باختصار

السيول الساخنة
إعداد: العميد الركن حسن أيوب
مدير التوجيه

سال الدم على هواه، وتوالت الإصابات بين عسكريّينا، ومع ذلك لم يهدأ الحال بين أحياء المدينة الواحدة. صعب جدًا أن يصيبك رصاص من رامٍ لا تحسبه عدوًّا ولا خصمًا، والأصعــب الأدهى أن تضطــرّ إلى الــرد عليه وكأنّك تدعوه للكفّ عمّا يفعل، وتشير عليه بأنّك محرج في ما تُقدم عليه، وأنّك ميّال إلى إصابة الجدران والصخور لا إصابته.
لكنّ الجندي تجرّع هذه الكأس المرّة، وهمّه أن يبعدها عن الناس، أليسَ في مبادئه الأولى التضحية؟ وكيف تكون التضحية يا تُرى ما لم ترتبط بالأثرة وتغليب مصلحة الغير على مصلحة الذات؟
من الطبيعي أن يتألّم الجندي لسقوط الضحايا الأبرياء، بين جريح وشهيد، ومن الطبيعي أن يحاول جاهدًا مضحّيًا تجنيب المواطنين هذا المصير المأسوي، فلا يهون عليه وضع المواطن الساعي من دون جدوى إلى معايدة أصدقائه لأنّ الرصاص فصل بينه وبينهم، وحالة السيّدة التي طمحت إلى شراء الخبز، ولا السيّد الذي حدا به الأمل إلى دفع عربته البسيطة في الشارع بحثًا عن لقمة عيش.
لكنّ الجندي يميل بشعوره الإنساني إلى المسلّحين أنفسهم. إنّه لا يرى في هؤلاء عداوة. وهو لا يميّز بينهم بحيث يبرّىء فريقًا ويخطّىء آخر، وكيف له أن يفعل ذلك وقد أقسم على أن يكون للجميع؟ لكن، بالمقابل، كيف له أن يُفهم هؤلاء أنّه لم يعد قادرًا على تحمّل نتائج تهوّرهم واصطفافهم وخضوعهم للتحريض، واستمرارهم في تقويض السّلم وفي اقتناص الحياة من صدور الأبرياء؟ وكيف له أن يرفع الغطاءات السياسية عنهم، وأن يدفع بهم إلى الوقوف أمام شمس الحقيقة كما خلقهم ربّهم الذي يجب أن يؤمنوا به، وأن يؤمنوا بالتالي أنّ في لبنان تنوّعًا معروفًا ومشهورًا يلغي، وبشكل حتمي، إمكان حكمه من جانب فريق واحد كائنًا من كان، وأنّ هذا الوطن يتّسع للجميع إذا أقرّ كلّ طرف بحق غيره في الوجود، ولا يتّسع لأحد إذا أجمعت الأطراف على تدميره، وعلى شطبه عن خريطة العالم المتمدّن الحرّ، وعندها، لن نجد فيه غير الركام، حيث تتشابه الحجارة المنهارة، وتتوحّد ذرّات الغبار.
ولكن، خسىء كل من يفكّر أنّ لبنان قد ينهار، أرادوا هم ذلك أم لم يقصدوا، فالوطن الذي خلّده إسمه وأرزه وحضارته، وتحمي كيانَه قوافل الشهداء من أبنائه الميامين، وطن كُتبت له الحياة، يهتزّ ولا يقع، يذهبون هم وهو يبقى.