رحلة في الانسان

العدائية والقلق من المجهول
إعداد: غريس فرح

مشاعر يمكن التغلب عليها بالتعرف إلى الآخرالخوف اللاواعي يقسم العالم الى «نحن» و «هم»
العدائية والقلق من المجهول
مشاعر يمكن التغلب عليها بالتعرف إلى الآخر

في أعماق كل إنسان مشاعر قد لا يعترف بوجودها، باعتبارها تسيء إلى التوجّهات الحضارية، أو التعاليم الدينية والأخلاقية والإجتماعية التي يدين لها بالولاء. إلاّ أن أحداً لا يفكر أن هذه المشاعر قد تطغى في ظروف معيّنة على العقلنة المكتسبة، لتدفع إلى الكشف عن مخابئ الذات بأشكال لا تتناسب والتعاليم التي نؤمن بها.
وكراهية الآخر أو التوجّس من وجوده ومخالطته هي إحدى هذه المشاعر التي تطغى على ما عداها، وخصوصاً عندما تتهيأ الظروف الملائمة لانفجارها. وما نشهده حالياً على أكثر من صعيد، يؤكد صحّة هذه النظرية.
فما هي الأسباب الكامنة وراء تجذّر هكذا شعور، وكيف يمكن تبديده أو التحكّم بمضاعفاته؟

 

الخوف الفطري

يؤكد معظم الدراسات النفسية على أن التحيّز للإنتماء القومي والعرقي وسواها من الانتماءات التي فرضتها الهيكليات الاجتماعية عبر العصور، هو شعور يجري عميقاً في الذات البشرية لأسباب عدّة، في مقدمها الخوف الفطري من المجهول، وما يولّده من قلق وحقد وكراهية.
هذا الشعور الذي ولّدته الحاجة إلى الإحتماء بالمجموعة تحسباً للمفاجآت وتمسكاً بالبقاء، تجذّر مع الوقت في دوافع الجنس البشري ليكتسب صفة إنسانية شاملة. ومع أن التعاليم الإجتماعية والدينية قد حاولت قدر الإمكان التصدّي للمشاعر النظرية بشكل عام، الاّ أن الخوف من الآخر كان يفرض نفسه بقوة في كل مناسبة تسمح بانفلات المشاعر والانفعالات بعيداً عن الضوابط الإجتماعية.

 

بين المنطق واللاّمنطق

أجرت جامعة هارفارد الأميركية دراسة نفسية إثر أحداث الحادي عشر من أيلول العام 2001، أكّدت من خلالها أن الضغوط النّفسية التي يولّدها الخوف كفيلة بتفجير الإنحياز ضد الآخر خلال ثوان أو ساعات. وهذا يعني أن الإنسان مهيأ بالفطرة للتكتّل ضمن مجموعات، وبالتالي الإحتماء من خوفه تجاه كل ما هو غريب عن انتمائه الوطني أو القومي أو الحضاري. مع ذلك، أكّدت الدراسة نفسها أن الإنسان الحضاري المعاصر قادر كذلك على التحكّم بانفعالاته بواسطة استخدام الفكر التحليلي، وبالتالي يمكنه التعرّف إلى مصدر الخوف والانفعال، واستخدام حسه المتطوّر للتعرّف إلى المصادر التي تعمل على استغلال دوافعه الفطرية لخدمة أهداف محدّدة.
من هذا المنطلق، تلتقي هذه الدراسة مع دراسات أخرى حول حقيقة أن المجتمع الأميركي الذي اشتهر بكونه مجالاً واسعاً للانصهار الجماعي ضمن إطار الولاء للوطن، هو في الواقع مجتمع حقق هذا المكسب عن طريق ربط مصالح الفئات الإجتماعية المختلفة بالمؤسسات الوطنية والحقوق الفردية والعامّة. ومع ذلك فالواقع على الأرض يشير بوضوح إلى وجود التفرقة بأشكال مختلفة، وعلى أكثر من صعيد.
وحسب الاختصاصي النفسي ماركوس كيميلمير الذي أشرف على دراسة أجرتها جامعة نيفادا، فإن الخوف من الغرباء في المجتمع الأميركي لا يتوجّه إلى فئة دون سواها، بل يشمل المهاجرين كافة أو المجنّسين بشكل عام. وقد ظهر هذا الخوف خلال العقود الماضية - وتحديداً خلال الحرب العالمية الثانية - من اليابانيين وسواهم من الشعوب الآسيوية، وشمل في ما بعد شعوب أميركا اللاّتينية وخصوصاً مهاجري المكسيك من ذوي البشرة الداكنة والشعر الأسود، وتفجّر أخيراً بشكل عدائية للعرب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. وهذا يعني أنه من السهل جداً إثارة الشعور بالتفرقة والعدائية تجاه الآخر، حتى في المجتمع الأميركي، عن طريق افتعال ظروف تحرّك دافع الخوف الفطري وتهدّد بقاء النسل.

 

إحتقار الآخر وتمييز الذات

انطلاقاً من مفهوم الخوف اللاّواعي الذي يحرّك الإنفعال الفطري، ويقسم العالم إلى محورين في إطار «نحن» و «هم»، أكّدت دراسة بريطانية - استرالية مشتركة أجرتها جامعات في الدولتين بإشراف إختصاصيين نفسيين، أن وراء الشعور بالعدائية للآخر حاجات فردية تتعدّى أحياناً الخوف، إلى مشاعر أكثر تعقيداً. وحسب البروفيسور البريطاني هنري تاجفيل ونظيره الاسترالي جون تيرنر، فإن وراء التمييز العنصري رغبة كامنة بتمييز الذات، كجزء من مجموعة قادرة على الحماية وتغذية الشعور بالعظمة والاستعلاء على الغير. وعرفت هذه النظرية لاحقاً بنظرية «الهوية الإجتماعية»، وهي نظرية أرست مجموعة قواعد تحدد تطوّر التمييز العنصري وكراهية الآخر أو إحتقاره، وتربط هذا التطور بالاختلافات القائمة بين البشر على اساس الجغرافيا والدين والعرق واللغة ولون البشرة والشعر والعينين.
وكان بعض الباحثين قد حاول ربط التكوين الوراثي للشعوب المختلفة في إطار تعدّد الحضارات، بمعنى أن المجموعات البشرية التي توحّد بينها ميزات وراثية متشابهة تستطيع التأقلم في ظلّ حضارة وقومية واحدة. وهو تعليل يبدو مقنعاً كونه يعتمد على أبسط الدوافع البيولوجية لتسيير أنماط السلوك البشري. ومع ذلك بدت هذه النظرية خالية من البراهين الملموسة، خصوصاً وأن الواقع على الأرض يبدو مختلفاً لناحية التكوين المعقد للمجموعات البشرية المختلفة والتي تجمع أفراد كل منها تفاصيل حياتية دقيقة.

 

الإنحياز الخفي

اللاّفت، حسب تعبير الباحثين، أن الأغلبية الساحقة من الناس لا تعترف بميولها الانحيازية وامتعاضها من الآخر. والدليل أن الإستفتاءات التي أجريت في المجتمع الأميركي، وتحديداً في المدن التي تحتضن أكبر خليط بشري، دلّت على روح التسامح والانفتاح والديمقراطية التي تتغنى بها الأكثرية. ولكن عندما أخضع المعنيون بالاستفتاء لإختبارات سلوكية ظهرت الميول الخفية على حقيقتها. وقد تمثّل بعض هذه الإختبارات بوضع المعنيين أمام سلسلة مشاهد تمثّل شعوباً مختلفة الأعراق والأجناس، وإجراء تسجيلات دقيقة لإنفعالاتهم لدى رؤية كل مشهد على حدة. وتبيّن نتيجة تحليل المعطيات أن انفعالات الأفراد المعلنة، كما موجات أدمغتهم، قد أفرزت علامات رضى لدى رؤية أشخاص من إنتمائهم العرقي أو القومي، وبالمقابل دلائل نفور وامتعاض لدى مرور صور أشخاص من إنتماءات أخرى. وهذا يؤكد وجود تحيّز خفي يحرّك انفعالات قسرية تحصل بدون وعي المعنيين أو معرفتهم المسبقة بالطرف الآخر وانتمائه الحضاري. وقد ثبت بالبراهين أن هذه الإنفعالات لا تظهر إلى العلن الاّ في الظروف التي يطغى خلالها الخوف من تهديد الآخر، بحيث يمكن أن تنمو وتتطوّر وتأخذ أبعاداً لا حصر لها.

 

إقتحام المجهول.. هل هو الحلّ؟

إضافة إلى ذلك، أثبتت الإختبارات والتجارب الملموسة أن الانحياز القسري المشار إليه قابل للتحوّر في أثناء عمليات الدمج الطويلة المدى بين مختلف الفئات البشرية في المدارس وأمكنة العمل والفرق الرياضية وسواها. كما بالإمكان العمل على تذويبه تدريجاً عن طريق تنظيم برامج تؤمن الإطلاع الدقيق على حضارات الفئات الأخرى وعاداتها وانماط التفكير والعيش السائدة لديها، الأمر الذي يمنح العقل فرصة لإعادة برمجة آلية الملاحظة، وبالتالي حصر التمييز في أطر تحليلية تخدم التطوّر الفكري، وتؤدي إلى التعامل مع الآخر على أساس المعطيات الفردية، بعيداً عن مفهوم الإنتماء الحضاري أو العرقي.
والمعروف أن هذه النظرية تلقى حالياً إهتماماً بالغاً في المجتمعات الغربية وخصوصاً في المجتمع الأميركي بعد احداث الحادي عشر من أيلول. فالقلق الذي ساد هذا المجتمع نتيجة هذه الأحداث، وما خلّفه في النفوس من أحقاد، دفع بالباحثين النفسيين والإجتماعيين إلى التعامل مع الوضع على أسس علمية تعترف بوجود الدوافع البيولوجية وتسعى الى إخمادها. وكان في طليعة التوجّهات المقترحة، العمل على ضبط إنفعالات الخوف من المجهول، عن طريق الحثّ على اختراق هذا المجهول، بالتعرّف على الآخر عن كثب، والغوص عميقاً في حضارته واعتقاداته ودوافعه. وهو توجّه يعطي المجال لتغليب الطابع الإنساني الحضاري على الإحساس الفطري.
فنحن كبشر، نملك أحاسيس مشتركة توحّد في ما بيننا. وهذا يعني أننا جميعاً نخاف من المجهول، والغريب عن انتمائنا يمثّل هذا المجهول. ولكن إذا ما أخذنا بالاعتبار أن الشخص الذي نتوجّس منه يحمل تجاهنا الإحساس نفسه، لتغيّرت نظرتنا الى واقع التفرقة برمته، ولاستبدلنا العدائية بالتسامح، وأصبحنا بالتالي قادرين على الفصل بين المشاعر الشخصية، وتلك التي تفرضها الظروف الطارئة والحملات المبرمجة لإثارة الغرائز.