الوافدين، من مختلف البلدان والألوان، حيث المجند الغريب هو الذي يقرر من يسافر ومن لا، ومن يتلقى العلاج الطبي ومن لا، وكم هي كمية المياه التي ستعطى وأي شجرة أو بستان سوف يقتلع، أليست كل هذه العذابات كافية للتدليل على سبب العنف والإضطراب والمشاكل على امتداد الشرق الأوسط؟ فالفلسطينيون عام 1987وحتى 1993، لم يلجأوا الى أكثر من الحجارة للتعبير عن الغبن والظلم اللاحق بهم. ومع ذلك فالعقل الإسرائيلي المتحجر بقي كما هو، عقل الطمع والأنانية والتكبر والإستئثار، لمجرد امتلاكه آلات القتل والتدمير والتعذيب في مقابل الضعف والتهميش لمجتمع كابد الأمرين على مدى نحو مئة عام من دون أن يتوافر لديه سوى الجهد والغضب ورفض العجز والإستسلام. أمام كل هذه الحقائق الدامغة يستمر شارون وقادة جيشه، وخصوصاً الثلاثي الإرهابي: موفاز، يعلون، جلعاد، يتحدثون عن النصر وفي الوقت نفسه يتحدثون عن استدعاء الإحتياط من أجل اقتحام قطاع غزة وتمزيقه والتمادي في إحكام الطوق والحصار على المدن الفلسطينية، إمعاناً في التنكيل وتنغيص العيش على الفلسطينيين، وكل هذا يحصل بالخداع تحت عنوان مكافحة "الإرهاب" بأبشع أنواع الإرهاب. يتحدثون عن طرد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ويغتالون القادة ويستخدمون قنابل من زنة ألف كيلوغرام لتصفية قيادي واحد، ويهاجمون سوريا وينتهكون أجواء لبنان ويتحدثون عن تغيير قواعد اللعبة بالتحضير لاشعال المزيد من الحرائق في المنطقة، ويبنون جدران الفصل العنصري ويصادرون الأراضي ويملأون السجون بالأسرى والمعتقلين، زاعمين أنهم يحاولون العثور على حل "للإرهاب" الذي يتنكرون لحقيقة أنهم هم أربابه وصانعوه وموردوه، من خلال امتلاكهم لكل أنواع أسلحة الفتك والتنكيل التقليدية وغير التقليدية.

لقد اختصر الكاتب الإسرائيلي أمنون دنكنر في صحيفة "معاريف" حالة اليأس التي أوجدها شارون في إسرائيل والمنطقة بقوله "إن أغلبية الناس هنا تعيش في يأس هادئ"، ويضيف إن هذين العنصرين: اليأس والهدوء "يتسببان بإحداث القشعريرة والإكتئاب لدى الانسان السوي، وقد آن الأوان لوضع الحقائق على الطاولة بقوة وعنفوان". أما الحقيقة الكبرى والأساسية في انتاج كل هذا اليأس والمرارة، إنما تكمن في قيادة شارون وشخصيته الدموية المريضة والسادية، والذي يصفه الكاتب بأنه "أحد رؤساء الحكومة الأكثر رداءة في تاريخنا في فترتي حكمه المتعاقبتين سواء بمقياس النتيجة المفجعة أو بمقياس الوعود التي خابت وتطايرت هباءً، أو بمقياس صفات الزعامة والقيادة الشخصية المؤثرة على الجمهور، أو في اختبار الفساد الذي يظل فوق رأسه ويحيط بحاشيته وأبناء عائلته". لقد خرّب شارون كل شيء، كأنه فيل في محل للخزفيات المنمنمة. خرّب الأمن والإقتصاد والسيادة، حتى باتت سياسة إسرائيل الخارجية محصورة في رحلات مستشاره دوف فايسغلاس المكوكية الى كونداليز رايس وبالعكس، من دون طائل أو إنجاز مهم، سوى التضليل وخداع الرئيس الأميركي من أجل منع تطبيق خارطة الطريق، أما ديوانه فقد تحوّل الى مكتب تجاري وعقاري لعقد الصفقات للمحظيين والمقربين، والى بورصة للمناصب والوظائف المنتخبة. وفي هذا السياق يقول دنكنر: "السياسة لم تخل أبداً من هذه الظاهرة إلا أنها لم تكن مطلقاً بهذا الوضع المخجل. أبناؤه يصمتون في التحقيق وهو يدافع عن فسادهم بلا خجل ولا وجل... وإزاء انعدام وجود معارضة أو بديل يهز الناس أكتافهم ويواصلون تأييد ما هو موجود"!!