قصة قصيرة

الشقيقان
إعداد: العميد الركن إميل منذر

رفع «عسّاف» باب متجره الحديديّ في الصباح الباكر وهو يقول: «يا ربّ، يا رزّاق، يا مقسّم الأرزاق ارزقنا». ثم دخل وأدار التلفاز ليقرأ على الشاشة في نبأ عاجل أن طائرة تحمل مئة وخمسين مسافرًا سقطت بعد دقائق قليلة على إقلاعها من مطار العاصمة، ويُخشى أن يكون جميع ركّابها قد لاقوا حتفهم. عند ذاك ابتسم عسّاف، وقال: «ما أسرع استجابتك يا الله!». لكنّ ابتسامته انقلبت وجومًا وتقطيبًا عندما قرأ ملحقًا للنبأ يقول إن الطائرة سقطت في البحر على بعد بضعة أميال من الشاطئ. الآن عرف أنه لن يرتزق من هذا الحادث بشيء. لذلك أطفأ التلفاز، وولج بابًا آخر إلى مستودع فسيح، وأخذ يجول بين النعوش المرصوفة صفّين عن اليمين وعن اليسار، وفيها من كلّ الأحجام والألوان و... الأثمان. ولم يتوقّف إلا قبالة تلك التي في آخر المستودع تنتظر الأثرياء والوجهاء؛ فهذه صنعها لهم بعناية بالغة ومن الخشب الثمين الذي يليق بهم. ثم راح يتأمّلها بعينين ماكرتين: «موتوا أيها الناس؛ فأنا أضمن لكم بهذه النعوش الجميلة نزهة آمنة إلى القبور. ومن هناك فإلى جهنّم وبئس المصير». هكذا قال، وضحك. ثم راح يقهقه كمَن أصابه مسّ من الجنون.
وإنه لكذلك، دخل عليه رجل امتلأ قلبه حزنًا ففاض إلى وجهه وعينيه، وسأل عسّاف نعشًا لصبيّة ابنة تسعة عشر ربيعًا.
- أقريبة لك هي؟ سأل عسّاف.
- لا. أجاب، وقد خرجت الكلمة غصبًا عنها من بين شفتيه، وطأطأ رأسه.
- ولمَ أنت حزين إلى هذا الحدّ إذًا؟!
- أبوها صديقي منذ زمن بعيد... مسكينة. فتاة مثل القمر، رمت نفسها إلى الشارع من الطبقة الرابعة؛ فقضت على الفور.
- ما حكايتها؟
- انفصل أبواها عن بعضهما منذ زمن غير بعيد. والبارحة عرفتْ أنها رسبت في الامتحانات الرسمية بعدما كانت تترقّب النجاح بأمل كبير.
- بنت شجاعة... لكلّ إنسان على وجه الأرض مئة سبب وسبب ليقتل نفسه ويرتاح. وإن كنا لا نفعل، فلعلّة الجبن التي فينا. إننا لا نجرؤ. لكنني أعجب ممّن يخافون الموت ولا يخافون الحياة، كما قال بول فاليري.
لم يعلّق الرجل على كلام عسّاف بكلمة. لكن ابتاع النعش ورحل به. أما عسّاف فدخل مشغله حيث يعمل منذ أيّام في صنع نعش صغير يطليه، بعد الفراغ منه، بالأبيض. وإذ حانت منه التفاتة إلى الألواح الخشبية المكدّسة في الزاوية، لاحظ عند أقدام أحدها وجود بعض نُقارة متجمّعة. ولما دنا وأمعن النظر، أدرك أن ثمّة حشرة سوس تعمل في خشبه نخرًا وتخريبًا. فهزّ رأسه وقال: «أيتها الحشرة كم تشبهينني! أنا وأنت نعيش كلانا من خشب التوابيت... نحيا بفضل الموت. لكنني لن أدعك تقاسمينني رزقي وتسابقينني إلى لقمتي». ثم جاء بمحلول قاتل، وحقن الثقب به: «وأنتِ أيضًا إلى الجحيم أيتها اللعينة».
مرّ يومان من العمل الدؤوب، وإذا النعش الصغير جميل الشكل لامع الطلاء؛ فجاء مَن يريده لصبيّ مات في عمر الرياحين.
- مسكين. قضى غرقًا في بحر اشتدّت أنواؤه وعمقت لجّته. قال الرجل.
- حسنٌ أنه غرق في البحر طفلًا قبل أن يكبر ويغرق في رمال الحياة المتحرّكة ومستنقعاتها الموحلة.
- كم ثمنه؟ سأل الرجل.
- ألف دولار.
- ألف دولار!!! خَفْ ربَّك يا رجل. ما هو إلا بضعة ألواح خشبية يأكلها السوس والعفن في القبر خلال يومين.
- إنه لَمِن الخير أن تُصرَف الأموال في شراء أخشاب تحمل أصحابها إلى القبور، من أن تُصرَف في شراء عقاقير لا تُطيل الأعمار إلا لتطول رحلة العذاب في هذه الحياة.
- أما من حاجات أُخَر يستطيع المرء شراءها بماله فيعيش عيشًا رغْدًا، ويحيا حياة سعيدة!!!
- السعادة وهم وسراب يا صاحبي. والحياة كذبة كبيرة. حقيقتها الوحيدة هي أنْ لا سعادة فيها. السعادة الحقّة هي في التحرّر من نير الحياة واللجوء إلى أحضان الموت.
- حسنًا. عليّ أن أذهب الآن. ألا تخفّض لي السعر قليلًا؟
- وحياتك لا أستطيع. أنظرْ إليه ما أروعه! فهنيئًا لمَن سيرقد فيه. قال، وافترّت شفتاه عن ابتسامة عريضة.
عندما مالت الشمس نحو المغيب، أقفل عسّاف متجره، وعاد إلى منزله؛ فأخذت أمّه العجوز تعمل في إعداد العشاء له. هذا ما دأبت عليه بعد وفاة زوجة ابنها مخلّفةً له بنتًا وحيدة لم تكمل عامها العاشر بعد.
- أتنتظر أخاك حتى يرجع من عيادته؟ سألت أمّ عسّاف وهي تلتفت إلى عقارب الساعة المعلّقة في الحائط.
- وهل لأحد أن يعرف متى يجيء أخي!! كم مرّة قال إنه آتٍ ولم يأتِ! عمله كطبيب جرّاح سرقه منا. وحتى يسرقه من نفسه.
- لديك كلّ الحقّ يا ابني. إتّصلْ به، وقلْ له إننا والمائدة ننتظره.
- حسنًا. قال، وأخذ السمّاعة، وطلب رقم هاتف أخيه النقّال، وقال له إن تأخّر في المجيء فلن يجد من طيّبات مائدة أمّه ما يأكله؛ فضحك «حكمت»، وقال إنه آتٍ.
في هذه الأثناء خرجت «هِبَة» بنت عسّاف من غرفتها بثياب أنيقة بيضاء، ورمت نفسها في حضن أبيها، وطوّقت عنقه بذراعيها النحيلتين.
- أراهن أنك جئتِ تطلبين حاجة؛ فَسَلي ما تريدين، وأنا سميع مُجيب. قال عسّاف وهو يضمّ ابنته بحنان، ويمشّط شعرها الطويل الأشقر بأصابعه.
- أتسمح لي بالذهاب إلى بيت رفيقتي لقضاء بعض الوقت عندها؟
- نتناول طعام العشاء معًا، ثم أُقِلّك.
- لا داعي لأن تقلّني يا أبي. لقد جاءت رفيقتي وأخوها ليصطحباني. إنهما ينتظرانني في السيّارة عند أسفل المبنى.
- حسنًا، اذهبي. ولا تتأخّري حتى تعودي.
- أحبّك يا أبي. حتى الموت أحبّك.
هكذا قالت، وقفزت من حضن أبيها كالأرنب الصغير، وخرجت، وطلبت المصعد، وانتظرت، فيما بقي عسّاف في مقعده ينظر إلى لا شيء بعينين من زجاج، ويفكّر في كلمات ابنته ذاهلًا عن كلّ ما حوله. لماذا قالت له: «أحبّك حتى الموت؟». لماذا نطقت شفتاها بلفظة الموت الآن؟ هذه الأفكار دفعته إلى النهوض كالمجنون وإدراك ابنته قبل أن تنزل؛ فأدركها، وأخذها بين ذراعيه، وضمّها كما لم يفعل مرّة من قبل. ثم أخرج من محفظته ورقة نقدية دفع بها إليها: «خذي يا حبيبتي. اشتري لكِ شيئًا بها». فأجابت هِبة وقد عَلَت ثغرَها ابتسامةٌ بريئة فبدا كَكُمّ بنفسجة يستقبل شروق الشمس: «لا حاجة بي إلى المال حيث أنا ذاهبة يا أبي». فأعاد عسّاف يده ببطء، وفتح لابنته المصعد. ولمّا نزلت، عاد إلى الداخل ينتظر أخاه.
- لقد تأخّر أخي يا أمّي. كعادته قال إنه آتٍ ولم يأتِ.
- الغائب عذره معه، كما يقولون. ولا تنسَ أنّ أخاك طبيب جرّاح لا يملك وقته.
- طبيب جرّاح، طبيب جرّاح. قال متأفّفًا. لماذا لا يترك أخي المرضى يرتاحون من أوجاعهم! لماذا يريد الأطبّاء والمستشفيات إطالة أوجاع مَن لا رجاء بالشفاء لهم! أما سمعتِ بالموت الرحيم يا أمّي؟!
- سمعت به، ولا أحبّه.
- الأطبّاء، وأخي منهم، يريدون أن يُحِلّوا أنفسهم محلّ الله خالق الكون وواهب الحياة.
- أستغفر الله. ما هذا الكلام الذي تتفوّه به! صاحت الأمّ مستاءة.
- لماذا لا يتركون الله يقضي بما يشاء! إذا أراد الحياة لنفْس، ردّها من الموت. وإن شاء لها الموت، فلا ما ينجّيها منه.
- لا شكّ في قدرة الله، ولا اعتراض على قضائه ومشيئته يا ابني. لكن على الطبّ أن يحاول، وعلى الحياة أن تجاهد وتجالد.
- كلّما جاهدت الحياة وصمدت، عزّتْ لقمتي. وكلّما حاول الطبّ ونجح، شحّ مورد رزقي. كم تمنّيتُ أن يكون أخي صاحب مهنة لا علاقة لها بالطبّ حتى أدعو له بالنجاح والتوفيق! أما وهو طبيب ينقذ الناس، فكيف أدعو له؟! أما سمعتِ بالمثَل القائل: قطع الأرزاق مثل قطع الأعناق، يا أمّي؟
- ألله يرزق حتى الدودة التي في الصخر يا ابني. ثَقْ به؛ فعلى بيادره حنطة للجميع.
ثم كان أن دخل حكمت، وقد بدا عليه التعب؛ فسلّم، وجلس إلى المائدة قبالة أخيه وأمّه. وما وضع لقمة في فيه حتى رنّ جرس هاتفه النقّال؛ فرفع الهاتف إلى أذنه، وأجاب: نعم.
- دكتور حكمت حضرتك جرّاح الطوارئ لهذه الليلة، أليس كذلك؟ قالت رئيسة فريق الممرّضين المناوبين.
- أوتعتقدين أنني ناسٍ!!
- إذن أرجو حضورك في الحال لو سمحت.
- حضوري في الحال! ما الأمر؟
- نقلت إحدى سيّارات الإسعاف إلى مستشفانا طفلة بحالة الخطر، وتحتاج إلى عملية جراحية عاجلة. لقد صدمتها سيّارة، وسبّبت لها كسورًا بالغة.
- ما اسمها؟... ماذا تقولين!! سأل حكمت وهو يقف مسلوب القوى، وأضاف: «هيّئوا غرفة العمليات، واستدعي جرّاحًا يكون إلى جانبي، وأنا آتٍ على الفور».
ألقى حكمت اللقمة الثانية من يده، وقال بصوت مهزوم: «أنا عائد إلى المستشفى».
- وهل عليك أن تعود!؟ سأل عسّاف، وأضاف: «أما من طبيب آخر يستطيع الحلول محلّك!... إنك في هذا المستشفى لأشبه بطنّوس الذي في الجيش». قال وضحك. ولما لم تقع دعابته في نفس أخيه موقعًا حسنًا، قال: «ليكن كما تريد. لكن تناول عشاءك، ثم اذهب».
- عليك أن تأتي معي.
- آتي معك! لماذا؟!
- قم الآن. صرخ حكمت وكاد يبكي. فنهض عسّاف منصاعًا. وخرج برفقة أخيه تشيّعهما أمّهما واجفة القلب. وعندما دخلا المصعد، هبطت عند الباب على ركبتيها، ورفعت نحو السماء عينين باكيتين.
أطلق حكمت لسيّارته العنان مكفهرّ الوجه من حزن وأسى. فسأله عسّاف إن كان ثمّة أمر عليه أن يقلق هو أيضًا بشأنه. لكنه بقي صامتًا. ولما أصرّ عسّاف على أن يعرف وقد انتابه هذه المرّة خوف من الجواب، قال حكمت: «إنها ابنتك يا أخي». ومسح دمعتين بظاهر يده، وأردف: «لكن لا تقلق. هي بخير. تعرّضت لحادث بسيط، وتحتاج إلى عملية جراحية صغيرة».
- يا إلهي كيف حدث هذا! لماذا ابنتي!... أرجوك يا أخي قُل لي إنها ستنجو. هِبة يا حبيبتي. ها إنّ أباك قادم إليكِ. بربّك يا أخي أسرع قليلًا؛ فهذه السيّارة بطيئة جدًّا.
هكذا كان عسّاف يقول دامع المقلتين مرتجف القلب، وهو لا يعي أن السيّارة تطير في الفضاء لا تسير على الأرض.
عندما بلغا المستشفى، هرعا إلى الداخل؛ فتناول حكمت ثوبه الأبيض، وارتداه وهو يحثّ الخطى إلى غرفة العمليات. ولما حاول عسّاف اللحاق به، منعه الممرّضون؛ فوقف عند الباب، ثم هبط إلى الأرض، وأسند ظهره ورأسه إلى الجدار لا حول له ولا قوّة.
في تلك اللحظة ذكر عسّاف قول أمّه: «على الطبّ أن يحاول، وعلى الحياة أن تجاهد»؛ فأخذ يبكي ويتمتم كمَن يهذي: «أجل. عليك يا أخي أن تحاول من أجلي، من أجل هِبة، من أجل الحياة... لتشفقْ عليّ يا ربّ، ولتأخذْ بيد أخي لتنجو ابنتي».
لم تمضِ دقائق قليلة حتى انضمّ إلى حكمت طبيب اختصاصيّ في جراحة العظم، ثم انضم إليهما ثالث. وكان الممرّضون يدخلون ويخرجون في حركة لا تهدأ، وعسّاف ينظر إليهم بعيون متسائلة، بل متوسّلة.
ساعات طويلة قضاها عسّاف عند باب غرفة العمليات قبل أن يخرج حكمت جارًّا قدميه كالمصارع المهزوم؛ وانكبّ على عنق أخيه باكيًا كالأولاد. لقد ماتت هبة، واستردّ الله أمانته. فبكاها والدها وعمّها وجدّتها حتى تقرّحت من الدموع مآقيهم. وفي اليوم الثاني مشوا في موكب حزين خلف النعش الصغير الأبيض الذي صنعه عسّاف بيديه، وقال: «هنيئًا لمَن سيرقد فيه».
موت هبة غيّر عسّاف، وغيّر نظرته إلى الحياة والموت. لقد رحل عسّاف القديم الذي كان يحزن لفرح الناس، ويحزن لأفراحهم، ويتمنّى الموت لهم ليبيع النعوش التي يصنعها. وجاء عسّافٌ جديد يصلّي في الصباح والمساء. يحبّ الناس، ويتمنّى الخير لهم. لذلك باع النعوش التي في مستودعه بثمن كلفتها لأحدّ صنّاعها والمتاجرين بها في المدينة. وحوّل متجره حانوتًا يبيع فيه سلال الأزهار في الأعراس والمناسبات السعيدة. أما المناسبات الحزينة فلم يكن له شأن بها.