السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية:قراءة نقدية في المنطلقات القيمية

السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية:قراءة نقدية في المنطلقات القيمية
إعداد: د. وليد جميل الايوبي
phd في العلوم السياسية - استاذ محاضر في الجامعة اللبنانية: كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية

مقدمة

أضحت سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية بعد 11 أيلول 2001 محور اهتمام منقطع النظير عند العامة والنخبة على حد سواء. وهي تمثل على المستوى الخارجي أهمية كبيرة تفسرها مفاعيلها على مجمل دول العالم، وهي بالتالي موضوع جدل مستمر لدى جميع الأوساط لما لها من تأثير ووقع ينال، بشكل او بآخر، مختلف جوانب الأنشطة الدولية. والملاحظ ان ليس لهذه السياسة من المؤيدين الا قلة، بينما السواد الأعظم من القوى الدولية لديه تحفظات او مآخذ عليها أو رغبة في تغييرها ولو بالعنف. ويعزو غير مهتم سبب هذه المعارضة الدولية شبه الشاملة للسياسة الأميركية الى حداثة الجمهورية، وبالتالي الى عدم تمرسها في التعاطي بالشأن الدولي من جهة، والى موقعها الجغرافي المنعزل عن التفاعلات الدولية والحضارية من الجهة الأخرى.

أما ما يفسر دراستنا لقرارات صادرة عن السلطة القضائية فيعود الى الدور التاريخي الذي لعبته المحكمة العليا في الولايات المتحدة في التأثير بالرأي العام وبالتالي في صياغة قيما جديدة، ولأن قرارات هذه السلطة تتمتع أيضا بالأسبقية على قرارات المؤسسات الدستورية الأخرى، ولأنها قرارات مبرمة ونافذة على أراضي الجمهورية كافة.

 

المفاصل الرئيسة لسياسة الولايات المتحدة الخارجية

إن التطورات التي شهدتها القارة الأميركية جعلت من الحياد امراً مستحيل التحقيق. لقد كانت القارة الأميركية مسرحا لحروب أوروبية -أوروبية وأوروبية - أميركية من اجل السيطرة على القارة.

ومع بداية القرن العشرين كانت الولايات المتحدة قد وفرت لنفسها الأمن وأصبحت قوة عالمية من الدرجة الأولى. وكانت الحرب العالمية الأولى دفعتها الى الخروج من عزلتها. لقد تمت هزيمة المانيا والقوى المتحالفة معها، لكن الولايات المتحدة، برفضها الانضمام الى عصبة الأمم التي ساهمت هي نفسها بإنشائها، عادت الى سياستها الانعزالية إزاء المسرح السياسي الأوروبي.

ومهما يكن، فإن سياسة اميركا الخارجية أخذت بعد الحرب العالمية الثانية منحى متشدداً مقابل الحضور السوفياتي - الشيوعي في العالم، محوّلة العلاقات مع القطب الآخر الى حرب باردة انعكست نزاعات اقليمية في شتى أصقاع الأرض. واعلن ترومان (1947) امام لجنة مشتركة تابعة للكونغرس عن ضرورة تحمل مسؤوليات جديدة بسبب التهديد الذي يمثله »الآخر« لمبدأ الحرية الذي قامت لأجله الجمهورية. ودعا الرئيس الأميركي الشعب الى تحمل المسؤولية من خلال التعاون مع امم اخرى للتأسيس لنمط حياة خال من الضواغط. فسياسة الولايات المتحدة ستقوم برأي ترومان على الدفاع عن الشعوب الحرة المقاومة لمحاولات الاخضاع التي تقوم بها اقليات حاكمة، او تلك التي تستهدفها ضغوطات خارجية. انه، باختصار، صراع بين الخير والشر، بين انصار »الحرية« واعدائها. ولقد تجلّت هذه النزعة نحو الهيمنة الكونية ايضا في خطاب الرئيس كنيدي بمناسبة توليه السلطة عندما أعلن عن استعداده لتحمل كل الأعباء والصعوبات والأكلاف، لدعم الأصدقاء ومواجهة الأعداء من اجل نصرة الحرية، ما يبرر بالتالي التدخل الأميركي على اي بقعة من بقاع العالم وللأسباب التي تحددها الولايات المتحدة نفسها.

ولقد انعكست هذه النزعة بمجموعة من الاجراءات على المستويين الداخلي والخارجي، الهدف كان احتواء المد الشيوعي

 (George Kennan & Paul Nitze's containment projects). 2

إن مجموعة من التداعيات الدولية بين 1948 و1950 (انقلاب شيوعي في براغ، وصول الشيوعيين الى السلطة في الصين، تفجير قنبلة نووية في الاتحاد السوفياتي، محاصرة برلين، اجتياح كوريا الشمالية لكوريا الجنوبية) وبين 1948 و1965 (حركات الاستقلال، ازمة الصواريخ الكوبية)، كلها دفعت باتجاه عسكرة غير مسبوقة لسياسة اميركا الخارجية وتوافق حزبي ورضا غير مسبوق لدى الرأي العام الأميركي على السياسات المتبعة في هذا الاتجاه الذي ورّط الادارة الأميركية في مجموعة من الحروب الاقليمية أبرزها حرب فيتنام التي آلت الى إعادة نظر بهذه السياسة التدخلية، والى انفراج نسبي (Détente) على مستوى العلاقات بين القطبين، وانعكست التطورات الدولية المستجدة على علاقات الولايات المتحدة بالصين حيث شكلت دفعا نحو تعزيز التعاون التجاري بينهما. و تم في المقلب الآخر اطلاق اول مفاوضات من نوعها مع الاتحاد السوفياتي حول مراقبة وتنظيم الأسلحة النووية الاستراتيجية (Strategic Arms Limitations Talks-SALT). إلا ان مرحلة الانفراج الدولي ما لبث ان تجاوزها الزمن مع اجتياح الاتحاد السوفياتي لأفغانستان سنة 1979. ما دفع بالولايات المتحدة لاتخاذ منحى احتوائي اكثر حدة خلال ادارة الرئيس ريغن الذي اعاد احياء مقولة الخير والشر، والحرية واعدائها، وأظهر بالتالي تصلّباً اكبر في التعاطي مع المعسكر الآخر وانصاره (نشر صواريخ متوسطة المدى في اوروبا، اجتياح غرانادا عام 1983، تواجد عسكري في لبنان في اطار القوة متعددة الجنسيات 1983-1984، وفي الخليج العربي 1987، ضرب طرابلس الغرب عام 1986: غزو باناما عام 1989 الخ). وكان ايضا لمشروع ريغن (23 آذار 1983) المعروف بإسم »مبادرة الدفاع الأستراتيجية« (Initiative de Défense Stratégique) الهادفة الى اعتراض الصواريخ النووية السوفياتية، اثر كبير على سلوك الاتحاد السوفياتي السياسي والعسكري تجلى باستهجان المشروع الأميركي، معترفاً بارتداداته الشديدة السلبية على الاقتصاد السوفياتي. ومثلت هذه المبادرة مرحلة جديدة في السباق على التسلح، وتالياً في الاندفاع نحو عسكرة مضطردة للسياسة الأميركية على الأرض وفي الفضاء على حدّ سواء.

وكان لهذا المشروع اثر كبير على موازين القوى بين قطبين لا يحكم علاقاتهما التكافؤ بقدر ما تحكمها وتتحكم بها الظروف والتحالفات. وشكل هذا السباق المحموم على التسلح من قبل الولايات المتحدة أحد اهم الأسباب التي ادت الى تفكيك الاتحاد السوفياتي وفرط عقد المنظومة الأشتراكية.

الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية تركا للولايات المتحدة الساحة الدولية خالية من رقيب او حسيب، وفي جو فائق الارباك بعد اربعين عاماً من المواجهة الأيديولوجية-السياسة-الاستراتيجية التي بنت في اطارها وعلى اساسها قواها العسكرية من دون ان تتنبأ باحتمال حصول هذا الانهيار.

اما اليوم فإن الادارة الأميركية تجسد ارادة جامحة بإخضاع العالم للمشيئة الأميركية، منتهجة سياسة تأويج النفوذ (politique de maximisation du pouvoir/ realpolitic)، وهي اليوم تقارع »عدواً« مجهول الهوية، أسمته »الارهاب«.

وبالعودة الى سياق البحث، نباشر بطرح التساؤلات: ما هي المنطلقات القيمية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية؟ ما هي محاور اهتمام هذه المنطلقات؟ وماذا تبتغي هذه المنطلقات؟

 

الأفكار التحتية للثقافة السياسية الأميركية

تستمد سياسة الولايات المتحدة منطلقاتها الفلسفية من التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى التي تعود جذورها الى المحاولات الاستيطانية الأولى للقارة الأميركية التي تمثلت بالهجرة الكلفينية من التضييق الأنكليكاني في بريطانيا. وكان أسس هذا التحول لمفهوم قوامه »الإصطفائية الألهية« أي قيادة »مشروع الهي« هدفه اعادة رسم تاريخ الانسانية، ما يعطي للبعد الديني اهمية كبرى في تكوين الدولة وفي صياغة سياساتها على المستوى الخارجي. وتستمد السياسة الخارجية الأميركية جذورها الفلسفية أيضا من الفكر الليبرالي الذي يعود الى القرن السابع عشر. وقد تميّزت حقبة الرواد الأوائل باضطرابات سياسية واجتماعية تركت بصماتها في فكر هؤلاء والذين كان لفكرهم بدوره وقع كبير على الفكر السياسي المعاصر، يمكن رصده في مؤلفات كثيرين منهم مثل فيبير وبودان وبرغسون وبيردو وأرون وكيسينجر ومورغنتو وفوكوياما وهنتنغتون. وتعتبر مساهمة جون لوك (1632-1704) (John Locke) في هذا المضمار رائدة. فقد سعى الكاتب في مؤلفه الشهير Two Treatises of Government (1683) الى حماية الأفراد من جور الحكام وتسلطهم من خلال تحديد اطار اجتماعي يتمتع فيه هؤلاء بحقوق لا يمكن ان ينازعهم عليها الحكّام. فالحرية الفردية تتجلّى بالنسبة للوك في الحدّ من سلطة الحاكم، أي في لامركزية القرار، بهدف الحدّ من قدرة الحاكم على التحكم بالمقدرات وبالتالي بحرية الأفراد. أما هدف لوك من ذلك فهو ضمانة الانتقال الارادي من حالة الفطرة الى حالة العقد، ومن حالة الفوضى الى حالة النظام، بأقل ما يمكن من التداعيات على مستوى حرية الأفراد؛ لكن أي عقد من أي نوع كان يبرم بين كيانات سياسية مستقلة، لا يغير من حالة الفطرة، أو بالأحرى من حالة »انعدام الجاذبية« في العلاقة التعاقدية الجديدة. ألا أن مساهمة توماس Thomas Hobbes (1588-1679) تعتبر الأكثر وقعا في هذا المضمار. ويشدد هوبز في مؤلفّه الشهير The Leviathan (1651) على أهمية مركزية القرار بهدف فرض الأمن وبالتالي توفير الاستقرار، ويلتقي مع لوك لجهة تأكيدهما على أهمية الأفراد في بناء المجتمعات من خلال قدرتهم على تكوين ذاتهم واشباعها ومن خلال عقلانيتهم التي تبعدهم عما يمكن ان يعود بالضرر عليهم، والاقتراب مما يعود عليهم بالفائدة. فكل فرد يسعى لتحقيق الخير الذي يراه مناسبا له. اما تحقيق ذلك فهو ليس بالأمر السهل بالنسبة لهوبس، لما يحيط بالجنس البشري من اخطار محدقة، ما يحتم ويبرر وجود سلطة قادرة على حل النزاعات القائمة بين الأفراد يتنازل لها هؤلاء عن حريتهم التي كانوا يمارسون قبل قيام السلطة، مقابل قيام هذه الأخيرة بتوفير الأمن لهم، وبالتالي بتحصين المجتمع العتيد من خلال العقد الاجتماعي الجديد او ما أسماه هوبز الجمهورية REPUBLIC. وهو يرى أن المنافسة هي جالبة للنزاعات وليس لانتاجية افضل، ذلك ان الخير بالنسبة له هو نسبي النطاق، ولا يخضع لقيم ثابتة تتشارك فيها المجموعات على اختلاف المكان والزمان. فكل فرد يسعى لتحقيق الخير الذي يراه مناسبا له. اما الحل فيكون بالنسبة لهوبس من خلال إرساء قواعد عقلانية. فالعقل يمكن استعماله أوّاليا (mechanistically) لمعالجة المشاكل مهما كانت طبيعتها، باعتبار ان الذات هي آلية لتحقيق المنفعة. أما بالنسبة للدين، فكان موقف هوبز منه لافتاً إذ حذّر من تداعيات تطرف الجماعات الدينية التطهيرية (fanatical puritan sects) الاجتماعية والسياسية التي تبشر بتعاليم دينية مختلفة عن تلك التي تعلمها كنيسة انكلترا

(the Church of England). ويلتقي لوك مع هوبز على ان الحرية يتمتع بها الأفراد بالفطرة، الا انها تحتمل في فكر هوبز تناقضاً إشكالياً اساسياً بالظاهر والجوهر لجهة تعايشها مع سلطة كلية الحضور.

اما الملكية الخاصة التي لم يركز هوبز على اهميتها بشكل مباشر، فهي تعتبر بالنسبة للوك شرطاً لازماً وواجباً لممارسة الحرية. لا يدعو لوك الى ازالة السلطة (Government) بقدر ما يدعو الى الحد من نطاق ممارستها من خلال مراقبتها ومحاسبتها.

أما جون ستوارت ميلز فقد أضفى بدوره John Stuart Mills (1806-1873) بعداً جديداً على اطروحة لوك في مؤلفه الشهير On Liberty (1859). اذ هو يحث لوك على اقامة حدود واضحة بين نطاق تدخل السلطة ونطاق ممارسة الأفراد لحرياتهم. وهو يعتبر في هذا المضمار احد اهم المدافعين عن الحرية الفردية التي يعتبرها شرطاً لازماً وواجباً لتقدم المجتمات. اما الحرية الاجتماعية فهي ايضا ضرورية من الزاوية المنفعية الصرفة باعتبارها  تساهم في عملية التقدم.

ولقد سبق لآدم سميث (Adam Smith (1723-1790) أن توقف عند هذه الفكرة عقود من السنين سبقت ميلز. لقد ركز سميث في أطروحته بعنوان »بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم« (1776) على العوامل التي تقود هذه الأخيرة الى الازدهار. ويلتقي ميلز وسميث على أن المنافسة القائمة على مبدأ العرض والطلب، والتجارة الحرة الخالية من القيود القانونية والتنظيمية والمرتكزة على البحث عن تأويج المنفعة الشخصية التي لا تتعارض بالضرورة مع المصلحة العامة، هما السبيل لتحقيق ذلك. أما السلطة فلا شأن لها بالاقتصاد بحيث يقتصر دورها على تحقيق العدالة وحفظ الأمن وحماية الملكية. والثروة يمكن قياسها بما في مقدور الأمة ان تنتجه وأن تتبادله وتصدره من سلع. أما العلاقة بين المنتج والمستهلك فهي علاقة تكاملية اذ ان انسجاما في المصالح بين الطرفين هو الذي يحكم هذه العلاقة في ظل امتناع السلطة عن التأثير فيها. ولهذا التصور انعكاسات مهمة على المستوى الدولي يكمن في تصدّر العامل الاقتصادي المتمثل بالشركات الاقتصادية للعلاقات الدولية على العوامل التقليدية الأخرى المتمثلة بالدبلوماسي/السياسي وبالعسكري.

هذه النزعة الفردية التي تعطي للقوى الاقتصادية الأسبقية والتصدّر جرى تطويرها في خمسينيات القرن الماضي مع أنتوني داونز Anthony Downs (1957, 1959)--The Public Choice Theory، الذي أخذ بالاعتبار اهمية البعد الكمي-الأحصائي في دراسة سلوك الأفراد، مركزاً في الوقت ذاته على المنطق الذي يستند اليه هؤلاء في المفاضلة التي يقومون بها عند اتخاذهم للقرار. فالمجتمع، صغر أم كبر، دولياً كان أم محلياً هو عبارة عن سوق يتنافس فيه أفراد او جماعات لهم شخصية طبيعية أو معنوية، افراد وقادرون على المفاضلة العقلانية على قاعدة اشباع الذات او تحقيق الربح المادي و/أو المعنوي باتخاذ القرارات الأكثر نفعية مقابل الاضطلاع بالأكلاف الأقل عبئاً. إذن فإن عقلانية الفرد القائمة على تطابق الأهداف مع الوسائل، بمعنى اختياره لأفضل الوسائل من اجل تحقيق الأهداف المنشودة، هي التي تحكم قراره. وفي مؤلفه

An Economic Theory of Democracy (1959) يعتبر المفكر الأميركي أنتوني داونز أن الدافع لاتخاذ القرار هو اكثر وضوحا في السوق مما هو عليه في أي اطار آخر، كما أن العناصر المؤثرة بالسوق كالعرض والطلب والسعر، من الممكن احصائها بعكس النفوذ الذي له مدلولات عديدة، ما يجعل مهمة تحديده امراً صعباً ان لم يكن مستحيلا. وبما أن قانون السوق هو الجاذب لأكبر عدد من الأفراد، مستهلكين كانوا أم ناخبين، فإن الخصوصيات الشخصية يجري إلغاؤها. اما ما هو مشترك بين العام والخاص فإنه برأي داونز الربح، بمعنى ان الفرد سواء كان يعمل في العام او في الخاص، فهو يسعى الى الربح او الى اشباع ذاته، ما يفسر بالتالي التدهور الحاصل على مستوى الأداء والأعباء بحكم ان قانون السوق معمول به في كلا المجالين.

فما هي المنطلقات التي تستند اليها الولايات المتحدة في توجهاتها الخارجية؟ ما الذي يفسر جنوح هذه الدولة الدائم نحو القوة والتوسع؟ هل هي فقط المصالح التي تفسر هذا الجنوح، أم أن هناك عوامل أخرى تفسر ذلك؟

 

مقابلة نقدية لأبرز المساهمات الفكرية والميدانية

تشكل سياسة الولايات المتحدة على المستوى الخارجي انعكاسا لثقافة الشعب الأميركي السياسية. وتعتبر الليبرالية في هذا المضمار احدى اهم دعائم هذه الثقافة، وهي تستمد جذورها من الآداب البروتستانتية التي تعود الى المحاولات الاصلاحية المسيحية التي بدأت بالظهور في أوروبا الغربية مع بدايات القرن السادس عشر. وكانت هذه المحاولات الاصلاحية ساهمت بالتأسيس لثقافة تقشفية تنسجم مع مبدأ تراكم الثروة الذي تقوم عليه الرأسمالية. وتعتبر مساهمة المفكر الألماني »ماكس فيبير«

Max Weber الفكرية في هذا المضمار(3). فهو يولي للاقتصاد أهمية بالغة، الا أنه يبدي تحفظاً ازاء حتمية الماركسية الاقتصادية التي يعتبرها انقاصية (Rژductionnisme). واذ يعتبر الاقتصاد مهماً الا انه يعطي لعوامل اخرى كالثقافة والدين وقواعد اللعبة السياسية، اهمية مركزية.

تدعو الآداب البروتستانتية الى الاعتماد على الذات لتحقيق الأهداف المنشودة في اطار سوق خالية من الضغوط او الضوابط تنادي الإبداعات والمساهمات الفردية للتنافس بهدف التمايز. فالعالم هو عبارة عن سوق تتنافس فيه الإمكانيات والكفاءات بغية توفير مستوى أفضل من العيش، وتحقيق هامش أكبر من النفوذ. أما النزاع الطبقي فلا وجود له برأي الكاتب الا عندما يتحلى الأفراد الذين ينتمون الى هذه الطبقات بالوعي لمصالحهم المشتركة، بالتالي، فإن »الآخر« أي ذاك الذي لا يؤمن بالقيم آنفة الذكر، لا يتمتع بالوعي وبالادراك الحقيقي للتحديات القائمة، ما يحتم تالياً التدخل لتغيير منهج حياته. ولقد بررت هذا المنطق الحروب الأميركية على سكان القارة الأميركية الأوائل باعتبارهم يشكلون »مجتمعات خارج التاريخ«، وهو نفس المنطق الذي برر ايضا استعباد الزنوج كما برر التدخّل في شؤون غير دولة من دول العالم المعاصر.

يدين الكاتب القيم الكونفوشيوسية (Confucianism) الصينية القائمة على الغيرية وضبط النفس وعلى أهمية العائلة و»الطائفة« (community) معتبراً هذه القيم مسؤولة عن تراجع اقتصاد هذا البلد4. ويلتقي مع ماكس فيبير في استهجان الثقافة الكونفوشيوسية مفكرون أميركيون ابرزهم صموئيل هنتنغتون Samuel P. Huntington(5). ويطرح الكاتب في مقالته المتنازع فيها فكرة صدام الحضارات. فالهوية الحضارية سوف تشكل برأي الكاتب الإشكالية الأهم في العلاقات الدولية. أما التفاعل الحضاري فليس بين الرأسمالية والشيوعية التي انهارت بانهيار المنظومة الاشتراكية، انما بين حضارات ثمانية: الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والاسلامية والهندية والسلافية-الأورثوذوكسية والأميركية اللاتينية و»ربما« الأفريقية. يعطي الكاتب للثقافة في بعدها الديني أهمية قصوى في هذا السياق التفاعلي، ويعتبر أن تطور الاقتصاد العالمي كما امكانيات الاتصال المتوفرة للشعوب قد أضعفت دور الدولة كمصدر انتماء، في الوقت الذي نمّت فيه مدارك هذه الشعوب لاختلافاتها وقواسمها المشتركة. فوجود أقليات افريقية شمالية في فرنسا تؤجج برأيه النزاعات بين هؤلاء والبلد المضيف. والاستثمارات اليابانية تثير حفيظة الأميركيين اكثر بكثير مما يتحفظ هؤلاء فيه على الاستثمارات الكندية أو الأوروبية. أما السؤال المطروح بحدة اليوم فهو غير ذات علاقة بالموقف السياسي أو الأيديولوجي إنما هو ذو علاقة بالهوية الثقافية. فالمفاضلة هي اذن بين نحن والآخرين. والآخر هو كل من هو ليس مثلنا، وخصوصاً، الحضارتان الكونفوشيوسية (الصين) والاسلامية اللتان تسعيان برأيه الى تعزيز موقعهما الحضاري ازاء الغرب عبر التعاون العسكري والاقتصادي والتكنولوجي. وقد تم التعبير ببلاغة عن هذا المنحى من خلال تساؤل الرئيس الأميركي جورج بوش معلقاً

امام وسائل الاعلام على احداث 11 ايلول 2001: لماذا يكرهوننا؟

(Why they hate us?)

وعلى الرغم من التأثير الغربي المتعاظم على العالم، الا ان صداماً كامناً سوف يحصل بين الحضارة الغربية وحضارات اخرى، ما ينقل العلاقات الدولية من مرحلة الثنائية القطبية الأيديولوجية الى مرحلة التعددية القطبية الحضارية، ومن مرحلة خضوع هذه الحضارات الى مرحلة الفعل الحضاري الدموي. يقترح الكاتب حلولا (ص 48- 49) لتدعيم موقف الغرب في هذا التصادم الآتي لا محالة هي:

1)     توحيد الخطاب وتعميق التنسيق الغربي ولا سيما بين اوروبا الغربية واميركا الشمالية.

2)     دمج دول أوروبا الشرقية ودول أمريكا اللاتينية في المجتمعات الغربية.

3)     تعميق التعاون مع روسيا واليابان.

4)     الحد من التسلح والتعاون العسكري الاسلامي-الكونفوشيوسي.

5)     تجنب تفاقم النزاعات المحلية لتصبح نزاعات حضارية شاملة.

6)     الأعتدال في تخفيض حجم الترسانة العسكرية والحفاظ على تفوق عسكري في شرق وجنوب آسيا.

7)     الاستفادة من الفوارق والنزاعات بين الدول الكونفوشيوسية والدول الاسلامية.

8)     دعم المجموعات الحضارية المتعاطفة مع الحضارة الغربية.

9)     دعم المؤسسات الدولية التي تعكس المصالح والقيم الغربية والتي تعمل على اشراك دولا غير-غربية موالية فيها.

ويلتقي مع هنتنغتون مفكر غربوي آخر يعتبر من أحد أبرز المفكرين المعاصرين في هذا المضمار هو فرنسيس فوكوياما Francis Fukuyama(6). ففي كتابه »نهاية التاريخ« طرح أطروحة تقول بانتهاء التطور الأيديولوجي للمجتمع البشري مع الوصول الى مرحلة عولمة الديموقراطية الليبرالية على الطريقة الغربية (Western Liberal Democracy)، ما يعني بالنسبة له انتصار وانتشار هذه الأيديولوجية على نطاق عالمي كآخر شكل من أشكال الحكومات. فالديموقراطية الليبرالية والاقتصاد الليبرالي يمثلان بالنسبة لفوكوياما، خلاصة التقدم والتطور الذي وصلت اليه الانسانية. وهما أصبحا اليوم، بدون منازع، بعد انهيار الفاشية والشيوعية، وبعد اخفاق الاسلام في صياغة خطاب كوني التوجه. لقد قرن الكاتب نهاية الأيديولوجيات بنهاية التاريخ. أما تغيير التاريخ فلا يحصل برأيه الا من خلال نشر الحداثة الغربية في كل العالم. ونهاية التاريخ لا تعني بالنسبة له نهاية النزاعات التي بدأت برأيه تأخذ أشكالا جديدة من دينية الى قومية وعرقية واثنية. ويعتبر دول العالم الثالث وشرائح محرومة داخل اوروبا الغربية وأميركا الشمالية عقبة أمام عولمة كاملة -بل هيمنة كاملة- للأيديولوجية الغربية.

ولقد طرح في هذا المضمار الاختصاصيان الأميركيان في علم السياسية »ألموند وفيربا« Gabriel, A. Almond & Sidney Verba(7) في دراستهما سنة 1959 لخصائص الثقافة السياسية لخمس دول (الولايات المتحدة، بريطانيا، إيطاليا، جمهورية المانيا الأتحادية، والمكسيك) فكرة الثقافة المدنية Civic Culture. ويقترح الكاتبان ثلاثة نماذج مثالية لتحديد مستوى نضوج الثقافة السياسية للفرد او للجماعة: النموذج الرعوي (parochial)، والنموذج التابع (subject) والنموذج المشارك (participant). أما النموذج الأول-الرعوي- والذي تتسم به المجتمعات التقليدية، فيجهل أصحابه مضمون القضايا السياسية المطروحة، ويعانون بالتالي من نقص بالمشاركة في الحياة السياسية. أما النموذج الثاني-التابع- فيتسم اصحابه بمعرفة عامة بالحياة السياسية لكن دون ان تكون لديهم الرغبة بالمشاركة فيها. أما بالنسبة لأصحاب النموذج الثالث-المشارك-، فإن ثقافة هؤلاء السياسية تتسم بالمعرفة العميقة بالحياة السياسية وبالمشاركة الفاعلة فيها في آن معا. ويخلص الكاتبان الى القول بأن الولايات المتحدة وبريطانيا بصورة خاصة تستوفيان كل الشروط اللازمة للاقتراب من النموذج الثالث، أو مما يسمونه »الثقافة المدنية المثالية«. لكن وإن شكلت هذه الثقافة المدنية قاسماً مشتركاً بين الثقافة السياسية لهاتين الدولتين، الا انها تمثل اهمية دنيا لدى المجتمعات الأخرى بحسب النتيجة التي توصل اليها »هاري تريانديز« في مراجعة قام بها لمئة دراسة مقارنة لقيم مجتمعات مختلفة:

"The values that are most important in the West are least important world wide"(8)

إن فرضية الثقافة المدنية التي يقترحها »ألموند وفيربا« ويعتبران بمحصلتها أن ثقافة الشعب الأميركي هي الأقرب الى المثالية من حيث ميل الفرد الأميركي الى المشاركة وقدرته على التأثير بالقرارات العامة من خلال ادراكه العميق لكيفية عمل النظام السياسي، كما أن فرضية فوكوياما لجهة اعتبار الليبرالية الغربية، وتالياً الأميركية، قمة التطور ونهاية التاريخ، تدحضها مجموعة دراسات من أهمها واحدة للمفكر الأميركي C.W. Mills عن النخبة في الولايات المتحدة. حيث يعتبر ان على رأس السلطة في الولايات المتحدة نخبة تتبوأ مواقع استراتيجية وتتألف من كل من المؤسسة السياسية والمؤسسة الاقتصادية والمؤسسة العسكرية او ما اسماه الكاتب مثلث السلطة. أما الأشخاص الذين يتبوأون أعلى الهرم في كل من هذه المؤسسات الثلاث، فهم يحتلون في الوقت نفسه موقعاً استراتيجياً على مستوى البنى الاجتماعية ما يجعل من أميركا ديموقراطية سياسية شكلية اكثر مما هي بنى إجتماعية ديموقراطية(9). والقيم الديموقراطية هي قيم متحركة - أي غير ثابته - وهي عرضة للاختراق والانتهاك في أي حالة تكون فيها المصالح القومية الأميركية بخطر-كما سنرى لاحقا. وهذا يدحض فرضية سيدني وفيربا لجهة تحلّي المجتمع الأميركي بالثقافة المدنية وديموقراطية الجوهر، علماً بأن هذه المشاركة نفسها ضعيفة داخليا ناهيك عن أنها الى تراجع مستمر(10).

ومن ناحية أخرى، يفيدنا البحاثة انكلهارت Ronald  Inglehart(11) في دراسته عن التغيير في القيم والأنماط السياسية لدى الرأي العام الغربي خلال السبعينيات-الولايات المتحدة، أوروبا، المكسيك واليابان- بأن المجتمعات الغربية شارعة في تغيير سياسي بالعمق بفضل تحول على مستوى القيم السائدة. أما هذا التغيير فيتمظهر برأي الكاتب من خلال الانتقال من القيم المادية (materialist) الى القيم ما بعد المادية (post-materialist). ويستلهم الكاتب فرضيته من سلم القيم الشهير للكاتب Maslow مقترحاً ضم هذه القيم في فئتين: مادية وما بعد المادية. أما القيم المادية فهي تلك المتعلقة بالبحث عن الأمن الاقتصادي والجسدي (economic and physical security). فالتنمية الاقتصادية والأجور المرتفعة وضمانات العمل ومحاربة الجريمة وبناء جيش قوي، كلها تمثل حاجات الفرد الأساسية. أما القيم ما بعد المادية فهي تلك التي لها علاقة بالتألق الشخصي والاجتماعي من خلال التعبير عن الذات والانتماء والمشاركة. فالمنفعة المعنوية التي تتمثل بتوفير فرص عمل، وبالاهتمام بالبيئة وبحقوق الانسان لها الأسبقية على البعد المادي في شقيه الاقتصادي والشخصي. فالتعويل على الأمن العسكري (military security) وعلى الأمن الاقتصادي (economic security) حلّت مكانه اهتمامات جديدة تتمحور حول أهمية المجتمع المحلي في الحياة السياسية. أما التغيير السياسي فهو بالنسبة للكاتب جزء من التغيير الاجتماعي والاقتصادي.

ان ما يفسر برأي الكاتب هذا التطور القيمي-الجيلي (Intergenerational Shift)، فيعود الى أن الأفراد يعطون الأولوية للحاجات ذات الندرة النسبية، ولأن قيم الفرد الأساسية هي انعكاس للشروط السائدة خلال مرحلة ما قبل بلوغه سن الرشد. ويعود ذلك أيضا الى التأهيل العلمي المتطور. فالحربين العالميتين الأولى والثانية ساهمتا بظهور قيم تعطي الأسبقية للحاجات المادية والأمنية نتيجة لسوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية التي كانت قائمة آنذاك. أما الذين عاصروا فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية فقد كانت اهتماماتهم غير اهتمامات أولئك، نتيجة لاتسام هذه المرحلة بازدهار اقتصادي واستقرار أمني فريدين. لكن اقرار الكاتب بنسبية التوسع النوعي الذي تشهده القيم ما بعد المادية، والذي يترافق مع تغيير على المستوى الأيديولوجي-أو نهاية للأيديولوجيا (ص 209)-تؤكده مفاعيل مجموعة من الاجراءات الضريبية والاقتصادية التي اتخذتها ادارات الجمهوريين خلال الثمانينات وبداية التسعينات، والتي أدت الى تقلص حجم الطبقة الوسطى في الاقتصاد لصالح طبقة المال والأعمال. لكن اعتبار الكاتب لآراء الأشخاص المستطلعة آرائهم حقيقة يمكن البناء عليها يتضمن مغالطة؛ ذلك أن تفاوتا يمكن ان يحصل بين الرأي في أمر ما والقدرة على الفعل.

وتؤسس هذه القيم الجديدة أو كما أسماها الكاتب »الثورة الهادئة« -The Silent Revolution- لأشكال جديدة من التضامن بين الشعوب، مخترقة حدود الدولة الوطنية ومقلصة بالتالي لدورها. فكما استطاعت الحركة العمالية تجاوز حدود الدول، تستطيع اليوم الحركات البيئية وتلك التي تعنى بحقوق الانسان القيام بذلك. باختصار، فإن الدولة-الأمة تنسجم مع القيم المادية. أما القيم ما بعد المادية فهي تؤسس لدولة-أمة محدودة السيادة.

تتسم دراسات كل من سيدني وفيربا وفوكوياما وهنتغتون وانكلهارت بأنها غربوية التمحور بل قل »اميركانوية« التمحور (Western-Centred Conception & American-Centred  Conception).

ويختلف سيدني وفيربا مع فوكوياما وهنتنغتون من حيث كيفية تناول الموضوع. فبينما يتناوله هنتنغتون من زاوية ماكرو قيمية، فإن طرح فوكوياما المتأثر بمنطلقات داروين وماركس وهيغل النشوئية، هو طرح تاريخاني المضمون. أما طروحات سيدني وفيربا وانغلهارت فهي ذرية، علما بأن طرح انغلهارت يتأرجح بين البعد الذري (atomistic) كونه يركز على أهمية الفرد في عملية التغيير القيمي، ومؤثرات النظم (Deterministic) كونه يقر بأهمية التأثيرات الخارجية على عملية تكوين القيم لدى الأفراد. أما هنتنغتون فهو يرى بأن النزاع حضاري، وهو آت لا محالة، بينما يرى فوكوياما بأن النزاع كان ايديولوجي السمة وتوقف مع انتشار الليبرالية على المستوى العالمي، متخذاً أشكالاً أخرى وابعاداً جديدة ذات مفاعيل محدودة. وبينما يعتبر فوكوياما الأيديولوجيات غير الغربية غير مؤهلة لمنافسة الأيديولوجية الغربية، فإن هنتنغتون يرى بأن هذه الأيديولوجيات أضحت اليوم قادرة أكثر من أي وقت مضى على الفعل الحضاري وبالتالي على اعادة رسم التاريخ (ص 23). لكن الغرب يبقى بنظر هذا الأخير هو المهيمن على الساحة الدولية وعلى المستوى الحضاري، الا أنه (الغرب) لا يشكل برأينا على الرغم من ذلك لا كياناً موحداً ولا كياناً مأحداً ولو تشاطرت الدول الغربية قيماً عديدة. والدول الغربية هي أيضا عرضة لمتغيرات سياسية-ثقافية دراماتيكية لها وقع مباشر على سياستها الخارجية ولو بدرجات متفاوتة. فمطالب الأقليات السوداء واللاتينية في الولايات المتحدة بالمساواة تشكل مصدراً للتشكيك بالصيغة الاندماجية المعمول بها هناك. كما أن الخلافات بين الانكليز والفرنسيين في كندا تشكل عامل اضطراب وتهديد دائم بتفكيك الاتحاد. ناهيك عن المشاكل المزمنة بين البروتستانت والكاثوليك في ايرلندا الشمالية، وبين مواطني بلاد الغال والاسكوتلنديين من جهة والحكومة البريطانية من جهة أخرى،

وبين الوالون (Wallons) والفلامون (Flamands) في بلجيكا، والأقليات الأنفصالية في اسبانيا (الباسك Basque والكاتالانيون Catalan) وفي فرنسا (الكورسيكيون Corse ومواطنو كاليدونيا الجديدة (Nouvelle Calژdonie)، وبين شمال وجنوب إيطاليا، وشرق وغرب المانيا. الخ.

أما بالنسبة للقضايا السياسية والأمنية العالمية، فتتم معالجتها برأي هنتنغتون في إطار مجلس ادارة أو مديرية (directorate) تتألف من أميركا بالدرجة الأولى إلى بريطانيا وفرنسا(12) (ص 39). هذه الدول تمسك بالقرار المالي (صندوق النقد الدولي) والاقتصادي (البنك الدولي) والسياسي (مجلس الأمن الدولي) العالمي وهي تنصّب نفسها بناء على ذلك لسان حال المجتمع الدولي، أو ما كان يعرف باسم العالم الحر. وما لم يشر احد من المفكرين آنفي الذكر اليه هو المنطلقات القيمية للفرد الغربي. لقد اشار هنتنغتون الى التنافس الحضاري القائم من دون ان يحدد الفروقات الثقافية والحضارية الدافعة باتجاه التصادم. والصراع من اجل النفوذ والمصالح(13) لا يشكل اجابة مقنعة على السؤال المطروح، لأنه بديهية لا تحتاج الى برهان. والقول في قيم كالديموقراطية والدستورية والحرية وحقوق الانسان والليبرالية، وتراكم الثروة من خلال التقشف الذي ساهم بالتأسيس لسيكولوجية سلوكية منسجمة مع الرأسمالية حسب فيبير؛ واستطراداً، المعرفة العميقة بالحياة السياسية والمشاركة بها على قاعدة الخاضع والفاعل (object vs subject) كما اردف سيدني وفيربا؛ كل ذلك لا يشكل اجابة مقنعة. ان ما لم يشَر اليه كل من هنتنغتون وفوكوياما وسيدني وفيربا هو النزعة الأميركانوية التي ينفرد بها الفرد الأميركي بالذات(14)، والتي لا تلتقي بالضرورة مع ثقافة الدول الغربية الأخرى.

اما الجواب عن سؤال »بوش«: الشهير: لماذا يكرهوننا؟ فهو: لأن »الغرب«-أي ما يوحى بالولايات المتحدة الأميركية- يتعاطى بكثير من الغطرسة مع الآخر، كما يقول رئيس وزراء كندا جان كريتيان تعليقا على احداث 11 أيلول(15)، ولأن المحركات القيمية الأساسية لثقافة الشعب الأميركي السياسية لا يمكن أن تلقى قبولاً لدى الرأي العام الدولي.

 

العناصر المكوّنة للسياسة الخارجية الأميركية

ثلاثة عناصر قيمية أساسية تتمازج لتكوّن الخلفية الثقافية للسياسة الخارجية الأميركية: الدين والأمن والأيديولوجيا، علما بأن هذه العناصر نفسها تكتسب أهمية متفاوتة تختلف باختلاف الظروف الأمنية والاقتصادية والسياسية الداخلية والدولية. وتشكل هذه العوامل الثلاثة بشكل مستقل و/أو متداخل فرضيات مركزية للمفكرين الذين تم تناول دراساتهم سابقاً. اما العامل الديني فلأنه يشكل فرضية هنتنغتون المركزية والمحرّك الأساسي برأيه لأي صراع حضاري. أما العنصر الثاني الذي هو الأمن، فلأنه يشكل ثاني أهم عنصر مكوّن للقيم المادية وما بعد المادية التي طرحها انغلهارت. أما بالنسبة للأيديولوجيا-الليبرالية فلأنها تمثل بالنسبة لفوكوياما نهاية التاريخ أو التطور الحضاري. إذن، فما هي الأهمية التي تكتسبها هذه العناصر في فضاء الثقافة السياسية الأميركية وتالياً السياسة الخارجية لأميركا؟

 

الدين

إذا كان الدين هو محرك مركزي لصراع حضاري آت برأي هنتنغتون، فلأن المجتمع الأميركي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة يستمدان قوتهما من العلاقة العضوية القائمة بين السياسة والدين. هذه العلاقة التي هي اقرب الى خصائص المجتمعات التقليدية-ِparochial-بحسب تصنيف ألموند وفيربا. وتعود جذور هذه الخصائص الى المحاولات الاستيطانية الأولى للقارة الأميركية، والى هوية المستوطنين الأوائل العقائدية التي تمثلت بالهجرة الكلفينية من التضييق الأنكليكاني في بريطانيا العظمى. هذه الهجرة، كانت أسست، نتيجة لقراءتها الأنوية للعهد القديم من ناحية، ولتمسكها بحرية قراءة الكتاب المقدس من ناحية أخرى، لمفهوم قوامه »الاصطفائية الالهية« أي قيادة زمشروع الهيس هدفه اعادة رسم تاريخ الانسانية (bound to lead) على قاعدة تحرير الشعوب من أنواع الطغيان والأستبداد السياسي والديني كافة. ان صعوبة شروط حياة المهاجرين الجدد جعلتهم يشعرون وكأنهم شعب مختار ينتظر في أرض موحشة وعداً بشروط حياة مثالية.

لقد أكد الاصلاح الدستوري الأول والرابع عشر على أهمية الحرية الدينية التي هي جزء من حرية التعبير والتفكير. لكن الموقف العام من الدين في أميركا هو موقف فضفاض. فعلى الرغم من التأكيد على حرية المعتقد والتعبير والتفكير وعلى ضرورة فصل الدين عن السياسة فإن المعطيات تؤكد على أن هذا الفصل ليس فصلا كاملاً، والعلاقة بين الكنيسة والسلطة هي علاقة ود وليست علاقة خصام. لكن احترام النظام العام والقيم السائدة في المجتمع يبقى الخط الذي يفصل بين الدولة والكنيسة. ففي سنة 1879 اتخذت المحكمة العليا في الولايات المتحدة موقفاً- ما يزال مضمونه يشكل القاعدة اليوم- من تعدد الزوجات الذي تدين به طائفة المورمون في أميركا، اكد على ضرورة الألتزام بالواجبات الاجتماعية (social duties) وبالتقيد بالنظام العام معتبرا بأن الالتزام بالقيم السائدة في المجتمع يعني الالتزام بالقيم المهيمنة عليه. أما على المستوى الديني، فإن القيم المهيمنة اليوم هي تلك القيم الأصولية ذات الرؤى التلمودية التي تخضع السياسة للدين(17)، تلك القيم التي تبشر بها جماعات دينية متطرفة -the puritan sects- والتي حذّر توماس هوبز من وقعها السياسي والاجتماعي الدراماتيكيي على انكلترا واستطراداً على أميركا وتالياً على المجتمع الانساني منذ أكثر من ثلاثة قرون.

ويربط الرئيس جيمي كارتر في سياق خطابه الافتتاحي بين القيم الروحية والحرية الانسانية من ناحية والهوية الأميركية من ناحية أخرى فيقول ما مؤداه:

أما »جيمس وات« مسؤول الشؤون الداخلية في ادارة الرئيس ريغن، فيقول ما معناه:

وتخفي مثل هذه المواقف تناقضاً صارخاً لجهة التوفيق بين المبادئ الأخلاقية المجرّدة  ومشروع اجتماع يراد له ان يكون أمميا، ومن جهة أخرى منطق المصالح ونزعة قومية تتسم بالاستعلاء والفوقية، والتي يمكن ملاحظتها على المستوى التطبيقي (في الداخل عبودية وتمييز عنصري فاضح ضد الأقلية السوداء؛ وعلى الصعيد الخارجي سياسية امبريالية)، كما على مستوى الخطاب الأميركي الرسمي. ويقترح جورج كانان في معرض تقييمه لسياسة الولايات المتحدة الخارجية تحديد أسس ومعايير مؤطرة لسلوكات الدول والمجتمعات معترفاً بصعوبة تطبيق هذه الصيغة:

 

الأمن

إذا كان الفصل بين السياسة والدين، بين الحرية السياسية والحرية الدينية هو فصل اصطناعي، فإن الفصل بين الداخل والخارج هو فصل حاد في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يلتقي مع طروحات هوبز ولوك لجهة الفصل بين الداخل والخارج، بين النظام القائم داخل الجمهورية والفوضى التي تتسم بها العلاقات الدولية. ولاقامة النظام في الداخل لا بد من ممارسة الحرية التي بدورها لا يمكن التمتع بها، بحسب بناة الجمهورية الأوائل، في ظل نظام بوليسي. لقد رفض أولئك رفضاً قاطعاً وجود جيوش عسكرية في حالات السلم. فالجيوش النظامية، برأي كونغرس ما بعيد حرب الانفصال، لا تنسجم مع وجود حكومة جمهورية، بل تشكل تهديداً لحقوق شعب حر كونها أداة تدميرية تجنح نحو الاستبداد(21)؛ علما بأن عديد جيش الولايات المتحدة الأميركية لم يكن يتجاوز ال 155 الف جندي إبان الحرب العالمية الأولى(22). هذه الثقافة الاستراتيجية المستندة الى الأمن والحرية والى الانطواء على الذات يفسرها اليوم سلوك ادارة اميركية يهدف الى تبني »قضايا كبرى« تبرر »حروب عادلة« ويدفع بموازاة ذلك باتجاه تحقيق انتصارات عسكرية سريعة على حساب حلول سياسية ممكنة. وحدها النزاعات التي تنتهك مبادئ جوهرية-بحسب الرؤية الأميركية- او تلك التي تشكل تهديدا مباشرا للولايات المتحدة هي تلك التي تبرر التدخل العسكري التأديبي. وتحجب هذه السمات أيضا ثقافة سياسية/عسكرية متطرفة ذات نزعة مانوية صارخة(23).

ان »المهمة الالهية« الموكولة الى المستوطنين الأوائل في »أرض الميعاد« جعلت من الحدود بالمعنى الجغرافي للكلمة، مسألة شائكة في الذهن الأميركي لا بل عائقاً يتحتم تجاوزه مهما تعاظمت الأخطار والتضحيات، وذلك بمعزل عمن يقطن حيث يتم الاستيطان. فالحدود، بدل ان تعني خطاً بيانياً واضحاً كما هو الحال في القانون الدولي، فقد كانت وما تزال، في حراك توسعي دائم، ولو ارتدت اليوم أشكالاً مختلفة من تكنولوجية الى اقتصادية الى توسع في اعماق البحار وفي الفضاء الخارجي(24).

ولقد عزز حضور هذه النزعة في الضمير الأميركي وجود هذا الشعب على بقعة جغرافية شاسعة المساحة، غنية بالموارد، »بعيدة عن الأخطار«.

لقد شكل الأمن بشقيه السياسي والعسكري، محور اهتمامات الجمهورية منذ بداية تأسيسها، وأحد المنطلقات المركزية لسياسة الولايات المتحدة الخارجية وما يزال. أما صيانة الأمن وتوطيده فيتم بالنسبة لمؤسسي الجمهورية، من خلال انتهاج سياسة الحياد أو الانعزالية (isolationism) ازاء العالم الآخر. ويعود ذلك الى مجموعة عوامل أبرزها حداثة الجمهورية يومها وموقعها الجغرافي البعيد عن التفاعلات السياسية الأخرى. وقد عبّر عن ذلك الرئيس جورج واشنطن في خطاب الوداع سنة 1796 بقوله:

لكن التطورات التي شهدتها القارة الأميركية جعلت من الحياد امراً  مستحيل التحقيق. لقد كانت القارة الأميركية مسرحاً لحروب أوروبية-أوروبية وأوروبية-أميركية من اجل السيطرة عليها. واعتبرت الولايات المتحدة ان أي تدخل أوروبي في القارة الجديدة هو بمثابة تهديد للأمن الأميركي وللمصالح الأميركية. وكان خطاب الوداع للرئيس جيمس مونرو تتويجاً لهذه النزعة:

ومع بداية القرن العشرين أصبحت الولايات المتحدة الأميركية قوة عالمية من الدرجة الأولى بعد أن بسطت سيطرتها الكاملة على القارة. والحروب التي خاض غمارها الشعب الأميركي كوّنت لديه نزعة احرابية مترافقة مع حيادية سياسية -وليس اقتصادية- ازاء النزاعات الأوروبية -الأوروبية. فالأمن بالنسبة للأميركي أمر غير قابل للمساومة طالما أنه أرهقت ارواح كثيرة قبل ان يستتب. وهو الذي يوفر الحرية التي بدورها لا يمكن ان تمارس، برأي مؤسسي الجمهورية، في ظل وجود جيش جرّار. ولصيانة الأمن والحرية معا تم العمل من قبل مؤسسي الجمهورية على اخضاع القوى العسكرية لارادة السلطات المدنية أي لسلطات كل من الكونغرس ورئاسة الجمهورية(27). لكن اخضاع العسكر للسياسة هو في العمق صورة تضليلية تتناقض بشكل صارخ مع النزعة الأحرابية التي طبعت السياسية الأميركية، وهذا ما عكسته سياسات التوسع الأميركية ومجموعة من القوانين تم اقرارها مبكراً. فمنذ البدايات الأولى للاتحاد، تم إقرار مجموعة من القوانين حدّت كثيرا من الحريات العامة لصالح الحكومة. وبالرغم من عدم دستورية تلك القوانين ومن انعدام حالة الاجماع الدستوري والشعبي بشأنها، تم إقرار مجموعة منها تحت شعار الحفاظ على الأمن القومي. ففي سنة 1798 مثلاً تم اقرار مجموعة قوانين تحت اسم the Alien and Sedition Acts -ما لبثت أن اسقطت سنة 1801- تعطي رئيس الجمهورية سلطة إبعاد كل اجنبي غير مرغوب فيه. كما جعلت بمثابة جريمة يعاقب عليها القانون كل انتقاد كاذب أو ساخر أو فاضح بحق الحكومة. وجرّمت هذه القوانين كل كتابة أو قول أو تصريحات كاذبة، ساخرة وفاضحة بنية قدح الحكومة او أي من موظفيها، أو بنية التحريض لبث الكراهية ضد هؤلاء لدى الشعب الأميركي.

ولقد أكدت المحكمة العليا في الولايات المتحدة في مناسبات عديدة على سلامة الصلاحيات شبه المطلقة الممنوحة للحكومة الفيديرالية لإبعاد أي اجنبي عن الأراضي الأميركية. واعتبرت المحكمة العليا سنة 1893 أن الابعاد (deportation) هو سلطة ملازمة لسيادة الولايات المتحدة وهي وليست عقاباً جرمياً يستدعي محاكمة جنائية، بل شأن مدني بحت (civil matter)، ما يضع هذا الفعل خارج دائرة الضمانات الدستورية لناحية توفير شروط الشفافية والنزاهة للمتهم. ففي سنة 1984 وفي الشأن عينه، سمحت المحكمة العليا باستعمال أدلة تم الحصول عليها بطرق غير قانونية خلال الاستماع الى شهود، علما بأن ذلك غير مسموح به في إطار المرافعات الجنائية. وما تزال هذه القرارات تشكل حتى اليوم سمة بارزة للسياسة الفيديرالية في هذا المجال.

وفي سنة 1917 تم اقرار قوانين جديدة بروحية قوانين سنة 1798:

the Seditions Acts. وهي اعتبرت بمثابة جريمة، كل فعل تشجيع على الخيانة (disloyalty) أو فعل تأثير في موضوع التطوع العسكري الالزامي (the Draft) أو الحث على التمرد والعصيان بين القوات المسلحة، وكل اعاقة لعملية بيع ممتلكات عامة، وكل اقدام عن سابق اصرار وتصميم على التصريح، نشراً، أو كتابة لأي شئ يشكك، يمتهن، يكذب أو يستعمل لغة مسرفة تتعلق بشكل حكومة الولايات المتحدة. وقد تم بموجب هذه القوانين ادانة أكثر من ألفي شخص، منهم زعيم الحزب الاشتراكي بتهمة عرقلة المجهود الحربي من خلال توزيع بيانات تحث على مقاومة الخدمة الاجبارية. وتم التأكيد على صحة قرار الحكومة من قبل المحكمة العليا بقلم القاضي Oliver Wendell Holmes

وفي سنة 1940 تم اقرار قانون آخر هو Smith Act الذي جرّم كل ترويج او دفاع عن فكرة الانقلاب على الحكومة بالعنف. كما تم تجريم كل محاولة واعية-أي عن سابق تصور وتصميم-لانشاء تنظيم أو الانتساب الى تنظيم يدين بفكرة الانقلاب على الحكومة بالعنف. ومنع بموجب هذا القانون التآمر مع آخرين للقيام بأي من هذه الأفعال. كما تم بموجبه -على الرغم من تناقض ذلك مع الاصلاح الدستوري رقم واحد الذي يكفل حرية التعبير والاعلام- تجريم 11 من كبار قادة الحزب الشيوعي بتهمة الترويج لفكرة الانقلاب على النظام بالعنف. ولقد أكدت المحكمة العليا سنة 1951 على دستورية هذا القرار بقولها:

وفي سنة 1950 تم اقرار الـ McCarren Act الذي طالب كل التنظيمات الشيوعية بتزويد وزارة العدل سنويا بأسماء القياديين والعناصر الحزبية المنتسبة. كما انشأ هذا القانون الـ Subversive Activities Control Board لتحديد هوية المنظمات التي تخضع له. ولقد اعتبرت المحكمة العليا سنة 1961 ان للمكتب صلاحية اجبار هذه المنظمات على التقيد بالقانون المذكور أعلاه، لتعود عن قرارها سنة 1965 معتبرة بأن ذلك يتعارض مع مبدأ التجريم الذاتي (self-incrimination) الذي نص عليه الاصلاح الدستوري الخامس الذي يمنع العمل بهذا المبدأ. وقد حرّم هذا القانون المنظمات الشيوعية من الحصول على جوازات سفر او استعمالها. لكن المحكمة العليا اعتبرت هذا البند متعارضاً مع مبدأ المقاضاة على قاعدة النزاهة والشفافية Due Process Clause التي ينص عليها الاصلاح الدستوري الرابع عشر.

وفي سنة 1954 تم اقرار الـ Communist Control Act الذي اتهم الحزب الشيوعي بالقيام بمؤامرة للانقلاب على حكومة الولايات المتحدة. أما الهدف من هذا القانون فكان حل الحزب بهدف وضع مرشحيه خارج اطار الترشيح والاقتراع، علما بأن هذا الاجراء لم يحل دون تقدم مرشحين عن الحزب لمنصب الرئاسة. أضف الى ذلك الحملة السياسية التضليلية الواسعة التي قام بها السيناتور جوزيف ماكارثي في الخمسينيات والتي اتهم فيها كثيرين من المواطنين الأميركيين بخيانة الأمة الأميركية (un-American) بسبب محاباتهم للشيوعية (soft on communism).

لقد تعرّضت الحركات النقابية في اميركا لضغوطات سياسية واعلامية ونفسية كبيرة خلال الحرب الباردة باسم حماية الأمن القومي للولايات المتحدة. فقد فصل مؤتمر المنظمات الصناعية (Congress of Industial Organizations) بين 15 و 20 % من عديده، أي ما يمثل حوالى المليون نقابي ينتظمون في اتحادات عمالية صنف قادتها في خانة الشيوعية. اضافة الى ذلك، فقد اتخذت الحكومة مجموعة من الاجراءات القانونية التي قيّدت العمل النقابي كقانون Taft-Hartley (1947) الذي حظر على النقابات استعمال مواردها المالية لأهداف انتخابية، والذي شرّع للدولة اللجوء الى مجموعة من الاجراءات مثل تقنين الاضراب ومنع الاقتطاع النقابي(30 )(prژcompte syndical).

لقد شكلت أحداث 11 ايلول اخطر هزة يمكن ان تتلقاها الذهنية الرسمية والشعبية الأميركية في مجال الأمن(31). وبات تحقيق الأمن يتخطى اليوم حدود الولايات المتحدة والقارة الأميركية ليشمل أنحاء المعمورة كافة. لقد ضرب هذا الحدث ثقافة الشعب الأميركي السياسية في العمق، وهدد احد اهم انجازات الجمهورية في هذا المجال. كما أفقد هذا الحدث العامل الجغرافي وبالتالي الجيوبوليتيك-احد اهم مكتسبات الولايات المتحدة الموضوعية-اهميتها الاستراتيجية.

وأما من الزاوية الاستراتيجية فتعتبر عقيدة كلينتون الأكثر انسجاما مع القيم ما بعد المادية (post-materialist values) التي جاءت في طروحات انغلهارت لكونها جدية بانفتاحها على العالم من خلال الانخراط بفاعلية اكبر في الاقتصاد الدولي وا سيما في إطار المؤسسات التابعة للأمم المتحدة، موجهة اهتماماتها نحو قضايا كالتنمية والديموقراطية وحقوق الانسان والبيئة والنمو السكاني والمياه. ولن تمسك الولايات المتحدة، بحسب هذه المدرسة، بكل مقاليد النفوذ، انما تشاركها ببعضها دول أخرى. وهذه عقيدة كتب لها الرواج خلال فترة حكم كلينتون نتيجة لازدهار الاقتصاد الاميركي آنذاك. فهي عقيدة تتميز بميل نحو الاهتمام بالشأن الداخلي ونحو التخلي عن دور الرقيب العالمي من دون التخلي عن فكرة بناء قوة دفاعية نوعية للتدخل فقط في الحالات التي تكون فيها مصالح الولايات المتحدة الأميركية مهددة بشكل مباشر. لكن يبقى الهاجس الأمني طاغياً على الذهن الأميركي على الرغم من أهمية هذه التوجهات(32). فالتدخل العسكري الأميركي في الخارج تبرره بحسب Les Aspin السكرتير الأول للدفاع في ادارة كلينتون، الحالات التالية(33): 1) ظهور قوة توسعية او عدوانية تمتلك اسلحة دمار شامل من رؤوس نووية او كيميائية أو بيولوجية مصحوبة بصواريخ باليستية (لم يحدد التقرير دولاً كالعراق أو كوريا الشمالية أو ايران). 2)  نشوء حرب اهلية في »الأمبراطورية« السوفياتية السابقة بسبب ازمة اقتصادية مستديمة يمكن ان تؤدي الى تفكك تدريجي للسلطة السياسية. 3) حصول نزاعات اثنية او طائفية كما حصل في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى. 4) هجمات ارهابية تستهدف المصالح الأميركية او المواطنين الأميركيين في الخارج. 5) التدخل في حال تهديد المتاجرين بالمخدرات استقرار حكومات حليفة، كما حصل في كولومبيا.

لقد ساهمت احداث 11 ايلول 2001 باتحاد القيم المادية (materialist values) بشقيها الأمني والاقتصادي بشكل غير مسبوق، كما ساهمت  بإعطاء الأمن الأولوية على كل المسائل الأخرى. فالتعاون الدولي في هذا المجال هو الزامي وليس ارادياً. وكل دولة لا تتعاون تكون عرضة للعقاب الأميركي (Syria Accountancy Act). لقد أعطت أيضا هذه الأحداث ذريعة إضافية للادارة الأميركية نحو مزيد من الهيمنة على الاقتصاد العالمي من خلال وضع اليد على الموارد الطبيعية في كل من آسيا وافريقيا ومن خلال احتكار الاستثمار في هذا المجال.

وتعتبر إدارة بوش اليوم بأنها مؤتمنة على الأمن والاستقرار الدوليين، اذ على أميركا لعب دور عالمي أكبر بسبب عدم وجود قوى اخرى تستطيع لعب هكذا دور. فأحداث البلقان والخليج اثبتت برأي هؤلاء انه ما من بديل فاعل لزعامة الولايات المتحدة الدولية، وما من منافس لما تمثله الولايات المتحدة من ثقل ثقافي وسياسي واقتصادي على المستوى العالمي. بالتالي، فإن على اميركا واجب التدخل لتوفير الاستقرار والأمن الدوليين بهدف الحفاظ على المصالح الأميركية. فحيادية الولايات المتحدة تجاه الصراع الذي دار رحاه في اوروبا ابان الحرب العالمية الثانية، لم تجعلها بمنأى عن العدوان الياباني، وبالتالي، فإن على الولايات المتحدة، بناء على »المهمة الالهية« الموكولة اليها، التدخل لتجنيب العالم ليس آفات الشيوعية، الأمر الذي سبق وحصل، انما لتجنيبه آفات النزعات القومية الشوفينية والنزاعات الأثنية والتطرف الدينيوانتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى.

ان أي خلل يمكن ان يطرأ على النظام الدولي يعتبر من هذا المنظار خطراً على مصالح اميركا القومية. فالعمل على جعل هذا الأخير مستقراً هو الضمانة للمصالح الأميركية، وهو الذي يبرر تدخلية اكثر حدة، وهيمنة أوسع نطاق. أما اذا كانت عقيدة مونرو قد دعت الى عدم تدخل الدول الأوروبية في شؤون القارة الأميركية، فإننا نرى اليوم تطبيقا لهذه العقيدة، لكن على المستوى العالمي، بحيث ان تدخل أي لأية دولة في أية بقعة من العالم لا ينسجم مع المصالح الأميركية هو مرفوض ومعرض للعقاب.الأيديولوجيا

وإذا كانت الديموقراطية الليبرالية والاقتصاد الليبرالي هما بالنسبة لفوكوياما نهاية التطور الأيديولوجي وبالتالي نهاية التاريخ التي تتجلّى في نشر القيم الغربية على المستوى العالمي، فإن الليبرالية في شقيها السياسي والاقتصادي قد تقوممت اميركياً بمعنى أنها اتخذت شكلا ومضمونا أميركياً لا يتطابق تماما مع القيم الليبرالية الأصلية34 التي جاءت في طروحات لوك وميلز وسميث وريكاردو. إن خصم اميركا هو كل من ليس معها، وليس بالضرورة كل من ليس مع الغرب. وكل من لا يتبنى القيم الأميركية وطريقة العيش الأميركية يشار اليه بالبنان حتى ولو كان غربيا. القومية الأميركية لم تكن ابدا ضد القومية الروسية/السلافية انما كانت ضد الشيوعية. وهي ربما ليست ضد القومية العربية انما ضد منظومة قيمية عربية أو اسلامية تشكل منافسا أيديولوجياً لها.

لقد فوجيء مرافقو كاسترو عند زيارته للولايات المتحدة سنة 1959 وبمواقف المسؤولين الأميركيين الراديكالي من الشيوعية بحيث لم يعيروا أي اهتمام لما يمثله كاسترو سوى ألا يكون شيوعياً. واستطرادا، فإن الحروب الدموية التي خاضتها الولايات المتحدة في آسيا، وتلك التي خاضتها بالواسطة في اميركا اللاتينية وأفريقيا تعود الى معارضتها الجذرية للشيوعية كمنظومة قيمية، »والى كونها نتيجة للجنوح نحو الهيمنة الحصرية للنموذج الليبرالي على الطريقة الأميركية. ويعتبر ستيفان كرايزنار Stephen D. Krasner في سياق دراسته لمجموعة من القرارات التي اتخذتها الادارة الأميركية في قطاعات كانت فيها المصالح الأميركية الاقتصادية او المالية »متورّطة«، بأن الأيديولوجيا المهيمنة-استطرادا الأيديولوجية الليبرالية-، تعتبر، مفتاح السياسة الخارجية، بمعزل عن الفائدة المادية المرجوة من هذه او تلك السياسية(35). لكن ما لم يشر اليه الكاتب هو استحالة الفصل بين الأيديولوجية الأميركية القائمة أساسا على تأويج المنفعة وبين المصالح الأميركية التي تحدد مضمون وتوجه سياسات الادارة الأميركية داخليا وخارجيا!(36)

ان المد الامبريالي (Imperial overstretch) للاقتصاد الأميركي أسس لنزعة اقتصادوية تستحكم اليوم بالوجدان الأميركي الى حد كبير. وتستلهم هذه النزعة منطلقاتها من الليبرالية الاقتصادية واستطراداً من الآداب البروتستانية. وقد جعلت هذه النزعة من الاقتصاد حلاً أوحد لكل المشاكل الأخرى، سياسية كانت هذه المشاكل...ام اجتماعية؛ داخلية أم خارجية. فالنفعية هي لازمة للوجدان الأميركي الشعبي والسياسي، الشعبوي والنخبوي على حد سواء.

لم يستقبل الأميركيون نبأ انهيار حائط برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية-اهم تحول في التاريخ الدولي المعاصر- بكثير من الابتهاج على الرغم من حصول ذلك من دون مواجهة عسكرية، أي دون أكلاف انسانية ومالية مباشرة. أما ما يفسر ذلك فهو تزامن هذا الحدث مع تراجع في اداء الاقتصاد الأميركي. ذلك أنه عندما يكون الاقتصاد بخير يكون كل شئ بالنسبة للأميركي بخير. ولجعل الاقتصاد بخير، فإن كل شئ مسموح. فالمسؤولون الأميركيون منذ جورج واشنطن كانوا يدعون الى اقامة أفضل العلاقات التجارية مع الدول الأورروبية، في الوقت الذي كانوا ينتهجون فيه الحياد السياسي ازاء هذه الدول. وحتى مشروع مارشال نفسه لم يكن بريئاً. اما فخلفياته كانت سياسية واقتصادية في آن: يتمثل العامل السياسي بإبعاد دول اوروبا الغربية عن النفوذ الشيوعي القادر على التغلغل نتيجة لسوء الوضع الاقتصادي الذي كان قائما آنذاك. أما بالنسبة للعامل الاقتصادي فكان يرتكز على اعادة بناء الاقتصاديات الأوروبية التي هي في موقع الشريك للولايات المتحدة تجاريا واقتصاديا.

 

وفي غمرة الحرب الباردة لم تتوانَ وزارة التجارة الأميركية التي تعكس موقف ارباب العمل-على الرغم من خطابها الأيديولوجي المعادي للشيوعية- عن اقامة افضل العلاقات التجارية مع الاتحاد السوفياتي.كما ان المزارعين الأميركيين الذين سبق واحتجوا على الحظر المفروض من قبل ادارة الرئيس كارتر على تصدير الحبوب الأميركية الى الاتحاد السوفياتي، نجحوا بالتوصل الى ذلك في عهد الرئيس ريغن، »اكثر اعداء الشيوعية ضراوة«، ما يفسر عدم الأكتراث الأميركي للفتك الأسرائيلي بالفلسطينيين في الضفة وغزة، و»للمشاعر العربية« التي يتم التكلم عنها في وسائل الاعلام العربية دائما. واستطرادا، فإن الحرب على أفغانستان كانت بالدرجة الأولى لدوافع اقتصادية(37). كما أن موافقة الكونغرس الأميركي على اعطاء رئيس الولايات المتحدة الحق باستعمال القوة العسكرية ضد العراق تعود لدوافع اقتصادية لا تتمثل فقط بالسيطرة على منابع النفط، انما أيضا لما سوف تمثله عملية اعادة اعمار العراق بعد تدميره من اهمية بالغة للشركات الأميركية تقدر بمئات المليارات من الدولارات. وفي هذا المضمار يقول السكرتير الأول للدفاع في ادارة الرئيس كلينتون ما مفاده أن اي سياسة اميركية يجب ان تتناسب مع المصالح الأميركية(38):

Any US policy has to be proportionate to US interest. بالتالي، فإن ما يحصل اليوم ليس صدام حضارات انما هو صدام مصالح، وليس صراعاً من أجل تعزيز قيم الديموقراطية والدستورية والعلمانية وحقوق الانسان كما يدعى به أميركياً. فالولايات المتحدة غير مكترثة بدمقرطة (democratization) أي بلد ما لم توظف هذه الدمقرطة لخدمة مصالحها. يقول هنتنغتون في هذا المضمار بما يخص العالم العربي:

إن إلحاق ادارة الرئيس بوش الأب الهزيمة بالعراق خلال حرب الخليج الثانية لم يتح له الفرصة بالفوز مرة تالية لا بل وصل رئيس جديد (بيل كلينتون) على اساس برنامج انتخابي اجتماعي/اقتصادي السمة. هذه النتيجة التي اعتبرت رداً من قبل الناخب الأميركي على المد الامبريالي المكلف للادارة الأميركية، تراجعت اهميتها بعد 11 ايلول بسبب ترابط وتلازم الداخلي بالخارجي (Linkage) بشكل غير معهود(40)، كما ان احتلال الولايات المتحدة الأميركية غير المكلف للعراق لم يجنب الأدارة الأميركية من انتقادات الكونغرس والرأي العام بسبب تراجع الوضع الأقتصادي بالدرجة الأولى.

أما سياسة الولايات المتحدة في مجال المساعدات الخارجية فهي ليست غير مشروطة لا بل انها تبغي بالدرجة الأولى حماية المصالح الأميركية:

والأميركي لا يقبل ان يكون على خطأ. فهو دائما على صواب(42). وهو يستطيع لا بل يريد اجتراح الحلول لأي مشكلة مهما عظمت، وبمعزل عن مفاعيل هذه الحلول. فالثقة بقدرة الفرد هي ثقة غير محدودة بشئ. وقد ساهم بإحياء هذه النزعة وترسيخها في الذهن الأميركي الليبرالية السياسية من خلال تأكيدها على مبدأ استقلالية الأفراد عن بعضهم البعض وبعدهم عن المفاهيم البدائية البائدة. أما الصالح العام فهو بالمحصلة مجموع المصالح الفردية. وسعي كل أميركي لتحقيق ذاته على قاعدة المنافسة والمبادرة هو الذي يحقق مجتمع الوفرة والاستقرار الاجتماعي. وهذا ينسجم مع ما يمكن تسميته American-ness . ويقول Barrie Axford استاذ العلم السياسي في Axford Brookes University

وكما يشكل الاقتصاد الحل الأوحد لكل المشاكل، فإن التقانة التي ترتكز على جمع المعطيات الاحصائية بهدف تحقيق الفعالية القصوى في انجاز المهمات، هي الوسيلة لتحقيق ذلك. وبقدر ما تكون التقانة المعتمدة عقلانية أي ضامنة للفعالية المنشودة مقابل الاضطلاع بأقل الأكلاف، بقدر ما ترتفع حظوظ اعتمادها من قبل المسؤولين. وينطلق هذا المنحى البراغماتي من خلفية استقرائية تبني على الجزء للوصول الى الكل معتبرة الفرد محور الفعل. ويلتقي هذا المنحى سواء مع طروحات توماس هوبز لجهة امكانية استعمال العقل أداتيا (mechanistically) لمعالجة المشاكل مهما كانت طبيعتها باعتبار ان الذات هي آلية لتحقيق المنفعة، أم مع تلك المعاصرة لأنتوني داونز لجهة الأخذ بعين الاعتبار البعد الكمي-الاحصائي لاتخاذ القرار. ومن تجليات هذا المنحى الأسلحة الذرية التي استعملت ضد اليابان في هيروشيما وناكازاكي حيث تم اللجوء الى اكثر التكنولوجيات الحربية فتكا في تاريخ البشرية بهدف تحقيق الهدف السياسي المنشود بمعزل عن مفاعيل الأسلوب المتبع. كذلك حصل ايضا ولو بدرجة اقل حدة، خلال التدخل الأميركي في فيتنام وكوريا كما في حرب الخليج الثانية وفي الحرب على افغانستان وعلى العراق؛ لقد حصل خلال هذه الحروب استعراض لاستعمال اكثر التكنولوجيات العسكرية تطورا بل قل تدميرا. هذه النزعة »البراغماتية« التي تستند الى اعتماد الحلول التقنية بمعزل عن الاعتبارات الانسانية والى الكيل بمكيالين في آن، هي قادت الولايات المتحدة، وسوف تقودها في المستقبل، الى مواجهات دموية مع الشعوب الأخرى.

أما قيم الديموقراطية والحرية فهي قيم أداتية تخضع لمنطق المصالح وللمنطق البراغماتي في الوقت الذي تشكل فيه دافعاً وحجة لمزيد من التوسع والسيطرة. وهل وضع حوالي 120,000 أميركي من أصل ياباني يعيشون على ضفة الهادئ، معظمهم من مواليد الولايات المتحدة الأميركية، بالقوة في معسكرات حرب خلال الحرب العالمية الثانية، تبرره قيم الحرية والديموقراطية؟ علماً بأن كثيرين من الأميركيين من أصل ياباني كانوا حاربوا بإخلاص الى جانب القوات الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية حيث لم ترصد السلطات الأميركية أي حالة خيانة أو تمرد في صفوفهم(44). وهل التضييق على اليسار الأميركي خلال الحرب الباردة لكونه يسارياً تبرره قيم الحرية والديموقراطية؟ وهل التضييق على المواطنين الأميركيين عرباً ومسلمين بعد 11 أيلول 2001 تبرره قيم الحرية والديموقراطية(45)؟ وهل غضّ الطرف عن- بل قل دعم- غير نظام قمعي في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية هو في سبيل إرساء الحرية والديموقراطية؟

أما على مستوى الخطاب الأميركي فيمكن، ملاحظة تأكيد المسؤولين الرسميين على مركزية هذه القيم، لكن من دون تبرير أو تفسير لازدواجية السياسة الخارجية الأميركية...سوى أن تحقيق المصالح الأميركية يبررها أي شئ، بما في ذلك الأزدواجية؟ وتعكس مواقف الرؤساء الأميركيين إجمالا بلاغة خطابية لا نلاحظها سوى في علم البيان عند مقاربتها مع الواقع.

 

يقول الرئيس جون كينيدي في كلامه عن الحرية والديمقراطية ما مفاده:

ويؤكد الرئيس جيرالد فورد في معرض خطابه حول حالة الاتحاد (ژtat de l'Union) عام 1976 على أهمية المسؤولية الملقاة على عاتق الأمة منذ تأسيسها لجهة تعزيز قيم الحرية والديموقراطية واستقرار النظام العالمي، وكالعادة غاضاً الطرف عن دعم الادارة الأميركية لنسق سياسية غير ديموقراطية.

أما ما يفسر ويبرر هذه الازدواجية فهو أن عالم صدام الحضارات هو عالم يفرض الكيل بمكيالين. يقول صموئيل هنتنغتون:

 

استنتاجات ومنظورات

نمت الثقافة الأميركية بمعزل عن السيرورة التطورية للحضارات والأيديولوجيات غير الأميركية، وهي افتقدت تاليا العمق الثقافي والادراك الحسي الدقيق لأهمية التنوع الحضاري والأيديولوجي على المستوى الدولي . ويعود ذلك ربما الى عدم تقبل الولايات المتحدة وجود منافس ندّ بعد فترة طويلة من الاستفراد والهيمنة. وقد انعكست هذه المعطيات شكل سطحي على مستوى التعاطي مع »الآخر«. فالولايات المتحدة لم تقرأ جيدا تحولات مهمة حصلت في اوروبا وآسيا، واستمرت باعتبار يوغوسلافيا دولة شيوعية معادية للرأسمالية، في بينما كانت هذه الأخيرة تحاول الابتعاد عن الاتحاد السوفياتي وقد نجحت بذلك. كما لم تقرأ اميركا جيداً انسحاب الصين من المعسكر الشرقي، فاستمرت باعتبارها عدواً شيوعياً بامتياز. لقد استعدت اميركا ايضا الحركات الشيوعية »الليبرالية« الحريصة على استقلاليتها عن موسكو، كما استعدت حركات التحرر ذات التطلعات الوطنية الصرفة. وقد اتضحت معالم هذه النزعة من خلال الترويج لفكرة نهاية الأيديولوجيات والتاريخ ولفكرة التفوق الثقافي من قبل مفكرين اميركانويين أمثال هنتنغتون وفوكوياما وسيدني وفيربا.

لقد كان الموضوع الأمني وسيبقى ركيزة أساسية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية. وهو بعد ملازم للوجدان الأميركي منذ قيام الجمهورية. ويشكل اليوم كما في الماضي قيمة أساسية من مكونات ثقافة الشعب الأميركي السياسية. فالأمن كان شكّل محركاً أساسياً للتوسع القاري. لقد عملت أميركا بعد الحرب العالمية الأولى على بسط سيطرتها المعنوية والمادية على القارة الأميركية من خلال اعتماد سياسة حسن الجوار مع دول القارة حيث انخرطت، انسجاما مع عقيدة مونرو، في اطار معاهدات وتفاهمات جماعية أمنية واقتصادية(49). لقد اعطت الولايات المتحدة لنفسها الحق الحصري، برأي وزير خارجيتها Hughes (1923) بتحديد معالم هذه العقيدة وبتفسيرها وتطبيقها، ما جعل من عقيدة لا تدخلية في الأصل، عقيدة تدخلية بامتياز.«(50)

ان التغيير الذي طرأ على بنية العلاقات الدولية بفعل المفاعيل السياسية والاستراتيجية التي تمخضت عن الحرب الكونية الثانية، كان ساهم بعسكرة-بل قل بأمننة- سياسة اميركا الخارجية ازاء غير دولة من دول القارة. ومن أبرز تجليات هذه العسكرة أزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962 التي انتهت بحظر على كوبا ما يزال مستمراً حتى اليوم ، ناهيك عن الانزال البري في جمهورية الدومينيكان سنة 1965 لضمان عدم تولي الشيوعيين السلطة في الجمهورية، الى الاجتياح السريع لغرانادا سنة 1983 بحجة منع قيام حكومة شيوعية، الى دعم الممتردين في نيكاراغوا خلال الثمانينات من القرن الماضي...الى غزو باناما. لقد أعطت هذه الأحداث مجتمعة للبعد الأمني اهمية بالغة.

وبانهيار المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الأتحاد السوفياتي، أصبح الانتشار العالمي للقوة العسكرية الأميركية أمر مشكوك بجدواه خاصة وأن تدخلية الولايات المتحدة أضحت باهظة التكاليف على المكلَّف الأميركي. فالإنكفاء الاستراتيجي والعودة الى الانعزالية أضحت لدى بعض الأوساط ضرورة. ويدعو هؤلاء أيضا الى تعزيز الشراكة الاقتصادية الاقليمية (North American Free Trade Agreement) التي تسمح للولايات المتحدة بالإضطلاع بدور قاري متميز (Panamericanism) على حساب الانخراط في اطار منظمات دولية كمنظمة التجارة العالمية. الا ان هؤلاء يدعون في الوقت نفسه الى تواجد عسكري/امني استراتيجي بحده الأدنى، والى بناء نظام دفاعي في كل من الأطلسي والهادئ والمتجمد الشمالي. الا أن أحداث 11 أيلول 2001 عادت مرة جديدة بالبعد الأمني بقوة الى الساحة الدولية.

ان نزوع الولايات المتحدة نحو الهيمنة على العالم تواجهه ضغوطات خارجية تتمثل بوجود قوى دولية اخرى كألمانيا وفرنسا والصين واليابان وروسيا مصممة على لعب دور مؤثر على الساحة الدولية، ما يمكن أن يدفع باتجاه تعددية قطبية يبقى في اطارها للولايات المتحدة موقع متميز. اما دور الولايات المتحدة هنا فيهدف الى الحفاظ على التوازن الدولي وليس الى الهيمنة. وليس من مصلحة أحد انكفاء الولايات المتحدة التام عن الساحة الدولية لما يمكن ان ينتج عن ذلك من فوضى لا تحمد عقباها. الا انه من المفيد ان يكون لقوى دولية اخرى صوت يسمع، أي ان يكون لها حيز مشاركة في صنع القرار الدولي. لن تمسك الولايات المتحدة بحسب هذه المدرسة (Cooperatism) بكل مقاليد النفوذ انما تشاركها ببعضها دول أخرى. وعلى الولايات المتحدة ان تنفتح على العالم وان تنخرط بفاعلية اكبر في الأقتصاد الدولي خصوصاً في إطار المؤسسات التابعة للأمم المتحدة، موجهة اهتماماتها نحو قضايا كالتنمية والديموقراطية وحقوق الانسان والبيئة والنمو السكاني والمياه. وتعتبر عقيدة كلينتون العقيدة الأكثر انسجاما مع هذه النزعة التي تنسجم بدورها والى حد كبير مع القيم ما بعد المادية (post-materialist values) التي جاءت في طروحات انغلهارت. وهي قيم كتب لها الرواج خلال فترة ادارة كلينتون نتيجة لازدهار الاقتصاد الأميركي. لكن يبقى الهاجس الأمني طاغياً على الذهن الأميركي على الرغم من تلك الانجازات. لقد ساهمت احداث ايلول 2001 باتحاد القيم المادية (materialist values) بشقيها الأمني والاقتصادي بشكل غير مسبوق، كما ساهمت هذه الأحداث بإعطاء الأمن الأولوية على كل المسائل الأخرى.

أما اليوم فتعتبر إدارة بوش اليوم بأنها مؤتمنة على الأمن والاستقرار الدوليين، اذ على أميركا لعب دور عالمي أكبر بسبب عدم وجود قوى تستطيع لعب هكذا دور. فالأحداث الدولية، من البلقان الى أفغانستان مروراً بالعراق أثبتت للادارة الأميركية أنه ما من بديل فاعل لزعامة الولايات المتحدة الدولية وما من منافس لما تمثله الولايات المتحدة من ثقل ثقافي وسياسي واقتصادي على المستوى العالمي. بالتالي، فإن على اميركا واجب التدخل لتوفير الاستقرار والأمن الدوليين بهدف الحفاظ على المصالح الأميركية. على الولايات المتحدة، بناء على »المهمة الألهية« الموكولة اليها، التدخل لتجنيب العالم آفات النزعات القومية الشوفينية والنزاعات الأثنية والتطرف الديني... وانتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى. والديموقراطية هي في هذا السياق ضرورة، ليس لأنها قيمة مطلقة توفر للحرية مساحة كافية لبناء مجتمعات متطورة، بل لأنها توفر الأمن والاستقرار وبالتالي الشروط الملائمة لانتعاش الاقتصاد الأميركي. أما عندما لا تضمن الديموقراطية الشروط الملائمة لذلك، فيتم التخلي عنها انسجاما مع النزعة »البراغماتية« التي يتسم بها الفرد الأميركي. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال علاقات الولايات المتحدة العديدة والعميقة مع كثير من النظم السياسية والقوى الدولية غير الديموقراطية في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.

لقد كان لانهيار المنظومة الاشتراكية مفاعيل ارتدادية على الساحة الدولية تمثلت بجنوح اميركي اعظم نحو الهيمنة على العالم (Globalism). لقد شكل هذا الحدث لدى صانعي القرار في الادارة الأميركية دفعا نحو البحث عن »حصان طروادة« جديد يحافظ على التماسك الداخلي ويسمح بالوقت ذاته للولايات المتحدة وقيادة المجتمع الدولي. كما أن أحداث 11 ايلول 2001 شكلت رافدا استثنائياً لهذا المنحى. فسياسة الاحتواء التي اتبعتها الادارات الأميركية المتعاقبة ازاء المنظومة الأشتراكية، تعتمد اليوم لاحتواء دول تعتبرها الولايات المتحدة مارقة. فالدول التي تدعم الارهاب كما تلك التي تشكل بشكل او بآخر خطرا مباشرا او حتى غير مباشر على مصالح الولايات المتحدة القومية هي موضوع احتواء. وكل دولة، ولو كانت صديقة للولايات المتحدة، لا تتعاون باتجاه احتواء الدول »المارقة« سوف تخضع للعقاب الأميركي (قانون داماتو).

 

ان مزيجاً من عناصر المدرسة المادية وما بعد المادية- بحسب انغلهارت- يشكل الركن الاساسي في السياسة الخارجية الأميركية. فأميركا لا تكترث للقانون الدولي الا بما ينسجم مع رؤيتها لمصالحها المادية على حساب الانخراط في منظمات عالمية النطاق والدور.

ان قوة الأقتصاد الأميركي ذي الحضور شبه الشامل على مستوى المعمورة يجعل من أطروحة الانكفاء القاري كما من أطروحة التعاون القائم على تكافؤ الفرص، استحالة. وما يفسر هذه الاستحالة هو تلك المنطلقات القيمية التي تستند اليها ثقافة أميركا السياسية، وتاليا منطلقات سياستها الخارجية. فالجنوح نحو التوسع والسيطرة والنفوذ والهيمنة بهدف حماية المصالح القومية الأميركية بشقيها الأمني والاقتصادي يشكل احد اهم سمات هذه السياسة، ما يعني. 1) اخضاع السياسة للاقتصاد. 2) استحالة الحياد في ظل مدّ اقتصادي يتخطى حدود القارة الأميركية. 3) ضرورة حماية المصالح الاقتصادية »النامية«. 4) بناء قوة عسكرية مواكبة لهذا النمو الذي يوفر للولايات المتحدة موقع الزعامة ولو في اطار معاهدات واحلاف تحكمها، نظرياً، قواعد التكافؤ.

والسياسة الخارجية الأميركية ترتكز على المقولة الشهيرة »الغاية تبرر الوسيلة«، وهي سياسة داخلية لا اعتبار فيها لحاجات وهواجس وتطلعات الدول الأخرى إلا من منظار الأمن القومي الأميركي. فكما انه لا يمكن المساومة على المصالح الأميركية لارتباطها العضوي باعتبارات سياسية داخلية، فلا اعتبار جديا لأي معطى الا اذا كانت له مفاعيل سلبية على هذه المصالح. لقد شكل حدث 11 ايلول 2001 انعطافا بنيويا في سياسة اميركا الخارجية، وهو أتى بحد ذاته وبالدرجة الأولى، نتيجة لعدم إلمام الشعب الأميركي بخصوصيات المجتمع الدولي الأيديولوجية...والثقافية، فأتى بممثلين عنه يفتقرون تاليا الى القدرة على استقراء المعطيات الدولية واستنباط الحلول الملائمة للمشاكل المطروحة. فالعالم »الآخر« ليس كله شيوعيا، والقوميات ليست كلها شوفينية، كما ان ليس كل من هو مسلم أو اسلامي، ارهابياً.

أما القيم الديموقراطية فهي قيم متحركة - أي غير ثابته - وهي عرضة للاختراق والانتهاك في أي حالة تكون فيها المصالح القومية الأميركية بخطر. وهذا يدحض فرضية سيدني وفيربا لجهة تحلّي المجتمع الأميركي بالثقافة المدنية ديموقراطية الجوهر، علماً بأن هذه المشاركة نفسها هي داخليا الى تراجع مستمر. لقد تم استصدار الكثير من القوانين الجائرة بحق كل من لا يدين بالسياسة الرسمية الأميركية وبالقيم الأميركية السائدة. وهذه سمة بارزة للثقافة السياسية الأميركية. لقد تم تطويق الحركة النقابية والمنظمات الشيوعية وغير حركة دينية لرفضها التطبيع أيديولوجياً مع السلطات الرسمية والقيم السائدة. اما على المستوى الخارجي فالديموقراطية لا يتم العمل بها فعليا الا عندما تنسجم مع المصالح القومية الأميركية. فغض الطرف عن الكثير من النظم السياسية غير الديموقراطية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية هو خير مؤشر على ذلك.

ان الاستمرار بانتهاج الغطرسة-عبارة رئيس وزراء كندا جان كريتيان- على قاعدة »الشعب المصطفي« أو القدر البيّن (Manifest Destiny) أو النزوع نحو الزعامة، كما أن الاستمرار بالتعاطي من منظار استراتيجي لمعالجة مشاكل هي بالدرجة الأولى مشاكل اجتماعية كما في اميركا اللاتينية وفي افريقيا، وبتجاهل دور الديبلوماسية كآلية لمعالجة مسائل دولية التداعيات، وبالتعاطي مع هذه المسائل من زوايا أمنية أو اجتماعية كما في فلسطين والعراق، هي معالجة غير واقعية وهي سياسية ستفضي بالعالم الى شر مستطير لا محالة. وعلى الولايات المتحدة ان تميز بين القوميات العرقية الخطرة على الاستقرار الدولي والحركات القومية أو الوطنية التي هي انعكاس لاخفاقات في مجالات التنمية والديموقراطية وحقوق الانسان ليس إلا.

إن القول في هيمنة القيم الأميركية الشاملة على العالم-بحسب فوكوياما- هو قول غير واقعي اذ تدحضه مجموعة من الاعتبارات، ليس فقط فرضية انغلهارت التي تعتبر بأن المرحلة التي تكون فيها القيم ما بعد المادية سائدة، يكون التضامن الدولي فيها اكثر تمظهرا؛ إنما نقول انه عندما يكون الأمن العالمي مهدداً، يترسخ اكثر فأكثر فعل التضامن بين الشعوب، ما يدحض في الوقت عينه أطروحة Mancur Olson التي تعتبر أن الدول (كما الأفراد) هي في الجوهر أنانية بسبب جنوحها، نحو تحقيق منافعها الذاتية فقط بأقل الأكلاف. أما العناصر التي تؤكد على ذلك فأبرزها. 1) تأثير المنظمات والقوى الدولية والأقليمية لجهة صيانة حقوق ومصالح الشعوب وتاليا الأستقرار الدولي. 2) وجود »شبكة أمان« دولية تتجلى من خلال وجود مجتمعات مدنية دولية تسعى للدفاع عن حقوق الانسان على قاعدة التضامن والتنسيق فيما بينها. 3) تنافس قيمي وبالتالي سياسي داخل الأدارة الأميركية.

 

1-تأثير المنظمات والقوى الدولية والاقليمية على الاستقرار الدولي

إن وجود قوى دولية كالاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية تقوم بعلاقات تجارية وثقافية واقتصادية وسياسية مع دول مصنفة أميركيا في خانة »الدول المارقة« يشكل ظاهرة يتعيّن التعاطي معها بإيجابية(51)، ووجود منظمات »عابرة للدول« يساهم في الحد من التطرف على المستوى الدولي. فالتيار »الأفريقاني« (منظمة الوحدة الافريقية او الاتحاد الافريقي اليوم) كما المنظمات الدولية ذات الطابع الديني (منظمة المؤتمر الاسلامي) أو ذات الطابع القومي (جامعة الدول العربية) أو الاقتصادي (مجلس اوروبا والاتحاد الأوروبي) يساهم، ورغم التناقضات الظاهرة والكامنة القائمة بين الأعضاء المنتسبين، في لعب دور سلطة رقابة ومحاسبة معنوية ومادية على ما يحصل على الساحة الدولية. فمنظمة الوحدة الأفريقية تجد تماسكها من خلال ما لأعضائها من قواسم مشتركة، خصوصاً بما يتعلق بالتمييز العنصري الأبيض في دول كأفريقيا الجنوبية وروديسيا الجنوبية وانغولا والموزامبيق وناميبيا، وبما يتعلق بالتمييز العرقي كما حصل بين الهوتو (Hutu) والتوتسي (Tutsi) في رواندا، وبين الزولو (Zulu) والكوزا (Khosa) في جنوب افريقيا، وفي نيجيريا بين المسلمين والمسيحيين. كما استطاع مجلس اوروبا بدوره من خلال لجوئه الى المعاهدة الأوروبية لحقوق الأنسان، الى استهجان النزعات الديكتاتورية في اليونان وتركيا ويوغوسلافيا وفي دول البلقان. وكان له في ذلك وقع وتأثير على سلوكات حكومات تلك الدول في مجال حقوق الانسان. واستطرادا فإن للجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة دوراً في هذا المجال من خلال دعوة منظمات غير حكومية للمشاركة في اعمالها في مجالات الحد من التسلح...وترسيخ السلم والأمن الدوليين.

إن الموقف من السياسة الأميركية ازاء العراق لدول كفرنسا وروسيا والمانيا وبلجيكا في اطار مجلس الأمن او الاتحاد الأوروبي او حلف الأطلسي، يشكل رافدا في اتجاه كبح اهواء هذه السياسة وتمدين غرائزها، وهو يبقى على فاعليته النسبية والظرفية، افضل بكثير من عدم وجود تلك الأطر، لأنها توفر حداً ادنى من المأسسة للفوضى التي تشهدها الساحة الدولية، والتي ان افلتت من عقالها كليا، فسوف تؤدي الى انتشار فوضى عالمية لا محالة. فالأوروبيون، شعوبا وقيادات، مناهضون بالأجمال لفكرة الأمركة، وهم أيضا متحفظون تجاه استعمال العنف لمعالجة قضايا دولية سياسية المضمون بسبب الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية التي لحقت بهم نتيجة للحربين العالميتين الأولى والثانية، ولهم في ذلك مع غيرهم من الشعوب هواجس وقواسم وتطلعات مشتركة. ويعود موقف هذه الدول الى. أ) عراقتها وتمرسها في التعاطي بالشأن الدولي. ب) معرفتها العميقة بخصوصيات المجتمع الدولي الثقافية والأيديولوجية. ج) اختبارها التاريخي للتفاعل الحضاري مع دول المنطقة. د) قرب المسافة الجغرافية التي تفصلها عن دولها والتي تجعلها في مهب أية تداعيات سياسية او امنية تشهدها. ه) إدراكها لمخاطر الحروب وهي التي اختبرت مساوئها.

و) مما يفسر تمسك هذه الدول بالقانون الدولي وبالديبلوماسية كآلية لمعالجة المسائل الدولية.

 

2) تأثير المجتمع المدني الدولي في فعل الحرب والسلم

ان تجاهل الولايات المتحدة للرأي العام الدولي والمحلي بالذات ازاء مسائل مركزية، كالقضية العربية في شقيها الفلسطيني والعراقي، وفي بعدها السوري-اللبناني لجهة إزالة الاحتلال الذي ما يزال جاثما في الجنوب والجولان، ولجهة حق الفلسطينيين بالعودة الى ديارهم وفقا للقرارات الدولية ذات الصلة، هو فعل لن يستمر، وسيفضي في نهاية المطاف الى الارتداد عليها محليا ودوليا. لن يستمر المجتمع المدني في العالم وفي الولايات المتحدة بالذات في تحمل أكلاف باهظة نتيجة تفرد المسؤولين الأميركيين في التعاطي بسفور مع قضايا عالمية التداعي والتفاعلات. فكما استطاع الرأي العام الأميركي التأثير على الادارة الأميركية خلال الحرب على فيتنام، وأسس بذلك لقيم جديدة قائمة على السلم، فهو يستطيع اليوم التأثير عليها للامتثال للقانون الدولي في تعاطيها مع القضايا الدولية، ولاستعمال نفوذها لفرض القانون على الخارجين عليه. ان التعددية التي يتميز بها المجتمع الأميركي وحيز الحرية الذي تتمتع به جماعات الضغط، ولو تقلصت حدوده بعد 11 أ يلول 2001، ما يزالان يشكلان رافدا حيويا باتجاه التأثير على سياسة الولايات المتحدة الخارجية. وبما ان سياسة أميركا الخارجية تبقى بالدرجة الأولى سياسة داخلية، فمن البديهي الاستنتاج بأنه من خلال الضغط من الداخل يمكن الحصول على السياسة المنشودة على المستوى الخارجي.

من ناحية أخرى، فإن الدولة -بالمفهوم القانوني للكلمة- لم تعد قادرة كما من ذي قبل على احتكار القيم بوجود قوى أخرى حاضنة لقيم منافسة. إن وجود مجتمع اهلي دولي من شأنه ان يشكل الأطروحة المضادة لفرضية الأمركة، وأن يساهم تاليا في الحد من التأثير الاميركي المتعاظم على مقدرات الشعوب. ويتجلى هذا التأثير من خلال التظاهرات الاحتجاجية المعارضة للسياسة الأميركية حيال العراق في مدن كباريس ولندن ونيويورك ودبلن وغلاسكو وروما وايسلندا وصوفيا وموسكو وكامبيرا وسيدني وسيول وتولوز وامستردام وزغرب وسريناغار ومانيلا وطوكيو وكولومبو وبانكوك؛ ومن خلال الاحتجاجات الشعبية على منطق العولمة الرأسمالي الذي تقوده الولايات المتحدة، في مدن كدوربن ودافوس وجنوى وسياتل وكيبيك، كما من خلال مساهمة غير منظمة دولية في الحد من تجاوزات الدول في مجال حقوق الانسان(52).

وللمؤسسات الدينية تأثيرها على الرأي العام الدولي. اما بالنسبة للاسلام فهو في الوقت الذي يشكل فيه عامل مناعة ضد التأثيرات الأجنبية، سياسية كانت أم ثقافية أم اقتصادية، فقد ساهم بالتأثير في مسائل سياسية دولية عديدة كتحرير افغانستان من الاحتلال السوفياتي، والتأثير على الرأي العام لمصلحة قضايا عديدة كقضية كشمير والبلقان والشيشان...ومن خلال دعوة مرجعيات دينية اسلامية الى مقاطعة البضائع الأميركية والى رفض التطبيع مع الدولة العبرية.

ينبغي أيضا عدم اغفال ما للمؤسسات الدينية المسيحية أيضا من تأثير على المستويين الدولي والمحلي. فالدور الذي لعبه الفاتيكان في بولونيا وأميركا اللاتينية وفي هايتي والفيليبين والبلقان كان له شديد الأثر على محصلة التطورات السياسية التي شهدتها تلك الدول. أما موقف الفاتيكان وغيره من المؤسسات الدينية في أوروبا وأميركا الرافض لاعتماد العنف ضد العراق، فكان له من الصدى المعنوي الايجابي على مستوى الرأي العام الدولي والمحلي ما يحفز للبناء عليه. وهو موقف قد أسس لقيم جديدة قائمة على التضامن بين الشعوب والحضارات وليس على تصادمها.

أما الأصولية الدينية المستحكمة بوجدان بعض الأوساط الرسمية والاجتماعية في الولايات المتحدة الأميركية، والتي تنسجم مع القيم الرعوية بحسب سيدني وفيربا، فسوف يسقطها الرأي العام الأميركي في أول اختبار تخضع له. وهو سوف يسقط في آن معا أطروحة هنتنغتون بخصوص صراع الحضارات. ذلك أن الابقاء على هذه الأصولية، دينية هي أم ثقافية أم سياسية أم... اقتصادية، في سدة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية سوف يؤسس لأصوليات مضادة وتاليا الى صدام حضاري لا تحمد عقباه.تناقضات داخل الإدارة الأميركية

تمر سياسة الأدراة الأميركية الخارجية بسياق فيه الكثير من الأخذ والرد ومن المواقف المتناقضة بين مراكز قوى ذات مواقف متباينة من القضايا نفسها، ما يؤشر الى وجود نزاعات قيمية مستمرة بين مراكز قوى في الادارة الأميركية(53). فاستئثار مجلس الأمن القومي بالقرار الأميركي الدولي الذي كان نتيجة للنزعة الماكارثية المشككة بولاء الدبلوماسيين الأميركيين للأمة الأميركية، ادى الى نزاعات مستمرة بين المجلس والخارجية. وقد تجلى هذا المعطى بحدة خلال رئاسة ريتشارد نيكسون حيث لعب وزير خارجيته هنري كيسنجر دورا بارزا على مستوى السياسة الخارجية انعكست مفاعيلها على الشرق الأدنى (اتفاقات كامب دايفيد وما اعقبها) والأقصى (العلاقات الأميركية الصينية) على حد سواء. كما لم يستطع جيمي كارتر كبح جماح مستشاره الخاص للأمن القومي زبيغنيو بريزنسكي الذي دفعت سطوته على السياسة الخارجية بوزير الخارجية سايروس فانس عام 1980 الى حد الاستقالة. كذلك لم يستطع جورج شولتز، على الرغم من دعم الرئيس ريغن له، الحد من تأثير مجلس الأمن القومي على سياسة الولايات المتحدة الخارجية. هذا الاستئثار بالقرار على حساب الرئاسة والخارجية وحتى على حساب الكونغرس، دفع الرئيس ريغان الى حد استبدال اكثر من ستة مستشارين، منهم من كان متورطا في مسألة بيع أسلحة الى ايران خلال حربها مع العراق لدعم المتمردين في نيكاراغوا؛ ناهيك عن الخلافات الراهنة بين الخارجية والدفاع، بين موقف الخارجية الأميركية الذي بدا منذ تداعيات 11 أيلول 2001 أكثر اعتدالا من مواقف الرئاسة ووزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي المتشددة. وتفيد المعلومات المتوافرة أيضا بأن نزاعات عنيفة قد حصلت بين الرئيس ترومان ووزير خارجيته مارشال في شأن قيام دولة إسرائيل، حيث أبدى مارشال معارضة عنيفة لقيام المشروع معولاً على أهمية تطوير العلاقات العربية-الأميركية.

بالمحصلة، فإن الدول في الفضاء الدولي ليست في حالة الفطرة ولو طغى في بعض الظروف منطق الفوضى على العلاقات بين الدول. ومفاهيم العدل والشرعية وحقوق الأنسان ليست وهما إنما هي حق طبيعي ثابت وضمانة للدول والأفراد من جور الأنظمة والأفراد على حد سواء. والمؤسسات الدولية الجامعة هي ضرورة وليست أداة لتحقيق منافع ذاتية كما يتصور ذلك منكور أولسن في »منطق عمله الجماعي«. إن تداخلا جدليا يحكم العلاقة بين »أميركا« و»أميركا« وبين »أميركا« و»العالم«، بين قيم أميركية وقيم أميركية أخرى، وبين قيم أميركا وقيم الآخر بحيث يستمد حاملو هذه القيم قوتهم من ضعف قيم الآخر. أما محصلة هذه الجدلية القيمية فهي التي سوف تحدد معالم النظام العالمي الجديد، وتاليا مستقبل شعوب العالم بأسرها. ان أنصار أطروحة الأمركة او هيمنة القيم الأميركية على العالم هم من يمسك بزمام القرار الأقتصادي والأمني والسياسي في الادارة الأميركية(54) بخلفية أصولية فريدة في رؤاها ونظرتها للعالم. اما الهدف من  ذلك فهو بحسب تقرير مجلس الأمن القومي رقم 68 لعام 1950 »صياغة نظام عالمي يستطيع النظام الأميركي، من خلاله وفي اطاره، ان ينتعش ويتألق«(55). لكن ما نشهده اليوم على مستوى المشهد الأميركي العام من عسكرة مضطردة للسياسة الخارجية تتزامن مع وضع اقتصادي متراجع داخليا، يؤسس لعودة غير مسبوقة للمجتمع الأميركي الى القيم المادية التقليدية بشقيها الأمني والأقتصادي كما »بشّر« به إنغلهارت في مؤلفه »الثورة الهادئة« ،وتالياً الى بداية أفول نجم الأمبراطورية الأميركية كما جاء في طروحات بول كينيدي في مؤلفه »صعود القوى العظمى وأفولها«.,