الشراكة الروسية – الإيرانية في سوريا تأثيرها على الوضع الجيو-استراتيجي في الشرق الأوسط

الشراكة الروسية – الإيرانية في سوريا تأثيرها على الوضع الجيو-استراتيجي في الشرق الأوسط
إعداد: العميد الركن المتقاعد نزار عبد القادر
ضابط متقاعد في الجيش اللبناني

المقدمة

أثبت التدخّل العسكري الروسي في سوريا تحديًا جديدًا للسياسة الخارجية التي اتبعها الرئيس باراك أوباما منذ وصوله إلى البيت الأبيض. فقد عادت روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط بقوة بعد أن كانت قد "طردت" من مصر في زمن حكم الرئيس أنور السادات في عام 1972، من دون أي احتفال وداعي لضباطها وخبرائها لشكرهم على خدماتهم ودعمهم للجيش المصري على مدى خمس سنوات. عادت روسيا إلى المنطقة من البوابة السورية، وذلك في أعقاب الفراغ الذي أحدثه الانسحاب العسكري الأميركي من العراق في أواخر العام 2011. وجاء هذا التدخّل بمثابة استغلال للفرصة التي أتاحتها الولايات المتحدة بعد أن نكست إدارة أوباما بكل الالتزامات الإستراتيجية التي قطعتها الإدارات الأميركية السابقة للأصدقاء والحلفاء في المنطقة.

تحوّلت روسيا خلال عام واحد من تدخلها الجوي إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد إلى أبرز قوة مؤثرة في مسار الحرب في سوريا، ويبدو بأنّ طموحات موسكو لن تقتصر على المسرح السوري، بل يبدو بوضوح بأنّها تتطلع إلى ايجاد الفرصة السانحة لتوسيع تدخّلها ليشمل العراق. يضاف إلى ذلك بأنّ إقامة قاعدة جوية رئيسة في حميميم قرب اللاذقية وتوسيع القاعدة البحرية في طرطوس وتحويلها إلى قاعدة دائمة للأسطول الروسي سيجعلها قوة رئيسة في شرق المتوسط.

جاءت القوات الجوية الروسية إلى سوريا في أيلول العام 2015، بدعوة من النظام السوري، وذلك بعد مجموعة من الانكفاءات التي تعرضت لها قوات النظام والقوى الداعمة لها، والتي شكلت تهديدًا حقيقيًا للمنطقة الساحلية ولحكم الرئيس الأسد. نجحت القوات الجوية الروسية بالتعاون مع الجيش السوري وإيران وحلفائها على الأرض من قلب المعادلة العملانية في عددٍ من المناطق السورية، وهي تسعى الآن بعد سقوط وقف إطلاق النار الذي توصلت اليه مع الأميركيين إلى تغيير المعادلة الإستراتيجية من خلال العمل على استعادة القسم الشرقي من مدينة حلب من يد فصائل الثورة، التي تتعدد انتماءاتها الايديولوجية.

في ظل استمرار الهجوم على حلب، وبعد اسقاط مشروع القرار الفرنسي في مجلس الأمن الدولي باستعمال المندوب الروسي حق النقض، تحدّثت إدارة أوباما عن أنّها بصدد دراسة كل الخيارات المتاحة للرد على الهجمة المدمرة التي تتعرّض لها حلب، ومن هذه الخيارات قصف بعض القواعد الجوية التي يستعملها النظام.

ردّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على ما أسماه "العدائية الأميركية المتصاعدة" تجاه موسكو بأنّ واشنطن هي في صدد اتخاذ خطوات قد تهدّد الأمن الوطني الروسي. كما وجّه انتقادات لإدارة أوباما بأنّها تعمل على تخريب فعلي للعلاقـات الأميركية الروسية. وعدّد لافروف الخطوات الأميركية والأطلسية كلها والتي تشكل محاولة لتطويق روسيا، منتقدًا أيضًا العقوبات المفروضة على موسكو بسبب الأزمة الأوكرانية[1].

على خط مواز علّقت إيران بلسان مستشار المرشد علي خامنئي (علي أكبر ولايتي) على الموقف الأميركي بأنّ تدخّل الولايات المتحدة عسكريًا في سوريا سيشكل "عملية انتحارية"، وسينتج عنه الهزيمة الأميركية الثالثة بعد أفغانستان والعراق[2].

وقد برّرت روسيا تدخلها الجوي في سوريا على أنه يهدف لمحاربة الإرهاب، وهي تكرّر هذه المقولة، كما أنّها تعزو سقوط الهدنة ووقف العمليات العسكرية في الوقت الراهن إلى عدم اضطلاع الجانب الأميركي بمسؤولياته لجهة تصنيف المنظمات الإرهابية، وإنشاء مركز تنسيق وتبادل المعلومات لضربها[3]. في الواقع تحاول روسيا مساعدة النظام السوري بالاشتراك مع إيران وحلفائها من أجل تحقيق انتصار عسكري، يقود إلى حل سياسي يؤمن بقاء الرئيس الأسد ويحقق المصالح الروسية في المدى البعيد. وهنا لا بدّ من التساؤل عن طبيعة المشاركة القائمة بين روسيا وإيران في معركة انقاذ النظام السوري وتقويمه، وعمّا إذا كان يمكن توسيع علاقات الشراكة في مسرح العمليات السوري إلى شراكة تغطي كامل منطقة الشرق الأوسط.

يهدف هذا البحث إلى إلقاء الضوء على طبيعة التعاون والشراكة بين روسيا وإيران من أجل انقاذ نظام الرئيس بشار الأسد، وتحقيق مصالح البلدين في سوريا. وسنحاول الإجابة على مجموعة من الاسئلة أبرزها: كيف ولماذا عادت روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط؟ ما هو الدور الذي أدّته القيادة الإيرانية من أجل اقناع القيادة الروسية للتدخّل عسكريًا في سوريا؟ ما هي طبيعة الشراكة الروسية-الإيرانية في سوريا؟ هل تبقى سوريا "نقطة المركز" للتعاون؟ أم أنّها ستتوسّع لتشمل مسارح عمليات أخرى؟ ما هي الأبعاد جيو-إستراتيجية لهذه الشراكة؟ وما هو مستقبل الشراكة في المدى البعيد؟ 

 

روسيا تعبئ الفراغ

نجح الرئيس فلاديمير بوتين من خلال تدخله في الأزمة السورية في تجاوز كل الخطوط الحمراء والموانع التي لم يتجرأ أسلافه من الحقبة القيصرية أو من الحقبة السوفياتية على تخطيها، من أجل الوصول إلى شرق البحر المتوسط، وفرض نفوذه بالتالي على بلاد الشام وإيران وتركيا والخليج العربي. وهكذا بات بوتين لاعبًا مؤثرًا لا بل رئيسًا في الجيوبولتيك الشرق أوسطي.

تقدمت روسيا فعليًا إلى قلب منطقة الشرق الأوسط، والتي شكلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية منطقة حيوية للسياسة الخارجية الأميركية في مواجهة الاتحاد السوفياتي. وقضت الإستراتيجية الأميركية بإقامة تحالفات مع القوى الإقليمية الأساسية كما نشرت قواتها على مجموعة من القواعد الجوية والبحرية في شرق المتوسط وفي منطقة الخليج.

لم يعد خافيًا على أحد بأن الوجود العسكري الروسي في شرق المتوسط وفي سوريا قد تحوّل إلى جزء من المعادلة الجيوسياسية على المستوى الاقليمي، وهذا يعني بأنّ النفوذ الروسي بات يغطي منطقة واسعة تشمل تركيا وإيران ودول الخليج، وبأن هذا التمدد قد جاء كنتيجة طبيعية لتراجع الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. تراجعت إدارة أوباما عن الإستراتيجية الأميركية والتي تقضي منذ وضع "عقيدة ترومن"، و"عقيدة كارتر" بنشر قوات عسكرية في هذه المنطقة الحساسة من العالم من أجل الحفاظ على المصالح الأميركية، ومنع تمدّد النفوذ السوفياتي، ومن ثمّ الروسي نحوها. ويشكّل التمدّد الروسي الحالي من بوابة "عاصفة السوخوي" في سوريا تحديًا كبيرًا لنفوذ أميركا ومصالحها في المنطقة. لم تعد تمتلك واشنطن حرية الحركة التي كانت تتمتّع بها خلال ما يزيد على ستة عقود. ويمكن القول بأنّ التدخّل العسكري الروسي الكثيف في سوريا وشرق المتوسط قد أجبر أقرب حلفاء الولايات المتحدة مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية وتركيا على التقرّب من روسيا وتنسيق مواقفهم معها.

شكّلت عملية الانسحاب الأميركي من العراق في أواخر العام 2011، وسياسة التردد تجاه الأزمة السورية "فراغًا أمنيًا" استغلته روسيا لكن الفراغ الحاصل، أدى إلى نجاح روسيا خلال أشهر من تدخلها في سوريا في فرض نفسها كقوة أساسية مؤثرة في مسرح العمليات، واستطاعت بالفعل أن تعيد المبادرة الهجومية لقوات النظام ومعها القوات الحليفة.

وقد وجدت الولايات المتحدة، التي كانت تملك حرية الحركة والسيطرة الكاملة على الأجواء في سوريا وشرق البحر المتوسط نفسها مقيّدة الحركة، وبأنه بات لزامًا عليها إجراء مباحثات عسكرية لأخذ الاحتياطات اللازمة لمنع حصول اشتباك بين طائراتها وبين الطائرات الروسية. هذا الواقع العسكري القائم منذ أيلول 2015 لم يحرم الولايات المتحدة فقط السيطرة الكاملة على الأجواء السورية وشرق المتوسط، بل بات يحول دون أي إمكانية لضرب مواقع قوات النظام وحلفائه، كما بات يمنع إقامة أي مناطق آمنة أو مناطق حظر جوي فوق سوريا، لأن أي محاولة من هذا النوع، قد تتسبب بحصول اشتباكات بين الطائرات الأميركية وبين الطائرات الروسية، وهذا ما لا يريده الرئيس أوباما على الإطلاق.

استفاد نظام بشار الأسد من هذا التوازن العسكري الأميركي-الروسي في الأجواء السورية لاستعادة المبادرة الميدانية، وتحصين وضع حكومته السياسي للاستمرار في الحكم لسنوات عديدة مقبلة.

لا يمكن اعتبار التغيير الذي أحدثه التدخّل العسكري الروسي في سوريا عملية عابرة في مسار الأزمة السورية، بل شكّل تبدلًا في الواقع الجيوسياسي لمنطقة الشرق الأوسط وشرقي المتوسط. ويبدو بوضوح بأنّ القاعدتين العسكريتين الروسيتين في اللاذقية وطرطوس، هما باقيتان لسنين عديدة مقبلة. وسيكون بإمكان روسيا اطلاق دوريات جوية وبحرية لمتابعة السفن الأميركية في المتوسط. كما سيكون باستطاعة بطاريات الصواريخ S400 المتطورة أن تضرب أي هدف تختاره فوق تركيا وسوريا والعراق وشمال الأردن وإسرائيل وقبرص. كما سيشكّل هذا الوجود تهديدًا لحلف شمال الأطلسي من خلال خاصرته الجنوبية. ستفرض هذه المعادلة الجيوسياسية على دول المنطقة اعتماد سلوكية سياسية تقضي بنسج علاقات حميمة مع روسيا لسنوات مقبلة، إذا لم تعمد الإدارة الأميركية الجديدة (بعد إدارة أوباما) إلى احتواء هذا التمدد جيو-إستراتيجي الروسي المتنامي.

يؤشر استعمال روسيا لقاذفاتها الإستراتيجية تي يو 22 من قاعدة همدان في غرب إيران إلى تنامي دور موسكو العسكري في المنطقة. وهذا يعني بأن التدخّل الجوي لم يعد يقتصر على سوريا وشرق المتوسط بل يشمل أيضًا منطقة الخليج. وسيترتّب على هذا التوسّع في مسرح العمليات نتائج إستراتيجية كبيرة على نفوذ أميركا ومصالحها في المنطقة. صحيح بأنّ استعمال القاعدة الإيرانية قد اقتصر على مساعدة قوات الأسد والقوات الإيرانية في سوريا، ولكن يمكن توسيع هذه المهامات في المستقبل لتشمل مناطق أخرى. لم يستمر استعمال القاعدة في همدان سوى لأيام معدودة، ولكن أهميته تأتي في أنّه أوجد سابقة يمكن الارتكاز عليها لإطلاق عمليات روسية عبر الأراضي الإيرانية في المستقبل، وتجاوز الأمر بالتالي تحفظات الشعب الإيراني على أي خرق لمبدأ السيادة الوطنية، وخصوصًا اذا كان هذا الخرق روسيًا، وذلك نظرًا للإرث التاريخي الثقيل بين البلدين. وكان وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان قد انتقد الروس لإعلانهم المبكّر عن استعمال قاعدة همدان، ولكنّه أشار بوضوح إلى أنّ العملية قد توقّفت في الوقت الراهن مؤكدًا بأنّ «إيران ستعطي الاذن للروس لاستعمال هذه القاعدة عند الحاجة». وأكّـد دهقان مـع مسؤولين آخرين بأنّ الاذن باستعمال القاعدة قد اتخذ على مستوى أعلى سلطة قرار في مجلس الأمن القومي، والذي يعمل تحت الاشراف المباشر للمرشد علي خامنئي. وتقول بعض المصادر البرلمانية الرفيعة بأنّ الأمر باستعمال القاعدة قد حظي بموافقة علي خامنئي وتوقيعه وبأنّه «من المستحيل حصول مثل هذا الأمر من دون اذن القيادة العليا».

سيقود هذا التطوّر الجديد، في رأي بعض الخبراء الأميركيين إلى تشكيل محور عسكري روسي-إيراني، يهدّد التوازن في كامل منطقة الشرق الأوسط، كما يجعل إمكانية احتواء النفوذ الروسي مهمة شبه مستحيلة. في الواقع لا بد من الاعتراف بأنّ التعاون العسكري بين طهران وموسكو يتطوّر بسرعة، وذلك ضمن فكرة جامعة بينهما تتركز على ضرورة احتواء النفوذ الأميركي في المنطقة، وذلك من أجل خدمة المصالح الإستراتيجية الروسية في المنافسة الجارية مع أميركا، ومن أجل تحقيق طموحات إيران في أن يكون لها دور أساسي من حدود افغانستان إلى الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.

خلال ستة عقود كانت أميركا وحلفاؤها الغربيون يملكون الاذن حصريًا باستعمال قواعد جوية في دولة ما لضرب دولة أخرى في المنطقة. ونجحت روسيا مؤخرًا في امتلاك مثل هذا السماح من خلال التعاون مع إيران. وتتحدث مصادر عسكرية إيرانية عن التحضير لإجراء مناورات بحرية روسية-إيرانية مشتركة في منطقة الخليج، سيسمح خلالها للمراكب البحرية الروسية باستعمال الموانىء الإيرانية[4].

السؤال المطروح الآن كيف يمكن للولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية الخليجية أن تحول دون نشوء تحالف روسي-إيراني، يشكّل جبهة قوية ضد الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الخليج؟

تدرك الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي المخاطر التي يمكن أن تترتّب جراء تشكيل مثل هذا التحالف والتي تتركّز في اعادة التوازن على دول المنطقة، كما يفسح في المجال أمام روسيا لاستعادة نفوذها على دول الجوار بدءًا من دول البلطيق مرورًا بجورجيا وأوكرانيا وصولًا إلى منطقة الخليج ومصر وبلاد الشام، وتركيا.

يعتقد البعض بأنّ هناك العديد من العوائق التي تحول دون حصول تعاون عسكري واسع بين موسكو وطهران، ومن أبرز هذه العوائق المشاعر الوطنية الحادة لدى الإيرانيين، بالإضافة إلى مشاعر العداء والشك القائمة بين الروس والإيرانيين منذ عدة عقود[5]. لكن في المقابل هناك دوافع قوية لدى الطرفين للتعاون عسكريًا بشكل غير مسبوق إذ يجد الطرفان بأنّ لهما مصلحة مشتركة للدفاع عن نظام الأسد في سوريا، فالطائرات الروسية تقدّم الدعم الحيوي الكثيف للقوات الإيرانية والميليشيات المتحالفة معها العاملة على مختلف الجهات السورية منذ سنة كاملة. ولا يقتصر هذا التعاون والشراكة الروسية-الإيرانية على سوريـا، فهناك مصلحة فـي توسيع هذه الشراكة إلى أبعد من الحرب في سوريا وتهديد المصالح الأميركية في شرق البحر المتوسط والخليج. ويبدو بأنّ الهدف الإستراتيجي الجامع بينهما بات يتركّز على تفكيك نظام الأمن الاقليمي القائم بدعم أميركي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولا بدّ هنا من إدراك مفاعيل هذا التحالف والذي قد يسمح بوجود طائرات روسية في مطار إيراني، بالإضافة إلى نشر بطاريات صواريخ S300 وS400 المتطورة، بالتأثير على قدرات الولايات المتحدة وإسرائيل لضرب أهداف نووية داخل إيران في حال لم تلتزم هذه الأخيرة بتنفيذ بنود الاتفاق النووي الذي وقعته قبل أكثر من عام مع القوى الدولية.

سيكون من الصعب على الإدارة الأميركية المقبلة توجيه ضربة جوية لإيران في حال اخلالها ببنود الاتفاق النووي، وذلك انطلاقًا من إمكانية أن تؤدي إلى اشتباك أميركي-روسي، مع ما ينطوي ذلك من تهديد للسلم والاستقرار الدوليين. وتنطبق المخاطر والمحاذير نفسها إذا قررت الولايات المتحدة الرد عسكريًا على التهديدات الإيرانية لحلفائها في الخليج أو إذا تعرضت للسفن والقواعد الأميركية في مياه الخليج والدول المجاورة. إنّ تعهّد روسيا بإقامة مظلة واقية فوق إيران سيشجع هذه الأخيرة على الوقوف بقوة ضد الولايات المتحدة وحلفائها، وذلك اعتقادًا منها بأن الولايات المتحدة ستتحاشى بكل الوسائل الدخول في مواجهة عسكرية مع روسيا[6].

إنّ ما يشجع روسيا وإيران على تطوير التعاون القائم عسكريًا بينهما لتصبح شراكة إستراتيجية ينطلق من شعور القيادتين بحالة من الامتعاض من الإستراتيجية الأميركية الساعية دائمًا إلى مواجهة طموحاتهما وتعطيلها وسعيهما لتحقيق أهدافهما ونشر نفوذهما في منطقة الشرق الأوسط. هذا الشعور "المحبط" يدفعهما إلى مزيد من التعاون، ليس فقط في سوريا، بل على نطاق أوسع. وهذا ما يفسّر تعاونها في دول وسط آسيا والقوقاز منذ سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1991 [7]. وكان اللافت الزيارة التي جمعت الرئيسين الروسي والإيراني في عاصمة أذربيجان خلال صيف 2016، والتي شكّلت مؤشرًا على مدى تفاهمهما على تقاسم النفوذ في القوقاز [8]

وظهرت مؤشرات واقعية قبل التدخّل الروسي في سوريا في أيلول العام 2015 على أنّ الطرفين الإيراني والروسي يستعدان للدخول في مرحلة جديدة من التعاون العسكري في سوريا وشرق المتوسط، وهذا ما أشّرت إليه زيارة الجنرال قاسم سليماني وعلي أكبر ولايتي مستشار الرئيس علي خامنئي إلى موسكو واجتماعهما مع أعلى القيادات الروسية.

 

العمل على بناء شراكة عسكرية

في الوقت الذي كانت فيه محادثات فيينا بين إيران والمجموعة الدولية (٥+١) تقترب من نهايتها بالتوصل إلى الاتفاقية النووية المعروفة تحت اسم "خطة العمل المشتركة الشاملة" JCPOA، بدأ الروس والإيرانيون تحركًا سريعًا لاستثمار التنازلات التي قدمتها الدول الغربية، بما فيها رفع العقوبات الدولية وحظر بيع الأسلحة إلى إيران من أجل توثيق شراكتهما العسكرية والاقتصادية[9]. في الواقع وقبل انتهاء المفاوضات أرسل مرشد الثورة علي خامنئي مستشاره الأول للسياسة الخارجية علي أكبر ولايتي إلى موسكو لينقل رسالة إلى الرئيس فلاديمير بوتين تدعو إلى مزيد من التعاون الإستراتيجي بين البلدين[10]. كان رد بوتين على الرسالة بتأكيد نيته تزويد إيران نظام الصواريخ S300 المضاد للطائرات من أجل حماية منشآت إيران النووية ضد أي هجوم محتمل يمكن أن تشنّه الولايات المتحدة أو إسرائيل. وكانت روسيا قد رفضت تنفيذ عقد شراء هذه الصواريخ الذي كانت وقعته قبل ما يزيد على سبع سنوات مع إيران، ممّا دفع هذه الأخيرة لإقامة دعوى ضد روسيا لحثّها على تنفيذ العقد المدفوع ثمنه سلفًا. كما أكدّ بوتين لخامنئي نيّة روسيا لبناء عدد من المفاعلات النووية لانتاج الطاقة في إيران. وكان الكرملين قد أعلن عن رغبته بيع الحرس الثوري الإيراني أسلحة تقليدية متطورة.

بعد عشرة أيام من توقيع الاتفاقية النووية في فيينا، ركب الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، على متن طائرة "إيروفلوت" من طهران ليحط بعد أربع ساعات في مطار "شيريماتيافوا" الدولي في موسكو[11]. ذهب الجنرال سليماني إلى موسكو في رحلته هذه ولديه هدف خاص يتطلب عملًا مشتركًا فوريًا ومباشرًا، ويتلخص بالعمل معًا من أجل إنقاذ بشار الأسد الحليف الأقرب لكل من موسكو وطهران. كان الرئيس الأسد قد خسر خلال فصلي الشتاء والربيع للعام 2015 مناطق واسعة في شمال سوريا في محافظات حلب وإدلب واللاذقية، كما باتت العاصمة دمشق معزولة ومحاصرة، خصوصًا وأنّ الطرق كلّها التي تصلها بالمناطق الجنوبية وبالمناطق الساحلية باتت مقطوعة أو غير سالكة أو غير آمنة. صحيح بأنّ نظام بشار الأسد بقي قائمًا في معظم المدن الكبرى، ولكن مقدار سيطرته على الأرض قد تراجع إلى 25 بالمائة من مساحة سوريا. وهكذا بات النظام مكشوفًا، كما بات مهدّدًا بالسقوط قريبًا، وفق التقويم الذي حمله الجنرال سليماني إلى موسكو.

اجتمع سليماني في موسكو مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الاستخبارات العسكرية وبعض المسؤولين الكبار عن التسلّح في الكرملين، قدم سليماني مستعينًا بخريطة حملها معه، الوضع العسكري في سوريا، مركزًا على مسألتين: الأولى، المناطق التي جرى احتلالها من قبل المعارضة المسلحة وخصوصًا في الشمال السوري. والثانية، المناطق الحيوية التي يمكن للقوات الروسية والإيرانية استعمالها من أجل دعم النظام، واستعادة المناطق التي خسرها في معارك الشتاء والربيع الماضيين. وشدّد سليماني أمام المسؤولين الروس على أنّ المعارضة ما زالت منقسمة على نفسها، ضمن تنظيمات متنافسة ومتناحرة، كما شدّد على أنّ هذه المعارضة تتلّقى دعمًا محدودًا من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية.

شعر المسؤولون الروس بخطورة الوضع الذي يواجهه النظام السوري، ورأوا بأنّ الأمور ذاهبة نحو الأسوأ، وبأنّ هناك خطرًا حقيقيًا من إمكانية سقوط النظام. عمل الجنرال سليماني جاهدًا لاقناع القيادة الروسية بأنّ هناك امكانية لاستعادة المبادرة الميدانية، مؤكدًا قناعته بأنّهم لم يخسروا بعد الأوراق كلها، وبأنّ الأمر يتطلب تحركًا سريعًا وفعالًا.[12]

نجح سليماني في رحلته إلى موسكو في اقناع الروس بأنّ مسرح العمليات السوري مهيأ لتدخلهم العسكري في أيلول 2015. وترافقت عمليات القصف الروسي ضد المعارضة السورية مع عمليات عسكرية على الأرض، قادها الجنرال سليماني وبمشاركة المجندين القادمين من أفغانستان والعراق واليمن. وكان الحرس الثوري الإيراني قد أرسل عددًا من قواته وضباطه لقيادة العمليات على الأرض وتنسيقها. وقد فتحت هذه العمليات الباب أمام النظام لإعادة تنظيم قواته والبدء بشن هجمات منسقة ومتتالية من أجل استعادة عدد من المواقع التي خسرها أمام المعارضة.

خيَّبت العملية العسكرية الروسية الإيرانية في سوريا كل الآمال التي راودت الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كيري بأنّ توقيع الاتفاق النووي سيفتح الطريق أمام تعاون مثمر مع إيران، وبأنّ تعاون الولايات المتحدة معها سيؤدي إلى حلّ العديد من الأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. وكان البيت الأبيض قد أبلغ الكونغرس قبيل التوقيع على اتفاقية فيينا، بأنّه يتوقّع أن تغيّر إيران سلوكيتها، وأنّ الأمور قد تسمح ببذل جهد مشترك من قبل القوى الدولية على غرار المحادثات النووية من أجل العمل مع إيران لحل أزمتي سوريا واليمن. بنى الأميركيون والأوروبيون هذه الفرضية، التي تقول بتغيير سلوكية النظام الإيراني انطلاقًا من اعتقادهم بأنّ المرشد خامنئي قد قبل بنجاح حسن روحاني في لانتخابات الرئاسية من أجل رفع العقوبات عن إيران والحصول على استثمارات دولية. وكان الاعتقاد السائد بأنّ روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف من المعتدلين الذين يمكن الثقة بهم. لكن يبدو بأنّهم لم يدركوا بأنّ خامنئي لن يسمح للمعتدلين روحاني وظريف بعقد صلح حقيقي مع الغرب. ولم تنجح رسائل الرئيس أوباما إلى المرشد خامنئي، بما فيها دعوته للتعاون مع إيران في الحرب على الدولة الإسلامية، والتي تعتبر عدوًا مشتركًا للبلدين. كما لم يتعهّد المرشد خامنئي بأي شيء في ردّه على عرض أوباما واكتفى بالقول بأنّ بلاده ستكون جاهزة لتحسين العلاقات مع واشنطن، فقط إذا ما أوقفت "سياساتها العدائية" تجاه طهران.

ويبدو بأنّ البيت الأبيض ووزارة الخارجية استبعدا الرسائل التي كانت تصل إلى واشنطن من طهران. فالمرشد الأعلى علي خامنئي كان قد كرّر أمام معاونيه وفي الإعلام بأنّ الاتفاق النووي لن يحدث أي تغيير في سياسات إيران الاقليمية، وبأنّه لن يكون هناك أي نقاش مع واشنطن في كل ما يعود لدعم إيران لحزب اللـه، ولنظام بشار الأسد ولحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين. وأكّد المرشد خامنئي على ذلك بعد أسابيع من توقيع الاتفاق النووي بقوله "إنّ المفاوضات مع الولايات المتحدة ستفتح الأبواب أمام تفاهمات جديدة على الصعيد الاقتصادي والثقافي والسياسي والأمني. لقد حاولوا في أثناء المفاوضات النووية أن يضروا بمصالحنا الوطنية"[13]. في المقابل اعتقد معارضو الرئيس أوباما بأنّ الروس والإيرانيين قد تآمروا للتلاعب على المفاوضين الأميركيين في المراحل الأخيرة للمفاوضات، واعتبر السيناتور فيتش ماكونيل زعيم الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ بأنّ "سبب نجاح إيران في المفاوضات قد جاء نتيجة دعم الروس لهم للحصول على صفقة تضر بالمصالح الأميركية". وأضاف "هذا ما يؤشر إليه سفر قائد فيلق القدس إلى موسكو بعد أيامٍ من توقيع الاتفاقية"[14].

في الوقت الذي كانت فيه المفاوضات حول المسألة النووية تصل إلى خواتيمها، رفع المرشد علي خامنئي والحرس الثوري من تحدياتهم للقرارات الدولية الخاصة بتطوير الصواريخ الباليستية، حيث أجروا تجارب على عدة أنواع من الصواريخ، وكان الأميركيون قد رأوا بإنّ الاستمرار في هذه التجارب يؤشر إلى عدم تخلّي إيران عن النية للحصول على سلاح نووي على الرغم من خفض إنتاج اليورانيوم المخصَب، وذلك انطلاقًا من عدم حاجتهم إلى هذا النوع من الصواريخ في حال عدم حيازتهم لقنبلة نووية.

أثارت الشراكة العسكرية الروسية-الإيرانية في سوريا المخاوف في الدول العربية وإسرائيل بأنّ إيران تنوي استعمال إنهاء عزلتها الاقتصادية وتحرير أموالها المجمّدة، والتي تقدّر بأكثر من مئة مليار دولار، لتوسيع دورها ونفوذها في المنطقة. وتخوّفت اسرائيل من أن يلجأ الحرس الثوري الإيراني داخل سوريا إلى شن هجمات مشتركة مع حزب اللـه ضد المستعمرات الإسرائيلية في هضبة الجولان المحتلة. في هذه الفترة أحبطت البحرية الأميركية بعض المحاولات الإيرانية لإيصال كميات من الأسلحة إلى ميليشيات الحوثيين في اليمن، بعد أن أسقط هؤلاء الحكومة الشرعية في صنعاء برئاسة عبد ربه منصور هادي، وهذا ما دفع المملكة العربية السعودية ومعها الدول الخليجية إلى شن حرب جوية على الثوار الحوثيين وشريكهم الرئيس السابق علي عبداللـه صالح.

وقد شكّل التدخّل الإيراني في سوريا واليمن في رأي المسؤولين السعوديين هجمة إيرانية لاكتساب المزيد من النفوذ، وسهّل لهم الطريق إلى ذلك الاحتلال الأميركي للعراق ما بين عامي 2003 و2011، بالإضافة إلى الاتفاقية النووية التي وقعت في فيينا. وصرّح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عن ذلك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة بقوله «إيران هي قوة احتلال في سوريا وإنّنا سنبحث عن حل عسكري إذا لم يتخل الرئيس الأسد عن السلطة»[15].

سارت الأمور في سوريا واليمن مع تدخل إيران في الأزمتين بعكس ما كانت توقعته الإدارة الأميركية بأنّ الاتفاق النووي سيدفع إيران إلى تغيير سلوكها تجاه المنطقة. وهكذا باتت المنطقة علىدرجة عالية من عدم الاستقرار. لقد بات من المتوقع أن تزيد الدول العربية الخليجية، وخصوصًا السعودية وقطر، دعمها لفصائل المعارضة السورية لمواجهة الوجود العسكري الروسي-الإيراني في سوريا. واستفادت الدولة الإسلامية من الشراكة العسكرية الروسية-الإيرانية من أجل كسب المزيد من التأييد وجذب المزيد من المتطوعين الجهاديين إلى صفوفها.

أثارت هذه التطوّرات الدراماتيكية مخاوف الدول الأوروبية من تدفّق موجات كبيرة من اللاجئين السوريين والعراقيين، وأن تلجأ الدولة الإسلامية إلى إرسال مزيد من الارهابيين إلى أوروبا من خلال تغلغلهم بين اللاجئين. واعتبر بعض المحللين بأنّ الشرق الأوسط بات يواجه حالة من الصراعات والفوضى، وبأنّ العديد من دوله لم تعد قادرة على ممارسة سلطتها لفرض الأمن والاستقرار[16].

 

الموقف الأميركي من الواقع الجديد

السؤال المطروح الآن: ما هو موقف الولايات المتحدة من إيران بعد أكثر من سنة على توقيع الاتفاق النووي، وفي ظل استمرار إيران في حروبها الاقليمية منذ ما يزيد على عقد ونصف؟ وهل يمكن للنظام السياسي الأميركي أن يسمح بحدوث تقارب حقيقي مع إيران في المستقبل المنظور؟

من المعروف أنّ قيادات الحزب الديمقراطي ومن بينهم هيلاري كلينتون قد أيدت الاتفاق النووي، ولكن مرشّحة الحزب الديمقراطي للرئاسة الأميركية قالت بأنّها ستكون جاهزة لمواجهة النشاطات الإيرانية الاقليمية في حال انتخابها كرئيسة للولايات المتحدة. وذهبت كلينتون إلى أبعد من ذلك للقول بأنّها ستأمر بضرب المنشآت النووية الإيرانية، إذا وجدت أنّ إيران تعتمد عمليات الغش في تطبيقها للاتفاقية النووية، كل هذا أصبح في الماضي بعد خسارتها الانتخابات الرئاسية، ويعبّر قادة الحزب الجمهوري عن مواقف أكثر تشددًا، وهم يهدّدون بإلغاء الاتفاقية برمتها في المستقبل.

في هذا الوقت ما زال الرئيس أوباما يعتبر بأنّ الاتفاقية النووية مع إيران تشكّل عنوان النجاح لفترة رئاسته، وبأنّها ما زالت الانجاز الأكبر الذي حقّقه في سياسته الدولية. ويعتبر أوباما بأنّ مكانته في التاريخ سترتبط إلى حدّ كبير بامتلاك أو عدم امتلاك إيران للسلاح النووي في العقدين المقبلين[17].

احتلّت حروب إيران الاقليمية مكانًا بارزًا في سياسة الولايات المتحدة الخارجية منذ عقد ونصف، لا بل أرهقتها وذلك لأنّها لم تنجح خلال كل هذه الفترة من إيجاد وسيلة ناجعة للدخول في أي حوار سياسي مثمر مع طهران، باستثناء المفاوضات الدولية لحل المسألة النووية. وكان الرئيس أوباما قد اعتقد بأنّ نجاح المفاوضات النووية سيفتح الباب لوصول القيادات المعتدلة في إيران إلى السلطة، وبأنّ ذلك سيؤدي إلى قيام حوار سياسي بنّاء مع الغرب. ويعتبر أوباما بأنّ الاتفاق النووي قد جنب الولايات المتحدة الدخول في مغامرة حرب جديدة في الشرق الأوسط. لكن يبدو بأنّ مصلحة إيران الإقليمية ووجودها في مسارح عمليات عديدة ستحول دون تحقيق أي تحسّن في علاقات إيران مع الغرب.

تسبّبت مصالح إيران الإقليمية في تأجيج الصراع بينها وبين حلفاء أميركا في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا مع المملكة العربية السعودية، إضافة إلى أنّ وتيرة هذا الصراع مرشّحة للارتفاع مع تفاقم الصراع في اليمن وسوريا. إنّ الدور الروسي-الإيراني المساعد للنظام لاستعادة مدينة حلب يدفع الصراع السعودي-الإيراني نحو مزيد من التعقيدات التي قد تجبر الولايات المتحدة على أن تكون طرفًا في المواجهة الراهنة في الشمال السوري.

كانت شكوك القيادات الخليجية من أنّ"انحراف" السياسة الأميركية إلى جانب إيران طيلة فترة المفاوضات النووية ستؤدي إلى اخلال كبير في موازين القوى الإقليمية، وستدفع إيران إلى فتح جبهات جديدة للمواجهة معهم، كما أنّها ستلهب الجبهات المفتوحة منذ سنوات. وعبّر هؤلاء القادة الخليجيون بصراحة في قمة كامب دايفيد وفي قمة الرياض للرئيس أوباما بأنّ سياسة واشنطن قد ضيّقت هامش الصبر والانتظار لديهم، وبأنّه بات لزامًا عليهم مواجهة سياسات إيران التوسعية في المنطقة كلّها بوسائلهم الخاصة[18]. وكانت المواجهة الأساسية في سوريا واليمن، حيث أصبح التدخّل الإيراني بالشراكة مع روسيا في سوريا في دعم نظام الرئيس الأسد من القوة بمكان، لإحداث تبدّل كبير في موازين القوى على الأرض. ويبدو بأنّ المخاطر المترتبة الآن على إمكانية إعادة احتلال حلب بمساعدة روسيا وإيران ستترجم حتمًا بتوسيع المواجهة الإيرانية مع خصومها الخليجيين إلىمناطق أخرى وإلى المجتمعات الخليجية نفسها، وبالتالي فتح فصل جديد لعدم الاستقرار في كل أرجاء منطقة الشرق الأوسط.

يدفع تاريخ العلاقات الأميركية-الإيرانية منذ قيام الثورة الإسلامية في العام 1979 أجواء العداء والشك المستمرة كلها، إلى التساؤل عن مدى قدرة الإدارة الجديدة على تخفيف المواجهة بين البلدين، والتي بدأت تتخذ أشكالًا جديدة. في رأينا، أجواء العداء المستمرة منذ ثلاثة عقود ونصف، مرشحة لتشهد المزيد من التصعيد، ويؤشر على ذلك مراقبة الجيش الإيراني للسفن الأميركية في مياه الخليج، وقيام السلطات الإيرانية بتوقيف مواطنين أميركيين واتهامهم بالتجسس لصالح واشنطن. واللافت هو أنّ أشكال الحرب القائمة بين واشنطن وطهران قد توسعت إلى المجال الإلكتروني وإلى الأسواق المالية، بعيدًا من مسارح العمليات التقليدية. ويمكن أن يضاف إليها "حرب العقوبات" المفروضة على إيران، وسياسات إيران النفطية، والتي ستزيد المواجهات الحاصلة تعقيدًا.

يبدو أنّ النظام الإيراني غير مستعد لفتح حوار مع الولايات المتحدة يؤدي إلى تحسين العلاقات بين البلدين، فالحرس الثوري مستمر في تطوير صواريخ باليستية، كما أنّ القيادات المحافظة وعلى رأسها المرشد خامنئي مستمرة في إعلان مشاعر العداء لأميركا. صحيح بأنّ الضوابط التي وضعت على برنامج إيران النووي قد خففت مخاوف إسرائيل والدول العربية من امتلاك إيران للقنبلة النووية، لكن تستمر المخاطر من إمكانية حدوث حرب اقليمية واسعة بين القوى الرئيسة في المنطقة. في حال اندلاع حرب اقليمية كهذه فإنّ الولايات المتحدة ستجد نفسها مجبرة على أن تكون طرفًا أساسيًا فيها.

 

سوريا "نقطة المركز" للشراكة

وجدت روسيا وإيران أنّ سوريا التي تواجه أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ اندلاع الأحداث عام 2011 تشكّل الأرض المشتركة المناسبة لإرساء قاعدة من التعاون السياسي والعسكري، مع امكانية نقل هذا التعاون إلى حالة شراكة، يمكن الاستفادة منها من أجل توسيع نفوذهما في المنطقة وترسيخها، على حساب الولايات المتحدة وشركائها الغربيين. جاء التدخّل الروسي في سوريا في الوقت الذي كانت فيه إيران وحليفها الرئيس بشار الأسد يواجهان أوضاعًا عسكرية صعبة بعد سقوط إدلب وجسر الشغور، وتمدد قوات المعارضة السورية باتجاه اللاذقية غربًا وحماه جنوبًا، وبعدما أصبحت اللاذقية وقلب "المنطقة العلوية" مهدّدة بالسقوط. شعرت إيران بأنّ التدخّل الروسي الجوي سيؤدي إلى قلب موازين القوى، بحيث يجري وقف هجوم الثوار على الجبهات الحساسة وأبرزها جبهة اللاذقية في مرحلة أولية، وأن يتبع ذلك تجميع قوى النظام و"القوى الحليفة" المساندة له على الأرض تحضيرًا للقيام بهجمات مركزة على مختلف الجبهات بهدف استعادة كل المناطق الحساسة التي انسحب منها النظام، ومن أبرزها حلب وإدلب وتدمر وبعض المدن في ريف دمشق. ورأت إيران أيضًا بأنّ هذا التعاون مع روسيا، ولأوّل مرة منذ سقوط حكم الشاه، سيعزّز من موقع إيران الإقليمي، وسيزيد من ثقتها بنفسها، ويدعم سياستها الخارجية، خصوصًا وأنّه سيهدّد المصالح الأميركية في المنطقة[19].

في المقابل شعرت روسيا أنّ بامكانها استغلال الأخطاء التي ارتكبتها الدول الغربية في العراق وليبيا، والاستفادة من حالة الفوضى التي تعم منطقة الشرق الأوسط بعد اندلاع أحداث الربيع العربي، والوضع المتشظي في سوريا من أجل التدخل عسكريًا وانتزاع المبادرة بالتالي من أيدي الأميركيين وحلفائهم الاقليميين والأوروبيين. وكان بوتين في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول 2015 قد عبّر عن هذا التوجه بقوله «بدل الاستفادة من أخطاء الآخرين يجنح البعض إلى تكرار هذه الأخطاء من خلال اللجوء إلى تصدير الثورات، وهذه الثورات "الديمقراطية" هي المثال الجديد. أنظروا إلى الوضع في الشرق الأوسط .... بدل التقدم والديمقراطية يحل العنف والفقر، والتخبط الاجتماعي، وانتهاك حقوق الانسان، بما فيها الحق في الحياة»[20].

يستنتج من كل الدراسات والتحليلات التي وضعت عن التدخل الروسي في سوريا، بأنّ التدخّل العسكري قد جاء لانقاذ الدولة الأخيرة الصديقة لروسيا في المنطقة ومنعها من السقوط، والحفاظ على آخر موطىء قدم لها في شرق المتوسط. من وجهة النظر الروسية كان من الضروري منع إسقاط نظام بشار الأسد واستبداله بنظام موالٍ للغرب، وبالتالي اعطاء دروس للولايات المتحدة حول الطريق الأنجع للتعامل مع الأزمة السورية، وذلك من خلال التحالف مع رجل النظام القوي بدل الانسياق وراء شعارات الثوار المنقسمين على أنفسهم.

رأى بوتين بأنّ إيران من خلال تجربتها السابقة في قمع "الثورة الخضراء العام 2009 تلك التجربة، التي تؤهلها لتكون حليفًا له في سوريا، كما أنّ قوّة الحكم الإيراني في الداخل تجعله حليفًا راسخًا، يمكن الاستفادة منه للتمدّد نحو دول إقليمية أخرى، وأبرزها العراق. كانت إيران أيضًا الدولة الإقليمية الوحيدة التي قرّرت الانحياز إلى جانب بشار الأسد فيما ذهبت القوى الأخرى كتركيا والمملكة العربية السعودية باتجاه دعم الثورة، بينما غرق كل من العراق ومصر في مشاكلهما الأمنية والسياسية المعقدة.

وهكذا قدّمت الأزمة السورية الفرصة لروسيا وإيران لإقامة شراكة جديدة، بحيث يختبر كل منهما الآخر في عملية موحدة للدفاع عن مصالحهما الحيوية في سوريا، في وقت كانت فيه حكومة دمشق تواجه هزيمة شبه حتمية. ولكن، بالرغم من تأسيسهما إستراتيجيتهما لتحالف عسكري قوي وفاعل، فإنّ إستراتيجيتها في سوريا ما زالت متباعدة بسبب الخلافات حول مجموعة من القضايا الأساسية[21].

 

نقاط التوافق لتعزيز الشراكة

قبل البحث عن المسائل الخلافية بين موسكو وطهران، فإنّه لا بد أن نورد النقاط الأساسية التي جمعت بينهما من أجل إقامة هذا التعاون العسكري وأبرزها:

1- يشكّل الحفاظ على نظام بشار الأسد الهدف الرئيس الذي يجمع بين قطبي التعاون في الوقت الراهن، حيث يرى الطرفان بأنّ بقاءه يؤمن لهما مصالحهما في سوريا. ويسعى الطرفان الآن من خلال عملهما العسكري المشترك إلى تقوية وضع النظام واستعادته لبعض المدن والمواقع الحساسة قبل الدخول في أي مفاوضات فعلية لإيجاد حل سياسي للأزمة. وتزداد أهمية الإبقاء على نظام بشار الأسد بالنسبة لإيران انطلاقًا من ترابط الوضعين السوري واللبناني، وتأثير ذلك على مواجهة التهديد الإسرائيلي للبنان، وردع إسرائيل عن القيام بأي عمل عسكري ضد إيران من خلال منظومة الصواريخ القوية التي يملكها حزب اللـه في لبنان[22].

أمّا بالنسبة لروسيا فإنّ بقاء سوريا كحليف يشكل قيمة إستراتيجية مهمة ولذلك فإنّ موسكو تعلق أهمية خاصة على الحفاظ على النظام السوري. ويمكن أيضًا لموسكو أن تستعمل الآن تدخّلها العسكري في سوريا من أجل موازنة الضغوط الي يمارسها عليها الغرب بعد احتلالها لشبه جزيرة القرم[23]. وتريد روسيا أيضًا أن تثبت للولايات المتحدة فداحة الأخطاء التي ارتكبتها في العراق وليبيا من خلال عملها على إسقاط النظامين، والذي فتح الباب أمام حالة من الفوضى العارمة.

2- راهن الغرب وحلفاؤه الاقليميون ومعهم فصائل الثورة السورية على إمكانية حصول خلاف بين طهران وموسكو حول مصير بشار الأسد، لكن يبدو بأنّ هذه المراهنة لم تكن في محلّها، على الأقل في الوقت الراهن. ويرى الطرفان الروسي والإيراني أن بقاء الأسد يشكل ضرورة قصوى للحفاظ على الدولة السورية وعلى الحفاظ على مصالحهما في سوريا. وكان علي أكبر ولايتي المستشار السياسي للمرشد علي خامنئي قد صرّح بعد خمسة اجتماعات مع بوتين بأنّه «لم يشعر بأنّ لديه (أي بوتين) أي تردّد في دعمه للحكومة الشرعية السورية»[24]. ويصرّ الطرفان الإيراني والروسي على تقوية موقع الرئيس الأسد، وبأنّ الشعب السوري وحده يقرر من يحكمه في المستقبل.

3- على الصعيد العسكري فإنّ إيران والرئيس بشار الأسد قد عملا ما بوسعهما لاقناع بوتين بالتدخل عسكريًا، من أجل مساعدة قوات النظام. وبالفعل فقد نجح الحليفان من خلال التعاون العملاني بين قواتهما الجوية والبرية في احتواء هجوم الفصائل المسلحة ومن ثم البدء بهجوم معاكس لاسترجاع ما خسره النظام في السابق. وكان النجاح الأبرز في تطويق حلب، والبدء بهجوم واسع لاستعادتها. فالمعركة في حلب تعتبر من الأولويات، وهي ما زالت في بداياتها. ولكن يبدو بوضوح بأنّ الكفة باتت راجحة لصالح النظام وشركائه الروس والإيرانيين.

4- كان التطور الأبرز في التحالف العسكري الروسي-الإيراني، إعلان موسكو في آب الماضي عن شن القاذفات الروسية تي. يو 22M هجومًا في سوريا انطلاقًا من قاعدة جوية في غرب إيران. شكّل هذا الاعلان دليلًا على التعاون الفعلي بين الطرفين. [25].

5- يسعى الطرفان إلى جانب دعمهما لنظام بشار الأسد وتمكينه من استعادة ما خسره على الأرض، إلى استهداف المنظمات الإرهابية، وعلى رأسها الدولة الإسلامية وجبهة النصرة. وتحاول موسكو اقناع العالم بأنّ هدفها الأساسي في سوريا هو محاربة الإرهاب ولكن أكثرية الأهداف التي قصفتها كانت تابعة لفصائل الثورة المعتدلة. وهنا لا بدّ من الاشارة إلى أن موسكو وطهران يعتمدان تصنيفًا خاصًا للمنظمات الإرهابية بحيث أنّه يشمل معظم فصائل الثورة بما في ذلك بعض الفصائل التابعة للجيش الحر.

 

المسائل الخلافية بين روسيا وإيران

على الرغم من وجود مصالح مشتركة في سوريا وخصوصًا موضوع دعم النظام السوري للاستمرار فان هناك العديد من المسائل التي تقف أمام تطوير تعاونهما على المستوى الاستراتيجي، ومن أبرز هذه المسائل:

أولًا: يبدو بأن هناك اختلافًا أساسيًا حول مستقبل الرئيس بشار الأسد في السلطة، حيث يشكل بقاؤه بالنسبة لإيران هدفًا أساسيًا، سواء للمصالح الإيرانية داخل سوريا أو حاجة إيران لاستعمال سوريا كممر إلزامي باتجاه لبنان من أجل الاستمرار في تسليح حزب اللـه ودعمه[26]. بينما ترى روسيا أهمية لبقاء الدولة السورية ومؤسساتها الشرعية، من دون أن يعني ذلك بقاء الأسد لفترة طويلة على رأس النظام. وكانت موسكو قد ألمحت إلى وجود خارطة طريق لديها لذهاب الأسد من السلطة واحلال حكومة مكانه تحافظ على مؤسسات الدولة وتراعي المصالح الروسية.

ثانيًا: تبحث إيران عن انتصار عسكري في سوريا، وتراودها هواجس تجاه الديبلوماسية الروسية الساعية إلى مفاوضات مع الولايات المتحدة من أجل البحث عن تسوية سلمية في سوريا، قبل التأكد من إنجازات عسكرية تقوي موقع الرئيس الأسد في المفاوضات، من أجل أن يبقى سقف الحل السياسي تشكيل حكومة وطنية يشارك فيها النظام والمعارضة، مع بقاء الأسد على رأس الدولة.

أثار إعلان موسكو سحب بعض طائراتها من سوريا مخاوف لدى طهران من أن موسكو قد تلجأ للانسحاب من سوريا بالكامل اذا ما توصّلت لاتفاقات مع الغرب تراعي مصالحها في سوريا وفي أوكرانيا وتحل الخلافات الإستراتيجية الأخرى، بما فيها الدرع الصاروخية. ويبدو بأنّ روسيا قد أرادت إبلاغ رسالة للأسد ولإيران بأنّ مشاركتها في الحرب ليست مطلقة، وهي مشروطة وتفترض قبول الأسد وإيران بدخولها في مفاوضات مع الولايات المتحدة للبحث عن مخارج للأزمة، مع كل ما يترتّب على ذلك من التزامات من قبل الأسد وطهران.

ثالثًا: بدت إيران مربكة من توصل الروس مع الأميركيين إلى اتفاق لوقف العمليات القتالية في شباط الماضي، واعتقدت إيران بأنّ الاتفاقية تفتح الباب أمام فصائل المعارضة لتنظيم صفوفها وتدفّق مزيد من الأسلحة والذخائر عليها من القوى الإقليمية الداعمة لها[27]. وتساءلت إيران عن مدى واقعية القرار الروسي وعقلانيته في قبول هذا الاتفاق، والذي لم يؤدِ إلى أي تقدّم في مفاوضات جنيف. وتعرّضت قوات الحرس الثوري والقوى الداعمة لها لهزيمة عسكرية مؤلمة في خان طومان، جراء هجوم شنته جبهة النصرة حاصرت خلاله تلك المنطقة. واتّهم مسؤول إيراني روسيا بأنّها "شريك في الهجوم" بعدما امتنعت عن تقديم أي دعم جوي في أثناء المعركة. تكرّرت عملية حجب الدعم الجوي عن القوات الإيرانية والسورية في جبهات أخرى، وهذا ما دفع إيران إلى اعتبار أن موسكو تريد افهام طهران ودمشق بضرورة التجاوب مع خياراتها السياسية. لكن، عادت موسكو وقدمت المزيد من الدعم الجوي للحرس الثوري في معركة حلب، وذلك كبادرة حسن نيّة، ولاقناع طهران بأنّهما ما زالا شريكين في الحرب.

رابعًا: يشكل الموقف من الأكراد السوريين مسألة خلافية كبيرة بين موسكو وطهران. وتراقب إيران عن كثب العلاقات المتنامية بين الأكراد وكل من روسيا والولايات المتحدة. صحيح أنّ إيران قد تعاملت مع وحدات حماية الشعب الكردي من أجل دعم نظام الأسد، ولكنّها لا ترتاح للمشروع الكردي في الشمال السوري، وكان ذلك واضحًا من خلال موقفها الرافض لإعلان فدرالية "روج أفا" في شمال سوريا. سبق أن تحدّثت روسيا عن إقامة نظام فيدرالي في سوريا، ولكنّها كانت تعني إقامة نظام من اللامركزية الإدارية مع اعطاء السلطات المحلية قدرًا كبيرًا من السلطة[28]. وتدرك موسكو مدى حساسية كل من طهران وبغداد على هذا الطرح.

خامسًا: المسألة الخلافية الكبيرة تتركّز على قيام إيران بتنظيم عدة ميليشيات داعمة للنظام السوري وتدريبها وتسليحها، وبعضها أتى إلى سوريا تحت قيادة الحرس الثوري. في المقابل ترى موسكو ضرورة الحفاظ على الحكومة السورية المركزية، من خلال دعم الجيش السوري وتسليحه، وذلك يشكّل ضمانة لوحدة الدولة وعدم الوقوع في حالة من الفوضى على غرار ما حدث في العراق وليبيا.

سادسًا: يدفع العداء الإيراني المعلن لدولة اسرائيل روسيا إلى اعتماد سياسة متوازنة بين الدولتين. أنّ على روسيا أن تتجاوب مع المطلب الاسرائيلي لعدم بيع إيران أي سلاح يمكن أن تحوّله إيران إلى حزب اللـه في لبنان. وتطالب إسرائيل روسيا بأن لا تؤمن مظلة جوية للحرس الثوري الإيراني أو القوى المتحالفة معه وخصوصًا حزب اللـه، إذا استفادت إيران من وجود مثل مظلة جوية كهذه فإنّ هذا سيجعل من الأرض السورية قاعدة لشن هجمات ضد اسرائيل.

سابعًا: تحرص روسيا على أن لا تؤثر الشراكة القائمة مع إيران سلبًا على علاقاتها مع المملكة العربية السعودية. وتجهد موسكو أن توحي للرياض بأن وجودها العسكري في سوريا يضعف النفوذ الإيراني في سوريا. وذهب بوتين إلى أبعد من ذلك من أجل طمأنة السعودية وتأكيد أهمية العلاقات معها، حيث أيّد السياسة السعودية في تعاطيها مع أزمتي البحرين واليمن.

لكن، وعلى الرغم من وجود هذه المسائل الخلافية، فإنّ كلًّا من موسكو وطهران تعملان معًا لتجاوز كل العقبات والصعوبات التي تعترض تعاونهما في سوريا من أجل الحفاظ على الشراكة القائمة وعلى مصالحهما المشتركة، وفي طليعتها الحفاظ على النظام السوري بقيادة بشار الأسد.

 

الأبعاد جيو - إستراتيجية للشراكة الروسية - الإيرانية

ترتدي الشراكة الروسية-الإيرانية طابعًا أكثر أهمية مع تصوّر إمكانية وجود قواعد جوية روسية على الأراضي الإيرانية. سيؤدي حدوث توسع عسكري روسي كهذا إلى زيادة النفوذ الروسي في الخليج ومضيق هرمز، والاوقيانوس الهندي بدرجة لم يحدث لها مثيل في التاريخ، كما سيؤدي إلى تهديد خطوط المواصلات البحرية في منطقة خضعت لعقود عديدة للسيطرة الأميركية من دون منازع. سيكون من نتائج نشر قاذفات روسية إستراتيجية في قواعد جوية إيرانية إلى تغييرات جيو-استراتيجية في المنطقة، وسيؤثر من دون شك على حرية تحرك الاسطول الأميركي في الخليج وفي المحيط الهندي[29]. كما سيؤثر على سياسة القوى الاقليمية الكبرى وخططها، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.

وما يزيد من هواجس القيادة السعودية أنّ احتمال حصول مثل هذا الأمر يأتي في أعقاب الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، وفي الوقت الذي تتحالف فيه إيران (الخصم المنافس للمملكة) مـع روسيا. ترى الرياض الآن بأنّها ستواجه في حال حصول وجود عسكري روسي في إيران تهديدًا روسيًا مباشرًا لأمنها الوطني ولمصالحها الحيوية.

سيدفع وجود مثل هذا التحدي الإستراتيجي المملكة العربية السعودية إلى مراجعة سياستها تجاه موسكو، ويدفعها بالتالي إلى تراجع عن بعض المواقف الأساسية في سياستها الخليجية والعربية، وبما يخدم الأهداف التي يسعى بوتين إلى تحقيقها، ومنها إمكانية التراجع عن مطلب تخلّي بشار الأسد الفوري عن السلطة، أو استثمار مليارات الدولارات في مشاريع داخل روسيا، أو وضع سقف لانتاج النفط السعودي من أجل إحداث صدمة في سوق الطاقة تؤدي إلى رفع سعر برميل النفط، والذي سيؤدي حتمًا إلى زيادة العائدات الروسية من صادرات الطاقة.

وقد عبّر علي لاريجاني رئيس البرلمان الإيراني، بعد استعمال الطائرات الروسية للقاعدة الإيرانية لشن غارة على سوريا عن رؤيته للمكاسب التي تحقّقها إيران على المستوى جيو-استراتيجي بقوله «إنّنا مسرورون بأن نرى أن روسيا قد بدأت تهتم بالقضية اليمنية أيضًا»[30]. وبعد أيام قليلة من تصريح لاريجاني صرّح الرئيس اليمني السابق علي عبداللـه صالح المتحالف مع الحوثيين ومع إيران، في مقابلة مع التلفزيون الروسي بأنّ «اليمن يرحب بأي وجود عسكري روسي على أرضه ليشارك في الحرب على الإرهاب». وأضاف صالح «نمد يدنا إلى روسيا ونقدم لها التسهيلات الممكنة في مطاراتنا وموانئنا»[31].

يبدو بأنّ بوتين يتطلع إلى وضع العراق على لائحة أهدافه بعد سوريا، وأنّ الاتفاق الرباعي الذي انضم اليه من أجل تبادل المعلومات مع سوريا وإيران والعراق يشكّل دليلًا واضحًا بأنّ الأمر يتعدى الحرب على الدولة الإسلامية إلى إعادة بناء العلاقات مع العراق، وتزويده بمختلف أنواع الأسلحة الروسية، ومن بينها طائرات مقاتلة وطوافات مسلحة.

سمحت الحكومة العراقية للطائرات الروسية لعبور الأجواء العراقية سواء لتنفيذ عمليات قتالية أو في مهمات لوجيستية. ولم تعترض الحكومة العراقية على عبور الصواريخ الجوّالة التي أطلقتها البحرية الروسية من بحر قزوين فوق أراضيها باتجاه سوريا، من هنا يبدو من تنامي النفوذ الروسي مع العراق، وبتشجيع إيراني بأنّه لن يكون مستغربًا بأن يسمح العراق في المستقبل باستعمال الطيران الروسي للقواعد العراقية من أجل تنفيذ عملياته داخل سوريا وشرقي المتوسط. ماذا سيكون رد فعل الولايات المتحدة على إعطاء الطيران الروسي مثل هذه التسهيلات؟

من المنتظر أن تسجّل واشنطن اعتراضها لدى الحكومة العراقية، ولكنّها ستتعايش في نهاية المطاف مع الواقع، على غرار قبولها بالدور الكبير الذي تقوم به الميليشيات الشيعية العراقية المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي.

لا يمكن أيضًا إغفال الهواجس الأميركية من قيام تعاون روسي-تركي في المستقبل، على حساب العلاقات مع أميركا، خصوصًا بعد اهتزاز أجواء الثقة بين الحليفين في أعقاب محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016. وكان الرئيس رجب طيب أردوغان وبعض المسؤولين الآخرين قد شككوا بالموقف الأميركي من الانقلاب، وخصوصًا على أثر تلكؤ واشنطن في تنفيذ مطلبهم في استرداد المعارض الإسلامي فتح اللـه غولن، الذي يتهمونه بأنّه وراء محاولة الانقلاب الفاشل.

وكان أردوغان قد أظهر رغبته الشديدة في إعداد الأرض لعقد صلح مع بوتين، وذلك من خلال تقديم اعتذار علني على إسقاط طائرة السوخوي الروسية العام 2015 فوق الحدود التركية-السورية. وجاءت رسالة الدعم التي أرسلها بوتين إلى أردوغان لإدانة العملية الانقلابية كتعبير قوي على الرغبة في إصلاح العلاقات بين البلدين. وكانت المفاجأة الكبرى من خلال التصريح الذي أدلى به رئيس الحكومة التركية بن علي يلد ريم والذي قال فيه بعد أيام معدودة لاستعمال الطيران الروسي لقاعدة جوية إيرانية «إذا دعت الحاجة يمكن استعمال قاعدة انجرليك من قبل روسيا»[32]. من المعروف بأنّ الطيران الأميركي يستعمل قاعدة انجرليك لشن هجماته ضد الدولة الإسلامية.

أمّا التطوّر الأبرز الذي رافق أجواء المصالحة بين أردوغان وبوتين بعد قمة سان بطرسبرغ فتمثّل بالزيارات المتبادلة بين وزيري الخارجية التركي والإيراني خلال شهر آب 2016، مع توافر معلومات عن زيارة قريبة يقوم بها أردوغان إلى طهران في المستقبل القريب. تفتح هذه التطوّرات في العلاقات التركية-الروسية والتركية-الإيرانية تساؤلات حول احتمال نشوء محور جديد روسي-إيراني-تركي في المستقبل المنظور.

لكن يبقى من المستبعد أن تذهب تركيا بعيدًا في هذا الاتجاه، لأنّ ذلك سيؤدي إلى تخريب علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي، وللضمانات الأمنية التي يقدّمها لها الحلف، والتي لا يمكن أن تجد لها بديلًا صالحًا في أي شراكة إستراتيجية مع موسكو وطهران. كما يمكن لبوتين أن يحاول استغلال دعوات بعض الأوساط التركية الذي يدعو بين الحين والآخر إلى الانسحاب من حلف شمال الأطلسي واستبدال ذلك بالتحالف مع روسيا، لكن واقعية أردوغان السياسية ستحول دون ركوب مثل هذه المغامرة، مع كل ما يرافقها من مخاطر. ومن المعروف بأن لدى أردوغان توجهًا قويًا لربط تركيا بالقارة الأوروبية بشكل وثيق، وذلك على الرغم من التحفظات التي تبديها أوروبا على ردود فعل أردوغان ضد خصومه من أتباع غولن، وتوقيفه ما يقارب مئة ألف تركي من خصومه السياسيين. سيحاول بوتين من دون شك استغلال هذه الأجواء لتشجيع أردوغان على الابتعاد من حلف الأطلسي وأوروبا.

في رأينا ما زالت محاولة القيادة الروسية لإعادة بناء نفوذها في الشرق الأوسط في بداية الطريق، حيث لم يمض سوى سنة واحدة لتدخّلها في سوريا، ولا بدّ من التمهل للحكم على مدى نجاحها وذلك بانتظار ردود فعل الإدارة الأميركية الجديدة. لقد أدّت سياسة أوباما تجاه سوريا والمنطقة إلى تراجع النفوذ الأميركي، وهذا ما فتح الباب أمام روسيا للعودة إلى المنطقة بقوة. لم يكن بإمكان أحد أن يتنبأ بعودة روسيا إلى المنطقة حتى العام 2011، لتتحول في أقل من سنة واحدة إلى لاعب أساسي، يستقطب القوى الإقليمية الرئيسية (بما فيها إسرائيل) للتنسيق معها سياسيًا وعسكريًا. ويبدو بأنّ روسيا تستعد الآن بعد سقوط اتفاق وقف النار في سوريا الذي حقّقه اتفاق الوزيرين تيري ولافروف لتطوير قدراتها العسكرية في سوريا وفي شرق المتوسط من خلال إدخال طائرات سوخوي 25 وسوخوي 35 إلى سوريا، ومن خلال استقدام حاملة طائرات ومدمّرة حاملة للصواريخ لتعزيز قدراتها النارية في المنطقة[33].

تؤشر التطوّرات الراهنة بأنّ بوتين قد قرر قلب موازين القوى مع واشنطن، وذلك على عكس ما جرى في تسعينيات القرن الماضي عندما وقفت القيادة الروسية عاجزة عن التأثير في دول سبق أن كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي مثل البوسنة وصربيا، حيث نجح الرئيس بيل كلنتون في فرض الحلول الأميركية لانهاء النزاع، هذا بالإضافة إلى تقبل الرئيس بوريس يلتسن (صاغرًا) بعملية استقلال كوسوفو عن صربيا. وتحمّل بوتين بعد وصوله إلى الحكم التدخل الأميركي في شؤون روسيا والدول المحيطة بها مباشرة، من خلال تمويل بعض الجماعات من المجتمع المدني من أجل إثارة مسائل الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية.

يبدو بأنّ بوتين قد نجح في قلب المشهد رأسًا على عقب، من خلال تدخّله العسكري في سوريا، حيث نجح في قلب المعادلة الإستراتيجية لصالحه، في منطقة (حيوية) تخضع للهيمنة الأميركية الكاملة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد حدث هذا التبدّل الإستراتيجي في وقت ما زالت فيه أميركا القوة الأعظم عسكريًا واقتصاديًا في العالم، وهي من دون شك تملك من القدرات الإستراتيجية أضعاف ما تملكه روسيا، لكن ضعف الموقف الأميركي تجاه الاختراق الروسي يأتي كنتيجة لخيار سياسي اعتمده الرئيس أوباما، وذلك منذ قراره بسحب القوات الأميركية العام 2011 من العراق، ورفضه التدخّل في الأزمة السورية منذ بدايتها. إنّ المفارقة الكبرى، في نظر بعض العاملين في إدارة أوباما تتركز على اعترافهم بأنّ بوتين قد نجح بسهولة في تحقيق ما اعتبره أوباما "مهمة مستحيلة" في سوريا، وفي أقـل من عـام من الزمن[34]. ويعتبر بوتين اليوم اللاعب الأبـرز في الأزمـة السورية، والتي باتت تشكّل أخطر أزمات المشهد الدولي في الزمن الراهن. وتعمل موسكو على جذب القوى الاقليمية نحوها من خلال استغلالها لموقعها في سوريا من أجل مد نفوذها إلى دول أخرى. في هذا الوقت يبدو بأنّ إدارة أوباما لا تدرك خطورة التمدّد الروسي على المصالح الأميركية الحيوية بينما يرى بوتين بأنّ العالم قد تغيّر من عالم تنافسي بين قوتين عظميين إلى مرحلة مواجهة فعلية اختار هو توقيتها ومكانها، يعتبر بوتين بأنّ أميركا هي عدو روسيا الإستراتيجي من دون منازع، وبأنّ الدولتين هما في حالة حرب من نوع جديد. وهذا ما حاول شرحه عدد من المحللين الروس من خلال وسائل الإعلام، على أثر تعليقاتهم على استعمال القاذفات الروسية الإستراتيجية لقاعدة همدان الإيرانية.

 

مستقبل العلاقات الروسية – الإيرانية

تدفع الأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والمصلحة المشتركة الروسية-الإيرانية إلى إضعاف النفوذ الأميركي وكلًا من موسكو وطهران إلى زيادة تعاونهما، وتطويره للتحول إلى شراكة حقيقية تتعدّى إطار العمليات العسكرية المشتركة في سوريا. تبقى سوريا في المدى المنظور نقطة محورية في شراكتهما العسكرية، وذلك على الرغم من تعارض مصالحهما في المدى البعيد، وخصوصًا عندما يحين الوقت لتقرير ميزان القوى النهائي في سوريا، أو في حال حصول تدخّل عسكري أميركي مباشر ضد النظام السوري، مع كل ما سيحدثه ذلك من ضغوط على الطرفين. لكن يبقى من المشكوك فيه أن تتوسّع الشراكة الراهنة إلى حلف إستراتيجي بين إيران وروسيا، يغطّي كامل منطقة الشرق الأوسط. سيكون البديل لقيام حلف إستراتيجي، إقامة علاقات إستراتيجية لمواجهة الأحداث والتطورات الطارئة في بقعة جغرافية محددة[35].

يبدو من مجمل السياسات والمواقف الإيرانية بأنّ طهران ترغب في الحفاظ على "وحدانية قرارها الإستراتيجي". ولكن هذا الحرص الإيراني لا يمنع من حصول تعاون وتنسيق في العلاقات الإستراتيجية الإيرانية-الروسية. ولا تختلف طبيعة العلاقات التي تقيمها إيران مع الدول الإقليمية ومع القوى الدولية عن طبيعة العلاقات القائمة مع روسيا. ستحاول إيران توظيف هذه العلاقات مع روسيا من أجل بناء منظوماتها العسكرية، وخدمة سياساتها الاقليمية، وحماية مصالحها الدولية. تدرك إيران أهمية موقع روسيا في مجلس الأمن وحقها في نقض مشاريع القرارات، كوسيلة يمكنها من خلالها الاحتماء من فرض عقوبات دولية جديدة ضدها. كما يمكن لروسيا تأمين قدر كبير من الحماية لإيران في حال وقوع خلافات بينها وبين الدول الغربية حول تنفيذ الاتفاق النووي.

يتساءل المحلّلون الإيرانيون إذا كانت الشراكة في سوريا ستتحوّل إلى شراكة طويلة الأمـد في ظل وجود علاقات قوية بين روسيا وإسرائيل، والتي تشهر طهران بعدائها لها. وتتفاوض روسيا مع السعودية حـول مستقبل النظام في سوريـا، والتي تعتبرها طهران الخصم الإقليمي الأساسي. ولا يغيب عن بـال المسؤولين الإيرانيين اثارة بعض الهواجس حول طموحات روسيا في سوريا على المدى البعيد، والتي قد تتعارض مع الرؤية الإيرانية المستقبلية لجعل سوريا جبهة جديدة ضد إسرائيل. وتخامر طهران شكوك حول صدقية موسكو في دعم بقاء الرئيس الأسد في السلطة، وإمكانية أن تقايض موسكو حكم الأسد لقاء تفاهمات تجريها مع الدول الغربية من أجل حل المسائل العالقة مثل أوكرانيا، والدرع الصاروخية[36]

لكن تبقى الشكوك الإيرانية مسلطة على إمكانية حدوث تقارب روسي مع الدول الغربية على حسابها من دون أي أساس أو دليل على امكانية حدوث تطور كهذا في المستقبل المنظور. لا يمكن ربط الخصومة الحاصلة بين موسكو والغرب في أوكرانيا أو في مجموعة مسائل خلافية أخرى، بل يأتي موقف بوتين تجاه الغرب نتيجة معاناة طويلة من طريقة تعامل الغرب مع روسيا منذ انتهاء الحرب الباردة إلى العام 2015. إنّ برودة العلاقات الروسية-الغربية هي باقية، ولا يمكن إصلاحها إلا بمبادرة غربية تقضي بإجراء تعديلات عميقة في سياسة الغرب الخارجية تجاه روسيا. ولا أمل في الأفق القريب بحدوث ذلك[37].

على الرغم من تعميق الشراكة في سوريا، وخصوصًا في ظل العمليات المشتركة الأخيرة الجارية في حلب، فإنّ الطرفين يعتقدان بأنّ توسيع هذه الشراكة لتشمل مجمل العلاقات بينهما هو بحاجة لعناية وإجراء تفاهمات حول مجموعة من المسائل المعقدة، كتسوية الخلافات في بحر قزوين، وتجارة الأسلحة وسياسة الطاقة، والتوجهات السياسية المستقبلية، والتي يمكن أن تؤثر على علاقات ونفوذ روسيا مع الدول الأخرى.

تدرك إيران، من دون شك، حاجة روسيا (كدولة عظمى) لقدر واسع من حرية المناورة للحفاظ على مصالحها الاقتصادية وجيو-استراتيجية على المستوى الدولي، وخصوصًا مع الدول المهمة في الشرق الأوسط. وإيران نفسها بحاجة للنأي بنفسها عن كل خلافات روسيا مع الغرب، وهذا ما دعا إليه رئيس المجلس علي لاريجاني لاتخاذ إيران موقفًا محايدًا تجاه خلافات روسيا مع الغرب منذ وقوع الأزمة الأوكرانية وضم شبه جزيرة القرم[38].

أظهر الطرفان الروسي والإيراني في أثناء نشوب الأزمة التي نشأت بين موسكو وأنقرة بعد اسقاط طائرة أف – 16 تركية لطائرة "سوخوي" روسية تفهمًا عميقًا لحاجة كل منهما للاحتفاظ بهامش كبير من الحرية فـي علاقاته مع تركيا. فاعتبر الرئيس روحاني بأنّ التصرّف التركي على مستوى عـالٍ من الخطورة، وطالب بحل المسألة بالسرعة اللازمة، ولكنه أبقى على تعاملات إيران مع تركيا كأكبر شريك اقتصادي[39]. تشكّل عقود شراء الأسلحة الروسية من قبل إيران العنصر الأساسي في التبادلات الاقتصادية بين البلدين. وسيكون لدى روسيا بعض الهواجس جراء هذه العقود، مع الأخذ بعين الاعتبار مدى تأثير هذه العقود على علاقات روسيا مع إسرائيل ومع بعض الدول العربية الرئيسة، وإمكانية استعمال هذه الأسلحة خارج حدود إيران، وتوريدها لجماعات موالية لإيران في دول أخرى. ونبرز في هذا السياق مشكلة من نوع آخر تتلخّص بأنّ إيران لا تريد أن تستورد فقط السلاح بل التكنولوجيا الخاصة بهذا السلاح، وسيثير هذا الأمر العديد من الهواجس لدى موسكو.   

من المتوقّع أن يستمر تطوير الشراكة الروسية-الإيرانية، وأن تتوسّع لتشمل مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والصناعية، وفي مجال الطاقة النووية، ولكن ستبقى هناك فوارق كبيرة في تعاطيهما مع التطورات جيو-ستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا في منطقة الخليج.

 

الاستنتاجات

في ظل التطوّرات العسكرية التي تشهدها مدينة حلب، والتي يدعم فيها التحالف الروسي-الإيراني قوات النظام من أجل إعادة احتلال الأجزاء الشرقية من المدينة التي تسيطر عليها المعارضة، يبدو بأنّه لم يعد هناك أي تمايز بين الأهداف الروسية والأهداف الإيرانية، وبأنّ الطرفين في ظل تحالفهما وشراكتهما يبحثان عن تحقيق انتصار عسكري بدل البحث عن حل سياسي وفق ما كانت تتحدث عنه روسيا منذ دخولها كطرف في الحرب. لا يترك الموقف الروسي الجديد أي امكانية لروسيا للخروج من الصراع، بل يزيده تعقيدًا، علىالرغم من الأثمان المالية والديبلوماسية الباهظة التي ستترتّب على ذلك[40].

سيؤدي خيار الحسم العسكري في مدينة حلب إلى مزيد من التلاحم بين روسيا وإيران، وبالتالي تقوية عناصر الشراكة العسكرية بينهما، وتطوير علاقاتهما من المستوى العملاني إلى المستوى الإستراتيجي، وزيادة عناصر الثقة بينهما وخصوصًا في مجال رؤيتهما لمستقبل نظام بشار الأسد. تؤشر عملية حلب بأنّ سوريا قد تحوّلت إلى نقطة محورية في الشراكة العسكرية بين موسكو وطهران ودمشق، وبأنّ الشركاء يسعون الآن لتقرير ميزان جديد للقوى في سوريا. ويبدو بأنّ إيران والنظام يعوّلان على موقع روسيا في مجلس الأمن، وحقّها في استعمال حق النقض من أجل الاحتماء من مفاعيل أي قرار دولي يمكن أن يفرض عقوبات جديدة، أو قد يؤدي إلى محاكمتهما بارتكاب جرائم حرب.

بات من الممكن إذا ما استمرت معركة حلب على الرغم من الضغوط الغربية الراهنة، فإنّ تحالف الواقع الناتج عن الشراكة العسكرية في سوريا سيتحوّل إلى تحالف "سياسي – ديبلوماسي" يؤسس لعلاقات إستراتيجية لمواجهة التطوّرات والتعقيدات الناتجة عن هذه الحرب وفرض واقع جيو-استراتيجي جديد داخل سوريا، ولكن ستبقى هذه الشراكة من دون مستوى الحلف الاستراتيجي الذي يغطي كامل منطقة الشرق الأوسط.

تترتّب على الولايات المتحدة مسؤولية مواجهة أخطار الأزمة السورية، في ظل هذا التحالف الروسي-الإيراني. لم يعد من الممكن أن تتجاهل واشنطن ما يجري في ظل المأساة التي تشهدها مدينة حلب والخلل الكبير في موازين القوى الذي سيترتّب على سقوطها. لقد وصف وزير الخارجية الأميركي جون كيري عمليات القصف الجوي للمدينة بأنّها ترقى إلى جرائم حرب ويجب التحقيق فيها.

يمكن أن توظّف إيران أي انتصار عسكري في حلب، وتمتين تحالفها العسكري في سوريا من أجل دعم حلفائها وزيادة ضغوطها في جبهاتها الأخرى كالعراق واليمن ولبنان.

على الرغم من رغبة الولايات المتحدة لاتّخاذ كل الخطوات اللازمة لتحقيق نجاح الاتفاق النووي مع إيران، فإنّه من غير المعقول أو المقبول السماح لهذه الأخيرة لزيادة نفوذها على المستوى الاقليمي.

لكن إذا كان قد بات من المؤكد وفق التصريحات الإيرانية بأنّ لدى إيران مشروعًا لمد نفوذها إلى دول عديدة في الشرق الأوسط ووسط آسيا، فإنّ روسيا تسعى أيضًا لاستعادة دورها في الحقبة السوفياتية كقوة شاملة. هذا ما كشفته التصريحات لبعض المسؤولين العسكريين الروس، مثل نائب وزير الدفاع الجنرال نيقولاي بانكوف والذي تحدّث عن تحويل قاعدة طرطوس البحرية إلى قاعدة دائمة، وذلك بعد جعل قاعدة حميميم الجوية قرب اللاذقية إلى قاعدة دائمة، وتصديق المعاهدة الموقعة من قبل موسكو ودمشق من قبل المشترعين الروس. وتنقل وكالات الأخبار الدولية بأنّ المخطّط الإستراتيجي الروسي الجديد يسعى إلى إقامة قواعد بحرية وجوية في الشرق الأقصى مثل فيتنام وفي أميركا اللاتينية مثل كوبا وفنزويلا وفي مصر، حيث أكّدت المصادر الروسية إجراء مباحثات مع الحكومة المصرية لاستعمال عدة مواقع عسكرية، ومنها قاعدة في مرسى براني قرب الحدود الليبية. يبدو بأنّ روسيا باتت تسعى من خلال القاعدتين في سوريا ومرسى براني في شمال غرب مصر وقاعدة همدان في إيران إلى تعزيز وجودها العسكري في منطقة الشرق الأوسط وتحويل البحر المتوسط إلى محور جديد مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

وهكذا يمكن توقع احتدام المنافسة في منطقة الشرق الأوسط بين محورين: الأول، يضم إيران وروسيا، والثاني، يضم دول مجلس التعاون الخليجي المدعوم من حلفائه الاقليمين ومن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة.


[1]-       Lavrov in an interview with Russian state TV on Sunday October 9, 2016

  .www.uaposition.com/middle-east-monitor/russia-says-us-actions-threatens-its-national-security

[2]-     Iran Daily published by the official IRNA: www.cnsnews.com/news/article/patrick-goodenough/iran-any-us  

.attack- against-assad-regime-will-be-suicidal-

[3]-     جاء في نشرة تلفزيون العربية بتاريخ 9 تشرين الأول الساعة 23:00 بأنّ نسبة الغارات الروسية على "داعش" ما بين الربع الأول والربع الثالث لعام 2016 قد تراجعت من 26 إلى 22 إلى 17 في المائة.

[4]-     .Vali Nasr, "A Russian-Iranian Axis", NewYork Times, September 16, 2016

.www.nytimes.com/2016/09/17/opinion/a-russian-iranian-axis.html

[5]-     John Hannah, "Russia's Middle East Offensive" foreign policy September 13, 2016

.www.foreignpolicy.com/2016/09/13/russias-middle-east-offensive

[6]-     ."John Hannah, "Russia Middle East offensive

[7]-     .Vali Nasr, cited in reference 4

[8]-     ."John Hannah, "Russia Middle East offensive   

[9]-     جرى توقيع الاتفاقية النووية في 14 تموز عام 2015 في فيينا.  

[10]-    ذكرت رحلة ولايتي إلى موسكو في وسائل الاعلام الروسية والإيرانية في 29 كانون الثاني، 2015.

[11]-    .Jay Solomon, "The Iran Wars", Random House, NewYork, page 283

[12]-    "Laila Bassam and Tom Perry, "How Iranian General plotted out Syrian Assault in Moscow

.Reuters, October 6, 2015

.www.reuters.com/.../us-mideast-crisis-syria-soleimani-insigh-iduskcnosoBv

[13]-    خطاب المرشد خامنئي، الذي بثه التلفزيون الإيراني في 7 تشرين الأول عام 2015، ذكره جاي سولومون في "حروب إيران" صفحة 285.

[14]-    تصريح زعيم الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ بتاريخ 17 ايلول عام 2015 – المصدر نفسه.

[15]-    Saudis push military option to oust Assad – September 30, 2015

.www.timesofisrael.com>Israel and the Region

[16]-    The war in Syria-smoke and chaos". The Economist, August 27, 2015"

-www.economist.com/news/middle-east".and-africa/21705658-battlefield-syria-grows-more-complicated

.smoke-and-chaos

[17]-    جيفري غولدبرغ في مقابلة مع الرئيس أوباما نشرت في مجلة "أطلنتيك" في 21 أيار العام 2015.

.www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/the-obama-doctime/471525

[18]-    Barbara Plett Usher, "US Summit aims to calm Arab Fears over Iran", BBC News, May 13, 2015

        .www.bbc.com/news/world-us-canada-32618146

[19]-    "Elli Geranmayeh and Kadri Liik, "The new power couple: Iran and Russia in the Middle East

        .www.ecfr.eu/publications/summary/iran-and-russia-middle-east-power-couple-7113

[20]-    70th session of the UN assembly" president of Russia September 28, 2015"

.http://en.kremlin.ru/events/president/news/50385

[21]-    . (Elli Geranmayeh and Kadri Liik, cited in reference (19

[22]-    .Ibid

[23]-    .Ibid

[24]-    ./www.presstv.ir/detail/2016/08/464525/Iran-Syrian-velayati-Assad

[25]-    Iran to allow Russia jets fly from airbase again if necessary: Shamkhani" Tasnim News Agency Aug. 26, 2016"

.www.tasnimnews.com/en/news/2016/08/26/1168650/iran-to-allow-russia-jets-fly-from-airbase

[26]-    President Assad Remaining in power Iran’s redline, press TV, May 8, 2016

.www.presstv.ir/detail/2016/05/08/464525/Iran-syria-velayati-assad/ 

[27]-    .(Geranmayeh and Kadri Liik, cited in reference (19

[28]-    دستور روسي لسوريا: سلطات مجلس الوزراء والرئيس.

        www.al-akhbar.com/node/258466

[29]-    .(John Hannah, "Russia’s Middle East offensive" foreign policy, September 15, 2016, cited in reference (5

[30]-    .Ibid

[31]-    .Ibid

[32]-    Turkish PM" Russia could use Incirlik Airbase if necessary"

.www.rt.com/news/356626-russia-turkey-incirlik-airbase

[33]-    Russia Ramps up military presence in Syria to deter US attack after cease fire failure", October 3, 2016"

.www.therussiafile.org/russia-ramps-up-military-presence-to-deter-us-attack-after-ceasefire-failure

[34]-    .Jackson Diehl, "Putin's lesson for Obama in Syria". The Washington post, September 18, 2016

[35]-    .(Elli Geranmayeh and Kadri Liik, "The New Power Couple…" cited in reference (19

[36]-    ,"Najma Bozorjemehr, "Iran and Russia reiterate support for Syria's Bashar Al-Assad

. Financial Times Nov. 23, 2015

[37]-    ."Marek Menkiszak, "Russia and the West, what went wrong and we do better

 www.dgap.org/sits/default/files.article../ostpolitikworkingpapermenkiszak.pdf/

[38]-    Dimitri Trenim, "Russia and Iran: Historic mistrust and contemporary partners ship Carnegie", Moscow center, August 18, 2016.www.carenegie.ru/2016/08/18/russia-and-iran-historic-mistrust-and-contemporary

.partnership-pub-64365

[39]-    "Arash Karami, "Rouhani: Jets are not toys to shoot down

.www.al-monitor.com/pulse/originals/2015/11/rouhani-russian-jets-turkey-shoot-down.html

[40]-    ?Perry Cammack, "Why Dance with Russia", Carnegie Middle East leuw

.www.carnegie-mec.org/diwan/ 64655September 23, 2016

The Russian – Iranian partnership in Syria: its impact on the geostrategic situation in the Middle East

The Russian intervention in Syria has proved the extent of failure of the foreign policy adopted by president Obama where Russia returned powerfully to the Middle East after having been forced out of Egypt during the reign of Sadat in 1972. Russia returned from the Syrian portal, benefiting from the vacuum left by the US withdrawal from Iraq at the end of the year 2011.

Moscow claims that its military intervention aims to fight terrorism while Iran aims to achieve a military victory for the sake of the Syrian regime in order to support Assad remaining in power. It seems like the joint Russian – Iranian intervention is now setting the bases for a partnership in Syrian that can expand later on to include other operation scenes.What encourages Russia and Iran to develop the military cooperation between them to become a strategic partnership is their mutual feeling of the necessity to face the pressuring US strategy.

Syria formed the mutual ground between Iran and Russia in order to establish a certain base of political and military cooperation with the agreement to turn this cooperation into a permanent partnership. Iran found that this cooperation would boost its regional role and self confidence and support its foreign policy.

The Russian – Iranian partnership pays major attention to the Middle Eastern Geopolitics which mainly serves the interests of both states and supports their abilities to face the US – Saudi axis in Syria and in the gulf.

It is expected that the efforts would continue in order to develop the partnership with the aim of including political, economic, industrial and security fields. The ongoing recent push to develop the relations will definitely lead to the establishment of a new geostrategic reality in the Middle East.

Le partenariat russo-iranien en Syrie et son influence sur la situation géostratégique au Moyen-Orient

L’intervention de la Russie en Syrie a prouvé la déliquescence de la politique externe adoptée par le Président Obama, notamment avec la présence puissante de la Russie, encore une fois, au Moyen-Orient après que cette dernière fut refoulée de l’Egypte à l’époque du Président Sadate en 1972. C’est ainsi que la Russie a retrouvé son entrée via le portail syrien, tout en tirant profit du vide résultant du retrait américain de l’Iraq à la fin de l’année 2011.

Moscou prétend que son intervention militaire a pour objectif de lutter contre le terrorisme, dans le temps où l’Iran cherche à remporter une victoire militaire au bénéfice du régime syrien et par la suite soutenir la persistance du président Assad au pouvoir. En effet, il parait que l’intervention russo-iranienne commune constitue aussitôt la base d’un partenariat en Syrie et qui pourra ultérieurement prendre de l’ampleur pour inclure d’autres scènes d’opérations. De fait, ce qui encourage la Russie et l’Iran à développer la coopération militaire entre eux en partenariat stratégique est leur perception commune de la nécessité de faire face à la stratégie américaine qui exerce des pressions sur les deux pays.

La Syrie a constitué le territoire commun entre l’Iran et la Russie, convenable pour établir une base de coopération politique et militaire, notamment avec une convention qui transforme cette coopération en partenariat permanent. L’Iran a trouvé que cette coopération renforcera son rôle régional et amplifiera sa confiance en elle-même tout en appuyant sa politique externe. Le partenariat russo-iranienne occupe une place importante au niveau de la géopolitique du Moyen-Orient et serve à titre principal les intérêts des deux pays, tout en appuyant leurs capacités en faisant face à l’axe américain-saoudien en Syrie et dans la région du Golfe.

Il est prévu que les efforts se poursuivront afin de développer le partenariat pour impliquer les domaines politiques, économiques, industriels et sécuritaires. Cette détermination actuelle et continue à développer les relations aboutira sans doute à la naissance d’une actualité géostratégique moderne dans la région du Moyen-Orient.