وجهة نظر

العالم يغيّر جلده!
إعداد: جورج علم

النظام الدولي ما بين الكر الفوضوي والزر النووي


تنفث الطبيعة حرائق مخيفة تمتد لأسابيع، وتأتي على مساحات واسعة. وتتنفّس زلازل مدمّرة، وفيضانات تأخذ في طريقها البشر والحجر والشجر، فيما تترنّح اتفاقية المناخ، نتيجة رهانات خاطئة، أو مصالح ضيّقة.
ويستنشق العالم كميات خانقة من ثاني أوكسيد الكربون نتيجة التلوث البيئي والصناعي، ويفقد المزيد من اتّزانه وتوازنه بفضل مركبات النقص المشبعة بالفوضى، والتظاهرات، والانتفاضات، والثورات المطلبية، التي تحرّكها الأزمات الاجتماعية، والاقتصادية المتناسلة، والفساد العابر للقارات.

 

انهار السد الكبير من القيم والقوانين، تحت ضغط السيول الجارفة المندفعة من مغاور الحقد والكراهية، والتمرّد على الانتظام العام. العالم يغيّر جلده، والعولمة في مأزق، والعمليات الإرهابية، والأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية تتكاثر. جدار المكسيك تحوّل إلى مواجهة متعددة الوجوه والأغراض. والعلاقة بين الكونغرس والبيت الأبيض تنتج المزيد من التباينات العميقة حول الكثير من الملفات الداخلية والخارجية، فيما يخاطب الرئيس دونالد ترامب العالم بنبرةٍ صادمة متعالية، واضعًا المجتمع الدولي أمام خيارَين: إما خروج من الاتفاقيات والالتزامات الدولية الناظمة للمسار العام أو فرض العقوبات غير المسبوقة، ويوزعها «جوائز ترضية» يمنة ويسرة، على هذه الدولة أو تلك، مع دفاتر من الشروط الرادعة!

 

النسور.. والضحية
افتعل أزمة الجدار مع المكسيك، وانتقل سريعًا إلى فنزويلا حيث النفط والغاز والزيت الثقيل، فضلًا عن الموقع الاستراتيجي الذي تحتلّه بين مجموعة الدول اللاتينية. مواقفه حوّلت الساحة إلى مسرح مهيأ لاشتباكٍ دولي، سارع الروس إلى حجز منصّة، كذلك فعل الصينيون، وحيث تكون الضحية تحوم النسور. وضعت الصواريخ السوفياتية في كوبا العالم على حافة الهاوية، وقُرعت طبول الحرب النووية بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي في ستينيات القرن الماضي، لقد كانت من تدبير العقل التسلّطي التوسعي. الدول العظمى ترسم دوائر مصالحها بحبر القوة. فالحاسوب الأميركي لا ينظر إلى الوجود الروسي– الصيني المتعاظم في فنزويلا من المنظار التجاري فحسب، بل من منظار استراتيجي. وتنطبق هذه المقاربات بالقدر نفسه على رؤية موسكو، فعندما تحرّك حلف «الناتو» مقتربًا من الحدود الروسية، قام الكرملين من دون تردّد بضمّ جزيرة القرم من الجغرافيا الأوكرانية، واندفع بكل قواه إلى سوريا في أكبر تحدٍّ تخوضه روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فهل تكون فنزويلا هي سوريا الأميركية؟!

 

علامات هذا الزمان
من علامات هذا الزمان: الفقر والجوع والبطالة والتهميش والعنف والإرهاب. وما زاد من منسوب الكراهية والتحريض هو انحلال القيم، وانفلات الغرائز عبر وسائل التواصل. فقد باتت منصات «فيسبوك»، و«تويتر»، و«إنستغرام»... المربي البديل للمدرسة، والعائلة. على من تقع المسؤولية، وقد تبعثرت المسؤوليات بين المؤلف والناقل، والمرسل والمتلقي، والسلطة القانونية والسياسية؟
ربما تكون هذه الظواهر المقلقة مجرّد تنبيه لطبول الحرب التي تُقرع في أكثر من قارةٍ. فالتطورات الساخنة بين الجبارَين تتفاعل. لقد صار الصدام استراتيجيًا بعد أن أعلنت الولايات المتحدة إيقاف العمل باتفاقية الحدّ من الأسلحة الصاروخية القصيرة والمتوسطة المدى، التي وقّع عليها الرئيسان ميخائيل غورباتشيف ورونالد ريغان في العام 1989. وكان رد الرئيس فلاديمير بوتين نصف إعلان حرب، فقد هدّد أمام البرلمان الروسي علنًا، بحرب نووية ضد أميركا، وقدّم عرضًا تفصيليًا للقدرات التسليحية الروسية. إنّ المواجهة بين بوتين وترامب، تُعيد إلى الأذهان أزمة خليج الخنازير بين خروتشيف وكنيـدي في ستينيـات القـرن الماضـي.

 

أوروبا والصين
 أوروبا، حليفة الولايات المتحدة، لم تبتعد عن أجواء التأزيم بين الجبارَين، وأرسلت إشارات تؤكد قوة التحالف، رغم ما يشهده من توترات!
الصين تبرز كلاعبٍ جديد، ويتماهى موقفها مع التوجهات الروسية في كل من سوريا وفنزويلا. وفيما يبني حلف «الناتو» قوسًا صاروخيًا حول روسيا انطلاقًا من رومانيا وأوكرانيا وبولندا، تسعى موسكو للقيام بعملية إنزال سياسي وتجاري خلف الخطوط في أميركا اللاتينية، وتقترب من المجال الأمني الحيوي للولايات المتحدة، ما يجعل العالم أمام أزمة الصواريخ الروسية في كوبا، إلّا أنّها هذه المرة في فنزويلا.
وفي نظرة إلى أوروبا، يظهر المزيد من الشحوب. فمحاولة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ظاهرة مقلقة، والأزمة الصامتة بين فرنسا وإيطاليا لا تبشّر بالخير، واتساع الحراك الشعبي في أوروبا ليس دليل عافية، وتعاظم دور اليمين المتطرف يُنذِر بعواقب وخيمة، والمناكفات بين دول تمتلك الزر النووي ليس مؤشر اطمئنان في ظل قيادات من صنف جديد!

 

العولمة.. والتحديات الاقتصادية
يبدو مستقبل العولمة مكبّلًا بسلاسل من التحديات المصيرية المطروحة للنقاش. فالاتصالات الحديثة حوّلت العالم إلى قرية كونية، لكنّ المجتمعات صارت أكثر تجزّؤًا من ذي قبل، والتوترات بين البلدان وداخل البلاد أكثر تفشّيًا وانتشارًا، و«هي تسافر من دون تأشيرة»، كما سبق وأشار الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي أنان. إنّها تتكاثر مثل «إنفلونزا الطيور لتنشر الاضطرابات والاشتباكات في كل مكان، وتُسفِر عن مزيدٍ من الهجرة والنزوح، الأمر الذي يخلق صدمات ثقافية وحضارية تغذيها في نهاية المطاف الحركات اليمينية المتطرفة، والنزعات الشعبوية الراديكالية».
ويقول الرئيس الصيني شي جينبينغ في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس: «صحيح أنّ العولمة الاقتصادية قد خلقت المشكلات الجديدة، إلّا أنّها ليست مبررًا كافيًا لشطبها بالكليّة من الأجندة الدولية للأمم. عوضًا عن ذلك، ينبغي علينا التكيّف والمواءمة لقيادة ركب العولمة، وتفادي آثارها السلبية، والاستفادة من فوائدها الجمّة لكل البلدان والأمم. كما ينبغي التزام مواصلة تنمية الاقتصاد العالمي المفتوح».
بدورها، أكدت السيدة كريستين لاغارد، المديرة الإدارية لصندوق النقد الدولي، على «ضرورة تقاسم فوائد العولمة بقدرٍ أكبر من الإنصاف إن أُريد لها البقاء والاستمرار». وقالت: «هناك ما يقرب 3.6 مليار نسمة حول العالم يتطلعون إلى دخل أفضل، وإلى وجبة غذائية مرتين فقط يوميًا، وربما مرة واحدة في اليوم، والتخلي تمامًا عن العولمة، مع تراجع عن مساندة التنمية، لا يُشكّل مقاربة سلمية. والإعلان عن سيئات العولمة لأنّها تدمّر فرص العمل ليس إلّا طريقًا مختصرًا للغاية، الأمر يحتاج إلى إعمال العقل، والتحليل المنطقي، والمزيد من الفهم والإدراك. وإذا كانت الفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة قد تقلّصت بعض الشيء، فإنّ الفجوة عينها بين الأثرياء والفقراء داخل البلد الواحد في اتساع مضطرد، وهذا ما يدعو إلى ضمان تكافؤ الفرص بينهما. إنّها مشكلة لا بد من تناولها ومعالجة آثارها، فإن تُركت بلا حل معقول فسيكون صنّاع القرار من المساهمين في زوال العولمة، ويقضون على آمال الفئة الأقل حظًا من الشعوب في التنمية، والازدهار اللذين تستحقهما».
وفي هذا السياق، يقول وزير المالية الإيطالي بيير كارلو بادون، «لا أعتقد أنّنا نغادر العولمة، بل أنّنا دخلنا مرحلة جديدة من العلاقات الدولية العالمية، إذ تعمل السياسات الوطنية على صياغة كيفية تطوّر وتنمية العولمة في نهاية المطاف».

 

صنّاع القرار.. وسياسة نبش القبور!
بالطبع، النظريات كثيرة والمنظّرون كثر، لكنّ الاقتصاد العالمي ما زال يترنّح، فنسبة الجياع ما زالت أعلى بكثيرٍ من نسبة الذين يحصلون على وجبتين من الطعام في اليوم. والتنافس بين القوى الكبرى على الاستئثار بالطاقة والمواد الأولية، يتّخذ منحى خطرًا في أكثر من قارة ومن منطقة. الخبراء الروس يرسمون سيناريوهات الحرب المحتملة، ويؤكد نائب مدير معهد دول «رابطة الدول المستقلة» فلاديمير يفسييف في مقابلة مع «موسكوفسكي كومسومول»، أنّ أحد السناريوهات المحتملة لبدء الحرب العالمية الثالثة هو العدوان ضد روسيا في دول البلطيق، ففي هذه المنطقة تقع حوادث كثيرة بين الطائرات والسفن التابعة لـ«الناتو».
ويعتقد الخبير العسكري أليكسي ليونكسوف أنّ «سبب اندلاع الحرب قد يكون صراعًا بين الولايات المتحدة وكوريا الديموقراطية في شبه الجزيرة الكورية، ومع ذلك شدّد على أنّ اندلاع الحرب العالمية الثالثة سيكون بسبب العدوان ضد روسيا التي تُعتبر قوة نووية».
ويعتبر فلاديمير يفسييف أنّ «الحرب العالمية يمكن أن تبدأ في سوريا حيث الوضع بين موسكو والولايات المتحدة قد يتفاقم ويؤدي إلى تصعيد الصراع».

 

...وقارىء الفنجان الأميركي
يقول الكاتب والمؤرخ الأميركي ديفيد مونتين: «علينا أن ننسى مشاكل الـ«بريكست» وأزمات المهاجرين وحروب سوريا، واليمن، وليبيا، فالحرب العالمية الثالثة على وشك النشوب، ولن تُبقي ولن تذر!».
وقد نشرت مجلة «مترو» البريطانية تقريرًا حول مزاعم جديدة لمونتين بالاستناد إلى نظريتين: الاحتكاكات التي بدأت بين القوى النووية، الهند – باكستان، والولايات المتحدة – الصين، فضلًا عن الصفيح الساخن في سوريا حيث يوجد الدب الروسي وجهًا لوجه مع النسر الأميركي، والأرصاد الجوية الحديثة التي تُظهر أنّ عمر كوكب الأرض قارب على النهاية، وأنّ أحداثًا عملاقة في طريقها للحدوث. ومع ظهور البرمجيات الفلكية الحديثة يمكننا أن نجد بسهولةٍ أنّ العام 2019 سيكون عامًا مفصليًا في تاريخ كوكب الأرض، خصوصًا بعد دراسة موقعه في الأجرام السماوية الأخرى!

 

...وتوقعات كيسنجر
يرى هنري كيسنجر أنّ «نذر الحرب العالمية الثالثة بدت في الأفق، وطرفاها الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا وإيران من جهة أخرى». ويقول: «إنّ ما يجري الآن هو تمهيد لهذه الحرب التي ستكون شديدة القسوة إذ لا يخرج منها سوى منتصر واحد هو الولايات المتحدة – من وجهة نظره – وإنّ واشنطن تركت الصين تعزّز قدراتها العسكرية، كما تركت روسيا تتعافى من إرث الاتحاد السوفياتي السابق، ما أعاد الهيبة لهاتين القوّتين، لكنّ هذه الهيبة هي التي ستكون السبب في سرعة زوال كل منهما، ومعهما إيران التي يُعتبر سقوطها هدفًا ذا أولوية لإسرائيل. ثم إنّ إدراك الاتحاد الأوروبي لحقيقة المواجهة العسكرية المحتومة بين أميركا وكل من روسيا والصين المتباهيتَين بقوتهما دفعه إلى المسارعة بالتوحّد في كيان واحد متماسك قوي، وإنّ الدوائر السياسية والاستراتيجية الأميركية طلبت من العسكريين احتلال سبع دول شرق أوسطية من أجل استغلال مواردها الطبيعية خصوصًا النفط والغاز، إذ تبدو السيطرة على البترول هي الطريق للسيطرة على الدول. أما السيطرة على الغذاء فهي السبيل للسيطرة على الشعوب. والعسكريون الأميركيون قد حققوا هذا الهدف تقريبًا، أو هم في سبيلهم إلى تحقيقه استجابة لطلباتنا. بقي حجر واحد علينا إسقاطه من أجل إحداث التوازن، وهو المتمثل في إيران، مع التأكيد بأنّ روسيا والصين لن تقفا موقف المتفرّج، ونحن نمهّد الطريق لقوتنا، خصوصًا بعد أن تشنّ إسرائيل حربًا جديدة بكل ما أوتيت من قوّة لقتل أكبر عدد ممكن من العرب، وهنا سيستيقظ الدب الروسي والتنين الصيني، وقتها سيكون نصف الشرق الأوسط على الأقل قد أصبح إسرائيليًا، وستصبح المهمة ملقاة على عاتق جنودنا، وأقصد هنا الأميركيين والغربيين بصفة عامة، المدرّبين جيدًا، والمستعدين في أي وقت لدخول حرب عالمية ثالثة يواجهون فيها الروس والصينيين. ومن ركام الحرب سيتم بناء قوة عظمى وحيدة، قوية، صلبة، منتصرة، هي الحكومة العالمية التي تسيطر على العالم، ولا ينسى أحد أنّ الولايات المتحدة تمتلك أكبر ترسانة سلاح في العالم، لا يعرف عنها الآخرون شيئًا، وسوف نقوم بعرضها أمام العالم في الوقت المناسب!».

 

حبل النجاة يتدلّى.. الحكمة تنتصر!
... إنّها عيّنات من ثقافة هذا العصر، من قادته، ومفكّريه، وفلاسفته، وصنّاع قراره، لكن قبل السقوط نحو المنحدر، هناك حافة الهاوية، إذ يوجد دائمًا حبل نجاة يتدلّى من معين الحكمة، والرويّة، والتبصّر، والنظر بإمعانٍ إلى النصف الملآن من الوعاء الأرضي الذي يتّسع للجميع... وطوبى لصانعي السلام، فلهم الملكوت!