معالم وآثار

الطبيعة والآثار والتراث المعماري في الشوف: جنّات عَ مدّ النظر
إعداد: جان دارك أبي ياغي

الجولة الأخيرة من سياحتنا التراثية مع جمعية «الأبساد» كانت في منطقة الشوف، بدءًا من دير القمر ومتحفها التراثي والوطني، وصولاً إلى بعقلين عاصمة الإمارة الأولى، وانتهاء ببعذران ومعالمها الطبيعية والتراثية، «جنّات عَ مدّ النظر...».


دير القمر واحدة من أجمل بلدات لبنان، تتميز بطابع ذي خصوصية عالية. «عاصمة الأمراء»، المستلقية على ارتفاع 850 مترًا فوق سطح البحر، أشبه بمتحف للعمارة والتراث.
تاريخيًا، كانت البلدة وعلى مدى أربعة قرون، المركز السياسي والاقتصادي والثقافي الأهم في جبل لبنان، وكانت مقر الإقامة الصيفي للأمراء المعنيين ومركزًا لهم في أثناء حكمهم إمارة جبل لبنان. هذه الحقبة المتألقة من تاريخ لبنان أورثت الدير، إلى القصور الساحرة، العديد من الأعمال المعمارية البالغة الدقة التي تلمسها بوضوح في البيوت مثل نوافذ المندلون والأقواس وسواها، ومن بين هذه البيوت منزل آل اسطفان نعمة الذي يرقى إلى أوائل نشوء دير القمر.


درّة الجبل تتربّع على عرش الفنّ المعماري اللبناني
بمعالمها الأثرية وعماراتها الجميلة وطبيعتها الخلّابة استحقّت «الدير» (كما يحلو لأبناء منطقة الشوف تسميتها) لقب درّة الجبل. ومن أجل الحفاظ على هذا التراث، تمّ تصنيف بعض المباني والأنسجة التاريخية التقليدية في دير القمر رسميًا، كما أن ملف إدراج الأجزاء التراثية في البلدة على لائحة التراث العالمي قد قطع شوطًا مهمًا وشارف على نهايته. أما الآلية الأهم الموضوعة للمحافظة على تراث دير القمر، فتتمثل في اعتماد البلدية التدقيق في طلبات رخص البناء والترميم، خصوصًا لناحية التزام شروط الجمالية المعمارية، والاندماج مع الموقع.
وفي السياق نفسه تؤدّي جمعية «الأبساد» دورًا مهمًا من خلال مركزها في دير القمر. يقع المركز في بناء أثري يعود إلى القرن التاسع عشر وفق ما تخبرنا مديرة الجمعية رلى حسون التي استقبلتنا مع المسؤولة عن المركز نيللي اسطفان. وقد استملكته «الأبساد» في السبعينيات ورممته، ثم حوّلته إلى مركز ثقافي يشهد العديد من النشاطات الثقافية والفنية والتراثية.
إضافة إلى القصور والمنازل التراثية، تضمّ دير القمر أكثر من موقع أثري، مثل سراي الأمير يوسف الشهابي، وسراي الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي يحتضن اليوم متحف «ماري باز»، الأوّل من نوعه في الشرق الأوسط ويضمّ أكثر من سبعين تمثالًا لأبرز الشخصيات اللبنانية والعالمية صنعت جميعها من الشمع.
تشكّل دير القمر بأحيائها التاريخية القديمة نموذجًا معماريًا فريدًا من نوعه مكوّن من مجموعة أبنية شيّدت في الماضي ضمن أنسجة منسجمة وبقيت مكتملة حتى اليوم. وهي تتميّز بأسواقها القديمة المتعددة والمتنوّعة كسوق النجّارين، وسوق السكافين، وسوق الحرير، وسوق الصاغة، سوق المنتوجات الحِرفية... أصغرها كان يتألف من اثني عشر محـلًا، أما سوق السكافين مثلًا الذي يعود إلى القرن السادس عشر فيضمّ ثمانية وثلاثين محلاً ومحترفًا. التجوّل في هذه الأحياء والأسواق متعة حقيقية خصوصًا أن رئيس مكتب الآثار في دير القمر عبدو بو ناصيف رافقنا خلال الجولة شارحًا أهمية كل مكان أو موقع زرناه.

 

ساحة الميدان ومسجد فخر الدين
تعود ساحة الميدان التي تتوسطها بركة مستديرة تتغذى من نبع الشالوط، إلى القرن التاسع عشر في فترة حكم المتصرفية، وهي الساحة الرئيسة في البلدة وتعرف اليوم بـ«ساحة داني شمعون».
قرب بركة الساحة المستديرة، يستلقي مسجد الأمير فخر الدين الذي يعود تاريخ تشييده إلى القرن السادس عشر، وهو مسجد متميز بأناقة بنائه ويضم مئذنة ثمانية الأضلاع، يمكن الوصول إليها عبر سلّم مؤلف من خمسين درجة من الحجر. داخل المسجد رسوم هندسية مألوفة في الفنّ الإسلامي كانت مصدر وحي لفنانين إيرلنديين وغيرهم. إضافة إلى المسجد تضمّ بلدة دير القمر سبع كنائس أهمها كنيسة سيدة التلة العجائبية، وأضرحة عدة أشـهـرهـا «ضـريح القبة».

 

سيّدة التلّة
تمتاز سيّدة التلّة بأنها مقصد أبناء الشوف كلهم من مسيحيين ودروز، فهم يلجأون إليها في مصاعبهم ولاسيما في حال العقم.
بنيت كاتدرائيّة سيدة التلة على أنقاض هيكل وثني روماني أقيم لعبادة الإله «قمر». عُثِر في أنقاض هذا الهيكل على ناووس حجري تحوّل إلى جرن معموديّة بعدما أصبح الهيكل معبدًا مسيحيًا باسم العذراء مريم في العصور المسيحيّة الأولى.
تروي حكاية قديمة يتناقلها أهل دير القمر أن الأمير فخر الدين المعنيّ أمر بإعادة بناء الكنيسة في مكانها الحالي على أثر ظهور ضوء عجيب رآه يشعّ من على التلة المقابلة لبعقلين، حيث كان يقيم. أمر الأمير رجاله بحفر الموقع قائلا لهم: «إذا وجدتم أثرًا مسيحيًا، فشيّدوا هناك كنيسة. وإذا وجدتم أثرًا إسلاميًّا، فشيّدوا هناك جامعًا». بعد التنقيب، عثروا على آثار مسيحّية، فأصدر الأمير المعني أمره ببناء كنيسة على نفقته الخاصّة، وكان ذلك تحديدًا في العام 1673. وفي العام 1760، تمّ ترميم كنيسة سيدة التلّة وتوسيعها نحو الغرب، ثم أضيفت قنطرة جديدة إلى طرفها الغربي في العام 1831.

 
بعقلين عاصمة الإمارة الأولى ومدينة التواصل الثقافي
تتكوّن بعقلين من مجموعة تلال مشرفة على ساحل الشوف (الدامور- خلدة)، وعلى المدن والبلدات المجاورة مثل دير القمر وبيت الدين شمالًا، وإقليم الخروب جنوبًا. البلدة الجميلة اشتهرت عندما اختارها الأمير معن مؤسس الإمارة المعنية في جبال الشوف، قاعدة لإمارته ومقرًا لسكنه في العام 1120، وظلت كذلك إلى حين ارتأى الأمير فخر الدين الثاني نقل مركز الإمارة منها إلى دير القمر.
تضمُّ بعقلين معاصر للزيتون ومشاغل حياكة وملبوسات وأصواف ومعامل للحديد وتصنيع الشمع، ومصانع للمفروشات الخشبيـة، ومناشـر للرخـام الحجـري، وتعتبـر مطرزاتهـا من أبرز الحِرف التقليدية في البلدة.
تتميز البلدة بمناظر متنوّعة خلّابة ومجموعة من المواقع الأثرية الطبيعية، من بينها منتزهات نهر بعقلين حيث المياه المتدفقة والأشجار المعمّرة.
من أبرز معالم بعقلين، المكتبة الوطنية التي منها انطلقنا في جولتنا برفقة رئيسة لجنة الثقافة والتربية والشباب والرياضة في البلدية أمل بو صالح تقي الدين. مدير المكتبة غازي صعب تحدّث عن تاريخ بنائها الذي يعود إلى العام 1897، وهي كانت سابقًا مركزًا إداريًا للشوف يوم اتخذت بعقلين مركزًا لقائمقامية الشوف إبان حكم المتصرفيـة. في العـام 1925، أصبحـت بعقلين عاصمة لمحافظة الشوف وتحوَّل هذا المعلم إلى سراي وسجن ليصبح منذ العام 1987مكتبة وطنية وصرحًا ثقافيًا وفكريًا. تحتوي هذه المكتبة على 140 ألف كتاب و 300 ألف مطبوعة دورية، وهي المكتبة العامـة الوحيـدة التـي تتبـع وزارة الثقافة، ويقال بأنها من أنشط المكتبات إذ تشهد سنويًا حوالى 200 نشاط (ثقافي، بيئي، توقيع كتب، ندوات، أمسيات شعرية...).
تحقق المكتبة الوطنية في بعقلين الإنجازات تلو الإنجازات، وآخرها تحديث موقعها الإلكتروني الذي يشكّل قفزة جديدة في مسيرتها، إذ أصبح أكثر من 400 ألف مرجع بمتناول القارئ إلكترونيًا.
كونها صرحًا ثقافيًا ومرجعًا علميًا، أهّلها لدخول موسوعة غينيس العالمية من حيث تبادل أكبر عدد من الكتب في يوم واحد (1400 كتاب). ويكشف لنا مديرها أنها ستشهد رقمًا قياسيًا جديدًا من خلال التحضير لأكبر لوحة جدارية في العالم سوف يشارك فيها أكثر من 50 فنانًا.

 

شواهد عمرانية
في بعقلين شواهد عمرانية مهمة بنيت خلال حقبات مختلفة، ولعل أبرزها:
• قصر آلـ حمادة: تمّ بناؤه على عدة مراحل ويشتمل على أقبية وفناءات داخلية مرصوفة بالإضافة إلى ميدان مجاور، وهو مصنّف من ضمن الأبنية التراثية في لبنان.
• دار آلـ تقي الدين: قصر تراثي يعود تاريخه إلى العام 1830، ويعتبر تحفة هندسية، عايش حقبة مهمة من تاريخ بعقلين السياسي.
• دار أبو شقرا: يعود إلى أكثر من أربعمايـة سنـة ومـا زال محافظًـا علـى طابعه القديم، من محتوياته مكبس الزيتون الأثري الذي يعود إلى حوالى 100 سنة خلت.
• المدافن الأثرية: وهي مزينة بشواهد منقوشة ومنحوتة يرجع تاريخها إلى العام 1562.
• عين الضيعة: بناها نسيب بك جنبلاط خلال حكم السلطان عبد الحميد، وحملت صورتها الورقة النقدية فئة الـ 25 ليرة.
• مشغل الشوف (قصر آلـ الداهوك سابقًا): أسسته الست جمال تقي الدين، ويعود بناؤه إلى العام 1897. اعتبر في مرحلة ما أقوى مشاغل لبنان اليدوية والحِرفية. يضم المبنى في حناياه «بيت ستي وجدي» الذي يرمز إلى الحياة البسيطة والمتواضعة، التي عاشها أجدادنا.
إلى هذه المعالم وسواها، ثمة شارع تراثي سوف تعمل البلدية على تأهيله بالتعاون مع مديرية الآثار، ليصبح معلمًا ثقافيًا وتراثيًا يستضيف معارض رسم وتحف وأشغال يدوية...

 

بعذران وآثارها
انطلقت جولتنا في بعذران من ساحة الميدان مرورًا ببيوتها التراثية الجميلة وآثارها العديدة، ومنها سراي علي بك جنبلاط، وبوابة تاج الدين، ومتحف النول، وغيرها.
رافقنا خلال الجولة السيد نزيه باز الذي تحدّث عن معاصر دبس العنب القديمة والأنوال الخشبية التاريخية... موضحًا أن الاسم سرياني وتفسيره «محطة الجيوش».
من متحف النول الذي ورثه عن جدّه، وهو حريص كل الحرص في المحافظة عليه، بدأ نزيه باز بسرد حكاية ماضٍ حاضر. يعود تاريخ المتحف إلى 100 سنة خلت، أما النول فآلة تاريخية تعود إلى نحو 5000 آلاف سنة قبل الميلاد، تستخدم لحياكة الحرير، وهي حِرفة يتقنها باز منذ 35 سنة، فضلًا عن إتقانه تصنيع الأنوال الخشبية. نجد في المتحف نولين: واحد عمره حوالى 370 سنة، والآخر 90 سنة.

 

سراي آلـ جنبلاط
يعود تاريخ البناء إلى العام 600 تقريبًا، وهو عبارة عن قلعة أعاد تشييدها الشيخ بشير جنبلاط في العام 1600، بعدما تخلخلت سقوفها وجوانبها بفعل الزمن. وقد كانت مبنية على أنقاض آثار رومانية والبعض يقول إنّ فيها قواعد يهودية تعود إلى ما قبل الميلاد بمئات السنين.

 

بوابة آلـ تاج الدين
تحمل البلاطة الموضوعة على البوابة تاريخ ترميمها على يد الشيخ رباح تاج الدين وهو من مشايخ الصلح المعروفين في المنطقة. لا يمكن الدخول إليها حاليًا لأنها بحاجة إلى ترميم وإعادة تأهيل. تقسم بوابتها إلى قسمين في كل منهما مدخلان: واحد كبير لكبار القوم، وآخر صغير لعامة الناس. واحد للرجال والآخر للنساء. بفعل الحروب وعوامل الزمن، تعرّضت البوابة للهدم أكثر من مرّة وأعيد ترميمها.

 

منزل رشيد طليع التراثي
هو رشيد بن علي بن الشيخ حسن طليع شيخ عقل الطائفة الدرزية، من مواليد جديدة الشوف في العام 1876. ألّف في أوائل نيسان سنة 1921 أول حكومة عربية استقلالية في شرق الأردن من سبعة من أرهاط العرب. سميت الحكومة في البداية بمجلس المشيرين وهو مصطلح تركي للوزارة. وقد اختار رشيد طليع هذا الاسم رغبة منه في البقاء بعيدًا من أبهة الوزارة وما تتطلبه من نفقات. عيّن للمشيرين مرتبات ضئيلة حتى أن راتب رئيس الوزارة لم يتجاوز الثلاثين دينارًا في الشهر لأن الدولة كانت بحاجة ماسّة للمال...
يعتبر رشيد طليع من ألمع الإداريين العرب في العهد العثماني، وهو كان واليًا لحلب في عهد الملك فيصل.
ودّعنا الشوف وجمالاته... وكانت المحطة الأخيرة دعوة إلى الغداء في منزل زهير طليع التراثي.