قضايا إقليمية

العدو الإسرائيلي وفقدان المناعة الذاتية
إعداد: إحسان مرتضى

في بداية «الربيع العربي» كانت لدى إسرائيل مخاوف تمثلت في الأساس بالخشية من تسلّم الشعوب زمام الأمور في دولها، ما اعتبرته إسرائيل خطرًا داهمًا عليها نظرًا للرفض الشعبي على الأرجح لوجودها واحتمال سقوط معاهدات السلام، فضلًا عن المخاوف من صعود التيار الإسلامي، وقد تبيّن بعد كل ما حصل أنّ المخاوف الإسرائيلية ما زالت قائمة حتى الآن، لأنّ المشاكل والأسباب التي أفضت إلى «الثورات العربية» ما تزال قائمة على حالها، ومنها: معدلات البطالة المرتفعة بين الشباب، والفساد السياسي والإداري والمالي، وتهاوي الأوضاع الاقتصادية، وغياب العدالة الاجتماعية، والاعتماد على النفط أو على الدعم الخارجي.

 

في مقابل هذه المخاوف والإشكاليات، كانت لدى إسرائيل عناصر قوة استراتيجية تقوم على نقاط أبرزها:
- التخطيط السليم البعيد المدى وبناء التحالفات المصلحية مع القوى العظمى وذات التأثير.
- بناء القوة القادرة دائمًا على تحقيق التفوق النوعي على مصادر التهديد المجتمعة المحيطة بها.
- سياسة ردع فعالة، وقدرة على إضعاف مصادر التهديد والتفوق الاستخباراتي والإلكتروني وتشتيتها، وتغييب فرص التحالف بين هذه المصادر.
لكن في المقابل، كانت إسرائيل وما زالت تعاني نقاط ضعف كثيرة تتمثل بشكلٍ خاص في:
- ضعف شرعية وجودها وتوسعها غير القانوني.
- هشاشة مناعة مجتمعها على الصعيدَين البنيوي والديموغرافي.
- الشعور الدائم بالقلق والخطر الداهم من قبل الشعوب العربية التي تعتبرها عدوها الأول. وهذا ما يُفسر خشيتها من الفوضى وعدم القدرة على ضبط الواقع في الأراضي المحتلة، ومن احتمال انهيار السلطة الفلسطينية المنبثقة عن اتفاق أوسلو وزوال تنسيقها الأمني معها، واحتمال تصاعد الانتفاضة الفلسطينية من جديد.
علاوة على ذلك، يتفـق الجميع داخل إسرائيل وخارجها على أنّه لا جدال حول أنّ المشـروع الصهيوني من أساسه قد أصبح الآن بحاجةٍ لمراجعة كاملة وشامـلـة، الأمر الذي يرتبط بقـدرة الكيان الذاتية على الاستمرار كدولةٍ مقبـولـة ومنسجمـة مع نفسهـا وغير منبـوذة في محيطها. ومثل هذا القبـول والاستيعـاب من قبل المحيط، بحاجةٍ إلى شروط وتنازلات لا يتوافر حولهـا إجمــاع سياسـي ومجتمعـي وإيديولوجي على الإطلاق في الداخل الإسرائيلي. ويتضح هذا الأمر من خـلال تعاقـب الحكومات الهشـّة والمتخاصمـة ما بين أركانها، وعدم قدرتها على استكمــال ولاياتها، علمًا بأنّ أسباب الهشاشـة هذه لا تعـود إلى عدم دخول شخصيات ذات إشكالية مثل ليبرمان وحزبه الحكومة فقط، وهو الذي اختار طريق التحدي والمزايدة على نتنياهو لجهة تبنّي مواقف اليمين الأكثر تطرفًا، مما ترك آثارًا سلبية واضحة على منظومة السلطة، وإنما لأنّ الاختلافات والصراعات النفعية والسياسية والشخصية بين صفوفها، حادة لدرجة يصعب التوفيق في ما بينها. وبالتالي، فالمعركة الفعلية لا تدور بين هذه الحكومة ومعارضيها وحسب، وإنما أساسًا داخل الأحزاب المؤتلفة فيها، إذ تنعدم المعايير بخصوص قدراتها والحصص الواجب أن تكتسبها داخلها، مما يثير خلافات حادة يصعب تلافي عواقبها. ويشهد على ذلك أنّ الاتفاقات الائتلافية تكلّف ما لا يقل عن 6.2 مليار شيكل سنويًا، منها 2.7 مليار شيكل للاتفاق مع الحريديم وتلبية شروطهم فقط.
 

تحالفات جديدة
جدير بالذكر أنّ هذا يحصل، والضغط على إسرائيل يتم حاليًا من عدة جهات، بحيث باتت عاجزة، لولا الولايات المتحدة، عن الحصول على مشروعية وجودها وتوسعها، كما أنّ احتلالها يعاني عزلة دولية كبيرة، ولهذا سعت إلى بناء تحالفات جديدة في محيط آخر. فاليونان بدلًا من تركيا، وقبرص منفذ بحري جديد، والبلقان ساحة دبلوماسية واستخباراتية عوضًا عن المتوسط والشرق الأوسط الراهن، والذهاب الى أفريقيا للتلويح لمصر في ملف المياه. والوجود في دول ناشئة، مثل جنوب السودان ومن قبلها في إريتريا، إشارة مهمة للاقتراب من الأمن القومي العربي مع الوجود الأمني والمعلوماتي والاستخباراتي الإسرائيلي في البحرين الأحمر والمتوسط، وبالقرب من قناة السويس والممرات المائية.
 

الإرباك والعجز
في المقابل تُطرح علامات استفهام عديدة أيضاً حول قدس الأقداس أي ما يسمى بـ«جيش الدفاع الإسرائيلي» الذي يتوقف حاليًا عند حدود مكشوفة من الإرباك والعجز لا يبارحها، وهو يعاني أيضًا أزمات المواجهة مع الحكم والسياسة الداخلية وفسادها، وعدم وضوح الرؤية الاستراتيجية وتباين الأهداف السياسية والتشتت في المواقف، والعجز عن اتخاذ القرار (الحرب على لبنان أم إيران أم استمرار الضربات على غزة أم التعامل مع تهديدات التنظيمات الموجودة في سيناء).
لقد فشل الجيش في استيعاب الإمكانات والقدرات العالية المعطاة له وفشلت أيضًا خطط تطوير قدراته، ناهيك عن سلسلة المناورات الدورية التي كلّفت الكثير، ولم تتجاوز في نتائجها حدود الشحن المعنوي والتمويه على التقصير والفشل في أكثر من مجال.
لقد فقدت إسرائيل المناعة الذاتية التي تحدّث عنها الجنرالات في سلسلة مؤتمرات هرتسيليا الدورية، وأصبحت باعتراف محلّليها العسكريين ومفكّريها في خطر. فلم تعد هناك حدود آمنة ولا مدن آمنة، إذ وقف الجيش الإسرائيلي في العديد من المواجهات في موقف المتفرج، وهو يرى الصواريخ والطائرات من دون طيار، بل وحتى الطائرات الورقية المتواضعة تخترق دفاعاته وتصل إلى منشآته العسكرية والاقتصادية.
وعليه، فإسرائيل تدرك أنّها تعيش الآن لحظة استراتيجية تاريخية ذات إشكالية معقدة، خاصة على ضوء التقديرات بأنّ الحالة العربية الهشّة لن تستمر، وأنّ تغيّرات دراماتيكية لغير مصلحة العدو قد تطرأ عاجلًا أو آجلًا، وبوسعها أن تؤثّر سلبًا على مكانة إسرائيل وأمنها ومناعتها في الإقليم.