دراسات وأبحاث

الصراع على الأوراسيا وتطويق الدب الروسي
إعداد: الدكتور احمد علّو
عميد متقاعد

نحو عـالـم لن يكـون بقطـــــب وحيد

يرى كثير من منظّري الجيوبوليتيك، قديماً، وحديثاً أن من يسيطر على روسيا، يسيطر على العالم، ومن يسيطر على قلب العالم يسيطر على «الأوراسيا» (أوروبا وآسيا)، ومن يسيطر على الأوراسيا، يسيطر على العالم، وقد سعت الولايات المتحدة، وما زالت تسعى الى تحقيق هذا الهدف منذ تفرّدها بقيادة العالم. وينسجم هذا السعي مع سياسة منظّري المحافظين الجدد الذين هيمنوا على قرارات الإدارة الأميركية الجمهورية خلال العقد الماضي، وروّجوا لاستراتيجية بناء «القرن الأميركي الجديد»، والهيمنة المطلقة على العالم، من خلال إقامة منظومة من الدول الحليفة، الخاضعة لسياستها عبر استخدام القوة بمكونَيها: الناعمة (Soft Power)، والصلدة (Hard Power) واستخدام الوسائل المختلفة، وفق مقولة العصا والجزرة، مع دول الممانعة، أو تلك التي تتبنى سياسات معارضة لسياسة هيمنة القطب الواحد.


روسيا: مصدر قلق دائم
شكّلت روسيا قلقاً دائماً، وصداعاً للولايات المتحدة، فعلى الرغم من سقوط الاتحاد السوفياتي وتشظّي منظومته السياسية والإقتصادية والعسكرية، فإن روسيا ما زالت تمتلك ترسانة نووية كافية لتدمير الولايات المتحدة وحلفائها. وعلى الرغم من تفكيك القسم الأكبر من هذه الترسانة وتدميرها وفق الإتفاقات التي عقدت ما بين الدولتين، فروسيا حتى اليوم، تملك حوالى 5200 رأس نووي، كما تمتلك وسائل إيصالها المثلثة الأضلاع: (أرض - جو - بحر). وقد عملت على تطويرها، وتطوير تقنية إيصالها، واعتراض وسائل مهاجمتها.  
غير أن عبقرية المصالح الأميركية، واستراتيجياتها تفتقت عن فكرة بناء درع صاروخي أميركي على الأراضي الأوروبية، بعد أن أقامت قواعد لهذا الدرع في ولايتي ألاسكا وكاليفورنيا، ليحميها من أي هجوم صاروخي يأتيها من جهة الغرب، وهذا الغرب بالنسبة الى غربها، هو روسيا من جهة وكوريا الشمالية، والصين، من جهة أخرى. أما الهدف المعلن لبناء هذا الدرع في أوروبا، فهو حماية أوروبا والولايات المتحدة من الصواريخ الإيرانية، وغيرها من «الدول المارقة» كما تصفها السياسة الأميركية.

 

مفاوضات فاشلة
حاول الرئيس الأميركي «جورج بوش الإبن» طوال سنوات إقناع زميله الروسي فلاديمير بوتين بجدوى نشر هذا الدرع في أوروبا، وعلى أراضي كل من دولتي بولندا وتشيكيا، العضوين السابقتين مع روسيا في حلف «وارسو» تحت مظلة الإتحاد السوفياتي السابق، واللتين تلامسان حدود «الروسيا الفدرالية»، لم يقبل بوتين، بعروض الرئيس بوش الإبن وإغراءاته، حتى ترك منصب رئيس الإتحاد الروسي وانتقل الى رئاسة حكومته، ومن موقعه الجديد أعلن رفضه لمشروع بناء هذا الدرع واعتبر أنه يشكّل تهديداً مباشراً لروسيا وأراضيها، وحدودها، حتى أن الرئيس الروسي الجديد حذّر في 26/8/2008 من رد عسكري إذا أصرّت الولايات المتحدة على نشر مثل هذا الدرع في أوروبا.
وعلى خلفية النزاع الذي اندلع مع جمهورية جورجيا «القوقازية»، في مطلع شهر آب 2008 (6 آب)، ومع تداعيات بعض دول حلف «الناتو» ودعواته لدعم جورجيا، وإعلان بولندا وتشيكيا موافقتهما على إقامة الدرع فوق أراضيهما، أعلنت روسيا في 10/9/2008 «أن تشيكيا وبولندا قد تصبحان هدفاً للصواريخ الروسية رداً على نشر هذه الصواريخ»، كما هدّد قائد عسكري روسي «بقصف مراكز هذا الدرع في هذين البلدين».

 

استراتيجيا «تطويق الدب»
منذ انهيار الإتحاد السوفياتي السابق العام 1991، تحاول الولايات المتحدة استدراج الدول التي كانت سابقاً ضمن منظومة الاتحاد السوفياتي، أو حلف «وارسو»، سواء الى الإتحاد الأوروبي، أو الى حلف الناتو (Nato)، وتشجيع هذه الدول لبناء ديمقراطيات جديدة، على الطريقة الغربية، وبخاصة تلك التي تحيط بروسيا، كدول البلطيق شمالاً، وبولندا، وروسيا البيضاء، وأوكرانيا، غرباً، وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان في بلاد القوقاز، وعبر بحر قزوين الى دول آسيا الوسطى مثل: تركمانستان، وأوزبكستان، وقرغيزستان وطاجكستان، وكازاخستان، على حدود الصين.
وقد نجحت الولايات المتحدة في إقامة قواعد عسكرية، ولوجستية في بعض هذه الدول، تحت شعار، المساعدات لدعم الديمقراطية وبنائها، وتشجيع هذه الدول على بناء إقتصاد السوق، ودولة السوق (Market State) ليحط فيها قطار العولمة الأميركي، المسيّر من قبل الشركات العابرة للقارات والحدود، والقوميات، لتأمين مصالح الشركات العالمية للنفط والغاز من هذه المناطق الغنية، عبر خطوط أنابيب آمنة، من خلال أراضي هذه الدول، وتحويلها الى قواعد عسكرية محتملة، لحماية هذه الخطوط.
وبذلك يتم تطويق روسيا بشبكة من الدول الموالية للولايات المتحدة، والمتعاونة معها في أي صراع قادم، أو محتمل، مع روسيا أو الصين، أو إيران، في ما بعد، أو عند الضرورة، وهكذا، فإن فكرة إقامة قواعد للصواريخ ورادار في بولندا وتشيكيا كانت ستستكمـل بإقامـة قاعدة أخرى في القوقاز، في جورجيا، أو أذربيجان القريبتين من حدود روسيا، وإيران في الوقت نفسه، وربما هذا ما جعل من أزمة جورجيا ودول القوقاز تندفع بعنف الى واجهة الأحداث في العالم اليوم.

 

بلاد القوقاز (Caucasus)
وتشكل بلاد القوقاز حاجزاً جبلياً، جيوبوليتيكياً يقوم ما بين قارتي آسيا، وأوروبا، أو «أوراسيا»، تتخللها الجبال العالية والأراضي المنخفضة، وتسكنها مجموعة مختلفة من الشعوب، المتعددة اللغات والأديان والقوميات، وتتضمن اليوم كلاً من: جورجيا، أرمينيا - أذربيجان، القسم الجنوبي من روسيا، شمال شرق تركيا، كما تتضمن بعض الأقاليم المتنازع عليها مثل: أبخازيا، وأوسيتيا الجنوبية، كذلك إقليم «ناغورنو كراباخ». وتقع بلاد القوقاز ما بين البحر الأسود من الغرب وبحر قزوين من جهة الشرق، وهي بمنزلة معبر ومحور ما بين بحرين حيث يمتاز بحر قزوين بثرواته الكبيرة بالنفط والغاز، كما يمتاز بموقعه الجيوستراتيجي المهم في الصراع على الأوراسيا، إذ تشاطئه روسيا ودول القوقاز، وإيران وكازاخستان وتركمانستان (من دول آسيا الوسطى)، حيث يحتدم الصراع حول إمدادات أنابيب النفط، وأمنها، ودول المحيط من أفغانستان الى باكستان وإيران والعراق وتركيا حتى البحر الأسود. فهذه الدول تشكّل ميداناً دموياً وساحة تشتبك فيها مصالح دول المنطقة، كما تصطرع فيها الصراعات الإثنية، والعرقية، التي تتقاطع، أو تصطدم مع مصالح الدول الكبرى. كما أن هذه الدول الكبرى ومصالحها تعمل على تغذية هذه الصراعات وإضرامها لخدمة مصالحها، وما اندلاع الصراع في القوقاز إلا بداية، ومؤشر على منحى الصراع العالمي نحو عالم لن تكون الولايات المتحدة قطبه الوحيد...


(يتبع)