بلى فلسفة

الشيء
إعداد: العميد اسعد مخول

توجهت إلى المدينة مع صاحب لي من اجل تسلّم محفظة وردت إلينا من دولة بعيدة بواسطة سيدة صديقة. اتصلتُ بالسيدة معلناً حضورنا نحن الاثنين، فرحّبت، لكنها اعتذرت في الوقت نفسه عن اضطرارها لمغادرة بيتها إلى عمل خارجي، مطمئنة إيّانا إلى انها ستكلّف الخادمة امر التسليم.

وصلنا إلى المبنى المقصود، فترجل صاحبي ماضياً إلى غايته، وسعيت أنا إلى ركن سيارتي في زاوية جانبية صودف انها كانت مجاورة لغرفة حارسة المبنى التي تسمى على عادة اهل المدن البوابة (والبوابة هي انثى البواب... نجانا الله من وقع انوثتها).

كانت طيبة الذكر تلك تقف في فراغ الباب الذي اشتقّت اسمها من اسمه، تلقي كتفها اليمنى على احدى زاويتيه وبين يديها صحن تختار منه لشفتيها طعاماً تشتهيانه وهي تطلق سهم عينها اليسرى في اتجاهي، فيما خبأت العين اليمنى خلف ارنبة انف صغير ضاع في وسع مساحة وجهها، وقد اسرعت الاثنتان معاً للتشاور مع عقلها النسائي في شأن هويّتي.

ظننت للوهلة الاولى ان المرأة قد اعجبت بسيارتي، لكنها وضعت حداً لهذا الظن حين اندفعت نحوي سائلة:

- من تنتظر؟

- انتظر صاحبي.

- منزل مَن مِن الجيران قصد صاحبك؟

لم اجب، والقصد ان يكون في سكوتي ما يعلن بوضوح ان لا دخل لها بنا: أنا وصاحبي، تماماً كما أنه لا دخل لي بها: هي وصاحبها (في حال وجوده). فما كان منها إلا ان اسرعت إلى غرفتها حانقة غاضبة، وألقت بالصحن والطعام، وعادت تضرب باليدين على الركبتين حماساً وتوثّباً واندفاعاً واستعداداً، وانطلقت إلى لوحة الهاتف الداخلي المثبتة على الجدار المجاور:

- من الذي أتى إليكِ (بصوت مرتفع)؟

- ....

- لا احد؟ كيف ذلك؟ الرجل الذي صعد إليك الآن من هو؟ (يبدو انها راقبت المصعد عندما استقلّه صاحبي وحفظت رقم الطابق الذي قصده، وهو الطابق الرابع).

عند هذا الحد تركتْ الهاتف واسرعت إلى الاعلى قاصدة ان تضبط صاحبي في ما لا تحمد عقباه، فتنال عندها شهادة في النزاهة وحسن السلوك طالما انتظرتها.

كان عليّ ان اصعد بدوري إلى الطابق الرابع ذاك، مستبسلاً في الدفاع عن صاحبي، فقد يدهمه الخطر، وقد يتم تجريده من براءة طالما احتفظ بها، ويتم إلباسه ما لم يرتده يوماً من الظنون والاحكام.

غالبني التردد للحظات وصل الصاحب في نهايتها مسرعاً راكضاً لاهثاً رافعاً حاجبيه إلى الأعلى وقد سيطر عليه الهلع، وكانت المحفظة في يده:

- صعدت إليّ امرأة مجهولة مهاجمة.

- نعم، انها حارسة المبنى وراعيته ومؤدبة زائريه.

- كيف عرفت؟ أين رأيتها؟

- لقد انطلقت من هنا، من قاعدة انطلاق صاروخيها. انظر، هذه هي غرفتها، الغرفة التي تتخذ فيها القرارات المصيرية، والتي تطلّ منها على اوصاف المبنى واخباره في المعلن منها وفي الخفي المكتوم. تراقب الزائر وتشيّع المغادر، ويا  ويل من لا ترضى عنه...

.. المهم: ما كان موقفها منك؟

- لقد رأت فيّ مختلساً سارقاً: من أنت؟ ما سبب حضورك؟ ماذا تفعل هنا؟ كما انها  انهالت على الخادمة المسكينة، ليس بالاستفسارات والاسئلة فحسب، بل بأنواع لا حصر لها من التأنيب والسباب.

- ألم تبرز امامها، وعلى مرأى من عينيها اللتين ارشدتاها إليك، ما حوته المحفظة، تبريراً لنفسك وحماية لشخصك من الشكوك والاتهامات؟

- لم افعل. لم اجد ما يدعوني إلى ذلك، لم يكن محتوى المحفظة ما يعنيها.

- وما الذي كان يعنيها؟

- شيء آخر.

- وهل بدا امامها ما يشير إلى تعرّض الشيء الآخر المذكور للسلب؟

- لا.

- هل رأيت ذاك الشيء من قريب او بعيد؟

- ... من بعيد.

- ألم تقترب منه؟

- لا، بل ابتعدت.

- وكيف استطعت مغادرة المكان طليقاً سالماً في ظل تلك الظروف، هل شهدت الحارسة بحسن سلوكك فأطلقت سراحك؟

- لا، لقد اهملتْ ذلك تماماً، وتركتني للتأكد من حسن سلوك الخادمة، عندها اغتنمتُ الفرصة وانسحبت.

- هل كانت تؤنّبها لتقصيرها في تنظيف منزل مخدومتها، وهل راحت تحذّرها من كسر زجاجة ما في الصالة او في المطبخ؟

- لا بل حذّرتها من كسر الشيء الذي كلّمتك عنه.

- وهل ان هذا الشيء ضعيف امام الكسر، او كما يقولون بالفرنجي «Fragile»؟

- «Très fragile ».

- وما دخلك انت بالكسر طالما انها هي المعنيّة به في غياب سيدة المنزل؟ وانت ما لك وله؟ ولتكسّر الاشياء بعضها البعض («البطيخ يكسّر بعضه» كما يقول شعبنا).

- لكن الحارسة ظنت انني سأكسر هذا الشيء.

- ولمَ لم تقل لها انك مستعد، في حال ثبوت انه تعرض لفسخ او تصدع، ان تشتري شيئين بديلين عنه، واحد لها وواحد للخادمة.

- شراء بديل عنه؟ هذا صعب للغاية.

- صعب للغاية؟ وما نفع الدكاكين والحوانيت والمستودعات والمصانع التي تحيط بنا، إذن؟

- قد لا تصنع مثله.

- ما رأيك لو حاولنا ان نستورده من إحدى الدول السبع الأغنى والأكثر تقدماً في العالم؟

- قد تكون الدول الفقيرة افضل حالاً على هذا الصعيد.

- ألا نستطيع، انا وانت، ان نصنع مثله بأيدينا ونحن حرفيان متفننان، ومبدعان احياناً كما نحسب انفسنا؟ ما رأيك لو اتينا ثانية وطلبنا الإذن من سيدة المنزل للاطلاع عليه وتحديد مواصفاته في الطول وفي العرض، وفي كل وصف، تمهيداً لأن نصنع مثله، ونثبت للجميع أنه لا داعي للخوف عليه إلى هذا الحدّ؟

- ضحك صاحبي وقال: هذا الشيء لا طول له ولا عرض، تماماً كما انه لا لون للماء ولا طعم ولا رائحة. وأضيف: لا وزن له ايضاً.

- لا طول ولا عرض ولا وزن، إذن لا يمكن ان تقوم له قائمة.

- لا بل انها تقوم ... لكن، على سرّ عجيب.

- نجّنا يا الله، وكيف تستطيع حارسة المبنى هذه حمايته، طالما أنه صعب التحديد؟ كيف لها ان تضع يدها عليه لتتأكد من سلامته، مثلاً؟

- نعم، إنه صعب التحديد، وقد يكون غير موجود على الاطلاق، وهي تفترض انها تحرسه. قد تكون حارسة وهمية لشيء وهمي، وقد اكون انا سارقاً وهمياً لشيء تمت سرقته منذ وقت بعيد.

- ألَيس من الممكن ان يتم اعتقال السارق الحقيقي؟

- قد يكون هناك اكثر من سارق، لو تم القاء القبض على واحد لغاب عن الانظار عشرات... ويبقى مصير الشيء عرضة للشكّ والظن: سُرق... لم يُسرق... قد يُسرق... لا يُسرق... مع ذلك تجدر الرقابة الدائمة عليه في حسابات البشر.

- هل كان عليّ، يا ترى، أن اغتنم فرصة غياب الحارسة عن غرفتها، فأقدم على سرقة شيئها نكاية بها، وعقاباً لها، بعد هذه الورطة التي حاكتها لك؟

- هذا مستحيل، إذ لا يمكن ان تتم سرقة شيئها إلا بحضورها.

- عندها، هل تدعى السيطرة على الشيء، بحضور صاحبته، سرقة؟

- لا.

- ماذا تدعى إذن؟

- لا اعرف، ولو عرفت لـ «عرفت شيئاً وغابت عني أشياءُ»... رحم الله أبا نواس الذي فاق البوابة الحارسة في الشِعر... وفي حسن السلوك.