وجهة نظر

الصحافة الورقيّة: الأزمة والحلول
إعداد: جورج علم

تتناثر مناديل الورق فوق روابي الحنين كـ«ورق تشرين». لم يعد للقصاصات من معنى حين تغيب القضيّة، ويذبل الحب، وتغادر الأقلام محابرها، ويصمت الحقّ عن الباطل، وتتغاوى الكيديّات على الشرفات.
الصحافة الورقيّة في أزمة؟ نعم! ولكنّها ليست في مناحة، ولن تموت، لأن الشعاع لا يموت في الشمس، ولا يحجب الليل نعوسة القمر، ولا تطيق الظلمة نفسها من دون ضوءٍ خافت، ولو من بعيد.

 

...وفي البدء كانت الكلمة
هذا الوطن المغمور بعطاءاته وإبداعاته، تعوّد أن يستيقظ مع كل فجر، ويحتسي القهوة عند مصطبة الصباح، ويمتشق الصحيفة الطازجة بين يديه، يلتهم مقبّلاتها بِنَهمٍ وشوق، وتبحر عيونه على صفحاتها وضفاف أعمدتها، تستنبش الدرر والعبر. هذا الوطن كان، قبل أي شيء آخر، حرفًا ينثره شراع مغامر على الشواطىء البعيدة. كان صحيفة ومطبعة، ورقًا وحبرًا، وأقلامًا رائدة تجوب تحت كلّ شمس، وفوق كلّ أرض، ألم يكن قدموس، وعشتروت، وقيثارة الحب، والأبجدية المتنقّلة من ضفاف بيبلوس إلى البحار السبعة على وقع ضربة مجذاف، وخفقان شراع، يحملها الفينيقي الأول بترحاله وتجواله ينقلها شعاع فكر وحضارة، أينما حلّ، وحطّ المراسي؟!.
نعم. هو لبنان المنضدة، والقلم والمحبرة، والورق المشظّى بثقوب المعرفة، والكتاب والمطبعة، والصحيفة المتقنة، وقهوة الصباح الممزوجة برحيق المداد المطلّ على روابي الإبداع حيث ينتصب عرزال الأدباء والشعراء والفلاسفة، والعصارة الفكريّة المتّقدة، التي اختزلت المسافة ما بين الأرض والسماء، بكلام.
إنّ وطنًا على هذا العلوّ من المداميك التنويريّة، لا تموت فيه الصحافة الورقيّة، قد تخبو قد تنزوي، أو تصاب بزكامٍ طفيف، لكن سرعان ما تنتفض كالطائر الفينيق.

 

صحافة القضيّة الوطنيّة
كانت دائمًا رفيقة الزمان، والحدث، ولدت في عصر النهضة كمحرّك للشعوب والأمم التوّاقة إلى الحرية والعدل والمساواة، لم تكن عند انطلاقتها أداة ابتزاز، ولا شركة مساهمة تبغي الربح، ولا وسيلة فعّالة في بناء جدار الكيديات، كانت المرآة الصافية التي تعكس صورة المجتمع، وحقوقه، ومطالبه، ومعاناته. كانت القضية، والرصاصة المصوّبة بوجه الظلاميّة سواء أكانت فكرًا، أو نهجًا، أو عقيدة. كانت اليراع المروّس الذي ترك أثلامًا حادة في وجه الاستعمار، وأدّى الدور المؤثر على مسرح الأحداث مع نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وساهم في فتح الأبواب المغلقة أمام نسائم الحريّة، وأيقظ النفوس من ثباتها، وشحذ الهمم، ورفع المعنويات، ودفع بالمجتمع إلى الخروج من كهوف الخوف والذل، إلى مراتع الحريّة حيث الشمس، والمدى الرحب.
كانت الصحافة يومها مجموعة نخبويّة من الأقلام، وقناطر معقودة بعيدة عن الوشايات، وبضعة وريقات تنتظرها الغالبيّة بشغف، وتتناولها الأيدي كما التبر المشغول باتقان، من المدينة إلى القريّة، ومن ساكن الكوخ، إلى نزيل القصر المنيف.
كان الصحافي مواطنًا صادقًا مع نفسه ووطنه، شاعرًا، أديبًا، مبدعًا، رؤيويًّا، ينكبّ على الكتابة كواجب وطني، ليعبّر عن قناعات صافية متحررة  من الأدران.
كان مزارعًا، أو تاجرًا، أو صناعيًا، أو حرفيًّا، بمعنى أنّه كان «يعتاش» من وظيفته، وكانت الصحيفة مجرّد وسيلة لنقل آرائه، وبنات أفكاره، ومتنفسًا عمّا يخالجه من مشاعر معبّأة بتطلّعات وطنية رائدة. كان مستنفرًا في خندق المواجهة، يقارع المحتلّ، يُغضبه، يُقلقه، يُفسد عليه هناءته، ويرشقه بمضابط الاتّهام، ويسجنه في أقبية التأديب المعنوي، ويرفع في وجهه سيف الحق المطالب بالاستقلال، والحرية، وإذا ما نطقت أعواد المشانق في ساحة الشهداء، فإنها ستتذكّر بإجلال الدماء التي أزهقت، والتي كانت عن جدارة حبر أقلام النخبويّين من الصحافيين الأبطال الذين علّقهم جمال باشا السفّاح على أعواد المشانق، لكي يكونوا العبرة، وإذ بهم يمسون بخورًا يملأ الأرجاء برائحة الشهادة والبطولة.

 

...وكانت صحافة رسوليّة
مع صحوة الاستقلال بدأ التحوّل الكبير: من صحافة القضيّة، إلى صحافة الرسالة، وجهتها المجتمع وقضاياه، الفقر، الأميّة، الانفتاح، التسامح، محاربة الفئويّة، والتعصّب، والتزمّت، والمطالبة بالحقوق البديهية للمرأة، للفرد، للمجتمع. كانت صحافة البناء وترسيخ أساسات الوحدة الوطنية، ورفع مداميك التطوّر، والتقدّم، والحداثة.
في ما بعد، بدأت الصحافة الورقيّة في لبنان وبعض دول المنطقة تتحول من «تعاونيّة نخبوية» إلى مشروع مؤسسة، مكاتب، وورق، ومطبعة، وموظّفين، ومندوبين، ومراسلين، وبدأت مسيرة العودة من الآكام الشامخة نحو المصالح الفرديّة أو الفئويّة، ولم تعد على طوباوية مترفّعة في خدمة الأوطان، والقضايا المصيريّة، بقدر ما أصبحت في خدمة الفرد سواء أكان حاكمًا، أو سياسيًا، أو اقتصاديًا، أو مجموعة من النافذين في الشأن العام!
شكّلت مرحلة الخمسينيات نقلةً نوعيّة، عندما خلعت الصحافة إكسيم الرسالة، لترتدي عبــاءة المؤسســة – المصلحة، فالغاية اقتصاديّة بحتة، والهدف الربح السريع، وتكديس الأموال في المصارف. لم يعد الحديث عن المضمون والمحتوى، بل عن الشكل، ولم يعد المقال المتقن الخلّاق هو المرتجى، بل الأغراض التي تستفزّ العواطف، وتجيّش الغرائز، وتحرّك بورصة البيع والشراء، وجمع المال والغلال، ولو بأساليب ملتوية.

 

زمن البحبوحة الاقتصاديّة
عاشت الصحافة منذ مطلع الستينيات عصر النفط، والفورة الاقتصاديّة، والازدهار، والتمدّد أفقيًا، وعموديًا، وتحوّلت إلى عمارات شاهقات بالمبنى المؤسساتي، والمضمون المهني. كانت القوّة المعنوية الضاربة على الساحتين المحليّة والعربيّة، وفاض التنوّع بالمواضيع ليشمل مختلف النشاطات، وإذ نحن أمام مدٍ هائل من المجلاّت المتخصّصة بالفن، والاقتصاد، والاجتماع، والرياضة، والمال والأعمال حتى تحوّلت أكشاك الباعة إلى باقة غنيّة بالإصدارات المتنوّعة الغنية بالمضمون والمحتوى.
استمرّ هذا الدفق الغني بزخمه ووهجه حتى عتبة الحرب منتصف السبعينيات، وأيضًا عتبة الأزمة الاقتصاديّة الدوليّة الخانقة، عندها بدأت الصحافة تمارس تمارين الهبوط الاضطراري، وتعيش على فتافيت التناقضات الداخلية والعربيّة، وغالبًا ما كانت في موقع الدفاع عن النفس، تجانب الجلاّد كي لا تتحوّل إلى ضحيّة. تبغي الربح، وهي تمارس هواية «حزّ السكين»، ولا هم، طالما أنّ المموّل خارجي، والمساهم خارجي، والداعم خارجي، وهذا ما دفع آنذاك برئيس الجمهورية المثقّف شارل حلو إلى القول، وهو يستقبل أعضاء نقابة الصحافة: «أهلًا بكم في وطنكم الثاني.. لبنان؟!».

 

تشوّهات خطيرة
مشكلة الصحافة الورقيّة في لبنان بدأت عمليًا مع بدايات الحرب الأهليّة، أو حرب الآخرين على أرض لبنان، خرجت منها معوقة تمامًا، تعاني تشوهّات مكلفة. لم تعد صحافة القضيّة، ولا الصحافة – الرسالة، بل تحوّلت إلى منابر فئوية، طائفيّة، مذهبيّة، تخصّصت في إعلاء شأن الكيديات، والعصبيّات، والانقسامات. كانت عنصرًا حيويًا، وشريكًا أساسيًا فاعلًا في معركة الانزلاقات الكبرى التي شهدتها الدولة والمجتمع. كان يكفي أن تذكر اسم المطبوعة حتى يشار بالبنان إلى الجهة التي إليها تنتمي، ومن تكون، وما هي سياستها، وتوجهاتها، وفي أي بلاط تخدم، ومدى صدقيتها، وشفافيتها؟
وتفاقمت الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، مع تدنّي أسعار النفط، لتزيد على الطين بلّة، فتراجع الدعم، ونضبت التحويلات، وحدث الطلاق المريع، بين من كان يستثمر بالإعلام، وبين المطبوعة «المستأجرة»، وبدأ زمن الانحدار، وضاقت اللائحة بالأسباب والدوافع:
أوّلها: إنّ الحرب الدامية قد شكّلت طعنة نجلاء في جسم الصحافة، ودفعت بها من روابي التألق إلى المتاريس المتقدّمة بين الأفرقاء، فتلوّنت بألوانهم وانصبغت بشعاراتهم.
ثانيًا: إن الانخراط كان مكلفًا وأخذ الصحافة من الساحات الوطنيّة الرحبة إلى الزواريب الميليشياوية، الفئوية، فأصبحت طرفًا في عواصف الغضب، والحقد، والكراهيّة، وهذا كلّه على حساب موضوعيتها، وتجرّدها، وصدقيتها. وما خسرته في هذه المجالات ليس بقليل.
ثالثًا: تراجع المبيعات في أكشاك الصحافة، إلى حدّ أنّ المقارنة باتت مشروعة لدى المواطن بين ثمن الصحيفة، وثمن ربطة الخبز، وكانت النتيجة لمصلحة الرغيف.
لا أحد ينكر التطوّر الذي دهم وسائل الإعلام، والتقنيات الحديثة، والتنوّع الهائل، حيث بات بمقدور أي فرد، أو أي جماعة استخدام العديد من الوسائل المتاحة للحصول على الخبر، والصورة، والشريط، والمقال، أو أي خدمة أخرى تقدّمها المنابر الرائجة في عالم اليوم، وهذا ما دفع بالشباب إلى الاحتفاظ بقروشهم، والتخلّي عن الورقيّة، والتحوّل إلى الرقميّة.
رابعًا: تخلّي أصحاب الصحف عن النخب لمصلحة المبتدئين، وتقديمهم المصالح الماديّة على حساب النوعيّة.
إن التحوّلات التي أصابت عالم الصحافة الورقيّة قد دفعت بأصحاب المؤسسات الإعلاميّة لأن يكونوا أقرب إلى الرأسماليّة الجشعة التي تنظر إلى الصحافييّن كمنتجين، وإلى المنتجين كأنهم ماكينات طباعة لا أكثر، فالمهم هو العدد، لا النوعيّة، إلاّ أن ما انتهت إليه المهنة من عواقب ومضاعفات في محيطنا اللبناني – العربي، تنبّهت له الصحافة الأوروبيّة – الأميركيّة، عندما تحوّل العاملون في المؤسسات إلى شركاء فعلييّن، بعدما اقتنع المؤسس أو رجل الأعمال بأن لا مؤسسة منتجة ومربحة من دونهم.
خامسًا: إن التشوّهات الكثيرة التي أمعنت تجريحًا وإضعافًا بالمؤسسات الإعلاميّة، قد انعكست سلبًا على مردوداتها الإعلانية، ذلك أنّ المعلن تاجرٌ يبحث عن الوسيلة الأوسع انتشارًا.
سادسًا: إن انخفاض أسعار النفط قد أطاح بالتحويلات المالية التي كانت تغطّي تكاليف الصحف، والمجلات، وتوفّر لها فائضًا ماليًا خياليًا. وهذا ما دفع بالبعض من أصحاب الإصدارات إلى توزيع أوراق «المناعي» مع كلّ إصدار، حول المستقبل المأساوي لمؤسساتهم.

 

ما الحل؟
لا أحد ينكر التحوّلات والتبدّلات والضغوطات والتشوّهات التي أصابت الصحافة الورقيّة، لكن الحقيقة تقضي الاعتراف بأن أصحاب المؤسسة لم يغيّروا، ويبدّلوا، ويطوّروا، ويرسموا الخطط التي تأخذ بعين الاعتبار التحدّيات الماثلة، والأخرى المحتملة، ويوفّروا ما يلزم من دعائم وضمانات تؤكد استمرارية الصحيفة مندفعة قادرة على جبه كل الصعوبات، وجني المزيد من الأرباح، والزبائن، والقرّاء.
إذًا لا بدّ من التغيير. ولا بدّ أن يبدأ التغيير بإعادة النظر بهيكليّة النقابات والأندية التي تمثّل الجسم الصحافي اللبناني، واستبدالها بإطارٍ نقابيٍ خاص يُعنى بشؤون المهنة وشجونها، ويحمي صاحب الصحيفة، أو الامتياز، كما يحمي العاملين من إعلامييّن، وإدارييّن، وفنييّن. وأولى الخطوات العملانيّة تكون باستحداث صندوقٍ مستقل تساهم الدولة في تمويله، إلى جانب المؤسسات، يوفّر التأمين الصحي والطبّي الشامل لكل عاملٍ في هذه المهنة، ويظلّ مستفيدًا من هذا الصندوق لمدى الحياة، سواء أُخرِج من عمله عنوة، أو في حال خروجه لأسباب قاهرة.
ولا بدّ من قانونٍ إعلامي عصري يُتيح للعامل في المؤسسات الإعلاميّة الحصول على أفضلية الدعم، إن لجهة القروض الميسّرة لتعليم أولاده، أو لشراء منزل، أو توفير مظلّة قانونية تحميه من الصرف الكيفي، الكيدي، الاعتباطي. ولا بدّ أيضًا من تعديل قانون العقوبات الخاص بالمطبوعات، وتوسيع هامش الحريّات الذي تحتاج إليه المهنة اليوم، بقدر ما يحتاج اليه الرأي العام.
ولا بدّ من دور سلطوي مستمدّ من مؤسّساتنا الدستوريّة، يساعد العاملين في وسائل الإعلام على توقيع عقد عملٍ جماعي تقرّه النقابة الجديدة، مع جميع أصحاب الوسائل الإعلاميّة، بما يحدّ من الأعمال والممارسات التعسّفية، ويجعل المهني مساهم أساسي في المؤسسة، فإن ربحت يربح، وإن خسرت يكون شريكًا في الخسارة. ولا بدّ مقابل الدعم المفترض تقديمه إلى المؤسسات، أن يُصار إلى إعفاءات من بعض الرسوم، أو الضرائب، أو دعم أسعار الورق، أو توفير قاعدة مشتركين أكبر، مقابل حق الدولة في مراقبة الأداء المالي لهذه المؤسسات، وهذا ما يوجب على كل مؤسسة إعلاميّة تتلقّى الدعم من الدولة، أن تخضع للقوانين التي تتيح للهيئات الرقابية، كديوان المحاسبة، أن تكشف عن موازنتها، وأرقام مبيعاتها، وعن حصصها الإعلانيّة، وعن كل ما يرِدها من أموال، لضمان الاستمراريّة.
نعم! إنّ الصحافة بوجهٍ عام، والورقيّة منها بوجهٍ خاص، تُعاني أزمات مالية، وإداريّة، ومهنيّة كبرى... لكنّ الأهم أنّها تعاني بسبب التحدّيات الأخلاقيّة، وهنا تكمن المشكلة!