دراسات وأبحاث

السياسة الخارجية الروسية في علاقاتها الدولية
إعداد: الدكتور احمد علّو
عميد متقاعد أستاذ التاريخ العسكري في كلية فؤاد شهاب للقيادة والاركان

«إن معرفة جغرافية الدولة تعني معرفة سياستها الخارجية».

نابوليون بونابرت

يعتقد البعض أن سرعة استعادة روسيا لنفسها، اقتصادياً ودولياً، ومحافظتها على جزء مهم من ترسانتها النووية الاستراتيجية، أسهم في تعزيز دورها، وعودتها الى الساحة العالمية، من باب الدول الكبرى، التي تمتلك موارد وقدرات وامكانات تؤهلها لتكون لاعباً جيوستراتيجياً فاعلاً ومؤثراً في العلاقات الدولية ضمن المنظومة العالمية، الحالية، من دون الوصول الى حدّ المواجهة مع الولايات المتحدة أو أية قوة كبرى أخرى، إنما مع المحافظة على مصالحها في المدى الجيوسياسي الذي ترتبط فيه هذه المصالح، والدفاع عنها بالقوة إذا لزم الأمر في حال تعرضت للخطر، وهذا ما جعلها تعيد تقييم استراتيجيتها السياسية والعسكرية، لتتواءم مع عالم اليوم، حيث المنافسة، وصراع مصالح الدول الكبرى يهيمنان على العالم.

 

استراتيجية روسيا السياسية

تسعى الإدارة السياسية الروسية الحالية الى الانفتاح على دول العالم المختلفة، ولا سيما دول الشرق، وإعادة الاعتبار لنظرية المحور الثلاثي (روسيا، الصين، الهند) مع اتباع دبلوماسية جديدة تقوم على تعزيز دورها كوسيط مقبول من كل الأطراف في حل النزاعات والأزمات الدولية والإقليمية، وهذا ما سعت اليه روسيا (كما يرى بعض المحللين الاستراتيجيين) في ملفات مثل العراق، إيران، سوريا ولبنان وفلسطين، وغيرها من الأزمات خلال السنوات الأخيرة.

 

العلاقة مع الهند

حاولـت روسيا إعادة إحياء تحالفها مع الهند وإعادته كما كان في السابق، ولكن الهند لم تتحمس لبناء هذا التحـالف الثلاثي معها ومع الصيـن، لأنه يتعارض مع توجـه السياسـة الهنديـة الجديـدة التي تقوم على بناء تفاهم استراتيـجي تكون الهند محوره، ويتأسس على ثنائية مكوّنـة من الهنـد والولايات المتحدة من جهة، والهـند وروسيـا من جهة أخرى، على أن لا تقترب الهنـد من روسيا الى الحدّ الذي يؤثـر سلـباً على علاقتهــا مع الولايـات المتحدة.

 

العلاقة مع الصين

العلاقات الروسية الصينية قديمة، وتعود الى المرحلة الشيوعية في مطلع خمسينيات القرن العشرين، وراوحت ما بين التوافق والانشقاق، واستمرت كذلك حتى مطلع القرن الحالي، عندما وقّع الرئيس بوتين معاهدة صداقة وتعاون معها في تموز 2001، بدأت بترسيم الحدود وحلّ الخلافات العالقة وازدياد حجم التبادل التجاري بينهما ليرتفع من 10 مليار دولار العام 2001، الى 30 مليار دولار اليوم، والى 80 مليار دولار خلال الأعوام العشرة القادمة. وتعتبر الصين أكبر مستورد للسلاح الروسي (40٪ من صادرات السلاح الروسي) وبمبلغ حوالى ملياري دولار، وقد قامت القوات الروسية والصينية بمناورات مشتركة صيف العام 2005، اعتبر الغرب أنها «عرض عضلات وتحمل رسائل متعددة»، أو تمثل «تحالفاً أحمر لمواجهة الخطر البرتقالي»، في تلميح الى أن الصين وروسيا ستقفان بوجه توغل الثورات السلمية التي بدأت تطيح نظم الحكم في آسيا وربما تصل الى أحد البلدين. كذلك وقّعت روسيا مع الصين المتعطّشة للنفط والغاز (ثاني مستهلك في العالم)، اتفاقية تقوم الشركات الروسية بموجبها بتزويد الصين 60 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، كذلك مشروع مدّ أنابيب لنقل النفط والغاز من شرق سيبيريا الى شواطئ المحيط الهادئ، ومنه الى الصين.

تتأرجح العلاقات الصينية - الروسية ما بين التعاون التكتي والتنافس الاستراتيجي، فهما تتكاتفان في حرب توجيه أنابيب النفط والغاز شرقاً باتجاه الصين، ومواجهة الهيمنة الأميركية في آسيا الوسطى والشرقية، ولكنهما تواجهان الكثير من المشاكل، منها، ضعف الثقة الناجم عن تجارب تاريخية ومواجهات عسكرية، كما أن التقارب الهندي الروسي والعلاقات الصينية الأميركية الاقتصادية الوثيقة، والتنافس الخفي بينهما للسيطرة على آسيا الوسطى، ومشكلة الخلل الديمغرافي، كل ذلك يشكل عوامل خطر على العلاقة بينهما. ويرى البعض «أن روسيا أرض تحتاج الى شعب والصين شعب يحتاج الى أرض». وهذه معادلة خطيرة قد تقلب موازين الأمن والاستقرار في الأوراسيا بالكامل، في المستقبل. تبلغ مساحة روسيا 17 مليون كم2 وسكانها 143 مليون نسمة، ومساحة الصين 9.5 مليون كم2 وسكانها 1300 مليون نسمة؛ الحدود بين الدولتين 3645 كم، سكان سيبيريا الروسية 30 مليون نسمة بينما عدد سكان الاقاليم الصينية المقابلة لحدود روسيا يبلغ 250 مليون نسمة، وهناك اليوم 2/1 مليون صيني داخل الحدود الروسية، يتوقع أن يصبحوا 20 مليوناً خلال العقود القادمة.

 

العلاقة مع إيران

تعود أهمية العلاقات الروسية الايرانية الى عاملين رئيسين:

- التعاون الثنائي في مجال استخدام الطاقة الذرية في الأغراض السلمية ومساهمة روسيا في بناء مفاعلات إيران النووية.

- استثمار ثروات بحر قزوين، واعتبار هذا البحر مغلقاً ومحصوراً بالدول المطلة عليه، وعدم السماح بوجود قوات أجنبية حوله. وهذا يعني أن هناك مجالات متعددة للتعاون والتنسيق، ويعطي لعلاقة روسيا بإيران سمة استراتيجية، تجعل روسيا تتعامل بهدوء مع الطموحات الإيرانية في امتلاك أسلحة نووية، لا سيما وأنها ترى أن إيران لا تعادي، ولا تهدد جيرانها، ولديها نظام سياسي مستقر وثابت. لذلك فقد وقفت روسيا ودعمت موقف إيران في قضية ملفها النووي السلمي، ورفضت فرض عقوبات عليها، بهدف عزلها ومنعها من تطوير هذا البرنامج، ساعدها في ذلك مهارة القيادة الإيرانية في إدارة معركتها الدبلوماسية لهذا الملف، وصمودها بقوة، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً بوجه ضغوط الولايات المتحدة وعدم مهاجمتها حتى الآن. وهذا ما أظهر أن الموقف الروسي يتغذى من الموقف الإيراني، والعكس صحيح، ولكنه لا يصل الى حدّ قبول روسيا أن ترى جارتها دولة تملك أسلحة نووية، ومن هنا اقترحت روسيا تأسيس مركز إيراني - روسي مشترك لتخصيب اليورانيوم على الأراضي الروسية، في محاولة لنزع فتيل أزمة الملف النووي الإيراني مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومن خلفها أميركا وأوروبا.

 

العلاقة مع العالم العربي

تحاول روسيا أن تتعامل مع العالم العربي ككيان إقليمي وتختلف في ذلك مع دول كبرى أخرى ترفض مفهوم العالم العربي أو الوطن العربي وتسعى الى إذابته في كيان أكبر يراوح ما بين «الشرق الأوسط الكبير» أو «دول حوض المتوسط»، وغيرها من الطروحات والمشاريع للمنطقة استكمالاً لمحو هوية هذه المنطقة، وربطها بمنظومة الدول الغربية تحت عناوين مختلفة. ولعلّ أبرز ميزات السياسة الروسية في المنطقة هو تأكيدها المستمر على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدولها، وهي أظهرت تحفظاتها على مشروع تشجيع الديمقراطيات وفرضها من الخارج وأيّدت فكرة الاصلاح من داخل دول المنطقة وليس فرض هذا الاصلاح فرضاً، واستخدامه ذريعة للتدخل في شؤونها الداخلية.

ويمكن رصد حركة العلاقات الروسية العربية وحصرها في الاتجاهات الآتية: شراكة اقتصادية وتقنية تجارية  - تعاون في مجال الطاقة - جذب الرساميل العربية الى روسيا - مضاعفة الصادرات الروسية الى الدول العربية - التعاون التقني وتفعيل دور روسيا التنموي في دول المنطقة - زيادة صادرات السلاح وكسر احتكار دول الغرب له. ويمكن ملاحظة أن روسيا تحاول دائماً بناء مواقف متوازنة وعادلة من المشاكل الخلافية بين الدول العربية من ناحية وبينها وإسرائيل وفي ما خص القضية الفلسطينية من ناحية أخرى.

 

علاقة روسيا مع الاتحاد الأوروبي

يعتبر ملف الطاقة ملفاً أساسياً في العلاقات الروسية - الأوروبية. فروسيا عملاق نفطي، يُطرح بديلاً مهماً لنفط الشرق الأوسط بالنسبة الى أوروبا، وروسيا كما أعلن الرئيس الروسي بوتين هي دولة «أورو - آسيوية» تنتمي الى المجتمع الأوروبي، وترتبط بمصالح حيوية واستراتيجية مع دول الاتحاد الأوروبي، وهي تسعى جاهدة الى توطيد علاقاتها بأوروبا وتدعيمها على نحو يحقق مصالح الطرفين، ويعتبر التعاون في مجال النفط والغاز أحد أهم المحاور لذلك.

ويَعْتَبِرُ الرئيس بوتين «أن العلاقات بين روسيا وأوروبا هي علاقات تأثير وغنى متبادل»، كذلك فإن أوروبا مستقرة، مزدهرة وموحدة تفيد مصالحه، ومن المهم له أن يصبح الاتحاد الأوروبي مركزاً أساسياً للتأثير في السياسة العالمية «ما يؤمّن مساهمة كبرى للأمن القومي والعالمي». ويضيف الرئيس بوتين في حديثه لصحيفة «Le Monde» «أن الاتحاد الأوروبي يمكنه تعزيز وتطوير التعاون في أوروبا، وبذلك يمكن الاستجابة لكل التحديات الحالية المتعلقة بوجود مشكلة الصواريخ التي تنوي الولايات المتحدة نشرها في أوروبا الشرقية على حدود روسيا، ومشكلة أفغانستان، والارهاب العالمي، وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتجارة المخدرات، والهجرة غير الشرعية، وتزايد معدلات الفقر في العالم».

 

العلاقات الروسية الأميركية

 يكمن في لاوعي قادة الدولتين شعور مشترك، متراكم من الخوف والحذر والشك الدائم من نوايا الآخر، ناجم عن فترة طويلة من الصراع بينهما استمرت نصف قرن، وعلى الرغم من المعاهدات والاتفاقات التي عقداها، لإظهار حسن النوايا وتخفيض ترسانتيهما النووية، والصاروخية، إلا أنهما يعرفان ضمناً أن التنافس بينهما لمّا ينتهِ بعد. فالولايات المتحدة «سكرانة» بنشوة الفوز والقضاء على الاتحاد السوفياتي السابق، وتفرده بقيادة العالم وزعامته ومتابعة المحاولة للسيطرة على الأوراسيا والعالم. وروسيا، الدولة الاتحادية التي تحاول اليوم لملمة جراحها وتضميدها وإعادة بناء إقتصادها، وترميم مؤسساتها وتعزيز قواها العسكرية والنووية لردم الفجوة التي أحدثها إنهيار الاتحاد السوفياتي بينها وبين الغرب، لم تنسَ الطموحات الأميركية، وسياسة مصالحها، وجيوستراتيجيتها في العالم. فروسيا التي ورثت تركة مهمة من ثروة الاتحاد السوفياتي السابق، المعنوية والعسكرية وإن كانت أحنت قامتها أمام هذا «التسونامي» الأميركي الكاسح، إلا أنها بدأت تستعيد وعيها وقواها المختلفة واعتبارها كقوة عظمى، تقف على المسرح العالمي وتصارع لإثبات هذا الوجود وهذا الدور.

ويمكن اعتبار العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة اليوم، الترجمة العملية لسياسة كليهما في إدارة مصالحه، وطموحاته، حيث تلتقيان أو تتصادمان، سواء كان ذلك في أروقة مجلس الأمن الدولي، أو مؤتمرات الـ«G8»، أو مؤتمر الأمن في أوروبا، أو الملف النووي الإيراني، أو الكوري، أو رفض إقامة الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية، أو دول آسيا الوسطى وبحر قزوين، ودول أميركا اللاتينية، كذلك إدارة ملف الطاقة الروسية في أوروبا. كل هذه المواضيع تشكل عناوين للصدام أو للإتفاق بينهما، إلاّ أنه في عالم المصالح والعولمة اليوم «فإن لكل شيء ثمناً»، والمشكلة في العلاقات الدولية اليوم هي مشكلة الأثمان، ورضى الأطراف الدولية بتوزيع الحصص والأدوار.

 

سقوط الإيديولوجيات والعقائد في عالم متعدد الأقطاب

أصبح من الجليّ أننا نعيش في عالم تسيّره المصالح المختلفة، وإدارة هذه المصالح تفرض رسم سياسات ووضع استراتيجيات لتحقيق هذه المصالح، سواء كانت لأفراد أو مجموعات أو دول، كبرت أو صغرت.

إن سقوط الأيديولوجيات والعقائد التي كانت تسيّر الدول وتوجهها، وضعف مفاهيم الدولة - الأمة وتراجع تأثيرها لصالح المؤسسات والشركات الكبرى العابرة للحدود والقوميات، وانفتاح الشعوب على بعضها، عبر وسائل الاتصال والتقنيات الحديثة، أدى الى سيطرة متوحشة لمفهوم رأس المال والربح على الأفكار، وتراجع مفاهيم القيم والأخلاق والعقائد التي سادت في فترات سابقة.

وهكذا تحولت العلاقات الدولية عن بعض قيمها السابقة لتصبح في خدمة مصالح مواقع القوة والسيطرة في العالم، وبدأت الدول الكبرى تسعى لتحافظ على نفسها وأسباب قوتها وتعمل على استخدام علاقاتها لتحقيق مصالحها ومصادر قوتها عبر وسيلتين: القوة الناعمة (Soft Power) والقوة الصلبة (Hard Power)؛ أي استخدام الدبلوماسية والعلاقات الانسانية والثقافية وغيرها واستخدام القوة العسكرية بما تعنيه من أسلحة وقوات ووسائط تدمير للوصول الى مصالحها في عالم تغير فيه مفهوم «سيادة الدولة» وحقوق الجماعات.

من هنا، فإن روسيا العائدة الى المسرح العالمي وهي تحلم بدولة «القيصر» لم تنسَ أنها تحمل إرث الاتحاد السوفياتي السابق، وتريد لنفسها أن تكون دولة عظمى، محترمة ولها مكانتها في العالم، وهي لا تملك طموحات السيادة العالمية أو منازعة الولايات المتحدة على ذلك، ولكنها تريد عالماً متعدد الأقطاب، متوازناً، ويعمل بعدل لحل مشاكله.

كما ان روسيا لا تريد أن يعتدي عليها أحد، مهما كانت الأسباب، لذلك بدأت بتطوير، وإعادة الاعتبار لصناعتها العسكرية، الصاروخية والنووية، بالتوازي مع عملها الدبلوماسي الناعم وذلك لحماية مصالحها الاقتصادية والمعنوية عبر العالم.

 

المراجع:

• السياسة الدولية: دورية علمية محكمة، دار الاهرام، قليوب - مصر - الاعداد: 160 - 161 - 164 - 167 (أعوام 2005 - 2006 - 2007).

• الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر: عالم المعرفة - تصدر شهرياً عن المجلس الوطني للثقافة - الكويت - العدد 282.

• رقعة الشطرنج الكبرى: زبغنيو بريجنسكي - ترجمة أمل الشرقي - الأهلية للنشر والتوزيع - الأردن - عمان، الطبعة الأولى 1999.

• شؤون عربية: فصلية تصدر عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية - العدد 129 - ربيع 2007 - القاهرة.

• الحياة: يومية - تصدر في بيروت - العدد 16065 - تاريخ 30 آذار 2007 - صفحة 15 - دراسة بعنوان «روسيا تواجه تجاهل الغرب مصالحها باستراتيجية دفاعية شاملة»، بقلم رائد جبر.

 • Le Monde Diplomatique: France - Paris - Mensuelle, Numéros 635 - 636:

- La nouvelle Russie de Vladimir Poutin.

- Les Etats s’emparent de l’arme pétrolière.