بلى فلسفة

السّياسة
إعداد: اسعد مخول
العقيد

يلاحقني الظنّ بأنّ السّياسة مؤذية ضارّة، رغم تأكيد البعض بأنها مفيدة منتجة صالحة نافعة... خصوصاً لأصحابها. وقد تملّكني الظنّ المذكور في الصّغر واستمر راسخاً متجدّداً كل يوم، فصحّ عندي المثل القائل "من شبّ على شيء شاب عليه"، رغم أنّ الواقع يتعارض مع الأمثال في الكثير من الأحيان. وأصل الحكاية يعود الى نصّ قرأته في المدرسة يعرض لنقاش سياسي جرى بين حلاّق وأحد ضيوفه. استرسل المتحاوران المحللان فيه ممّا أدّى الى أن ينسى الحلاق عمله الأساسي، حلاّقاً، فتخيّل نفسه سياسيّاً محترفاً يطلق الآراء النيّرة فوق المنابر، وترك موساه تصول وتجول على هواها، فجرح الضّيف، مما دعا الكاتب لأن يقول بلسان هذا الأخير، وهو يمسح دمه: لعن الله السّياسة والسّياسيّين. ويخوض الرّجل هذا الغمار أكثر من المرأة، وقد تكون هي ملهمته في ما يخوض، إلاّ أنّها قد تلبّي النداء أحياناً، فترى مصلحتها في هذه الوظيفة المشهورة المشهّرة، وتتوشح بوشاحها... ويصفّق لها المصفّقون. إلاّ أنّ نساء كثيرات، لا يحصيهنّ إحصاء، حافظن على رؤوسهن الجميلة فارغة من أمور عديدة... منها السّياسة، والحمد للّه، الّتي تركنها لحبّابي المناصب الوجيهة المرموقة. من تلك الكوكبة الجميلة الفاتنة، مرسلة الخير والسّلام وأمان الأفراد والجماعات، جارة يغتني بها الحي اللاّتيني المحلّي الذي أقيم فيه. لم أكن قد سمعت شيئاً عن تلك الجارة في ما سبق، رغم أهميّتها المكتشفة، الى أن اهتديت الى أخبارها منذ أيّام عن طريق رجل بسيط مختصر، يستغرب من يراه كلّ الاستغراب أن يكون هو بالتحديد حامل الفانوس السّحري الّذي أدّى بي الى هذا الكنز المرصود، رفيع القيمة. يعمل المكتشف ناطوراً في المبنى، والوظيفة بسيطة، وهي التي طبعت فيه بساطته، لأن الناطور في المدينة غيره في الريف، فهذا الأخير سلطان متوّج في ضيعته، يراقبها ويشرف عليها من أولها الى آخرها، غابات وحقولاً وكروماً ودروباً وطلاّت شمس وخبايا قمر، فيحمي الحمى ويبدي الرّأي ويشير بالعصا وينادي بالصفارة، ولا يلجأ الى الصوت إلاّ عند الضرورة القصوى، وذلك ساعة تمضي المعصية بأحد أبناء الرعيّة بعيداً، فيفلت عنزة ترعى على هواها في حقل يُمنع الرعي فيه، أو يميل الى تفّاحة محرّمة في حديقة خصوصية مملوكة، أو يقطف عنقوداً من كرم، أو يسكب زيتاً من خابية... أمّا زميله في المدينة فلا يملك من تلك الخصائص إلا التّسمية والعنوان، وفي ما عدا ذلك فهو عامل مأمور، يأوي بعد التعب الى زاوية صغيرة ترتفع فوقها كل المساكن.

اقترب الناطور منّي معرباً عن رغبته بحمل حقيبتي الخفيفة على غير عادته... وعلى غير عادتي. إلاّ أن كلاماً كان يتحرّك بين شفتيه، وبين عينيه أيضاً، وهذا ما دفعه الى معروفه ذاك، كما بدا.

 

- ­ أنا حامل وناقل ورافع حقيبتي، يا جار، لا تعذّب نفسك، أشكرك وأحيّيك، قلت. ­

- لكنّ عندي ما أشكوه إليك

­- ­ قد لا يكون الحلّ عندي، ألا تركت شكواك في سرّك؟!

- انّ في طرحها راحة تكفيني.

- ­ ان كان ذلك فأنا سأرتاح لراحتك، ما عندك؟

جلست على حجر صغير مصنّع في المدينة، وبدأ الجار، واقفاً، يقول:

 

- ­ أنت تعرف ما هو عملي هنا. أنا ناطور المبنى وحمّاله. وصل إليّ هذا الصباح موزّع جرائد وسألني عمّا إذا كان الأستاذ منصور الأشبهي يسكن هنا، وسلّمني جريدة طالباً إليّ أن أنقلها إليه، ومضى. أمسكت بالأمانة ومضيت في الحال الى مسكن الأستاذ. فتحت الزوجة الباب. ماذا تريد؟ هذه الجريدة، هذه الجريدة، لكم. هذا ما جئت تفعله في بيتي؟ جريدة؟ أينقصني "زبالة" هنا؟ وراحت تضرب على ساقيها من دون رحمة، صارخة: انصرف. قلت لك لا أريدها. انصرف. عنيد، عديم الذّوق... ورحت أدحرج نفسي فوق درجات السلم، حتى تلقفني سطح الأرض. ­

- والجريدة؟ ­

- بقيت في يدي، لم يكن من الذّوق أن أرميها. هل من ذنب فعلته؟ ­ إنها بداية الذنب يا جار، ان تكرر الفعل، يكتمل الذنب. فحذار! ...ومضيت مع حقيبتي وأنا أسأل النفس: هل الخطأ هنا هو في ما حمله الناطور من أخبار مطبوعة، لا يعرف مخلوق صحّتها، ولا شأن له فيها بأي حال، أو في الافتتاحية العنيفة الّتي أطلقتها السيدة ارتجالاً، بحكم التمرّس والموهبة؟

-  سأتهيّب جارتي منذ الآن، ولن أُهمل الحذر، فأنا أترك أوراقاً من الجرائد في حقيبتي من دون حساب للعواقب... وقاني الله شرّ النساء!