كلمات

الشيخ والكرسي
إعداد: العميد الركن الياس فرحات
مدير التوجيه

 

شهدت السنة التي ولد فيها الشيخ أحمد ياسين (1936) في جورة عسقلان ثورة قادها الشيخ عز الدين القسام، قضى فيها القسام شهيداً. لم يدر أحد أن هذا الوليد سوف يصبح قائد ثورة ضد احتلال توسع وطغى وتجبّر، وأنه سوف يستلهم الإيمان وروح الصمود والدفاع عن الوطن من الشيخ الذي سبقه الى الشهادة: عز الدين القسام. إثر حرب اغتصاب فلسطين وإعلان دولة إسرائيل عام 1948، نزح الفتى أحمد ياسين مع بعض قومه من جورة عسقلان الى غزة حيث حلّ لاجئاً وفي ذهنه مشاهد المجازر الإسرائيلية بحق شعبه. خرج الفتى من النكبة بدرس أثّر على حياته وعزز لديه الإيمان بالإتكال على النفس من أجل تحرير الوطن وبضرورة تسليح الشعب الفلسطيني، وبأن القيام بانتفاضة ضد الإحتلال هي الطريق الوحيد للتحرير. ذاق أحمد ياسين في غزة مرارة الفقر والجوع والحرمان ولم ينل من العلم في المدارس إلا القليل، لكنه وسّع معلوماته بجهده الشخصي وإرادته القوية. وزاد من شظف عيشه وقساوة ظروفه أن أصيب بالشلل وهو في ريعان حياته في سن السادسة عشرة. لكن هذه الإعاقة اقتصرت على الجسد ولم تصل الى الروح، كما أنها لم تنل من العزيمة التي اشتدت في مواجهة الإحتلال. عام 1967 تحوّل الصبي اللاجئ الى لاجئ "مكرر" ، أي لاجئ تحت الإحتلال، حيث دخلت القوات الإسرائيلية الى غزة، وبدأ نضاله عند ذاك ضد الإحتلال بعدما كان يخطط لنضال آخر من أجل تحرير الأرض. ورغم إعاقته، اعتقلته إسرائيل عام 1982وحُكم عليه بالسجن 13 عاماً، وما لبث أن أطلق سراحه عام 1985 في إطار عملية تبادل أسرى، لكنه عاد واعتقل عام 1989 وحكم عليه بالسجن مدى الحياة.

 وبقي الشيخ أحمد ياسين في السجن لغاية عام 1997 عندما أطلق سراحه في تبادل أسرى بين إسرائيل والأردن. حاولت إسرائيل اغتياله أكثر من مرة من دون أن تنجح، الى أن تمكنت منه بواسطة صاروخ من طائرة هليكوبتر حين كان أمام مسجد بجوار بيته المتواضع في غزة، فسقط شهيداً في سن الثامنة والستين. ما سرّ قوة هذا الشيخ المقعد، والذي فقد البصر من إحدى عينيه، إضافة الى ضعف في العين الأخرى، والذي تحوّل صوته الى مجموعة بحات متتابعة من شـدة العذاب والتعذيب في السجون؟ هذا السر يكمن في الإيمان العميق والعزيمة الشديدة والخلـق الكريم، فقد عاش الشيخ حياته زاهداً هو وعائلته. ولم تغـرّه بهجة الدنيا. حرمته الإعاقـة من التمتع بالحياة، لكنه لم يبـك على ذلك. كان متواضعاً أمام نفسه وأمـام الناس، ولم تحوّله كرسي الإعاقة الى الحقد ولا كرسي السلطة ضمن تنظيمه السياسي الى التسلّط، فكان هدفه الدائم تحرير الوطن من الإحتلال، وكان عمله المستمر مساعدة الفقراء والمحتاجين والأيتام ليجنّبهم ما أمكنه من مصاعب العيش التي عرفها منذُ طفولته. كان ياسين شيخاً جليلاً أجمع عارفوه على أنه نبذ التعصّـب ورفض الفتن، وصبر على الأصدقاء والأنصار ولم ينجرّ الى أية مواجهة جانبية، متمسكاً بالوحدة الوطنية للشعـب الفلسطيـني في ظروفه الحالكة. كما كان دقيقاً في المواجهة، فلم يحرّف اتجاه البندقيـة عن العدو الأساسي:

إسرائيل المحتلة الغاصبة فقط لا غير، فكان مثال المقاوم الشريف. صورته على الكرسي هزّت الكيان الإسرائيلي وهـددت إرهابه وجبروته، وكانت قوة الحق تنبع دائماً من كلامه، إذ كان صوته صوتاً للضمير الإنساني الحي. لم يهب الموت لحظة، ولما استشهد قال أحد أقربائه أن صحته كانت متدهورة ولم يكن ليعيش أسابيع أو أشهراً. لكن، وحسب طلبه ودعائه، أنعم الله عليه بالشهادة. وَسَموه بالإرهاب وهو تحت الإحتلال مقعد ومريض. وَسَموه بالإرهاب وشعبه يتلقى ضربات الإرهاب الإسرائيلي التدميرية التي قتلت النساء والأطفال وهدمت المنازل وشردت العائلات. وَسَموه بالإرهاب لكنه لم ينجر لمحاربتهم، بل بقي مصراً على أن عدوه هو الإسرائيلي المحتل. سوف تظل صورة هذا الجليل ساطعة أمام البشر تلهم الناس حب الوطن والتضحية في سبيله. سوف تظل صورة الشيخ والكرسي في أذهان الأحرار مشعّة. نعم... إنها صورة الشيخ والكرسي.