علم نفس

الضغوط النفسية
إعداد: ناديا متى فخري

مصادرها كثيرة وطرق معالجتها ترتكز أولاً على التعايش الإيجابي معها

أن تلعب الضغوط النفسية بما فيها أحداث الحياة، دوراً في صبغ إدراكنا للواقع وتلوينه بلون قاتم، وأن تتحكم الضغوط في مصيرنا واستجاباتنا واستعداداتنا على المستوى العام (الصحة ­ السلوك ­ الشخصية، والتكيّف الإجتماعي والمهني) ، فتلك حقيقة لها أكثر من دليل علمي. هذا ما بيّنته الدراسات العلمية التي تمّ التركيز فيها على الجانب المتعلّق بدور الضغوط النفسية في تطوّر الصحة والمرض، وتأثيرها على السلوك الفردي أو الإجتماعي. ومن خلال الدراسات عينها تكشفت سبل التشخيص والعلاج، وأمكن تحديد مصادر الضغوط ومدى تأثيرها في حياتنا الصحية والسلوكية. إن أكثر الجماعات استهدافاً للإنتكاسة الصحية والسلوكية، هم أكثرها تعرّضاً للضغوط، هذا ما أجمع عليه علماء النفس، الذين كان لهم الفضل في الكشف عن وجود علاقة سببية مباشرة بين الضغوط النفسية والصراع الذي يحدث في الذات بين الإضطرابات الصحية والسلوكية التي تحرّك الشخصية وتدفعها في إتجاهات مختلفة، فإما هبوط في مستوى الكفاءة والتكيّف، والانسحاب الإجتماعي، والتردد، والقلق، والتشاؤم، أو العكس.

 

الضغوط ومصادرها

الضغط النفسي مشكلة، تمثّل في نظر الطب نزعة مرضية خطيرة، وهو بمثابة ثغرة مضللة، نسبة لتعدد مصادره، وما يتميز به من قدرة في التأثير على "طاقة التكيّف" (Adaptation energy)، التي تدعم مستوى النشاط النفسي والذهني والمزاجي، وتمدنا بالدعم الكافي للمقاومة والتوأمة مع الواقع، مهما كانت سلبياته. وقد أثبت "سيليا" (Mans Selye) ، الذي يعود الفضل له في وضع كثير من الأسس العلمية في هذا الموضوع، أن استمرار التعرض للضغوط يؤدي تدريجياً الى فقدان هذه الطاقة وانهيارها. وهذا أمر مقلق، لأن المرء حين يفقد القدرة على المقاومة، يصبح إنساناً ضعيفاً ومهدداً في صحته ومعنوياته ويكون احتمال اصابته بمختلف الأمراض والإضطرابات الإنفعالية وارداً.. فالضغوط الحادة تجعله متشائماً، عاجزاً عن التوافق والتواصل بروحية إيجابية. ويقول "سيليا"، إن مفهوم الضغط النفسي في أبسط معانيه، يشير الى أي تغيّر داخلي أو خارجي يحدث في حياتنا، ومن شأنه أن يؤدي الى استجابة انفعالية حادة، فقد تكون مصادر الضغوط من الخارج، كالأعباء اليومية، والضغوط الأسرية وضغوط العمل.. أو ضغوط إجتماعية، بما فيها: الصراعات الأسرية، انفصال الزوجين، مشاكل في تربية الأطفال، وجود مريض عاجز في الأسرة... وأيضاً، العمل في مهنة تفرض مسؤوليات تتطلب مزيداً من الجهد.. أو، السفر وضغوط الإنتقال، والنشاطات الإجتماعية غير المنتجة، لقاءات، حفلات، سهر متواصل... الخ.

 وقد تكون مصادر الضغوط من الداخل لأسباب صحية أو انفعالية ­ نفسية: كالتعرض لإصابة خطيرة (إعاقة، مرض مزمن..) تعاطي الكحول والعقاقير بشكل متواصل، اضطرابات النوم.. الخ، أما بالنسبة الى الضغوط الإنفعالية النفسية، فقد تبين أنها المسؤولة عن تفجّر الحالات الإكتئابية، وعن الإحساس بالتوتر والقلق، ومن نتاجها: التردد، والإنطوائية، والإنسحاب الإجتماعي والتفكير الإنهزامي.

 وبالإضافة الى الأعراض النوعية التي يسببها الضغط النفسي، فإن الإحساس بالضغط يمر بمراحل: في البداية، مشقة تتطلب المزيد من حشد الطاقة، ثم فترة اعتياد ومواءمة، ومحاولة للتكيف مع مصادر الضغط ومقاومتها، والمرحلة الأسوأ، حين تفشل محاولاتنا، لأننا هنا ندخل في دوامة مشحونة بالإرهاق المقرون بمشاعر الذنب ولوم الذات على تقصيرها.

 

 الضغوط الحادة

هي الناتجة عن التغيرات المفاجئة وغير السارة (كالفصل من العمل، أو ضيق فرص العمل، الطلاق) ، كما أن الضغوط التي يتعرض لها الفرد فترة طويلة ولا يستطيع تغييرها، مثل ضغط العمل وتوتر العلاقة بالرؤساء، وما يصحب ذلك من قمع لمشاعر الغضب، تولّد في النفس معاناة، وتجعل الشخص، اعتمادياً، سلبياً، كثير الشكوى، أقل تفاؤلاً، وكثير القلق والتوجس من المستقبل، فالضغوط النفسية غالباً تعوق الإنسان عن ممارسة حياته المعتادة، والذي تبيّن من الشروحات التي ترجمت نظريات الطب النفسي، أن الضغوط الحادة شديدة الخطورة، لأنها لا تصيب مشاعر الإنسان، وعواطفه فحسب، بل تصيب كثيراً من قدراته الأخرى، بما فيها: قدرته على التفكير السليم وتشويه إدراكه لنفسه وللعالم المحيط به. وهناك الضغوط الناتجة عن الإثارة الشديدة التي تؤدي الى الغضب، والغيظ، والنكد... ويصاحبها الصراع الذي يحدث في الذات عند الشعور بالعجز عن تحقيق الحاجات، وهذا الصراع يشيع في النفس الشعور باليأس، الذي هو أشد خطراً لأن الإنسان لا يشعر بالىأس إلا وهو في قمة عجزه، وإذا سيطرت عليه سوداوية المزاج الإكتئابي أعلن عن جوانب ضعفه بممارسات سلبية، فقد يقوم بارتكاب أفعال حمقاء، ضارة بالنفس وبالغير... أخطرها: الإنتحار.

 

 معالجة الضغوط

ترتبط الضغوط بالأحداث اليومية، فكلنا بلا استثناء نتعرّض يومياً لمصادر متنوعة من الضغوط الخارجية، بما فيها، ضغوط العمل والدراسة والضغوط الأسرية: تربية الأطفال، مشكلات الصحة.. الخ، والأزمات المختلفة. ومعالجة الضغوط، لا تعني استبعادها نهائياً من حياتنا، فوجود الضغط في حياتنا أمر طبيعي، ولكل فرد منا نصيبه من الأحداث اليومية بدرجات متفاوتة، كما أن وجودها لا يعني أننا مرضى، بقدر ما يعني أننا نعيش ونتفاعل مع الحياة، ونحقق طموحات معينة؛ وبسببها تحدث أمور متوقعة أو غير متوقعة، ومن ثم، فإن علاج الضغوط يتم بالتعايش الإيجابي معها، ومعالجة نتائجها السلبية. تفرض علينا المعالجة الحقيقية، أن نتقن بعض الطرق التي من شأنها المساعدة على التعامل اليومي مع ضغوط الحياة اليومية، وعلى مقاومة آثارها السلبية بقدر الإمكان. وقد توصل علماء النفس الى وضع مقاييس تمثل حلولاً مبدئية لمشكلات الضغوط، منها مثلاً: تغيير البيئة المشحونة بالتوتر، والبعد عن المواقف المثيرة للضغوط، فذلك يؤدي الى تحسين تلقائي في استجاباتنا الإنفعالية، ثم أن التغيير يخلق مناخاً تدعيمياً يمثل هدفاً علاجياً ضرورياً، وقد أصر الطب النفسي على اتخاذ هذه الخطوة الإيجابية، باعتبار أن التغيير، هو بمثابة إجازة نفسية تتيح لنا فرصة الدخول في حوار مع الذات، وإعادة حساباتنا وفهمنا للواقع، وتقييم الأمور التي كانت مصدراً لضيقنا تقييماً صحيحاً.. أما إذا فشلنا في البعد عن المواقف المشحونة بالمنغّصات، أو إذا شعرنا بأن تغيير الظروف والبيئة، أمر من الصعب تحقيقه لأسباب مختلفة، فمن المفيد أن نعمل بالقواعد العلمية التي جاءت كنتائج لوجهات النظر العلمية ­ النفسية والتي ترجمت لنا النقاط المفيدة لمعالجة الضغوط: -­ مشاعر الذنب، الغضب، خيبة الأمل، والإحباط، مشاعر تقود الى اليأس والسلبية في التعاطي مع الواقع، وتهدد الصحة النفسية وتبدل هدوءنا بالإضطراب، وهي لا شك نتيجة الضغوط الناتجة عن الأحداث اليومية التي نعيشها، لذلك، يجب:

- ­ معالجة الضغوط، ومواجهتها أولاً فأولاً، لأن تراكمها يؤدي الى تعقدها وربما يتعذر حلها.

- ­ يجب أن تكون أهدافنا معقولة، فنحن لا نستطيع أن نحصل على كل ما نطمح إليه مرة واحدة، ومن ثم ليس من الواقعي أن نتخلص من كل الضغوط والأعباء من حياتنا تماماً.. فمعالجة الأمور تكون بالتروي وليس بالتسرّع.

- ­ محاولة إيجاد حلول للخلافات القائمة في مجالي العمل والأسرة، بأن نفتح مجالاً للتفاوض وتبادل وجهات النظر، من دون غبن بالآخرين وبنفسنا.

- ­ أن نقيم حواراً مع الذات، ونتجنب تفسير الأمور بصورة مبالغ فيها.

- ­ أن نمنح أنفسنا فرصة للراحة، وأن نوازن بين احتياجاتنا الخاصة وبين متطلبات الآخرين، فمن أسوأ الأمور أن نهمل صحتنا وراحتنا ونمنح وقت فراغنا لإرضاء الآخرين.

- ­ أن نمارس نشاطات ترفيهية، كالرسم والمطالعة وهي أفضل نافذة للخروج من حالة الإضطراب، ففي القراءة كما في الرسم وغيره من النشاطات المفيدة، راحة للأعصاب ونشاط للذهن... ومصدر ترفيهي ­- ثقافي، نكتسب منه القدرة على التحمل والمقاومة.

- ­ على كل فرد أن يراقب أسلوب تفكيره، وطريقته في تفسير الأمور، كما عليه أن لا يهمل أموره الصحية، وأن يمارس الرياضة البدنية (خاصة رياضة المشي!) ، وأن يعتمد نظاماً غذائياً متوازناً ومناسباً لوضعه الصحي وعمره.

 

الدعم المعنوي لمقاومة الضغوط

لقد تبيّن أن أسوأ الضغوط، وأكثرها ارتباطاً بالتوتر والإضطراب النفسي، هي التي تحدث للفرد المنعزل، والذي يفتقد المساندة الوجدانية، والدعم الإجتماعي (Social Support)

، والمؤازرة؛ وبعبارة أخرى، الحياة مع الجماعة، والإنتماء لمجموعة من الأصدقاء والعلاقات الإجتماعية والأسرية المنظمة تعتبر من المصادر الرئيسية التي تجعل للحياة معنى، وتوجهنا للصحة والكفاح والرضى، وتدعمنا في نفس الوقت للمقاومة وتحمّل الأعباء والضغوط، فمثلاً: الأسرة التي تفقد أحد أفرادها، تكون أكثر قدرة على التحمّل والمقاومة إذا التف حولها الأقارب والأصدقاء ومدوها بالرعاية والعزاء... والمريض أيضاً يكون أكثر تفاؤلاً ورغبة في الشفاء، عندما يجد من حوله الأهل، والأقارب، ينعمون عليه بالدعم والتشجيع... ومن الثابت في الوسط الطبي، أن جزءاً كبيراً من عوامل النجاح في العلاج النفسي، يكمن في وجود معالج دافئ يمد مريضه بالتشجيع، والمشاركة الوجدانية، ويسانده بالتفهم والتوجيه عندما تحيق به الصعاب، وتتراكم عليه ضغوط المرض.

كذلك، من الثابت، أن الإستجابة بالىأس والإنفعال لأحداث الحياة، أو عدم الإستجابة بذلك، يتوقف على مدى ما يتسلّح به الفرد من مهارات نفسية، واجتماعية. ومن ثم فتأثير الضغوط على الأفراد ذوي الإهتمامات المهنية والإجتماعية الضيقة، يكون أكثر عمقاً، وأسوأ أثراً، إذ يجد الفرد نفسه في مثل هذه الحالة، عاجزاً عن الدخول في نشاطات أو علاقات إجتماعية.

كما يتوقف تأثير الضغوط اليومية على مدى تقدير الفرد لها، وعلى مدى إدراكه لخطورتها له، ثم أن الحدث الواحد قد لا يثير الإضطراب نفسه عند شخصين مختلفين، حتى ولو كانت الأسباب واحدة، فلنأخذ الكاتب مثلاً كمثال: إن الكاتب قد تسيطر عليه حالة من الإكتئاب إثر إصابته بالروماتيزم في مفاصل اليدين، فالحدث الذي لا يسبب بالضرورة اضطراباً انفعالياً لدى سواه، يكون ذا مغزى مختلف بالنسبة له لأنه يعتمد على يديه في الكتابة، فبالنسبة له هذا النوع من الضغط وزنه أخطر، لأنه يحرمه من مصادر الإشباع النفسي والإجتماعي التي تحققها له الكتابة.

وبالمثل، فقد يثير حدث ما، يبدو في ظاهره حدثاً إيجابياً وساراً، كالترقية في العمل، الى مشاعر متضاربة عند شخص ما، إذا كان هذا الشخص يرى أن الترقية قد وضعته في موقع يعرّضه للنقد والمراقبة، بعكس الأمان الذي كانت تحققه له وظيفته السابقة.

وأخيراً، هناك ما يؤكد أن الخبرة السابقة تلعب دوراً مهماً في ترجمة الأحداث التي تصيبنا، ترجمة إيجابية أو سلبية، فالإستجابة للرفض في المهنة، والفشل في العلاقات الأسرية والعاطفية والإجتماعية والقدرة على التعامل مع الواقع اليومي بشكل أفضل، أمور تتوقف الى حد كبير على الخبرات الشخصية السابقة... فكلما زاد تعرض الإنسان لمثل هذه المواقف كلما كان أكثر قدرة على التعامل مع مثيلاتها مستقبلاً، ولعل هذا من الأسباب التي تفسّر ما يتميز به كبار السن والبالغون من قدرة على التعايش، ومقاومة الضغوط، وتجارب الفشل، وكأن تجاربهم السابقة قد منحتهم "حصانة"، ومقدرة أكبر، لمواجهة الضغوط ومعالجة ردود فعلها بكفاءة وكثير من المنطق والتعقّل.