في أحضان المؤسسة

الشهادة للوطن شهادة للحياة

بعضهم أتى إلى هذا العالم ليفتح عينيه على صورة في صدر المنزل تعلّم أن يخاطبها كلما اشتاق إلى مناداة "البابا" الذي رحل قبل أن يُبصر النور. بعضهم الآخر عرف ما معنى أن يكون له أب ينتظر عودته من الخدمة فيركض لملاقاته والارتماء في حضنه، لكنّ القدر طرق باب البيت يومًا ليعلن أنّ هذا الأب لن يعود بعد الآن...

 

تختلف ظروفهم وأسماؤهم وبيوتهم ومناطقهم، لكنّهم جميعًا يتميزون بتلك الهالة من الفخر المشعّ، وإن كان ممزوجًا بحزنٍ عميق، فهم أبناء عسكريين شهداء... في أحضان الفوج المجوقل أقام 48 منهم أربعة أيام أمضوها مستكشفين الأماكن التي كانت البيت الثاني لآبائهم. وقفوا بوقارٍ في تحية لذكراهم، استمعوا إلى حكايات عنهم، تحسسوا أغراضهم المحفوظة بعنايةٍ، ومشوا على درب يحاكي مراحل الحياة التي يمر بها العسكري، السهل منها والصعب، وما يشكل جسرًا بين محطتَين أو مرحلتَين وفق ما يقول قائد الفوج العميد الركن مارون أبو هلون.

ولأنّ الشهادة للوطن هي شهادة للحياة، كانت إقامتهم في الفوج مفعمة بالفرح والأمل إلى جانب من كانوا رفاقًا لآبائهم وباتوا بالنسبة إليهم آباء وإخوة أعزاء.

 

هذه أهدافنا

للمخيم الذي نظّمه جهاز الرعاية والشؤون الاجتماعية للعسكريين القدامى بالتنسيق مع الفوج المجوقل واستضافته ثكنة داني حرب في غوسطا، ثلاثة أهداف حددها رئيس الجهاز العميد الركن جهاد مرعي: الأول هو الحفاظ على صلة الوصل بين الجيش وعائلات الشهداء، وهو هدف أساسي للمؤسسة التي تعد هذه العائلات جزءًا من نسيجها وأمانة غالية تُحفظ وتُصان مدى الأيام، بالإضافة إلى خلق دينامية تفاعل بين أبناء الشهداء، وهذا يتم التركيز عليه باستمرارٍ من خلال إتاحة مجالات التعارف والتواصل بينهم في أحضان المؤسسة التي تُعنى بتوجيههم وتوعيتهم وتحصينهم ضد كل ما يُسيء إلى مستقبلهم. والهدف الثاني هو تربوي بامتياز من خلال سلسلة محاضرات أُلقيت على المشاركين. أما الهدف الثالث فهو سياحي ترفيهي لكنّه ينطوي على ما هو أبعد من التسلية، إذ يتضمن تعزيز ارتباط الشباب بوطنهم من خلال زيارة معالم سياحية واستكشاف الطبيعة اللبنانية.

 

بدءًا من أُخوة السلاح

كيف أمضى المشاركون الذين تراوح أعمارهم بين 15 و17 عامًا (23 من الذكور و25 من الإناث) الأيام الأربعة في رحاب الفوج الذي حمل آباؤهم شارته بكل فخر واستشهدوا وهم في صفوفه؟

باختصارٍ، عاشوا خلال الأيام الأربعة تجربة الحياة العسكرية، بدءًا من أُخوة السلاح وما تتسم به من روابط قوية بين رفاق يأتون من مناطق ومشارب مختلفة ليصيروا واحدًا في خدمة الوطن، مرورًا بنمط العيش في الثكنة وما يقتضيه من تكيّف مع الظروف وانضباط وتقيّد بالنظام والأوامر والمواعيد... وصولًا إلى التدريبات التي تبني قدرات العسكري وتزوّده المهارات اللازمة ليكون جاهزًا لأداء المهمات التي يُكلّف بها.

ارتدوا بزة الشرف والتضحية والوفاء، أدّوا التحية للعلم، وقّعوا خطواتهم المرصوصة، تجولوا في أرجاء الثكنة وتعرّفوا إلى نشاطات الفوج، تفقّدوا المتحف، وقف كل منهم بخشوعٍ أمام مقتنيات كانت لوالده وحُفظت بكل عناية. هنا تحضر الشهادة بكل عبقها في دموع تسيل من عيني ابنة شهيد تُخبر أنّها ولدت بعد استشهاد أبيها، وفي كلمات ابن شهيد آخر يُعلن أنّه سيختار الطريق الذي سار عليه والده عسكريًا في الفوج المجوقل... طريق التضحية إرث غالٍ.

تعرّفوا إلى مشغل الفوج ومنشآت التدريب فيه، استمتعوا بتنفيذ جولات هوائية، اشتعلت الحماسة في عروقهم وهم ينفّذون المداهمات، وفرحوا بركوب آليات الـ UTV وكان بانتظارهم المزيد من التشويق في الجولة الليلية التي استخدموا خلالها منظارًا يعمل بتقنية Night Vision، وفي سهرتهم حول النار.

لم تنته المغامرات المشوقة عند هذا القدر. فقد كانت بانتظارهم تجربة التسلق والهبوط بالحبال، وممارسة رياضة الـ hiking على درب المجوقل. كما كانت لهم فرصة الاستمتاع بنشاطاتٍ في عدة أماكن خارج الفوج، أمّن انتقالهم بينها فوج النقل: جولة بالتلفريك، وزيارة مغارة جعيتا وقاعدة جونية البحرية حيث قاموا بجولةٍ بحرية على متن القناص طبرجا، وتناولوا الغداء في نادي الضباط – جونية، فضلًا عن عشاء في مطعم وطى الصنوبر – غوسطا، وحلقات رقص ودبكة وغناء وسهرة نار لن ينسوها.

في ما خص التوعية، تابع المشاركون محاضرة ألقتها المحامية جوزيت يمين عن آفة المخدرات شارحة مخاطر الانجراف في هذا النفق المظلم.

أما الذكرى الأعز التي حملها المشاركون في المخيم فكانت تلك البطاقات التي كُتب على كل منها اسم شهيد، وهي نسخة مطابقة عن أخرى عُلّقت على غرسات الأرز التي زرعوها في محمية الفوج المجوقل الكائنة في ثكنة جان الياس وهبة - عيون السيمان. هناك وقف كل منهم أمام أرزة والده التي زرعها ليكون ذكره خالدًا كالأرز جميلًا كنسمات عطره. 

علي ابن الشهيد مصطفى الضاحي، ليا ابنة الشهيد الياس شهدا، جوان ابنة الشهيد يوسف البيسري، جواد ابن الشهيد محمد درّة وسواهم ممن شاركوا في المخيم، غادروا الثكنة متمنين لو طالت إقامتهم أكثر. على جباههم علامات الفخر، في قلوبهم دفق من الدفء والطمأنينة، فهم متأكدون أنّ دماء آبائهم الأبطال الشجعان لم تذهب هباءً، وهي لا بد أن تُزهر يومًا وطنًا يليق بتضحياتهم.

 

على خطى والدي

أضاف هذا النشاط إلى حياة من شاركوا فيه نقاطًا إيجابية، وعزز ارتباطهم بالمؤسسة العسكرية، ورسم للبعض خطاهم المستقبلية. حبهم للجيش ثابت أكيد، لكن الانخراط في صفوف العسكر بات أكثر حضورًا في خياراتهم. "سأخطو خطى والدي" قالها أكثر من مشارك، فيما أكد آخرون أنّهم اختبروا بالتجربة  مدى صعوبة الحياة العسكرية، وباتوا أكثر فخرًا بكونهم أبناء شهداء. ترفع إحداهن ذراعها وتشهر تاريخ استشهاد والدها المدوّن على ذراعها في حركة تُشكّل إعلانًا مبرمًا لهذا الفخر.