قضايا معاصرة

الصناعة العسكرية الخاصة
إعداد: العميد المتقاعد أحمد علو
دكتوراه في العلاقات الدولية

تساؤلات ومعضلات تواكب عمل المقاولين الجدد

 

يشير السجل المختلط والملتبس للشركات الأمنية في العراق الى بعض المشاكل الأساسية والتساؤلات المرتبطة بنمو الدور المتصاعد لهذه الصناعة في سياسات الولايات المتحدة، حيث تبرز خمس معضلات واضحة نتيجة لظهور الخصخصة المتصاعدة للقوات المسلحة. هذه المعضلات والعوائق تتمحور حول: المنفعة المادية من العمل العسكري، وغياب الرقابة الكافية والقواعد والقوانين، اضافة إلى الخطوات التي تقوم بها الحكومات اليوم، وانتهاء بوجود القوات المسلحة النظامية.

 

1- مسألة المنفعة المادية من العمل العسكري:
ذلك أن حوافز شركة خاصة ليست بالضرورة متلائمة مع مصلحة الزبائن، ومع المصلحة العامة. هذه المشكلة (في عالم مثالي) يجب أن تؤخذ بجدية من خلال ادارة جدية ومراقبة واستشراف، بينما لا تتوافر هذه الأمور على أرض الواقع.
وفي المحصلة النهائية، فإن الادعاء بالاكتساب من الحرب قد وجه إلى عدة شركات، فمثلاً: ان نائب رئيس الجمهورية ديك تشيني الموظف السابق في شركة «هاليبورتن» اتهم بعدة مفاسد في العراق، تتراوح ما بين زيادة حجم فواتير أسعار البترول وقبض بدل عقود لم تنجز (تقدر بنحو 1.8 مليار دولار)، كذلك فإن شركة «كاستر بتلز» (وقد ظهرت على الصفحة الأولى لصحيفة وول ستريت جورنال، في آب عام 2004)، اتهمت بالقيام بأعمال احتيالية في تضخيم فواتيرها.
ان ما يثير القلق من وجهة نظر هذه السياسة يبقى غياب المراقبة، حتى وإن كان المقاولون يقومون بمهام عسكرية، فإنها تبقى أعمالاً خاصة وهذا يقع خارج اطر القيادة والقضاء العسكري وأنظمتهما. وبخلاف الوحدات العسكرية، فإن الشركات العسكرية (PMFs) تحتفظ بخيار انتقاء العقود أو بتعليق عملياتها لأي سبب كان، إذا أصبحت هذه الأعمال خطرة أو غير ذات منفعة مادية كافية. كذلك فإن مستخدمي هذه الشركات وعلى عكس الجنود، يمكنهم ترك وظائفهم ساعة يشاؤون، وهذه الحرية تخلق للقوات المسلحة مأزقاً حرجاً كما حدث عدة مرات في العراق، ففي خلال فترات العنف الكثيفة، فإن العديد من الشركات أجّلت، أو علّقت، أو أنهت عملياتها، مما أثقل كاهل القوات المسلحة النظامية، وفي مناسبات أخرى تحمّل مستخدمو الشركات الخاصة أخطاراً أكبر من تلك التي واجهت القوات المسلحة النظامية.

 

2- غياب الرقابة الكافية على عمل هذه الشركات:
مع تحوّل هذه الشركات إلى صناعية كونية، فقد أصبح من الصعب تحديد من يعمل لها، ولمصلحة من تعمل هذه الشركات؟ ذلك أن تطويع وتأجير الأفراد لعمل عسكري عام يبقى في أيد خاصة، ففي العراق مثلاً، برزت هذه المسألة وكأنها طلب سريع للثروة من كثرة تدفق المتطوعين والشركات رغبة في الكسب السريع وعبر شركات تدخل السوق لأول مرة. ولكن ربما من الانصاف ان نذكر أن الكثير من الشركات الخاصة تضم مستخدمين من أصحاب الكفاءة العالية، فهناك عدد كبير من متقاعدي القوات الخاصة الأميركية (Special Forces)، كذلك هناك اعداد من أفراد النخبة في القوات البريطانية الجوية الخاصة (Special Air Service)، ولكن الاندفاع من أجل الكسب المادي قاد بعض الشركات إلى تدوير الزوايا في اخفاء طرق عملها.
لقد عمل المقاولون العسكريون لصالح حكومات ديمقراطية، والأمم المتحدة ولصالح منظمات انسانية وبيئية، كما أنهم استُخدموا لصالح أنظمة ديكتاتورية، ومنظمات ثورية، وكارتل المخدرات، كذلك، وقبل 11 أيلول 2001 فهناك من عمل لصالح منظمة «القاعدة».

 

3- الخطوة البارزة لدى الحكومات اليوم:
ذلك لأن هذه الشركات قادرة على انجاز أهداف عامة من خلال وسائلها الخاصة، وبكلمات أخرى، فهي تسمح للحكومات بإنجاز أعمال لا يمكنها انجازها من دونها، كتلك التي لا تحظى بموافقة قانونية أو تشريعية.
والاستخدام المتزايد للمقاولين من قبل الولايات المتحدة في كولومبيا هو تعبير عن هذا التوجه، فمن خلال استئجار بعض الشركات العسكرية الخاصة استطاعت الإدارة الالتفاف على الكونغرس حول حدود تورط قواتها العسكرية وحجمها في الحرب الأهلية الكولومبية.
كذلك، فإن استخدام هذه الشركات في العراق يرسم مثلاً آخر.
ان تخصيص بعض مهمات الولايات المتحدة، خفّض من الثمن الباهظ الذي دفعته سياسات الادارة الأميركية تجاه الرأي العام الأميركي والعالمي، فمقابل حوالى 20 ألف متعاقد عسكري ينتشرون في العراق مع القوات النظامية الأميركية، تجنبت الولايات المتحدة استدعاء الاحتياط، أو الحرس الوطني أو نشر المزيد من القوات أو عقد اتفاقات مع حلفائها لزيادة عديد قواتها، مما يرفع من الثمن السياسي المطلوب منها تجاه حلفائها، وهكذا استطاعت الولايات المتحدة تجنب دفع الثمن المطلوب للحرب وبكلفة أقل.
كذلك، فهي تجنبت ذكر عدد القتلى والجرحى الحقيقي وبالتالي الكلفة الحقيقية للحرب، فعدد قتلى المقاولين وجرحاهم والمخطوفين منهم، لا تذكر في وسائل الاعلام ولا تدرج في لوائح وزارة الدفاع. ولكن هذا يطرح مشكلة رئيسية بالنسبة لمفهوم الحرية والديمقراطية في الولايات المتحدة على المدى البعيد وعلى صحة هذه الديمقراطية ذاتها، وكما يقول الكاتب «آرثر ميللر»: «ان الحكومة الديمقراطية هي حكومة مسؤولة، يعني حكومة خاضعة للمحاسبة والمساءلة، والمشكلة الرئيسية هي أن هذه التعاقدات التي تقوم بها الحكومة (خارج السياق)، تضعف من فرص محاسبتها ومساءلتها».

 

4- غياب القواعد والقوانين والمراقبة:
تخلق الشركات العسكرية معضلات قانونية على صعيدي الأفراد والشركات، فهذه الشركات ومستخدميها هي الآن أجزاء متكاملة في عمل عسكري واحد، تحاول أن تتعامل وفق القوانين العسكرية والتي تميّز ما بين العسكري والمدني، ولكن المقاولين ليسوا مدنيين بصفة مطلقة، فهم يحملون السلاح ويستعملونه، يستجوبون الأسرى، يطلقون القنابل ويقومون بأعمال عسكرية مختلفة، كذلك فهم ليسوا عسكريين أيضاً. وكما كتب أحد المحلّلين القانونيين العسكريين «من الناحية القانونية، ان وضع المقاولين العسكريين، هو في نفس المنطقة الرمادية: تماماً كالمقاتلين غير الشرعيين المحتجزين في غوانتانامو».
ان هذا النقص في الوضوح، يعني أن المقاول الذي يقع في الأسر، يقع في وضع يصعب على محتجزيه تحديد وضعه القانوني، مما يعني وضعاً أليماً وغير واضح أو معروف، وكما حدث لثلاثة أميركيين في شركة «كاليفورنيا ميكروويف سيستم» الخاصة تحطمت طائرتهم في منطقة الثوار في كولومبيا سنة 2003 وما زالوا محتجزين حتى الآن، ولا يتمتعون بأي حق للاستفادة من اتفاقية جنيف (عام 1949)، في حين يبدو أن رؤساءهم وحكومة الولايات المتحدة قد غسلوا أيديهم من الموضوع.
كذلك تبرز هذه الصعوبات عندما يرتكب أحد المتعاقدين جرماً ما فمن غير الواضح، كيف؟ ومتى؟ وأين؟ ومن هي السلطة الصالحة أو المسؤولة عن التحقيق، والمحاكمة، أو المعاقبة لهذا الجرم؟ وذلك على عكس الجنود الفعليين الذين يحاسبون وفق قوانين بلادهم العسكرية وعدالتها أينما وجدوا، بينما المتعاقدون يجدون أنفسهم في وضع ضبابي وغير محدد في القانون الدولي (ذلك انهم لا يتطابقون مع مفهوم التعريف القانوني للمرتزقة).
وبما أن المحاكم العراقية غير مؤهلة بعد للنظر في مثل هذه الجرائم، وتقع تحت حكم الاحتلال الأميركي، فإن جرائم المتعاقدين العسكريين لا تدخل ضمن صلاحيات هذه المحاكم، كما انه من الصعب محاكمتهم في بلادهم، لأن قانون الولايات المتحدة لا يملك صلاحية معاقبة الجرائم المرتكبة خارج الولايات المتحدة من قبل الأفراد الأميركيين. وهكذا ونظراً لوجود هذه الثغرات، فإن أحداً من المتعاقدين العسكريين الخاصين لم يُعاقب أو يُحاكم على جريمة ارتكبها في العراق.

 

5- مستقبل وجود القوات المسلحة النظامية:
إن الاستخدام الواسع للمتعاقدين الخاصين، يطرح مسألة مستقبل وجود القوات المسلحة نفسها، ذلك أن مهنة السلاح كانت تعني لأصحابها أنها تخصّهم وحدهم بمعزل عن بقية أفراد المجتمع المدني الذي يثق بدورهم في حفظ أمنه، ولكن تقديمات عمل الشركات العسكرية الخاصة وتطويعها للأفراد من خلال القوات المسلحة يهدد هذين الفردية والتميز، فهوية الاحتراف العسكرية واحتكارها لبعض النشاطات بات منتهكاً من قبل متطلبات السوق التجاري المدني العادي.
قد يبدو موقف العديد من الجنود متناقضاً أو متأرجحاً تجاه هذه الشركات، فمن جهة، يشعرون بالارتياح لوجود من يساعدهم ويحمل عنهم بعض أعبائهم نظراً للانتشار الواسع للقوات المسلحة الأميركية في العراق، واحساسهم بالتعب والارهاق، كما ان مهمة القوات المسلحة الأميركية كبرت عن السابق، بينما تقلصت هذه القوى بنسبة 35% عن حجمها خلال الحرب الباردة، كما ان القوات البريطانية وصلت إلى أدنى مستوى في عديدها منذ الحروب النابليونية، وهكذا تأتي هذه الشركات لتملأ هذه الثغرات، كما أنها تتيح للجنود المتقاعدين امكانية ممارسة حياة عسكرية ثانية في ميادين يعرفونها ويحبّونها.
ومن جهة ثانية، يشعر البعض في القوات المسلحة، أن الشركات العسكرية الخاصة، باتت تهدد سلامة المهنة، كما أنهم يستاؤون من الطريقة التي تستغل بها هذه الشركات المهارات العسكرية التي اكتسبها العسكريون السابقون بالانفاق عليهم من المال العام، في أعمال تعود على هذه الشركات بالمنفعة الخاصة. كذلك، فهم يخشون من أن توسع السوق التجاري لهذه الشركات سيؤثر على قدرة القوات المسلحة في الاحتفاظ بالجنود الاكفاء والموهوبين، فالمتعاقدون مع هذه الشركات يكسبون من مرتين إلى عشر مرات أكثر مما يكسبونه في عملهم في القوات المسلحة النظامية (يكسب أحد الأفراد السابقين في القوات الخاصة في العراق نحو 1000 دولار في اليوم). ويتركز اختيار الشركات لمستخدميها من أفراد النخبة في قوات الولايات المتحدة وبريطانيا واوستراليا ونيوزيلندا، ولم تستطع حكومة الولايات المتحدة أن تحل هذه المشكلة حتى الآن، حتى ان بعض القادة في القوات المسلحة منحوا بعض جنودهم المهرة اجازات لمدة سنة بهدف ان يكسب هؤلاء بسرعة مبالغ كبيرة لتحسين أوضاعهم المعيشية، ثم يعودون إلى وظيفتهم بدلاً من ضياع موهبتهم في الخدمة العادية، ولما علمت الحكومة بالأمر لم تفعل شيئاً غير تشكيل لجنة للتحقق من هذه المسألة.