طفولة و تربية

الطفل يرسم طريقه الى الإستقلال الذاتي عبر علاقته بأمه
إعداد: رويدا السمرا

 العيش بتناغم مع طفلك يعني أن تدعيه ينفتح على العالم الخارجي وتساعديه بصبر ورويّة على أن يكبر ويتمكن من الاعتماد على ذاته.

 يمر الطفل بمراحل عدة ومختلفة، من الاكتساب والمعرفة، تساعده في بناء شخصيته، وتجعله يشعر بكيانه الخاص وبأنه مختلف عن غيره. وفي أسبوعه الثامن، يوجّه الطفل ابتسامته الأولى الى أمه. وتُعتبر هذه الابتسامة أول عامل مبرمج لحياة الطفل النفسية، فهي باكورة المظاهر الحسية لسلوكه. هذا ما يؤكده أطباء النفس. ويتابع هؤلاء، أنه عندما تردّ الأم على ابتسامة طفلها بفرح وحنان، فهو يكرر هذه التجربة الهامة بالنسبة اليه والتي تجعله يشعر بعاطفة أمه، كما أنه يفهم من خلال تجاوبها معه أن الإشارة، أي الإبتسامة التي صدرت عنه لها معناها،، ويكون بذلك قد بدأ تواصله الحسي مع والدته.

 

 الخوف من غياب الأم

 العامل الثاني المبرمج لحياة الطفل النفسية، هو أقل إشراقاً وبهجة من ابتسامته الأولى: إنه القلق الذي يشعر به في شهره الثامن، لكن هذا القلق، يضاهي الإبتسامة من حيث الأهمية في بناء شخصيته. فعندما يبلغ الطفل شهره السادس أو الثامن، فهو يعبّر عن حزنه أو غضبه عندما تبتعد عنه امه. وتظهر ردة الفعل هذه عند الأطفال من دون استثناء، على اختلاف أعراقهم وجنسياتهم. وتعتبر هذه الشمولية العالمية برهاناً إضافياً عن قوة تعلّق الطفل بأمه. وتنمّ نوبة الحزن التي تصيب الطفل عند ابتعاده عن أمه، عن حاجة حيوية مثل الجوع أو العطش. وإذا عانى الطفل منها لفترة طويلة فقد يتسبب ذلك بنقص خطير في العاطفة، يمكن أن يذهب الى حد تهديد حياته بالخطر عن البلوغ. ماذا يحدث في الرأس الصغير، لإبن الثمانية أشهر، عندما تبتعد أمه عن نظره؟ هو يعتقد أنه لم يعد موجوداً! ويكون عليه أن يقوم بجهد نفسي حتى "يُفبرك" بديلاً عن أمه أو صورة تحلّ محلها خلال فترة غيابها، ليدرك بالتالي أنها سوف تعود إليه.

 

... والخوف من الوجوه غير المألوفة

قد يشعر طفلك بالخوف والقلق من فراقك، حتى ولو كنت بالقرب منه عند قدوم شخص غريب عن العائلة. فهو يعتبر هذا الشخص رمزاً لما قد يبعده عنك، فيبدو خائفاً يبكي، وهو يرمي نفسه بين ذراعيك.

 

يتعلم كيف يكبر

 إن هذه التجارب التي يمرّ بها طفلك، سواء كانت سعيدة أو حزينة، هي ضرورية لبناء الجانب النفسي من شخصيته. فهي تشكّل ممراً يعبره الطفل لبلوغ مرحلة الإستقلالية الذاتية. وغالباً ما تعاود هذه المشاهد طفلك أثناء نومه، وتتحوّل أحياناً الى كوابيس. مع ذلك، فإن تكرار الأوضاع، التي يتعرّض لها طفلك، وتعوده على مواجهتها، من شأنه أن يساهم في تحسسه للواقع وإرشاده الى الطريقة الفضلى للتكيف مع هذه الأوضاع. كلمات مطمئنة إن كلمات الوالدين البسيطة والمطـمئنة، تحصـد ثمارها حتى مع الأطـفال: "نحن هنا بالقرب منك نسهر عليك. كل شيء هادئ في المنزل، يمكنك أن تعود الى النوم مطمئناً". يشعر الطفل تماماً بالجو الذي تضفيه هذه العبارات البسيطة، فيهدأ خوفه ويعود إليه صفاؤه.

 

 الأشياء التي يحضنها الطفل هي أمه نوعاً ما

طفلك يمسك بالمنديل أو بلعبته (دبدوب)، أو بالوشاح الذي يحمل رائحتك ورائحة سريره، فتهدأ مخاوفه عند الاستعداد للنوم. ويمكن القول أن الغرض "الثمين" الذي يحضنه الطفل قبل أن ينام، هو بالنسبة اليه أنت وهو، وعندها يضمه بشدة الى صدره، يتمكن من تحمّل فكرة غيابك عنه أثناء النوم. وهكذا تشكل لعبته هي أيضاً حلقة في سلسلة اكتشاف طريقة نحو الاستقلالية.

 

 المناداة ودلالتها يقول

 المحللون النفسيون أن الكلمات الأولى التي يتفوّه بها الطفل، هي في الغالب مقاطع كلامية، مثل (ميمي) التي يلفظها الطفل نحو الداخل، وكأنه يأكلها او يمتصها، قبل أن يتمكن من قول كلمة "ماما" بشكل واضح. وهذا يعني أن الأم بالنسبة للطفل هي "الداخل"، بينما لفظة "بَه" التي تمهد لكلمة بابا، يقولها الطفل، وهو يُخرج الهواء من فمه، للدلالة على من يأتي من "الخارج" أي أبيه، ليعكّر صفو العلاقة مع أمه، التي يعتبرها حِكراً عليه منذ أيامه الأولى. ويتساءل اللغويون عما إذا كانت كلمة (ماما) منذ البداية؟ لكن أحداً لا يعرف هذا بالضبط. الا أن الشيء الأكيد هو أن الطفل، منذ الأسابيع الأولى لعلاقته الوثيقة مع أمه، يبدأ بالتنبه الى كيانه المستقل عنها فيعتبر ذلك بداية انفصال عن الكائن الذي ارتبط به منذ أيامه الأولى، الأمر الذي يجعله يشعر بالقلق والضياع، فيعوّض عن ذلك باللغة التي يخترعها وينادي بها أمه، لكي يشعر بوجودها ويؤكد على قربها منه.

 

 إثبات الذات بالرفض

يقول أحد المحللين النفسيين، إن إمكانية قول كلمة (لا) بالنسبة للطفل، هي العامل الأخير المبرمج لعملية نموه الفكري. وهي برهان آخر على تمثله بأمه، التي يحاول تقليدها في الإمساك بزمام الأمور من حولها. وهو يقول (لا) مثلما يسمعها وهي تقولها له. وتعني كلمة (لا) بالنسبة للطفل: أنا موجود، وعليك أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار.

 

في المرآة

 من المسلّي أن نقوم بالتجربة التي قام بها البروفسور رينيه زازو الطبيب النفسي: طفل في شهره الثاني عشر، يحاول قبالة المرآة، أن يلعب مع "الطفل الآخر" الذي يراه أمامه. واذا وضعنا على أنف الطفل، لطخة حمراء، يتلمس الطفل سطح المرآة في موقع البقعة. لكن التجربة تختلف تماماً مع إبن السنتين. فالطفل في هذه السن، ينظر الى صورته في المرآة، ويضع يده على وجهه، عندما نرسم دائرة حمراء على أنفه. فهو إذن يُدرك أن من يراه في المرآة هو ذاته. وهكذا فقد تعرّف الى نفسه وأصبح يشعر بكيانه الذاتي. وبعـد أن يتـخطى الطـفل، كل هـذه المـراحل الأولى، والتي تليها بالطبع مراحل أخرى كثيـرة، يبدأ بالتقدم في عملية الشعور بالذات وأيضاً بالسير نحـو الإستقلالية. ويبقى وقـوف أمه الى جانبه وإحاطتها له بحبها وحنانها، الخميرة الأقوى والأكـثر فاعلية لإنضاج حياته النفسية وتمكنه من الاعتماد على نفسه بثقة تامة.

 

Santé magazine
Décembre 2003

طفولة و تربية
الطفل يرسم طريقه الى الإستقلال الذاتي عبر علاقته بأمه


 العيش بتناغم مع طفلك يعني أن تدعيه ينفتح على العالم الخارجي وتساعديه بصبر ورويّة على أن يكبر ويتمكن من الاعتماد على ذاته.

 يمر الطفل بمراحل عدة ومختلفة، من الاكتساب والمعرفة، تساعده في بناء شخصيته، وتجعله يشعر بكيانه الخاص وبأنه مختلف عن غيره. وفي أسبوعه الثامن، يوجّه الطفل ابتسامته الأولى الى أمه. وتُعتبر هذه الابتسامة أول عامل مبرمج لحياة الطفل النفسية، فهي باكورة المظاهر الحسية لسلوكه. هذا ما يؤكده أطباء النفس. ويتابع هؤلاء، أنه عندما تردّ الأم على ابتسامة طفلها بفرح وحنان، فهو يكرر هذه التجربة الهامة بالنسبة اليه والتي تجعله يشعر بعاطفة أمه، كما أنه يفهم من خلال تجاوبها معه أن الإشارة، أي الإبتسامة التي صدرت عنه لها معناها،، ويكون بذلك قد بدأ تواصله الحسي مع والدته.

 

 الخوف من غياب الأم

 العامل الثاني المبرمج لحياة الطفل النفسية، هو أقل إشراقاً وبهجة من ابتسامته الأولى: إنه القلق الذي يشعر به في شهره الثامن، لكن هذا القلق، يضاهي الإبتسامة من حيث الأهمية في بناء شخصيته. فعندما يبلغ الطفل شهره السادس أو الثامن، فهو يعبّر عن حزنه أو غضبه عندما تبتعد عنه امه. وتظهر ردة الفعل هذه عند الأطفال من دون استثناء، على اختلاف أعراقهم وجنسياتهم. وتعتبر هذه الشمولية العالمية برهاناً إضافياً عن قوة تعلّق الطفل بأمه. وتنمّ نوبة الحزن التي تصيب الطفل عند ابتعاده عن أمه، عن حاجة حيوية مثل الجوع أو العطش. وإذا عانى الطفل منها لفترة طويلة فقد يتسبب ذلك بنقص خطير في العاطفة، يمكن أن يذهب الى حد تهديد حياته بالخطر عن البلوغ. ماذا يحدث في الرأس الصغير، لإبن الثمانية أشهر، عندما تبتعد أمه عن نظره؟ هو يعتقد أنه لم يعد موجوداً! ويكون عليه أن يقوم بجهد نفسي حتى "يُفبرك" بديلاً عن أمه أو صورة تحلّ محلها خلال فترة غيابها، ليدرك بالتالي أنها سوف تعود إليه.

 

... والخوف من الوجوه غير المألوفة

قد يشعر طفلك بالخوف والقلق من فراقك، حتى ولو كنت بالقرب منه عند قدوم شخص غريب عن العائلة. فهو يعتبر هذا الشخص رمزاً لما قد يبعده عنك، فيبدو خائفاً يبكي، وهو يرمي نفسه بين ذراعيك.


يتعلم كيف يكبر

 إن هذه التجارب التي يمرّ بها طفلك، سواء كانت سعيدة أو حزينة، هي ضرورية لبناء الجانب النفسي من شخصيته. فهي تشكّل ممراً يعبره الطفل لبلوغ مرحلة الإستقلالية الذاتية. وغالباً ما تعاود هذه المشاهد طفلك أثناء نومه، وتتحوّل أحياناً الى كوابيس. مع ذلك، فإن تكرار الأوضاع، التي يتعرّض لها طفلك، وتعوده على مواجهتها، من شأنه أن يساهم في تحسسه للواقع وإرشاده الى الطريقة الفضلى للتكيف مع هذه الأوضاع. كلمات مطمئنة إن كلمات الوالدين البسيطة والمطـمئنة، تحصـد ثمارها حتى مع الأطـفال: "نحن هنا بالقرب منك نسهر عليك. كل شيء هادئ في المنزل، يمكنك أن تعود الى النوم مطمئناً". يشعر الطفل تماماً بالجو الذي تضفيه هذه العبارات البسيطة، فيهدأ خوفه ويعود إليه صفاؤه.

 الأشياء التي يحضنها الطفل هي أمه نوعاً ما

طفلك يمسك بالمنديل أو بلعبته (دبدوب)، أو بالوشاح الذي يحمل رائحتك ورائحة سريره، فتهدأ مخاوفه عند الاستعداد للنوم. ويمكن القول أن الغرض "الثمين" الذي يحضنه الطفل قبل أن ينام، هو بالنسبة اليه أنت وهو، وعندها يضمه بشدة الى صدره، يتمكن من تحمّل فكرة غيابك عنه أثناء النوم. وهكذا تشكل لعبته هي أيضاً حلقة في سلسلة اكتشاف طريقة نحو الاستقلالية.


 المناداة ودلالتها يقول

 المحللون النفسيون أن الكلمات الأولى التي يتفوّه بها الطفل، هي في الغالب مقاطع كلامية، مثل (ميمي) التي يلفظها الطفل نحو الداخل، وكأنه يأكلها او يمتصها، قبل أن يتمكن من قول كلمة "ماما" بشكل واضح. وهذا يعني أن الأم بالنسبة للطفل هي "الداخل"، بينما لفظة "بَه" التي تمهد لكلمة بابا، يقولها الطفل، وهو يُخرج الهواء من فمه، للدلالة على من يأتي من "الخارج" أي أبيه، ليعكّر صفو العلاقة مع أمه، التي يعتبرها حِكراً عليه منذ أيامه الأولى. ويتساءل اللغويون عما إذا كانت كلمة (ماما) منذ البداية؟ لكن أحداً لا يعرف هذا بالضبط. الا أن الشيء الأكيد هو أن الطفل، منذ الأسابيع الأولى لعلاقته الوثيقة مع أمه، يبدأ بالتنبه الى كيانه المستقل عنها فيعتبر ذلك بداية انفصال عن الكائن الذي ارتبط به منذ أيامه الأولى، الأمر الذي يجعله يشعر بالقلق والضياع، فيعوّض عن ذلك باللغة التي يخترعها وينادي بها أمه، لكي يشعر بوجودها ويؤكد على قربها منه.


 إثبات الذات بالرفض

يقول أحد المحللين النفسيين، إن إمكانية قول كلمة (لا) بالنسبة للطفل، هي العامل الأخير المبرمج لعملية نموه الفكري. وهي برهان آخر على تمثله بأمه، التي يحاول تقليدها في الإمساك بزمام الأمور من حولها. وهو يقول (لا) مثلما يسمعها وهي تقولها له. وتعني كلمة (لا) بالنسبة للطفل: أنا موجود، وعليك أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار.

 

في المرآة

 من المسلّي أن نقوم بالتجربة التي قام بها البروفسور رينيه زازو الطبيب النفسي: طفل في شهره الثاني عشر، يحاول قبالة المرآة، أن يلعب مع "الطفل الآخر" الذي يراه أمامه. واذا وضعنا على أنف الطفل، لطخة حمراء، يتلمس الطفل سطح المرآة في موقع البقعة. لكن التجربة تختلف تماماً مع إبن السنتين. فالطفل في هذه السن، ينظر الى صورته في المرآة، ويضع يده على وجهه، عندما نرسم دائرة حمراء على أنفه. فهو إذن يُدرك أن من يراه في المرآة هو ذاته. وهكذا فقد تعرّف الى نفسه وأصبح يشعر بكيانه الذاتي. وبعـد أن يتـخطى الطـفل، كل هـذه المـراحل الأولى، والتي تليها بالطبع مراحل أخرى كثيـرة، يبدأ بالتقدم في عملية الشعور بالذات وأيضاً بالسير نحـو الإستقلالية. ويبقى وقـوف أمه الى جانبه وإحاطتها له بحبها وحنانها، الخميرة الأقوى والأكـثر فاعلية لإنضاج حياته النفسية وتمكنه من الاعتماد على نفسه بثقة تامة.

 

Santé magazine
Décembre 2003