نحن و القانون

الطبيب بين الرسالة والمساءلة
إعداد: نادر شافي - محام بالاستئناف

 تعتبر مهنة الطب رسالة تهدف الى المحافظة على صحة الإنسان الجسدية والنفسية والتخفيف من آلامه ورفع مستواه الصحي العام. لذلك يعتبر الطب مهنة الشرف والإنسانية، وهي المهنة التي احترمها الجميع منذ أقدم العصور. قديماً كان الطبيب هو الحكيم، عند فشله إما أن يُسجن وإما أن يُعدم، وعند نجاحه يتزوج إبنة الملك.
ويبدو أن مسألة البحث في مسؤولية الطبيب عن أخطائه المهنية دقيقة جداً، فليس من المقبول إطلاق التهم جزافاً على الأطباء بشكل عام منعاً من الإساءة الى الجسم الطبي ككل، هذا بالإضافـة الى صعوبة البحث في الأحكام القانونية التي تتنـاول عمل الطبيب، وهي أحكام غاية في الدقة والحساسية.
ان البحث في موضوع مساءلة الطبيب وتحديد أسس وشروط مسؤوليته ينبغي أن ينطلق من التوفيق بين مصلحة الجسم الطبي من ناحية ومصلحة صحة الإنسان والمجتمع من ناحية ثانية، من دون وضع مهنة الطب تحت سيف الملاحقة والمسؤولية بشكل يؤدي الى منع تقدمها وتطورها. وهذا يفرض الإقرار بمبدأ مسؤولية الطبيب عن أخطائه الطبية ووضع الأسس والشروط الواضحة لهذه المسؤولية.

 

موجبات الطبيب

يخضع الطبيب في لبنان، في تحديد رسالته وموجباته ومساءلته، لأحكام قانون الآداب الطبية رقم 288 تاريخ 22 شباط 1994، بالإضافة لأحكام القواعد العامة التي ترعى المسؤولية المدنية في قانون الموجبات والعقود ولأحكام المسؤولية الجزائية الواردة في قانون العقوبات.

لقد حدد قانون الآداب الطبية رقم 288/1994 موجبات الطبيب، معتبراً أن رسالة الطبيب تتمحور حول جسم الإنسان الذي له حرمته وحياته التي لها حصانتها؛ إذ أن حياة الإنسان وسلامته الشخصية هما فوق كل اتفاق. وتتمثل أهم موجبات الطبيب في تحقيق رسالته للمحافظة على صحة الإنسان الجسدية والنفسية وقائياً وعلاجياً والتخفيف من آلامه ورفع المستوى الصحي العام (م2). فعلى الطبيب أن يستلهم البُعد الإنساني للمهنة الطبية وعدم استغلالها لمنافع شخصية، أو بهدف المتاجرة بحياة الإنسان وبالأعضاء البشرية، أو بهدف اللجوء الى أساليب الإعلان المباشرة وغير المباشرة، أو دفع جعالات لبعض الأشخاص بغية اجتذاب الزبائن، أو المطالبة بأتعاب مرهقة للمريض تفوق التعرفة التي تحددها وزارة الصحة العامة بالإتفاق مع نقابة الأطباء، ومراعاة حالة المريض المعوز، وعدم تحويل مهنة الطب الى مهنة للمزاحمة أو المنافسة غير المشروعة، أو التواطؤ بين الأطباء على حساب صحة المريض، أو الحصول على جعالات لقاء وصف أدوية معينة أو التحويل الى مستشفى أو مختبر أو دار صحة أو صيدلية. كما لا يجوز للطبيب التواطؤ مع مريض لتحقيق كسب غير مشروع أو لتحقيق أهداف جرمية غير مشروعة.

ويجب على الطبيب أن يستلهم ضميره المهني في معالجة المرضى بدون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو الجنسية أو المعتقد أو الآراء السياسية أو السمعة أو الثراء أو الفقر، كما يجب عليه احترام إرادة المريض قدر المستطاع، ورفض الإشتراك في أية معاملة غير إنسانية، وإبلاغ السلطات القضائية في الحالات التي يحددها القانون مع مراعاة سر المهنة الطبية. وعلى الطبيب أن يجهز عيادته بالتجهيزات التقنية المناسبة والكافية، ومساعدة المرضى، وتلبية النداء لحالة طارئة أو في حالة تفشي الأوبئة أو حصول كوارث.

كما يتوجب على الطبيب عدم إفشاء الأسرار التي علم بها في سياق ممارسته مهنته. وقد رفع المشترع اللبناني موجب المحافظة على سرية المهنة الطبية الى مصاف الموجبات المتعلقة بالنظام العام، فمنع الطبيب من إفشائها حتى ولو أعفاه المريض من تلك السرية، لأنها لم توضع أصلاً لحماية مصلحة المريض فقط بل لمصلحة المهنة الطبية والمجتمع أيضاً، باستثناء الحالات التي نص عليها القانون صراحة؛ كالإدلاء بمعلومات أمام القضاء الجزائي، وإبلاغ النيابة العامة عند اكتشاف جرم يفرض القانون الإبلاغ عنه كالاغتصاب وانتهاك العرض شرط موافقة الضحية خطياً، وللحيلولة دون إدانة بريء، أو الإدلاء بالخبرة الطبية، أو إبلاغ السلطات الصحية عن أي مرض معد أو تناسي، وإبلاغ السلطات المختصة عن كل عملية ولادة. كما يُحظر على الطبيب أن يصف بقصد التجربة علاجات من شأنها إيذاء المريض أو تعريضه للخطر أو تشويهه، أو تغيير الجنس بشكل يؤثر في مستقبل المريض. كما يُحظر على الطبيب استخدام الإنسان لإجراء تجارب علمية وإن كانت ستنعكس إيجاباً على المستوى الصحي العام.

وفرض القانون على الطبيب العمل على الإبقاء على حياة المريض بإعطائه العلاجات الملائمة للمحافظة قدر الإمكان على حياته والتخفيف من آلامه الجسدية والنفسية، ومعاملته بإنسانية ورفق واستقامة وإحاطته بالعناية والإهتمام، وعدم اللجوء الى وسائل تقنية والمبالغة في العلاج بهدف إطالة أمد الإحتضار. وعلى الطبيب إعلام المريض عن حالته الصحية وبكل المخاطر وأخذ موافقته أو موافقة وليه الشرعي أو أقربائه بعد إعلامهم عند بدء العلاج، وإلا يتحمل الطبيب المسؤولية عن أخطائه ما لم يكن المريض في حالة لا يحتمل معها إعلامه بحقيقة التشخيص فتتردى صحته، كإصابته بمرض عضال خبيث.

ومن المعروف أن موجب بذل العناية أو موجب الوسيلة هو التزام ببذل العناية اللازمة للوصول الى تحقيق نتيجة معينة، لكنه لا يلتزم بتحقيق تلك النتيجة. أما موجب النتيجة أو تحقيق الغاية فهو الذي يتضمن تعهداً بتحقيق نتيجة معينة حددها العقد أو اتفق عليها الطرفان.

وبعد جدل واختلاف بين الفقه القانوني والاجتهاد القضائي، استقر الرأي على أن الطبيب لا يلتزم بتحقيق أية نتيجة في علاج المريض. وهذا ما كرّسه المشترع اللبناني في المادة 82 من قانون الآداب الطبية رقم 882/4991، التي نصت على أن الطبيب لا يلتزم بموجب نتيجة معالجة المريض بل بموجب تأمين أفضل معالجة مناسبة له.

فالطبيب ملزم بتشخيص المرض ووضع العلاج ومتابعة تنفيذه ومراقبة المريض ونتائج العلاج، إلا أن الطبيب لا يلتزم بضمان شفاء المريض الذي تحكمه عدة عوامل تتعلق بمناعة جسم المريض وسنه وحجم ونوع وزمن مرضه، كما لا يلتزم الطبيب بتحقيق أية نتيجة في علاج المريض أو بمنع استفحال المرض، على أن يعتني به عناية كافية وبإنسانية ورفق واستقامة وبكل دقة وضمير حي وفقاً لأحدث المعطيات العلمية المعمول بها التي تشترطها أصول المهنة الطبية ومقتضيات فن الطب وما يلحقه من تطوّر وتقدم.

 

الاستثناءات التي يلتزم فيها الطبيب بتحقيق نتيجة

ثمة حالات يعتبر فيها التزام الطبيب تجاه مريضه التزاماً بتحقيق نتيجة معينة عندما يكون محلها محدداً تحديداً دقيقاً، مثل تحديد الطبيب موعداً لمعاينة مريضه أو لإجراء عملية جراحية في تاريخ محدد يفرض عليه موجب نتيجة؛ فإذا تخلّف الطبيب ولحق ضرر بالمريض أو تفاقم مرضه، يتحمل الطبيب مسؤولية ذلك الضرر ما لم يثبت وجود أسباب خارجية طارئة أو قوة قاهرة غير متوقعة لم يتمكن من تجاوزها أدت الى ذلك التأخير أو التخلف.

كما يعتبر موجب الطبيب موجب نتيجة عندما يتعلّق بسلامة المريض ومنع انتقال العدوى إليه أثناء علاجه؛ كواجب طبيب الأسنان بالحفاظ على تعقيم معداته منعاً لانتقال عدوى مرض الإيدز الى مريضه عن طريق تلك المعدات، وكذلك موجب الطبيب بالحرص على صحة العمل الطبي في عمليات نقل الدم وإجراء التحاليل، وموجب التأكد من سلامة وصحة العملية الجراحية وعدم ترك مبضع أو قطعة قطن داخل جسم المريض بعد إنهاء العملية الجراحية.

وقد يتحوّل موجب الطبيب من موجب بذل عناية الى موجب تحقيق نتيجة في بعض الحالات؛ كمعالجة مريض في مستشفى للأمراض العقلية لديه نزعة نحو الإنتحار أو الإعتداء على الغير، فيجب على الطبيب الحؤول دون حصول الإنتحار أو الإعتداء على الغير عبر تأمين العناية والمراقبة الدائمة والحجز الإداري شرط موافقة لجنة طبية من ثلاثة اختصاصيين على الأقل (م27/9).

الى هذا ثمة حالات خاصة يختلف فيها موجب الطبيب بين موجب بذل عناية وتحقيق نتيجة؛ مثل إجراء التخدير من قبل طبيب مختص يقوم بالفحوص اللازمة قبل التخدير واستعمال الأدوية المناسبة مع كل حالة ومراقبة الأجهزة الحيوية للمريض أثناء غيبوبته وانعاش المريض وإفاقته من تأثير المخدر بعد انتهاء العملية الجراحية واتباع الأصول الفنية واتخاذ الإحتياطات العلمية اللازمة، كما يُسأل الطبيب عن أخطاء التوليد، عند عدم اتباع أصول الفن الطبي للتوليد أو الجهل أو الإهمال، منعاً لتمزق الرحم أو بتر بعض أعضاء الجنين أو كسر جمجمته أو إعطاء أدوية لا تتناسب مع الأم أو جنينها وتؤدي الى الوفاة بسبب عدم إجراء التحاليل اللازمة.

 

موجب الطبيب في عمليات جراحة التجميل

جراحة التجميل هي التي لا يكون الغرض منها علاج مرض بل إزالة تشويه في الجسم، وهي تتعلق بالشكل لإزالة عيوب طبيعية أو مكتسبة تؤثر على القيمة الشخصية أو الإجتماعية للشخص، وهي مسألة نسبية تختلف بين شخص وآخر؛ مثل إصلاح أنف طويل أو قصير أو تقوية نهدين أو إزالة تجاعيد أسفل العين. وقد تطورت الجراحة التجميلية وأصبح بالإمكان السماح للمريض اختيار الشكل الذي يريده بواسطة جهاز الكومبيوتر لمعرفة النتيجة المرجوة؛ كاختيار شكل الأنف الذي يتناسب مع وجه المريض. وقد برزت عدة اتجاهات وآراء بين رافض لجراحة التجميل مع بعض الاستثناءات الضرورية، وبين مؤيد لها بصورة موسعة خصوصاً عندما تؤدي الى تحقيق الراحة النفسية للمريض وتفتح له باب الرزق أو الزواج أو تمنع تعرضه للسخرية، وهناك رأي معتدل يجيز إجراء الجراحة التجميلية شرط ألا تُعرض حياة الإنسان للخطر؛ فلا يجوز مثلاً إجراء جراحة تجميلية لساق فتاة قد تؤدي الى بترها، أو أن تؤدي محاولة التخلص من الورم والتجاعيد أسفل العينين لدى سيدة الى العمى، ويعتبر الطبيب الجراح مسؤولاً عن كافة الأضرار رغم إجراء العملية التجميلية طبقاً لقواعد وأصول العلم والفن الطبي.

ويُشترط أن يقوم جراح التجميل بإعلام وتبصير المريض بكل جوانب العملية ونتائجها ونسبة نجاحها وبكل المخاطر المتوقعة، سواء كانت مهمة أو ثانوية أو نادرة الوقوع، ويجب الحصول على تصريح خطي بقبول المريض إجراء العملية بعد معرفته بكل جوانبها، كما يجب على الطبيب ألا يقدم على جراحة تجميلية تتجاوز سيئاتها النفع المنتظر منها.
وقد حصل خلاف في الفقه القانوني والاجتهاد القضائي حول تحديد طبيعة موجب طبيب التجميل، أهو موجب بذل عناية أم موجب تحقيق نتيجة، فاعتبر البعض أن التزام جراح التجميل هو التزام ببذل عناية وليس بتحقيق نتيجة، ويبقى ضمن الإطار العام للمسؤولية الطبية. إلا أن رأياً آخر يعتبر أن التزام جراح التجميل هو التزام بتحقيق نتيجة بحيث تقوم مسؤولية الطبيب عند فشل التوصل الى النتيجة المطلوبة أو الحد الأدنى منها، ما لم ينف علاقة السببية بين فعله وبين الضرر الحاصل. ويجب على الطبيب الامتناع عن إجراء الجراحة التجميلية إذا قامت مخاطر حادة للفشل أو لم يكن واثقاً من نجاجها، لأن الأمر ليس على درجة من الحيوية التي تتعلق بحياة المريض وصحته، ويمكنه الاستغناء عنها من دون أن تؤثر على سلامة صحته، خصوصاً أن جراحة التجميل لا تحتاج الى السرعة، ويمكن الحصول على الوقت الكافي لاتخاذ كافة الاحتياطات اللازمة وإجراء التحاليل الكافية ودراسة المخاطر وإعلام وتبصير المريض بها لاتخاذ قراره بعد تفكير وروية. وهكذا، تترتب مسؤولية الطبيب عندما يقوم مثلاً بجراحة تجميل أنف على جلد لا تسمح نوعيته بذلك فتؤدي العملية الى انتفاخ وازرقاق الوجه وحدوث التهابات حادة. ففي هذه الحالة على الطبيب الامتناع عن إجرائها، وهو يتحمل المسؤولية عن الضرر الواقع ما لم يقدم تبريراً كافياً ومقنعاً عن سبب فشل العملية.

 

أنواع المسؤولية الطبية

تتوزع مسؤولية الطبيب عن أخطائه المهنية الى مدنية وجزائية:

- المسؤولية المدنية:  من الثابت قانوناً أن المسؤولية تكون عقدية عندما يوجد عقد صحيح بين المتضرر والمتسبب بالضرر وإخلال أحد طرفي العقد بالتزام عقدي. وتكون المسؤولية المدنية تقصيرية عند وقوع الضرر خارج إطار العلاقة التعاقدية وإخلال الفاعل بالموجب القانوني العام الذي يفرض عدم الإضرار بالغير.

ومن المتفق عليه والمستقر حديثاً بين الفقه والقضاء اعتبار مسؤولية الطبيب عن أخطائه المهنية مسؤولية عقدية تبعاً لوجود عقد بين الطبيب ومريضه، سواء أكان هذا العقد صريحاً أم ضمنياً، شفهياً أم خطياً، لقاء أتعاب أم بصورة مجانية على سبيل الود أو الصداقة. فالطبيب الذي يفتح عيادته ويعلق لافتة عليها، يكون قد وضع نفسه في موقف العارض للخدمة الطبية، وعندما يقبل أي مريض هذا العرض لتلقي العلاج، يكون قد التزم العقد الطبي، وفقاً للمادة 178 من قانون الموجبات والعقود. على أن يشتمل العقد على كافة أركانه القانونية المتمثلة بالرضى والأهلية والموضوع والسبب (م177 موجبات وعقود).

إلا أنه عندما تنعدم الرابطة العقدية بين الطبيب ومريضه، تكون المسؤولية تقصيرية. وكذلك عندما يكون العقد باطلاً لعدم إباحة موضوعه أو لعدم توافر شروطه القانونية؛ كالتعاقد مع قاصر أو معالجة مريض فاقد الوعي بسبب حادث سير.
ويشترط في المسؤولية المدنية توافر الخطأ والضرر والرابطة السببية بين الخطأ والضرر؛ أي ارتكاب الطبيب لخطأ طبي أدى الى إلحاق الضرر بالمريض. ويجب أن يكون الضرر أكيداً ومباشراً وشخصياً، وأن يتصل سببياً بالخطأ الطبي، وقابلاً للتعويض عنه. ويُعتد بالضرر المادي الواقع على سلامة جسم الإنسان وحياته وماله نتيجة تكبده المصاريف والنفقات للمعالجة. كما يُعتد بالضرر الأدبي أو المعنوي المتمثل بالجانب النفسي أو العاطفي؛ كالألم الجسدي والعذاب النفسي وما يساوره من قلق وهواجس. وليس من الضروري أن يكون الخطأ الطبي هو السبب المباشر والوحيد الذي نتج عنه الضرر، بل يكفي أن يكون هذا الخطأ قد ساهم في وقوع الضرر، وأن يكون له دور في تسلسل الأسباب التي أدت الى هذه النتيجة.

- المسؤولية الجزائية:  إن المبدأ الأساسي الذي حددته المادة 186 من قانون العقوبات هو أنه لا يعد جريمة الفعل الذي يجيزه القانون. ويجيز القانون العمليات الجراحية والعلاجات الطبية المنطبقة على أصول الفن شرط أن تجري برضى العليل أو رضى ممثليه الشرعيين أو في حالات الضرورة الماسة. إلا أنه عندما يتصف فعل الطبيب بالسلوك الجرمي، يعتبر مرتكباً لجرم جزائي تترتب عليه المسؤولية الجزائية؛ كإيذاء المريض أو التسبب بوفاته عن إهمال أو قلة احتراز أو عدم مراعاة القوانين والأنظمة (م 564 عقوبات).

وتبعاً لعدم وجود نصوص قانونية تحدد صراحة المقصود بانطباق الأعمال الطبية على أصول الفن، استقر الفقه والقضاء على أن المقصود بأصول الفن هو الإنطباق على القواعد والتعليمات والطرق والأساليب التي لم تعد محلاً للمناقشة بين الأطباء في المهنة الطبية.

ويعود للمريض المتضرر حق الخيار بين أنواع المسؤولية تبعاً لمصلحته ولرغبته ولتحقق شروط المسؤولية المعتمدة. وتجدر الإشارة الى أن فشل العلاج أو عدم تحقق النتيجة لا يعتبر قرينة قاطعة على مسؤولية الطبيب، بل يستوجب التحقق من توافر عناصر وأركان تلك المسؤولية، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة حماية وتحصين الجسم الطبي وعدم تشويهه.

 

 

الخطأ الطبي

يتجسد الخطأ الطبي المرتب لمسؤولية الطبيب بإخلاله بالقواعد والأصول الطبية والفنية والإلتزامات التي تفرضها عليه مهنته. ولا يجوز القياس، في الخطأ الطبي، بالاستناد الى الرجل العادي اليقظ، بل يجب القياس بالاستناد الى سلوك طبيب نموذجي واعتماده معياراً لتقدير وقوع الخطأ الطبي، وهو أوسط الأطباء كفاءة وخبرة وتبصراً ودقة في فرع اختصاصه أو في مستواه المهني، مع الأخذ بعين الإعتبار مدى مراعاة الطبيب للأصول الفنية المستقرة في مجال العمل الطبي واتخاذه الحيطة الواجبة والروية وتقيده بالقواعد والأعراف الطبية وقيامه بواجباته المهنية، والظروف المحيطة به أثناء العمل الطبي؛ إذ أن العلاج في حالة الحرب يختلف عنه في حالة السلم. ولا مجال للتفريق في الخطأ الطبي بين خطأ جسيم وآخر يسير لتبرير الخطأ ورفع المسؤولية عن الطبيب.

إن الخطأ الذي يُسأل عنه الطبيب هو إخلاله بواجب طبي مفروض عليه بحكم نظام مهنته والأعراف الراسخة فيها، أو عن جهله قواعد مكرسة في العلم الطبي، أو إهماله الحيطة والحذر الواجبين، أو إغفاله الأصول الفنية لممارسة مهنة الطب، أو قلة الروية والدراية. وتترتب مسؤولية الطبيب عندما يثبت ارتكابه خطأ لم يكن ليرتكبه طبيب من أوسط زملائه في مهنته أو اختصاصه أو فرعه. ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار الظروف الخارجية التي كان عليها الطبيب أثناء عمله؛ كحالة الحرب أو الظروف الطارئة كزمن الوباء وضغط كثرة المرضى. ويجب أن يكون الخطأ الطبي المرتب لمسؤولية الطبيب ثابتاً ثبوتاً كافياً أكيداً وظاهراً لا يحتمل المناقضة، وبصفة قاطعة لا احتمالية.

 

إثبات المسؤولية الطبية

تفرض القواعد العامة إلقاء عبء إثبات توافر شروط المسؤولية الطبية على عاتق المتضرر؛ أي على عاتق المريض. كما أن الإثبات في إطار المسؤولية الطبية جائز بكافة الوسائل بما فيها البينة الشخصية والخبرة والقرائن لإثبات الخطأ الطبي ووقوع الضرر الناتج عن ذلك الخطأ بصلة سببية.

إلا أنه يبقى من الصعب جداً على المريض، ومن المستحيل أحياناً كثيرة، إثبات الخطأ الطبي وإقامة الأدلة الكافية على عدم بذل الطبيب العناية المطلوبة بتأمين أفضل معالجة مناسبة للمريض. هذا بالإضافة الى صعوبة إثبات الصلة السببية بين الخطأ الطبي والضرر المشكو منه. ويحاول البعض أحياناً اللجوء الى الخبرة الطبية بواسطة أطباء محلفين أو معينين من نقابة الأطباء. لكن الملاحظ في أغلبية الدعاوى القضائية تعاطف خبراء الطب مع زملائهم الأطباء وتبرير أعمالهم. وإذا كان تقرير الخبير لا يقيد المحكمة وهي غير ملزمة بالأخذ برأيه أو جزئياً (م 063 أ.م.م.)، إلا أن ذلك لا يحل المشكلة لعدم إلمام القاضي بدقائق وأصول مهنة الطب، تماماً كما هو الأمر بالنسبة للمريض في غالبية الأحيان، فهما لا يفقهان شيئاً للتدقيق في المسائل والأصول الفنية الطبية، مما يؤدي الى إرهاق المريض في إثبات المسؤولية الطبية، إن من ناحية نفقات الدعوى أو أجرة الخبراء وإن من الناحية النفسية التي تتمثل في خوف المدعي من رد الدعوى بسبب إنتماء الطبيب الى نقابة قد تعمد الى حماية الذين ينتمون إليها. هذا ما لم يكن الطبيب ملزماً بتحقيق نتيجة معينة محددة، أو كان الخطأ الطبي ظاهراً بشكل أكيد لا يدع مجالاً للشك أو للتأويل، وهي حالات قليلة جداً ونادرة الوقوع.

كل ذلك يبرز صعوبة إثبات المسؤولية الطبية، ليس بسبب شخصية المدعى عليه الطبيب أو تحيز القضاء الى جانب الأطباء، بل لعدم توافر الأدلة الكافية لإثبات الخطأ الطبي المرتب للمسؤولية عن الضرر المشكو منه. مما يقتضي تدخل المشترع لتنظيم المسؤولية الطبية ووضع أسسها وشروطها حفاظاً على مصلحة الجسم الطبي ومصلحة المريض ومصلحة المجتمع ككل؛ كإنشاء لجنة طبية قانونية مشتركة للتحقيق، حتى لا تبقى المقولة الشائعة: «إن الشمس تنشر أشعتها على انتصاراتهم، والأرض تدفن أخطاءهم».


 

المراجع

- د. عبد اللطيف الحسيني: المسؤولية المدنية عن الأخطاء المهنية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1989، ط1، ص 98 وما يليها.
 - د. حسن محيو: مسؤولية الطبيب عن أخطائه المهنية، العدل، 1996، ص 33.