ثقافة وفنون

الشاعر صلاح ستيتية
إعداد: وفيق غريزي

شعراء الفرنكوفونية

أول عربي يتبوأ كرسي رئاسة “المؤتمر العالمي للشعر”

 

الشاعر صلاح ستيتية على مثال نظيره الشاعر جورج شحاده, من أعلام الشعر المعاصر في فرنسا ولبنان. وصلاح ستيتية معروف في الخارج قبل أن تسبقه شهرته, في فرنسا, الى وطنه الأم لبنان, لأنه يكتب شعراً ونثراً باللغة الفرنسية. إنه شاعر وناقد ومنظّر وباحث.

 

الطفولة المميزة والغربة

وُلد صلاح ستيتية في بيروت عام 1929, أدخله والده محمود المدرسة الإنجيلية الفرنسية, منذ نعومة أظفاره, وكان الصبي الأوحد بين تلميذاتها البنات. ويكاد يكون الأوحد أيضاً في بيت كل أفراده من البنات, وهنا يقول شاعرنا نفسه أنه حُرِم من ممارسة هواية اللعب واللهو, التي يمارسها أمثاله من الأطفال الصبية. هذا الحرمان كان يدفعه في كثير من الأحيان الى الإنفراد في حديقة المدرسة, على مدى الأعوام الدراسية, والإنفراد يقود الى التفكير والتأمل. وكم عبقرية تفجّرت من حرمان.
كان منزل الشاعر صلاح ستيتية العائلي, ملتقى شعراء العصر. وعن أجواء هذا المنزل يؤكد شاعرنا, أنه عاش طفولته الأولى وهو على صلة مستمرة مع عالم الكلمة, وعندما كان يدخل على والده, وبرفقته شاعر أو أكثر, وهم يتلون القصائد, فإن تلك اللغة الغريبة, التي كان يستمع إليها, كانت تبدو له لغة سحرية, إذ لم يكن باستطاعته فهم شيء من المعاني التي تحملها تلك اللغة الشعرية أو إدراك أبعادها, ولكنها تركت تأثيرها على طفولته الأولى.
بعد ذلك نال إجازة في الحقوق من الجامعة اليسوعية, وتتلمذ على المفكّر والأديب الفرنسي غبريال بونور, مدير المعهد العالي للآداب في بيروت.
قصد فرنسا لمتابعة دراساته العليا, فاختلف الى السوربون, ومعهد الدراسات العليا, وكوليج دي فرانس, ولازم المستشرق المعروف لوي ماسينيون, وتعرّف الى موريس سايي, وموريس نادو, رئيسي تحرير مجلة “الآداب الحديثة”, وكتب على صفحاتها في نقد الشعر, وزامل كبار الشعراء أمثال: بيار جان جوف, واندريه دي مونديارغ, وايف بونفوا, وأندريه دي بوشيه وغيرهم.
بدأ الكتابة وهو في السادسة أو السابعة من العمر, ولقد عثر بين أوراقه العائدة الى عهد الدراسة على نصوص مكتوبة بخط الطفل الذي كانه, وهي نصوص قصصية, وأحد تلك النصوص يتضمن إشارات بالقلم الأحمر تقول بأنه غيّر الأسماء في تلك القصة.

 

الصحافة والإبداع والمرأة

أنشأ في بيروت الملحق الأدبي لجريدة “الأوريان” بالفرنسية, بعد عودته من باريس, ثم التحق بالسلك الديبلوماسي عام 1963, فعاد الى باريس وأقام فيها الى حين عيّن سفيراً للبنان في هولندا عام 1981, ثم نقل الى المغرب عام 1985, ثم عاد الى بيروت ثانية لتسلم منصب مدير الشؤون السياسية والقنصلية في وزارة الخارجية والمغتربين, ثم أصبح أميناً عاماً بالوكالة للوزارة نفسها. كما أسهم في كبريات المجلات الثقافية الفرنسية, ونشر في أشهر دور النشر.
صلاح ستيتية في شعره وفي نثره, يتقصّى اللغة, والكلمة, والفكرة, والصورة, وهي لا تزال في مهدها بكراً بعيدة عن الملابسات. “ويتقصّى علاقة الشعر بالوجود, وبالعدم, وبالموجود, وبطباع الناس وتواريخهم وأجناسهم وبيئاتهم, فالعلائق شغله الشاغل, العلائق بشتى أنواعها, ومنها علائق العالم العربي بالعالم الغربي”.
وأعرب شاعرنا عن إعتقاده بأن الإبداع قبل ارتباطه بالمنطق أو بالتكوين العقلي لدى المبدع, هو مرتبط بأمرين أساسيين: الإحساس والمخيلة, والطفل منذ نعومة أظفاره, يتعامل مع الوجود من منطلق إحساسه, ومن منطلق الترجمة الخيالية لما تحمل إليه من مشاعر, ولما تأتي به خبرته العفوية للوجود.
بالنسبة الى الشاعر صلاح ستيتية فإن المرأة هي جوهر شعره, وجميع توجهاته. لقد أبرز دور المرأة في الحياة والموت, والمرأة ما هي أولاً؟ إنها هدف شهوة الرجل بالإستيطان في هذا العالم, والرغبة بالإمتداد الجنسي والإمتداد الروحي. هذا ما يتقاسمه, في شعره, مع جميع الشعراء, في جميع اللغات, وعبر التاريخ, حسب قوله, بحيث أنه في الشعر العربي هناك: هند وبثينة وعزّة إلخ, وفي الشعر الأجنبي: بياتريس ­ “دانتي” ولور حبيبة بترارك, وإلزا حبيبة أراغون الخ. كما أن المرأة هي رمز أساسي في نظرة الشاعر الى الوجود.
يقول ستيتية: “نلاحظ أن جميع الكلمات الوجودية, المعبّرة عن إلتحام الإنسان بمصيره, في العالم, هي كلمات مؤنثة, ففي اللغة العربية مثلاً هناك: الحياة, الأم, اللغة, الطبيعة, الخصوبة, جميعها كلمات مؤنثة”.

 

الثراء في التجربة

إن تجربة الشاعر الفرنكوفوني صلاح ستيتية الأدبية تجربة فذّة. شاعر من لبنان, حكمت عليه الظروف أن يكتب باللغة الفرنسية, فيجعل من تلك اللغة أداة طيّعة للتعبير عن جذوره العربية والمشرقية, وعن عالمه الطبيعي فضلاً عن معالجته لشؤون الأدب العالمي, وبخاصة الأدب الفرنسي, وهذا دليل على أن وراء اللغات والمعاني المرتبطة بتلك اللغات, ووراء الحدود والثقافات المختلفة, وطناً للشعراء, ووطناً نقياً وطاهراً, يصبو اليه الشعراء, من منطلق إرتباطاتهم اللغوية والثقافية, لكي يدركوا ما يسميه ستيتية جوهر الوجود, من هؤلاء الشعراء من يبلغ حدود الوطن المنشود, ومنهم من يسقط قبل بلوغها, كما يقول الدكتور جواد صيداوي.
وقد أثبـت ستيـتية في شعـره ونثـره, أن أصداء المعاني الإنسانية الكبرى تتقارب, في العديد منها, وتلتقي, من دون أن يعيق تقاربها والتقاءها أي نوع من أنواع الحدود, مادية كانت أم معنوية.
ولقد كان شاعـرنا واسـطة العقـد للشـعراء والنقّاد الفرنسـيين, ومتـذوقي الشعر باللـغة الفرنسـية في مديـنة لياج ببلجـيكا, حين كان أول عربي يتبوأ كرسي رئاسة “المؤتمر العالمي للشعر” المنـعقد هناك, بحضـور ألف وخمسـمائة شـاعر من أنـحاء العالـم.