تحت الضوء

الشراء العام بين التبعثر والتعثّر
إعداد: لمياء المبيّض البساط
رئيسة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي - عضو لجنة خبراء الإدارة العامة التابعة للأمم المتحدة

نظرَة تفاؤلية وسطَ السوداويَّة السائِدَة

 

يقول الكاتب الروائي والفنّان أندريه موروا إنّ للحكومات عمر مؤسساتها المالية، تمامًا كما للأشخاص الطبيعيين عمر شرايينهم. مال عام يسري في الشرايين والأوردة التي تغذّي الجسد بنسغ الحياة والحركة. مالنا الذي يصبح طوعًا «مالًا عامًّا» حين ندفع الضرائب والرسوم والموجبات، يسري في عروق مؤسسات الوطن. فهل نحرص على صرفه كما يجب؟ وهل نحقق الغاية الفضلى من إنفاقه، لكي يعيش الوطن ويزدهر، وتدوم النِعم؟


من المعروف أنّ الحكومات، محلية كانت أم مركزية، هي الشاري الأكبر في السوق. فهي تلجأ إلى تلبية احتياجاتها من الأشغال واللوازم والخدمات، عن طريق صفقات تعقدها مع المورّدين، بهدف تقديم الخدمة للمواطن، وهي بذلك تنفق أموال المكلفين أو تعتمد على الهبات أو القروض.


الحكومات هي اللاعب الأكبر في السوق
في لبنان، يُقدّر حجم الشراء العام (أو ما يتعارف على تسميته بالصفقات العامة) بـ١٣٪ من الموازنة العامة و٤٪ من الناتج المحلي الإجمالي (حوالى ٢ مليار دولار) على المستوى المركزي، ولا يتضمّن هذا التقدير حجم مشتريات المؤسسات العامة والبلديات والمشاريع المموّلة من الخارج. ويتركز طلب الجهات الحكومية الشارية على المواد الاستهلاكية (الورق، والطابعات والمحابر، ومواد التنظيف، والمبيدات)، مثلاً يشكّل حجم الشراء العام للورق ٥٠٪ من السوق المحلية، أمّا الطلب العام على مواد التنظيف فيقدّر بـ ٦٠ إلى ٧٠٪. هذه الأمثلة تدلّ على تأثير الإنفاق الحكومي على مُجمل حركة السوق.


جودة متدنية جدًا وفساد
تعتبر الجهات الدولية أنّ منظومة الشراء العام في لبنان هي ذات جودة متدنية مقارنة مع مثيلاتها في بلدان المنطقة العربية وفي العالم. وتشير التقديرات إلى أنّ تحديث هذه المنظومة من شأنه أن يحقّق وفرًا سنويًا بقيمة ٥٠٠ مليون دولار، ممّا يزيد هامش الإنفاق الاستثماري للدولة ويحسّن نوعية الخدمات المقدّمة للمواطنين، وكذلك فرص مشاركة المؤسسات المتوسطة والمنافِسة.
لهذا المُعطى أهمية كبيرة في أي استراتيجية تقصد تطوير الاقتصاد اللبناني وتنافسيّته إذ تشكّل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بين ٩٣ إلى ٩٥٪ من إجمالي مؤسسات القطاع الخاص، وتُوظّف ٥١٪ من اليد العاملة، لكنّها تبقى غير قادرة على ولوج فرص المشاركة بفاعلية في العقود الحكومية لأسباب مختلفة، أهمّها: عدم قدرتها وجهوزيتها للمشاركة (٨٨٪ من الحالات)، التأخّر في الدفع من قبل الجهة الشارية (٧٥٪) وعدم الولوج إلى المعلومات حول الصفقات وشروط المشاركة بها والصعوبة في تشكيل تكتّلات (٦٣٪)(١).
من جهة أخرى يقع الشراء العام في صلب العمل المالي للدولة ويرتبط ارتباطًا عضويًا بتخطيط التزاماتها المالية على المديَين المتوسط والبعيد عند إعداد الموازنات العامة، بما في ذلك تأمين الالتزامات المالية الناتجة عن عمليات تنفيذ العقود (عقود الشراكة مع القطاع الخاص من ضمن هذه الالتزمات)، وربطها بتوافر السيولة في الخزينة، وتأمين التزامات الدولة المالية بحسب أولوية استحقاقاتها. لذلك، تفيد التجربة الدوليّة٢ بضرورة أن تكون هذه الالتزامات جزءًا من العمل المالي المناط بوزارات المال أو في إدارات مرتبطة بها مباشرة أو تحت وصايتها.
ولا يمكن في ظلّ أوضاع مالية واقتصادية دقيقة كالتي يمرّ بها لبنان اليوم وعلى المدى المتوسط، إلا أن تكون الإدارة المالية متكاملة مترابطة تخضع لضوابط صارمة، خصوصًا لجهة استشراف عمليات الموازنة والخزينة وإدارتها.


ماذا فعلنا لتحقيق هذا الوفر ولاستعادة مرتبة لبنان في كلّ ما تقدَّم؟
خلال مؤتمر «سيدر»، التزمت الحكومة اللبنانية القيام بإصلاحات قطاعية وأخرى شمولية عابرة للقطاعات، أبرزها مكافحة الفساد، وتحديث الشراء العام. وعادت مجموعة الدعم الدولية خلال اجتماعها الأخير في باريس في (١١/١٢/٢٠١٩) لتؤكد أهمية تنفيذ هذه الالتزامات. وقد شدّدت على الشراء العام كأحد أبرز الإصلاحات الهيكلية الضرورية لتعزيز الحوكمة المالية وتحسين جودة الخدمات العامة، وجذب الاستثمارات وتعزيز الشفافية، ودعم جهود مكافحة الفساد، إذ إنّ ٥٧٪ من المعاملات الحكومية المعرّضة للفساد مرتبطة بشكل أو بآخر بمنظومة الشراء العام.

ومن المعروف عالميًا أنّ الفساد والجودة المتدنية للبُنى التحتية هي من العوامل الأكثر تأثيرًا في هروب الاستثمارات وتحويلها إلى اقتصادات أخرى أكثر جاذبية وتنافسية.
وفي هذا الإطار بالذات، تراجع لبنان في التنافسية الاقتصادية من المرتبة ٨٠ في العام ٢٠١٨ إلى المرتبة ٨٨ في العام ٢٠١٩ (من أصل ١٤١ بلدًا) وفي سهولة الأعمال تراجع من المرتبة ١٤٢ إلى المرتبة ١٩٠.


الحكومة اللبنانية تلتزم إصلاح الشراء العام
في حزيران ٢٠١٨، وبعد سلسلة من المشاورات مع الجهات المعنية وانعقاد المؤتمر الوطني الأول الذي نظّمته وزارة المالية بالشراكة مع ٨ جهات محلية ودولية، تحت عنوان «الشراء العام وفرص تعزيز الصمود والنمو المستدام»، التزم وزير المالية خارطة طريق تضع الشراء العام على سكة الإصلاح الجدّي من شأنها إعادة الدولة اللبنانية إلى مصاف الدول المتقدمة على صعيد المعايير المعتمدة وضبط الرقابة على الشراء العام الذي يُعتَبر من مداميك العصرنة والشفافية، كما وتأمين التنفيذ الفعّال للبرنامج الاستثماري بكفاءة وفعالية.
بدءًا من هذا التحوّل الاستراتيجي، توالت الخطوات التنفيذية بهذا الاتجاه، ففي ٧ شباط ٢٠١٩، التزمت الحكومة اللبنانية في بيانها الوزاري، لاسيّما المادة الرابعة منه «تحديث قانون المشتريات العامة وإعداد دفاتر الشروط النموذجية لتعزيز شفافية المناقصات العامة».
بناءً على ذلك، كلّف وزير المالية علي حسن خليل معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي (بموجب قرار رقم ١٠٩/١، تاريخ ٤ آذار ٢٠١٩) بمتابعة إعداد مشروع قانون للشراء العام فتوغّلنا في تفاصيل التفاصيل لتفادي أي ثغرة في مشروع القانون المذكور، واستَعنّا لهذا الغرض بالبنك الدولي ووكالة التنمية الفرنسية لاستباق النص القانوني بعمل سياسي مبني على الوقائع Evidence Based Policies، فكانت الخطوة الأولى إجراء مسح لمنظومة الشراء العام وفق منهجية التقييم الدولية المعروفة بــMAPS، ما أوصلنا إلى وضع اقتراحات عملية تسهم في تحديث منظومة الشراء العام على أربعة صعد: الإطار القانوني، الإطار المؤسسي، السوق وتفاعلها مع الجهات الشارية (بما في ذلك أطر الشفافية ومكافحة الفساد)، الأدوات والأطر الإجرائية (بما في ذلك دفاتر الشروط النموذجية وغيرها من الأدوات).

 

مجالات إنفاق حيوية تتطلّب نظاماً عصرياً للشراء العام

 

مجال الإنفاق

المبلغ (مليون $)

المياه

3135

الصرف الصحي

2404

النفايات الصلبة

1400

النقل

5683

الكهرباء

3592

الاتصالات

700

البنى التحتية السياحية والصناعية

339

المجموع

17253

المصدر: برنامج الإنفاق الاستثماري، 2018

 

تقييم منظومة الشراء العام – منهجية: MAPS
يندرج هذا التقييم في إطار المتطلّبات الدولية لوضع قواعد نظام شراء عصري، إذ يقوم خبراء دوليّون، بالتشاور مع مؤسسات الدولة وإداراتها والمعنيين من مؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني، بتحليل الواقع وتحديد نقاط القوة والضعف في المنظومة بناءً على مؤشرات كمّية ونوعية محددة سلفًا في المنهجية. يسمح هذا المسح بمقارنة وضع لبنان بدول أخرى وبلورة توصيات عملية لإصلاح المنظومة بما يتلاءم مع المعايير والوثائق المرجعية الدولية، وصولًا إلى استقطاب الدعم اللازم لتنفيذ هذه الإصلاحات.


أربعة أركان في المنظومة
استهدفنا الركن الأوَل في المنظومة وهو الإطار القانوني والتنظيمي والسياسي بكل مؤشراته، ثم ركنًا ثانيًا يتعلّق بالإطار المؤسسي والقدرة الإدارية، ثمّ قيّمنا عمليات الشراء وممارسات السوق، ووضعنا أخيرًا ضوابط علمية وعملية لتحقيق المساءلة والنزاهة والشفافية، وأصدرنا دليلًا للمستخدم وقاموسًا للمصطلحات. وفي سياق هذا التقييم، استطعنا تحليل الواقع الوطني بشكل يوضح مدى ارتباط الشراء العام بالأهداف السياسية للدولة والجدوى منه، وعلاقته بالمالية العامة، كل ذلك بالمقارنة مع معايير الأركان الأربعة للمسح. كما قامت الجهات الداعمة باستقطاب خبيرَين استشاريَّين دوليَّين لتسهيل تنفيذ المسح والتأكد من ملاءمته مع متطلبات المنهجية الدولية وإرشاداتها، وتمّ بالتوازي تشكيل لجنة استشارية وطنية تضم ١٨ ممثلًا عن ١٥ إدارة ومؤسسة عامة وجهة رقابية، للتعاون من أجل حسن التنفيذ وتسهيل وصول الخبراء الدوليين إلى المعلومات اللازمة والتحقّق من دقة المُخرجات. كما تشارك في التقييم أكثر من ١٠٠ جهة وطنية معنية من القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني، على أن تصدر نتائج التقييم وتوصياته في تقرير نهائي خلال النصف الأول من العام الحالي (٢٠٢٠).


لجان استشارية وتنسيقية لضمان جودة المُخرجات
تحوّل معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي إلى خليّة نحل. لجنة استشارية وطنية مؤلفة من ثمانية عشر ممثلاً عن خمس عشرة مؤسسة رسمية تبادلت الخبرات والعقبات والآليات المعتمدة بالتوازي مع تشكيل لجنة استشارية دولية فيها ممثلون عن بنوك التنمية المتعددة الأطراف والمنظمات الدولية المعنية بالتنمية، وتولّينا مهمة التنسيق في ما بينها باسم المعهد، ما وضعنا شخصيًا أمام مسؤولية وطنية وإصلاحية مفصلية قمنا بها بتكليفٍ من وزير المالية الذي واكبنا ودعم جهودنا وتابع المسار بأكمله. ولم تكن قيادة هذا الفريق المتنوع سهلةً خصوصًا وأنّ أعداد الخبراء من اللجان الوطنية والدولية تخطّى المئة خبير، فكان علينا أن نعدّ التقارير وننسّق المُخرجات ونوحّد المصطلحات لتتماشى والمعايير المعتمدة دوليًا من قبل الجهات الداعمة لهذا العمل الإصلاحي والبنيوي في المالية العامة عمومًا والشراء العام خصوصًا.


بوادر قانون عصري للشراء العام في الأفق
بعد هذا المسار أصبحنا عمليًا في مرحلة إعداد مشروع قانون عصري للشراء العام منسجم مع المبادئ الدولية، بالإضافة إلى إجراءاته التنظيمية وبالتالي صار بالإمكان تطوير دفاتر شروط نموذجية. المواكَبة الدولية مستمرَّة، تتمّ الاستعانة راهنًا بمساندة تقنية من خبراء مبادرة منظمة التعاون الاقتصادي OECD-SIGMA. وتعتمد صياغة مشروع القانون على المعطيات العلمية من بيانات ومشاورات مع الجهات المعنية، وتوصيات مسح MAPS التي أشرنا إليها آنفًا، وقانون الأونسيترال الدولي النموذجي، وتوصية مجلس منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بشأن المشتريات العامة الصادر في العام ٢٠١٥. ويضاف إلى ذلك دراسة مقارنة لقوانين الشراء العام التي أُقرّت في عدد من الدول العربية، وأبرزها الأردن (في العام ٢٠١٩) مصر (في العام ٢٠١٨) وفلسطين وتونس (في العام ٢٠١٤)، من دون أن نغفل عن توصيات ومراجعات خبراء وطنيين ومتخصصين في السياسات العامة، وخبراء استراتيجيين واقتصاديين، وخبراء قانونيين، وممثلين عن القطاع الخاص والمجتمع المدني، وكل ذلك بالطبع بمساندة تقنية من خبراء منظمة OECD-SIGMA(٢).


مسوَّدة إلى مجلس الوزراء
في ٦ أيلول ٢٠١٩ وبنتيجة هذا العمل، قدّم وزير المالية إلى مقام رئاسة مجلس الوزراء مسوّدة أولى من مشروع قانون الشراء العام وسيتمّ العمل على المراسيم التنفيذية، والإرشادات العملية، وهندسة برامج تدريبية لضمان حسن تنفيذه.


كي لا ننسى دفاتر الشّروط
إنّ عدم وجود دفاتر شروط نموذجية موحّدة Standard Bidding Documents يعقّد إجراءات الشراء العام وشفافية عملياته، ويعاني من هذا الأمر الموظفون الحكوميون المولجون تحضير هذه الدفاتر، كما يعقّد الإجراءات بالنسبة للمورّدين ويشكل عائقًا حقيقيًا أمام المنافسة ودخول مورّدين جُدد.
وللتاريخ، لا بدّ من الإشارة الى أنّ معهد باسل فليحان عمِل على إعداد هذه الدفاتر منذ اثنتي عشرة سنة أي منذ العام ٢٠٠٨، من دون أن تترجم هذه الجهود في الواقع. وبغضّ النظر عن الظروف التي أدّت إلى هذا التأجيل لملف بالغ الأهمية في تحقيق الشفافية في الشراء العام، يمكننا القول إنّه على ضوء أحكام القانون العصري للشراء العام وتوصيات مسح MAPS، ستُطلق وزارة المالية مسارًا تشاوريًا مع الجهات المعنية كافة ولاسيما: ديوان المحاسبة، مجلس شورى الدولة، التفتيش المركزي، إدارة المناقصات، الإدارات العامة، مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، المؤسسات العامة والبلديات، وغيرها من الجهات المعنية في القطاع الخاص. والهدف من ذلك إجراء التقييم اللازم لدفاتر الشروط، وتجريبها تمهيدًا لاعتمادها رسميًا. وسَيَلي هذه الخطوة إقرار مرسوم يقضي بإلزامية استخدامها على المستويات الحكوميّة كافة، مركزيًا ومحليًا، وتنفيذ برامج تدريبية لجميع المعنيّين وإصدار أدلّة إرشادية.


وتبقى مجموعة كبيرة من التحديات...
لا يوجد في لبنان استراتيجية وطنية لعصرنة الشراء العام. حراك وزارة المالية بذراع تنسيقية لمعهد باسل فليحان هدفَ أساسًا إلى فتح حوار مجتمعي ووضع الأصابع على الجرح من خلال عمل تقييمي موضوعي تشاوري تشاركي. مسح MAPS أسهم في ذلك بفعالية.

لا نبالغ إذا قلنا إنّ المشهد الحالي أقرب إلى الفوضى المنظّمة منه إلى التنظيم؛ إطار قانوني متقادم ومبعثر، الأحكام (من قوانين ومراسيم وقرارات وتعليمات) متعددة ومتفرّقة، أبرزها قانون المحاسبة العمومية (١٩٦٣) ونظام المناقصات (١٩٥٩)، بالإضافة إلى عدد من الأحكام الخاصة بالبلديات والمؤسسات العامة والأجهزة الأمنية والجيش(٣). تداخلات في صلاحيات المؤسسات المعنيّة، غياب أطر الشفافية والقدرة على الاعتراض الفعّال والمراجعة، فجوات كبيرة في القدرات الإدارية، إلخ... والنتيجة عدم كفاءة وزيادة مخاطر الفساد وهروب العارضين الجديين والمستثمرين، ناهيك عن إقفال الباب أمام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة للمشاركة والابتكار، وغياب مسارات واضحة يجري وفقها تحديد الاحتياجات وتقييمها وتبويبها وتصنيفها، كما وربطها بعمليات إعداد الموازنة وتخطيط وإدماج الحاجات التمويلية المستقبلية، وتنفيذ العقود.


القانون العصري وحده لا يكفي
قانون عصري لا يكفي وحده بالطّبع، وإن بات جاهزًا للنقاش في البرلمان اللبناني. فهو يبقى خطوة مجتزأة إن لم يترافق مع مجموعة من التدابير الإصلاحية المتلازمة، وأولها مسح مفصّل للجهات المعنيّة لتوضيح أدوارها وصلاحياتها، بهدف اقتراح خيارات مؤسسية تمكّن حوكمة فعّالة لهذه المنظومة على ضوء متطلّبات القانون العصري وأحكامه. كذلك تطوير دور إدارة المناقصات التي عليها القيام بمهمات ناظمة، أساسية، والسهر على تنظيم هذا القطاع وانتظامه بما في ذلك إدارة نظام شراء إلكتروني موحّد E-Procurement يسمح بتوثيق البيانات بشكل منظّم على المستويين المركزي والمحلي ونشرها وتحليلها، وتوفيرها لصانعي القرار وللجمهور Open Data بهدف تعزيز النزاهة وزيادة ثقة المستثمرين.
مسار الإصلاح لا يتوقف عند حدّ إقرار تشريع جديد أو إعادة تنظيم إداري معيّن. ومن البديهي بلورة رؤية استراتيجية وطنية مبنية على نهج شمولي وتشاركي مع الجهات المعنية في القطاعين العام والخاص والجهات الدولية، ولا نغفل إشراك المجتمع المدني الفاعل في هذه العملية.
انطلاقًا من خبرتنا ومن التجارب الدولية التي نتعلّم من دروسها ونشارك في صياغتها، إذ إنّ لمعهدنا دورًا فاعلًا على الصعيدين المحلي والدولي، سنَنكبّ في الفترة المقبلة على العمل مع جميع المعنيين لبلورة رؤية استراتيجية متوسطة إلى طويلة الأمد، تعتمد على معطيات علمية موضوعية لتحديد أهداف السياسات والمعايير والمؤشرات، وسبل دعم ومواكبة تقدّم مسار الإصلاح وتقييمه، والتأكد أنّ الخيارات المقترحة تتمتّع بعناصر نجاح كافية، ونأمل أن تأخذ طريقها إلى مجلس الوزراء بعد ولادة الحكومة الجديدة.


كي لا ننسى...
كي لا ننسى، نحن معهد مهمته تنمية القدرات الوطنية على حسن إدارة المال العام، ويشمل مفهوم تنمية القدرات بحسب التعريف الدولي، عملية تغيير من الداخل تقوم على الأولويات والسياسات والنتائج المرجوة المحددة وطنيًا، وتضم مجالات تقتضي إدخال قدرات جديدة ومن ثم دعم بناء قدرات جديدة.
لاحظنا الفجوة الواسعة في القدرات والمعارف والمهارات، وغياب مهنة الشراء العام في الإدارة العامة، بما في ذلك التوصيف الوظيفي وأطر كفايات ذات صلة.كما لاحظنا أنّ صنّاع القرار على المستوى الحكومي والفئات القيادية غالبًا ما يغيب عنهم الموقع الاستراتيجي للشراء العام في تطوير أداء الحكومات، وقدرته الواسعة على التأثير في الاقتصاد والبيئة والمجتمع وإدارة الالتزامات المالية للدولة بشكل متكامل ومترابط، وهذا أمر ضروري في زمن الأزمات. وفي حين أدركت ذلك معظم الدول النامية أو التي تعرضت لأزمات حادّة كتشيلي وأستونيا وتونس ومصر مثلاً، ما زال المعنيون يعتبرونه موضوعًا تقنيًا وقانونيًا بحتًا أو فرصة لإثراء غير شرعي سريع.
نأمَل أن تساهِم نتائج وتوصيات مسح MAPS والمشاورات الوطنية المستمرة في الوصول إلى رؤية وطنية، بهدف مواكبة مسار الإصلاح وتأمين استدامته وملاءمته للمعايير الدولية والممارسات الجيّدة. في هذا السياق، ستتمّ بلورة رؤية استراتيجية لتشمل إطارًا للكفايات يحدّد معايير التوظيف والتطوّر المهني وتطوير القدرات، بالإضافة إلى خطة عمل لتمهين الشراء العام، وسيتمّ عرضها على مجلس الوزراء تمهيدًا لإقرارها، بالطّبع بعد ولادة الحكومة المنتظرة.


أخيرًا...
يقول الكاتب والفيلسوف الفرنسي مونتسكيو «إنّ التخطيط المالي لحضارة اليونان كان يستند إلى الفضيلة قبل استناده إلى الدفاتر الحسابية ودفاتر الشروط». نستعيد هذا المفكّر الإصلاحي الكبير في خضم المراجعة العميقة لنظام الشراء في لبنان، ومن خلاله لكل مقاربة للمالية العامة في بلدنا، ونردّد معه: الفضيلة هي الضمانة أمّا الاستراتيجيات والخطط فهي الوسائل. من دون فضيلة تفسد الوسيلة ومن دون الوسيلة تبقى الفضيلة في مصاف النوايا الحسنة. نوايا من دون أفعال. فلنفعل. لبنان يستحقّ أن نفعل.

 

هوامش:
(١) مسح أجرته شبكة الشراء الحكومي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، (٢٠١٤).
(٢) التوصية رقم ١٣ لمجلس منظمة منظمة التعاون والتنمية (OECD) تنصّ على دمج المشتريات العامة ضمن إدارة المالية العامة الشاملة وإجراءات وضع الميزانيات.
(٣) معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، «الشراء العام في لبنان: الواقع والممارسات: استراتيجية وطنية لتعزيز القدرات»، ٢٠١٤.