العرب بين التحديث والحداثة

العرب بين التحديث والحداثة
إعداد: أ.د. نسيم الخوري
كاتب وأستاذ جامعي

المقدّمة

كنت بصدد البحث في تحولات مصطلحات التحديث والحداثة والمعاصرة (تموز 2019)، عندما ضجت مدينة لندن والرأي العام الإنكليزي بموجةٍ صاخبة معترضة على حملة إعلامية تروّج لبناء ناطحة سحابThe Tulip Skyscraper، تختلف عن ناطحات السحاب الأخرى والمتعددة في عواصم العالم، إذ إنها تشبه زهرة الخزامى ولها ساق طويلة، سترتفع هندسيًا 305 أمتار، ولها قمة منتفخة تحاكي السماء. تختصر الحملة بالدعوة إلى وقف المشاريع العمرانية التي تتوخى التحديث، لكنها تجرف التراث والماضي البريطاني العريق. دفعني الأمر إلى تعديل المقدمة، لأن هذا الاقتراح أثار دفاعًا قويًا لمجموعات التراث البريطانية، المعنية بالحفاظ على عراقة القصور التاريخية الملكية وبرج لندن وماضي بريطانيا العظمى[1].

يعد الصراع بين القديم والحديث إشكالية أساسية ملازمة للتاريخ، مع الافتراض أن فتون البشر بالتجديد والتحديث والخروج من عباءة القديم يبدو ظاهرًا وأقوى حضورًا منذ نهايات الحرب العالمية الثانية. لكن وقع هدم القديم أو تحديه بإشاعة المظاهر الحديثة يترك صخبًا معاصرًا عندما يقع التحدي في عاصمة تتشاوف بتاريخها الملكي العريق مثل بريطانيا، مع أن الحضارة[2] العمرانية التي جذبت دول العالم بما اصطلح تسميته بعصر تسابق بناء الأبراج تجعلنا حيال مشاهد هندسية متشابهة ومبعثرة في أنحاء العواصم والمدن العالمية. نجدها أبراجًا متكررة باستطالاتها، ولو أنها تنوعت في هندستها بين فرانكفورت ولندن وباريس وتورنتو والولايات المتحدة الأميركية، كما في دبي وأبو ظبي والسعودية ولبنان وسنغافورة وشنغهاي وماليزيا وهونغ كونغ، وغيرها من عواصم العالم.

لنكتب في جملة تمهيدية أن حضارات ومعالم عريقة أخرى ألفناها في العديد من الدول العربية الحاضنة للحضارات القديمة لا تقتصر فقط على الأبراج التي قد تعيدنا، في لحظة ما، إلى التفكير لا بظاهرة أبراج العالم وجمالياتها ومآسيها بل بأسطورة برج بابل وتبلبل الألسن عند انهياره. وتدعونا أيضًا إلى التفكير بفلسفتها وأحلام مهندسيها، وخصوصًا عندما نراها تندثر أمامنا بسبب الهزات الأرضية والحروب والنزاعات خلال العقدَين المنصرمَين بين الـ 2003 - 2019 أو أكثر، فتغيب معالم الحضارات القديمة في البلاد العريقة بتراثها مثل بلاد ما بين النهرين لتتحضر الأمكنة، بشكلٍ لافت لأجيال الأبراج وأنساقها من النماذج العمرانية السهلة والسريعة والبراقة بالألمنيوم والزجاج، وبما يتجاوز الفروقات الذهنية والفكرية القديمة الكبرى، الراسخة بين ما كان يسمى الغرب والشرق والشمال والجنوب في مصاف الحضارة. واستخدام الفعل "كان" في الماضي مع الإشارة إلى أنه يتساوى مع شقيقته "أصبح" من حيث الدلالة اللغوية على تلازم الماضي العربي بالمستقبل وكأنهما مقيمان في رحم/لسان واحد.

قد نتذكر هنا، على سبيل المثال زلزال، مدينة كرايستشرش النيوزيلاندية في العام 2011، الذي دمر الأبراج والمباني الشاهقة[3]، بما استلزم هدم المدينة بأكملها قبل إعادة بنائها مجددًا. كانت ردود الفعل الفورية للشركات الهندسية العملاقة على تداعيات الزلزال وكوارثه تطلب إعادة بناء المدينة كما كانت من قبل وبالشكل نفسه وفي أسرع وقت، لكن مع إجراء بعض الاستقصاءات عن سكان المدن بعد الكوارث، اتضح أن الناس يعانون في ظروف كهذه من فقدان سكونهم واستقرارهم وجودة حياتهم، حتى لو أُعيد بناء المدينة كما كانت، ويكمن التحدي في منح هؤلاء مظاهر التحسن في الحياة واستعادة الطمأنينة المفقودة أو المهتزة.

وجاءت النتائج بأن الناس طالبوا بمدنٍ خالية من المباني الشاهقة وفضلوا عليها المدن الأوروبية القديمة، وأرادوا إيجاد مساحات عامة يمكنهم الخروج إليها وقضاء الوقت بها، بالإضافة إلى المزيد من الحدائق والطرق للدراجات الهوائية، والمناطق التجارية الأصغر التي لا تبتلعها المجمعات التجارية والشركات المبهمة. أرادوا باختصار مدينة حديثة للسكان وليست للسيارات والمؤسسات التجارية الدولية. وعندما أُعيد بناء مدينة كرايستشرش رفض سكانها وجود ناطحات السحاب، والمباني التي تزيد عن خمسة أو ستة طوابق، وكان الأمر صعبًا جدًا بالنسبة إلى الحكومة، لما كانت تقوم به هذه الأبراج من أنشطة تجارية واقتصادية عالمية للمدينة، لكن بسبب تمسّك السكان المحكم، صدر القرار بألا يزيد ارتفاع أي مبنى عن سبعة طوابق[4].

هذه النتائج التي أفرزتها كارثة أبراج نيوزيلاندا وغيرها، نشرت مشاعر النفور العام من التركيز على الوظائف المالية والتجارية التي تفرزها حضارة الأبراج، بصفتها نجمة التحديث في العالم. وراح الميل يتركز في البحث الصعب عن أزمة غياب الاجتماعية وأمراضها، وتعزيز المشاركة والتفاعل والتقارب، والتخلص من الشعور بضآلة الإنسان، وضمور مساحات تعامله وتواصله مع الأفراد والجماعات.

لنقل بأن العودة إلى هذه الورقة المعنية بالحداثة والتحديث، أو بما أسميه بحداثة التحديث التي أضعفت فكرة الحداثة، بعدما فقدت الكثير من معانيها لمصلحة ترويج موضة التحديث، هي معنية، من ناحية أخرى أيضًا، بالكشف عن الجديد المكتسب لهذين المصطلحَين في المستويَين العربي والإسلامي، لا بتحولاتهما الجديدة وحسب، بل بالنظرة إلى مستقبلهما في ضوء مجتمعات البيت بمعنى المنزل Home مقابل مجتمعات البايت Bit بمعنى قوة الكومبيوتر الأسطوري التي تجاوز الخيال عبر ما يُعرف بالصفر والواحد في منظومة الترقيم الثنائي في العصر الرقمي الحالي، وخلاصتها قياس كمية من المعلومات وتمثيلها ورسمها وتطبيقها، بما يسمح من معالجتها ونقلها بواسطة الكودات أي الرموز إلى حقائق شامخة[5].

قد يكون الكاتب الأميركي نيقولا نيغروبونت رائدًا في التعبير عن قوة البايت في كتابه تحت عنوان "الإنسان الرقمي" الذي أهداه لزوجته بالجملة الآتية:" إلى إيلان، التي تحمّلت زوجها الرقمي منذ 11111 سنة". ليتساءل ما هو البايت؟ فيكتب: "البايت لا لون ولا حجم ولا وزن له. يمكنه السفر في العالم بسرعة الضوء. إنه العنصر الدقيق الذي يؤلف ذرة تكنولوجيا الإعلام...يمكنه أن يكون صفرًا أو واحدًا... شغل العنصر الأساسي في حسابات الأرقام التقليدية وغزا الفلسفة، لكنه انفجر مع الرياضيات الحديثة ليكتسب قدرات هائلة تتجاوز الأرقام وتسمح بترقيم انفجارات الإعلام المتنوع والمختلف المرئي والمسموع، وإمكانية اختصارها في سلاسل معقدة من الواحد والصفر. نحن أمام أجيال من الحقائق المتلاحقة التي تجعلك تصنع الخيال البشري في سلسلة المخترعات المتلاحقة، وتعرضها أمامك للاستعمال بما يتحدى الخيال، فيحرّك قدرتك على التردد بشأنها أو إهمالها"[6].

 

أولًا: الخيال والحداثة والتحديث

صحيح أن المدن العملاقة تقوم مكان المدن القديمة نماذج جاذبة وعلى الموضة لما يعرف بالتحديث العام، لكنها ظاهرة تترك مساحات إنسانية شاهقة، وندوب معلقة، وتشققات تسلخ المفاهيم الثابتة، كما أشرنا، مثل الهوية والقرابة الدموية والجوار والقيم، وحتى التاريخ لمصلحة الأرباح والخسائر في خدمة الأعمال والتسوق. بالمقابل، نرى حتى هذه المفاهيم وأشكالها المتحققة، تكتسب حللًا ووسائط حافلة بأشكالٍ جديدة متنوعة من الحرية، إذ تُخرج الناس من الأمكنة والأوطان والحدود الضيقة إلى اللامكان الممكن تسميته بالأرض، حيث هيام الإنسان الرقمي المعاصر المحكوم بالبايت والمحصور بالبصمات ودمغات وسائل التواصل الاجتماعي.

إنها مظاهر تحديثية تنسف الحياة أو استقرارها بالحد الأدنى، وتشيع الكثير من مستلزمات عصر الفضاء والعولمة التي تجعل الفروقات الشاسعة بين شعوب الأرض وثقافاتها أكثر ضمورًا. وإذا كان التعريف البسيط للعمارة أنها الضلع الثالث في مثلث الرسم والنحت، لكن الواقع العمراني دفع التعريف إلى ما يتجاوز الخيال المادي المعروض في الواقع، والمحكوم بالتحولات الدائمة عبر أجيال المنجزات التحديثية المتلاحقة[7].

قد لا نجد فروقات كبرى شكلية في عصر الفضاء والسياحة في أرجاء العالم بين العواصم والأنظمة المفتونة بالجديد وهذا ما ولّد خلطًا وفجوات هائلة بين ما نسميه الحداثة والتحديث، أو انشقاقات حاصلة بين النواة والقشرة الخارجية، التي لم تسقط أو تخبو، بصفتها مصطلحات قديمة منحت حيويتها وجاذبيتها لمصطلحاتٍ غريبة مستوردة، أفرزتها مصطلحات خارجة من رحم ما بعد الحداثة post modernity، التي بقيت عمليًا من دون أساس ثابت، ولم تتخلص من قشرة الحداثة.

للتحديث ظواهر مستوردة معممة براقة بكل المعاني والأبعاد غير مكلفة بأثمانها، وهي تعرّت من ملامح الماضي. قد تبدو صادمة، وقد تجعلك كائنًا مقيمًا في الفراغ، مسايرًا عصر/حضارة الفضاء المرتفعة فوق حضارتَي الماء والتراب، إذ يبدو الإنسان معلقًا، لا تعنيه حتى مهمة التفكير بالحداثة كمفهومٍ متجذر في الكشف والاختراع والتفكير.

الحداثة هي غير التحديث، لأنها وليدة الأحلام والأفكار الخيالية والأشعار، والتطلع الدائم نحو المجهول بهدف الخلق والإبداع للمخترعات القابلة للتحقق. بهذا المعنى قد نفهم تساؤل الشاعر الفرنسي شارل بودلير كمثالٍ على ذلك عندما كتب:

"هكذا يتحرك، يركض، يبحث. عم يبحث هذا الإنسان الوحيد المزوّد بمخيلةٍ نشطة مبدعة في صحاري البشر الشاسعة؟ إنه الإنسان الباحث أبدًا عن أمر يمكن أن أسميه الحداثة"[8].

لا يعني امتلاك القشرة في البلاد التي يمطّ حكّامها أعناقهم لتقليد العواصم الكبرى، خطوة معاصرة تكفل التمكن من النواة. التحدي قائم في امتلاك اللب. أنت قد تأكل الثمرة بقشرتها ولحاها وبذورها الصغيرة، إن كنت من رواد الفلسفة الصحية السائدة في هذا العصر، وأنت قد ترمي نواتها مع إدراكك المنسي بأنها تختزن الحياة مجددًا إذا ما زرعتها ورعيتها، وعبر هذه الملاحظة أنت قادر على المشاركة في خلق الأفكار، وتوليد الأجيال والمخترعات الجديدة اللامتناهية في قدريّة الصداقة بين الحياة والموت. هنا يكمن الوصل المتلازم المعقد بين الإيمان والعقل.

قد يوقظ هذا التحول الشكلي العام الدهشة، بل البهجة العارمة لدى الكثيرين بسهولة اقتناء الحضارة الجديدة، وهو يوقظ أيضًا الرفض الكامل لدى الآخرين لهذه المظاهر المستوردة، التي تولّد الغربة والإحباط، وكأنها تقبع التاريخ المألوف من أمكنته الراسخة المألوفة. يبرز الشكل متقدمًا في ميادين التحولات، التي يصعب التماسها لدى الأفراد والعائلات والمجتمعات التقليدية، وأنظمة الحكم الحذرة والخائفة من مظاهر التغيير. وقد يذهب الرافضون إلى ربط الشكل بتهديد المضمون الأنقى التي ترتكز إليه الدول والمجتمعات الدينية. وتصبح الأهداف في الحفاظ على الكلمة السماوية في نقائها البكر، وبراءتها الأولى لدى المندهشين والرافضين على السواء، الذين ينظرون حصرًا إلى ما تختزنه خلفهما قشرتا السماء والأرض[9].

 

يمكن الإشارة، في هذا المجال عربيًا إلى عدة مستويات:

أ- في المستوى العام: تبرز أزمات التفاعل مع الآخر المحرض أو المحول أو الغريب، مهما كان إنسانًا أو لغة أخرى أو آلة جديدة مبتكرة أو حضارة بمعناها الشامل. وتصبح العلاقة مع هذا الآخر مسنودة إلى اقتناء سهل لمكتشفات الشعوب الأخرى، لا على إدراك حصيلة التغيير الإنساني المنتظر. إنها علاقة اقتباس وتشاوف بالمقتبس أحيانًا لا علاقة تفاعل وتغيير. علاقات انفعال وردود أفعال، لا علاقات تأثّر ومصالحة وتبادل خبرات وتجارب. لا الجوهر الديني ببراءته المطلقة المطبقة على الزمان كفيل أو قادر على الإجابة عن أسئلة العصور المتلاحقة، التي تعمق المسافات بين الثقافات والشعوب، ولا المستوردات والمقتنيات والتمكن منها قادرة أن تراكم الاستجابات لحاجات الناس وتطلعاتهم نحو المضامين المتطورة، والتجارب الجديدة ومقتضياتها الفكرية والثقافية على الأقل، بمعنى المأكل والمشرب والملبس والتزاوج والسلوك العام، والقدرة على تخطي التقاليد التي تقيّد المجتمعات. هكذا تبرز الأسباب التي تتوه عبرها الأجيال، وتنقسم الآراء والأفكار، وتفتح الأبواب الموصدة بسهولةٍ على التجزئة والتفريق وتوسيع الشقوق، وتسهيل الصراعات والحروب. ويغدو المجتمع الواحد سواء أكان متآلفًا دينيًا ومذهبيًا وثقافيًا أم مسكونًا بالتربص والخشية والتباعد غير المباح، مجتمعات متعددة لا تنوع فيها، متنافرة، متقاتلة، ينكفئ بعضها نحو أوراق السلف ملتمسًا السلامة، ويضيع البعض الآخر في اجتهادات ترسخ الجوهر للعصرنة.

 

ب- مستوى الفرد: هو صورة عن المجتمع في عائلته ومجتمعه بصفته حاملًا لتسمية الرب: هو رب البيت ورب العائلة ورب العمل، راسخ في تقليدية تصبو إلى الصورة والمثال، إذ تعسّر مصالحته مع المرأة نصفه الآخر المهمل والمهمش. متهالك على التقديس وكأنه لم يصبه الشك والبحث. تلك الإصابة قد تحصل سرًا، وهي مقبولة إن كانت خارج الأسرار والأسوار العائلية والاجتماعية. يتحرك الفرد بأزياء أجداده الأولى في موطنه الأصلي ذكرًا وأنثى، لا فرق كبيرًا بين الطبقات الاجتماعية، لكنه يسافر بأزياءٍ أوروبية معاصرة لحظة الإقلاع عن المكان الحديث أو المستحدث، ويبدو بذلك منتسبًا إلى مجتمعَين، ومنصاع إلى جيلَين مزدوجَين وثقافتَين متباعدتَين: القديمة والجديدة وقد تورثه ثنائيات متعددة بين الظاهر والباطن.

وإذا ما غاب الشكل وتعرّى الجوهر بفعل غزو قوي غربي عسكري غريب للمجتمع التقليدي، يتحول الفرد بسرعةٍ غريبة إلى حضن البطل/الزعيم/الحاكم الأبدي/الحامي للماضي العريق، يحترق فيه كلاميًا ويسايره فيتناثر. وإذ يذوي البطل أو يُقتل أو يُصدم بتحريك المجتمع، تنقلب الدنيا الخارجية عليه، أو يتحول البطل إلى قديس، أو يفرغون فيه هموم العجز عن التغيير، أو يوصمونه بأقذع الأوصاف مثل العمالة والظالمية والكفر المستورد والمصنوع من الغرب. تتمدد الازدواجيات في انتظار بطل جديد، قد يكون فردًا أو حزبًا مستوردًا، أو دولة كبرى خارجية تحمي قبوله وانفتاحه على معظم الأفكار والعقائد شرط ألّا يطاول الجديد، ويشوّه جوهر العقائد والثوابت الدينية.

 

ج- التعبير والتعريب: تبدو الثقافة مجموعة من التعابير والنصوص، والمتراكمات التبجيلية المضمخة بالخوف من الاضطهاد والسجن والموت، متداخلة، متشابهة، مشقوعة فوق بعضها البعض، لا مجموعة علاقات اجتماعية تنبع من ضرورة النقد والتصويب والحض على التغيير، بهدف حل التناقضات المعقدة التي تشل المجتمع. لا يسترسل التعبير العربي إلا من الخارج وباللغات كلها، مع الإشارة إلى أن الذين ينتقدون حكامهم وأنظمتهم ومجتمعاتهم من بعيد عبر ما تتيحه الحرية في عصر الفضاء، يوصدون أبوابهم قبل خلودهم إلى النوم، خوفًا من ملاحقتهم واغتيالهم، حتى ولو كانوا في أقاصي الأرض. اللغة السائدة، بالمعنى الرسمي، مهادنة ملتبسة تنسج أثوابًا خطابية لا تقول جديدًا في واقع متوتر. هناك، على الدوام، أمراض تصيب جسد الكلام العربي الذي يدور كما أحجار المطاحن، لا يفهمها الغريب ولا تفهمها شعوب العرب، كونها ليست شعبية، تخلط ثقافة التقدم والتطور بثقافة التقليد، بما يصب قطعًا في تبريرات مصطنعة للثقافات القديمة.

تبدو الألفاظ مثل الآلة، عارية من تاريخها وأبعادها وتجاربها التي وُلدت من أرحامها، أي أنها مقطوعة عن ثقافة الغير. ألفاظ خاضعة لقوانين الاستيراد تُفَرَّغ من جوهرها، وتبقى جديدة في شكلها. يمكن للقائل التلفظ الخاطئ بها، لكن يستحيل استعمالها كما أتت. تُستعمل الكلمات مثل الأزياء كرمزٍ للعصرية والفصاحة، وبهذا المعنى يصبح التعبير العربي نوعًا من المومأة".

أليست اللغة العربية، كمثالٍ، هي الوحيدة بين لغات البشر التي تستعمل مصطلح التعريب لا الترجمة، عند نقل نص أجنبي شرقي أو غربي إلى العربية؟

العربية هي اللغة الباقية الإلهية، بعدما اندثرت لغة الإغريق التي كتب فيها سقراط متجرّعًا السم، كما كتب فيها أرسطو وأفلاطون، وكأنهم وضعوا النقطة الختامية للفكر الفلسفي والمنطق، فقد ماتت لغة الإغريق، ولم يعد يفهمها اليوناني المعاصر اليوم في أثينا أو في غيرها، بعدما أُلغيت رسميًا بمرسومٍ جمهوري.

بالمقابل، بقيت اللغة العربية، وقد تكلم بها الخالق كلمته الختامية الثالثة، وأنزلها على رسوله ومنه إلى أمّته، إذ لا يجوز عليها سوى هضم اللغات كلها وترجمتها ونسخها، لتكتسب صفة العربية هوية جديدة تحل مكان هوية كاتبها الأصلي.

د- مستوى التعامل مع الجوهر: نقع هنا في إمكانيات التحول والتطوير والتجديد من الداخل لا من القشور، بما يتجاوز كل البريق الذي تحمله الأشكال التحديثية للمجتمعات العربية. تُطاول هذه الإمكانيات شرائح متوفرة ومتنامية في العالم العربي، لكنها تبقى أسيرة الفكر الديني أو تهاجر، وهذا أمر ليس بمستغربٍ، كوننا لا نجد حتى الآن حضورًا مقبولًا أو تمثيلًا ثابتًا للفكر العربي خارج دائرة العلاقات الرحمية مع المقدس. إن مجمل الثورات التي شهدها العرب بقديمها وحديثها وصولًا إلى الربيع العربي لم تصل أو تقدّم التحول اليسير، أو تطاول الجوهر المقدس، أو تحك قشرته الخارجية. هناك اختلاط جذور هائل بين العقائد والأيديولوجيا والدين، وتصبح السياسة نوعًا من المهن المعاصرة. غالبًا ما يتكفل المقدس بشكلٍ خاص بقوانين التكيف الطارئة أو المستجدة، والتي تقتضي التوفيق والقبول الدائمَين بين المفاهيم التاريخية الحديثة والرؤى الدينية، التي تتجاوز المفاهيم، وتختزنها في الزمان المقبل بحمولاته الفكرية الجديدة[10].

 

ثانيًا: أسئلة الحداثة في الفضاءَين العربي والعالمي

كيف الربط بين الحداثة والفكر الديني أو المصالحة بينهما؟ هل لكل مجتمع حداثته الخاصة به أم الحداثة ترتبط حصرًا بالمجتمعات الغربية؟ هل من مجتمعات تتهادى سعيدة فوق جادات التحديث عبر معظم العصور المتعاقبة ولا تعنيها الحداثة؟ ما هو الفرق بين مجتمع حديث ومجتمع معاصر، أو بين مجتمع قديم ومجتمع جديد؟ هل يمكننا في الألفية الثالثة بناء مجتمعات جديدة على أساس من أعمدة الدين؟ هل تُقاس حداثة المجتمعات العربية، نسبة إلى حركات التحرر والتقدم والثورات العربية المجهضة، أم بالنسبة للثورات العالمية المعروفة في التاريخ؟ وعليه، هل يُفترض أن يحقق المسلمون ثوراتهم عبر تقليد الثورة الفرنسية أو الأميركية أو البولشيفية وغيرها، وأين تقع الحركات والحروب الدينية والطائفية التي دمرت الكثير من بلدان الشرق العربي العريقة خلال عقود؟

والسؤال الأكبر هو: هل تقوم الحداثة وتُبنى على الأديان والعقائد الثابتة أم على النقيض من ذلك، لكونها فاتحة طريق العقل للإنسان ولا دخل لها بمعتقداته؟

هل نام أهل الصين فوق أغنيات سورهم الطويل والعظيم الذي بناه جدهم القديم، أم أنهم عبروا بحاضرهم الصناعي والتجاري نحو المشاركة في مستقبل الحداثة والتحديث وفي مصاف أعظم الدول؟

هل بَنَت أميركا أو الاتحاد السوفياتي واليابان وكوريا وغيرها من الدول عظمتها الحاضرة بالقصائد الممجدة للتاريخ القديم؟ لو بقيت سنغافورة وغيرها من بلدان ممسكة بالقديم ورافضة للتحديث، لما رفعت حجرًا واحدًا في منظومة ناطحات السحاب ومسلسل الأبراج.

أليست سياسة الدول العظمى في تحولات العالم محكومة، بمنطق شيوخ القبائل التي لا يكسر كبارها عزة بعضهم البعض أبدًا، لكنهم يديرون الأرض باستراتيجيات القوة والضغط، مقابل التعثر في شباك الضياع بين مصطلحات السلطة والسيادة والتطور والتغيير والتخلف والجمود؟

ماذا تعني اليوم مفاهيم السلطة والسيادة في زمن كاميرات التصوير بأحجام الحشرات الدقيقة والطيور الصغيرة، التي تنسخ أسرار الدول وأسرّة الحكام والمواطنين فوق وجه الأرض؟

أين السيادة في خرق الطائرات والقوارب التدميرية الصغيرة العابرة للحدود من دون قادة، والتي تُوجّه من بُعد هائل خارقة الحدود لتقتل، وتدمّر الرادارات وأجهزة الاستشعار، وأطنان الأسلحة التي لا تتجاوز في فعاليتها مسدسات الماء، التي يلعب بها الأطفال النازحين، والجائعين، والمتسولين في الأرض من أجيال العرب ؟

من يضع القوانين لهذه المخترعات التي لا ذكر لها في مجلدات الحقوق والمنظمات أو القرارات الدولية أو ما يسمى المجتمع الدولي؟

ماذا تعني المجتمعات الدولية بصيغة المفرد أو بصيغة الجمع، لطالما باتت مفككة يتصارع فيها الراسخون في الماضي والقائلون بفقدان الحاضر والداعون لتدميره؟

ألا ترون كيفية التهام بعض الدول عند وقوعها في الشباك المتنوعة التفاصيل، لتقدّم هدايا مجانية إلى زعماء الدول العظمى في أعيادها الرسمية أو أعياد ميلاد هؤلاء الزعماء؟

ولماذا الكتابة بعد، والسؤال عن شعوب تيبس تحت الشمس وتذريها الرياح مع أول عاصفة؟

ما هو مستقبل الدول المصفوفة التي تبني جديدها على الحروب والأحقاد والكره والعيش في أنفاق الانشقاقات الطائفية والتملص من ثقافات القرن المشرعة النوافذ؟

 

ثالثًا: محاولات في الإجابة

إذا كان السؤال هو الحياة، فالجواب أقرب إلى الموت، قد تحمل الأسئلة براءتها النقدية في علوم الاتصال، حتى أنها تتجاوز في سلطاتها الأجوبة والمعارف والأسرار، لكنني أرى بأنه ليس من السهل امتلاك إمكانيات الإجابة على هذه الأسئلة وأسئلة، كثيرة حول الحداثة والتحديث، وما بعد الحداثة والدين لأسبابٍ شتى، يأتي في طليعتها أن الإحاطة بها قد لا يعني نشرها. فالنقد الموضوعي والأكاديمي قد يُحيل صاحبه إلى نقد مردود هائل، حفل بها التاريخ العربي القديم والمعاصر. وقد لا يرفض واحدنا هذا التوجس، لو نقلت مثلًا بأن موريتانيا حذرت هذا الصباح، وأنا منهمك في توليف هذه الورقة، بمحاكمة أي كاتب أو مسؤول، مهما علا شأنه يتناول أو يتعرض للإسلام والمسلمين بالنقد، حتى العابر في صفحات التواصل الاجتماعي، مثل التويتر أو الفايسبوك وذلك تحت طائلة العقاب[11]، والأمثلة كثيرة، وتتكرر مع تحرّر سبابات المؤمنين وأبنائهم وأحفادهم في التعبير المباح فوق صفحات التواصل الاجتماعي اللامتناهية وجدرانه، خصوصًا وأنها كتابة تُخرجهم من السبابات المرفوعة في وجوههم من رب البيت وأرباب المدارس والجامعات إلى أرباب العمل وأهل السياسة والحكام.

من الطبيعي ألا يتقبل المؤمنون النقد السلبي أو التدميري، المجافي للعقيدة وللتجربة الروحية للدين. هذه التجربة التي تجلّت إسلاميًا في التفسير والفقه والحديث وعلم الكلام وغيرها، والتي هي من صنع البشر، ومن حق العلم أن يُخضعها للأبحاث التاريخية. وهنا أستعين بالمستشرق محمد أركون النقدي إذ فتح المجال لتصوّرٍ جديد للإسلام والتراث، من خلال فكره التطبيقي المتقدم في علوم أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وغيرها من المعضلات الفكرية، التي كان همها تجديد الفكر العربي الإسلامي وتنوير الفكر الاستشراقي، لكي يصبح العرب والمسلمون أكثر قدرة على فهم جدلية العلاقة المتعبة بين الشرق والغرب، أو بين القديم والحديث، والماضي والحاضر، ومواجهة التداعيات الخطيرة، التي ستبقى تنتظر المجتمعات العربية والإسلامية،حتى ولو استغرقت في اقتناء معالم التحديث[12].

هناك الوحي، وهناك التطبيق، إذ ليس الفقهاء الذين يملأون الشاشات، هم القادرون وحدهم على الفهم المباشر والنهائي لكلام اللـه ومقاصده باجتهاداتٍ وأحكام شرعية. يجب أن تتحكم بكل تصرف أو تفكير يقوم به المؤمن الخاضع لامتحان طاعة اللـه. ليس تفسير الفقهاء لكلام اللـه هو جزء من كلام اللـه، إذ يمكن لأعظم الفقهاء ورجال الدين أن يقعوا في أخطاء تشوّه الدين، وتُدعّم مزاعمهم بإمكانية فرض القوانين التي هي وحدها تشكل مقاصد الشريعة. هذا المناخ القديم والمنتشر الحافل بالضغط والرقابة الصارمة، والإطباق على العقل في الكثير من البلدان العربية، والذي بدأ بالتحوّل الخطير بعد الربيع العربي، كان يضغط بقوةٍ هائلة على إمكانية التفكير والبحث والتعبير، كي لا نقول كان يحوّل دول حرية العقل في هذا المجال.

قد يفهم واحدنا من أن الكثير من المقاربات النقدية سواء اللغوية منها أو التاريخية، والتي أقبل عليها العديد من المستشرقين أو المفكرين العرب، الذين كتبوا في الغرب ونشروا بلغاته، كانت تترك وراءها حقولًا من الأنقاض والتدمير الخبيث والسياسي وغير العلمي للدين، في بلاد عاشت على الأديان قرونًا طويلة إلى حدود عززت الكثير من المغالاة، وأورثته في العدائية والكره بين الشرق والغرب، وبين المستشرقين والمستغربين. كان حجم المستحيل ضخمًا وهائلًا في طرائق التفكير والنقد الموضوعي، وكان اتساعه مرعبًا إذ إن أي بحث من هذا النوع كان يُولّد سوء تفاهمات خطرة، تُستعاد، وتُضخّم، وتتضاعف أصداؤها، ويُكفّر أصحابها وتُهدر دماؤهم.

 

رابعًا: التدمير للتحديث والتحديث للتدمير

كان الكلام عن العروبة، في القرن الماضي، يقترن بشكلٍ ما بالكلام عن الإسلام. وكانت الكتابة لا تجهد أو تزيح كثيرًا في التفريق بين العروبة والإسلام. وكانت كل فكرة جريئة أو بحث يجادل في هذه المسائل بالذات، يتعامى تمامًا عن الأخطار الجمة التي لطالما كانت تحوق بهذه المنطقة من العالم والتي لم تكن تميز بين عربي ومسلم جهرًا. كان إذا مر الحديث عن الإسلام كمرادفٍ أو حاضن للعروبة، فإن هذا لم يكن يعني أبدًا انتقاصًا من أدوار الأقليات العربية وحقوقها الإتنية والدينية، في عالم يحتضن المسلمين والمسيحيين وأعدادًا من الأقليات لا ضرورة لتعدادها. لكن لنعترف أنه كان هناك خوف تاريخي كبير، يستحيل إعلانه للتفريق بين المسلمين والعرب أو العروبة، التي تكاد تنتفي وتسقط نهائيًا أمام طغيان العديد من المتغيرات الجديدة.

ليس مفيدًا إيراد ما يمكن أن يخطه أو يعيد نشره في الكتابة عن التغيير العنيف للربيع العربي، الذي يعني سحب السيف من غمده بهدف التخريب والقتل.

كان التاريخ عنيفًا في تونس، وهو لم يستقر بعد في سوريا، مرورًا بمصر وخرائب ليبيا والعراق واليمن، إذ انسحب الخراب على معظم الدول العربية والإسلامية، وصولًا إلى ظهور داعش وإعلان دولة الخلافة الإسلامية، ثم ذوبانها المذهل وكأنها حقل من الملح الأسود المتنقل في أكثر من بقعة من بلاد الشام الذي غار في الأرض. قد لا يعنينا في مؤشر التغيير بالعنف سوى ما راحت تضج به وسائل التواصل الاجتماعي في بلادنا من فوران مذهبي هائل لللاوعي الجماعي العام، وتحديدًا للذين تبعثروا بدورهم في الأرض قتلًا واقتلاعًا وتشريدًا، وتبعثرت فيها معاني الهوية[13]، وبات الجميع أسرى مرحلة ينتقل فيها العقل واللسان العربيَين من تاريخ هائل للكبت في التعبير إلى الكفْت الارتجالي نحو آفاق خطيرة[14]. وبات التدمير قبل التحديث أو بعده هو الهاجس الكبير المتحكم بحاضر العرب والمسلمين.

كتب محمد أركون أيضًا في المجال: "إذا كان علم النفس التحليلي قادرًا على شفاء المريض، عن طريق جلسات تعود به إلى إيقاظ ماضيه وتلمّسه بكل نقائصه وعوراته وصدماته، فإن التحليل التاريخي قد يعبّد طرق الخروج من الشقاق والصراع بين المسلمين بمذاهبهم المختلفة، بما يعمل على وحدتهم المستحيلة التي ضج بها تاريخهم، بل على تطيين الفجوات الهائلة التي كان يمكن للغرب النفاذ منها، نحو تدبير المآسي والتنابذ والحروب بين المسلمين أنفسهم، أو بين المسلمين والغرب الذي وقع في حفر الإرهاب في عقر داره[15].كيف؟

 

خامسًا: تداعيات العنف الأوروبي

ظهرالقلق الأوروبي قويًا من الربيع العربي وتداعياته، وتدفّق الإرهابيين عبر المتوسط كمساحةٍ مائية للارتباط، والنزاعات الأوروبية والإسلامية والعربية والتركية الحافلة بالفوضى، وتحوّل وكأنه بحيرة النزاعات العالمية. لم يتوقف النقاش الحاد في القارة الأوروبية بعد عن أبعاد الالتقاء، والخلط المستجد بين العنف والمقدس، والغرب بالمسيحية والشرق بالمسلمين والغرب بالشرق، والراديكالية والوسطية والجهادية بالإسلام، والتعريب بالتغريب، والاندماج بالتمايز.

تلك هي المساحة المستجدة بين الشمال والجنوب بعد مئة سنة على الحرب العالمية الأولى: إذًا عودة العقل العربي والأوروبي إلى البحث مجددًا عن سفن أو جسور جديدة، يعبُر فوقها العرب والمسلمون نحو الشمال، ويتحاورون مع أوروبا من الباب الفرنسي أو الإيطالي، مصدّقين بأن العالم قد وصل لأن يعلن نفسه قرية واحدة.

يكتشف المسلمون أن تلك الأحلام بالقرى صارت مدنًا وحشية التفكير والفهم والسلوك بين الواحد والآخر، والثقافة والأخرى، واللغة واللغة الأخرى، والسحنة والسحنة الأخرى. هناك انكماش عنصري فاضح ومخيف بحثًا عن الهويات القديمة للاحتماء وإعادة الانتماء. إنه بؤس جديد، وإرهاب أكثر جدة، يُضاف إلى بؤس الشمال الذي يضيق بأهله الأصليين، وإليه تتطلع نُطَف الشرق هربًا من الركام والموت، ولو غرقت نساء العرب والمسلمين وأطفالهم في عرض المتوسط. لا يمكن تصور تلك الاندلاقة المرعبة بحثًا عن رصيف أو ورقة إقامة أو بطاقة هوية، تُخرج الكثير من العرب إلى موطئ قدمَين سليمَين.

لا جديد في الشمال والشرق الأوروبي سوى الوجوه المتكدسة في حافلات المترو الباريسية، المحشوة صباحاتها بمشاعر القلق والخيبة والهموم في أجساد متراكمة، وكأنها أكياس دموع قديمة حبيسة. يقيم الناس هناك في منافي سماعات الآذان، وخلف الصحف والكتب، ورسائل البريد، والأفكار تخفي وجوهًا كالحة مليئة بالأحزان والآلام، وقلوبًا خافقة بحثًا عن بسمة أو أمل ضئيل. وكأنهم من طينة واحدة في صراخهم الداخلي، لكن لا يسمع واحدهم الآخر. يركضون في الصباح الباكر ملفوفين بالنعاس نحو العمل أو المستشفيات، متلاصقين، متحاشرين، يضيعون بين الوحدة والخوف، والحذر من الاتصال بالآخر. وجوههم تخفي توسلات، بحثًا عن أجوبة أو مساعدات، وكلمات أو محادثات وصداقات خجولة يمكن قراءتها بسهولةٍ.

يكفيك أن تقدّم فوطة أو مقعدًا لغيرك أو ابتسامة أو كلمة ليظهر الإنسان فيه، فتحل اللطافة والمؤنسة. عندها تبدأ الصباحات لديهم أكثر جمالًا، ويصدّقون بأن الأيام الرتيبة قد تغادر أو صارت أقل حزنًا[16].

 

سادسًا: حداثة الجوهر وتحديث الأشكال

السؤال الذي يُطرح الآن: هل أن العالم أو الوطن العربي حديث؟ وما هي العوائق في طريق الحداثة إذا كان التحديث سهلًا؟

قبل الإجابة على الشق الأول من السؤال، لا بد من التمييز بين العديد من المفاهيم والمصطلحات التي تختلط في الذهن العربي والعالمي على صعيد المعاني عبر الاستعمالات اليومية للألفاظ.

هناك فرق كبير بين التحديث Modernisme والحداثة La modernité بالفرنسية. المصطلح الأول يعني العمران والتطوير الصناعي وتجميل الجغرافيا وهندستها، ببناء المدن وناطحات السحاب، بما يتلاءم مع الأزمنة المعاصرة، ويأتي هذا نتيجة للاختلاط والتقليد الشكلي بين المجتمعات والشعوب، بينما يؤشر المصطلح الثاني إلى قيمة التطور الفكري ومستواه واستمراريته، وهي قيمة ذات أبعاد ودلالات زمنية، لكنها تتضمن أحيانًا كثيرة أحكامًا سلبية أو إيجابية حين تُقارن بالقديم.

الحديث Moderne لا يتضمن دائمًا إضافة إلى القديم Ancien، بينما الجديد Nouveau أو الجِدّة La Nouveauté لا يمكن معرفته أو قياسه وحضوره، إلا بالنسبة إلى ما أُضيف إلى القديم، الذي يُفترض أن يزيد الجديد عليه ليغيّره. ليس كل حديث جديدًا بالمعنى الزمني، لكن بالمقابل كل جديد حديث. تصبح المعاصرة La contemporanieté هنا حاملة لدلالاتٍ زمنية محضة على ارتباط مباشر بالزمان الحاضر، بصرف النظر عما تحمله من مظاهر القديم أو الجديد أي الموضة La Mode في معانيها الكاسحة لأذواق البشر.

يمكن اعتبار المجتمعات والمدن العربية بمعظمها تتجه نحو المعاصرة، لكن معاصرتها تضمن لها وصفها بالتحديثية التي لا تكفل لها صفات قِدمها أو حداثتها.

باختصارٍ، التحديث تغيير مادي شكلي تزييني، بينما الحداثة تغيير جوهري عقلي فكري سلوكي قيمي.

وفق هذا الاستنتاج، نكون قد قاربنا الإجابة على الشق الأول من إشكالية هذه الورقة إذ أعددنا بأن المجتمع العربي الإسلامي مجتمع تحديثي، ويتجه بخطواتٍ هائلة وسريعة على طريق التحديث، يساعده في ذلك البترول والغاز والثروات الهائلة، التي تسمح للأنظمة والحكومات من شراء التحديث واقتنائه في الأرجاء والتنمية، إلى درجات متقدمة تجعل الناظر أو السائح لا يفرّق بالشكل بين مدينة عربية وأخرى أميركية، ولا نقول أوروبية أو إنكليزية، لأنها دول ما زالت تُقدّس عظمة الأشكال العمرانية، وتُطوّع عصر العولمة بمشتقاته ومخترعاته، وتُزاوجها مع معالمها الراسخة في التاريخ.

أما السؤال عن المعوقات في طريق الحداثة العربية ومستقبل العرب، فهو ما لا يمكن الإجابة عنه قبل التطرق بكثيرٍ من الدقة إلى مفهوم الحداثة، الذي كثر استعماله وأصبح مصطلحًا مألوفًا وشائعًا في أدبيات العرب، وبهتت مضامينه في العالم المفتون بالأسواق والتبادلات والصراعات، التي تصوّر الأرض رقعة في ضمور متواصل من حيث القدرات البشرية.

جاء في الموسوعة العالمية[17] أن "الحداثة تعبير ظهر أساسًا في إيطاليا في الـ1904، وكان يعني الحركة الإصلاحية التي عرفتها الكاثوليكية، وأدت إلى صراعات هائلة اتخذت أشكالًا ثقافية، واجتاحت معظم مناحي المجتمعات، تعبيرًا عن التيار الذي كان يتعاظم في هدم الفكر الديني القديم بطقوسه الجامده وسيطرته القاسية". وكتب المفكر الفرنسي الشيوعي هنري لوفيفر Henri Lefevre في كتابه المرجعي "مدخل إلى الحداثة" بأن الحداثة ظهرت في الـ1840 مع صعود طبقة الأغنياء الميسورين الذين انغمسوا في مظاهر التحديث، وانصبّ اهتمامهم على التطور الاقتصادي ونمو الرأسمال، بما أدى إلى تظاهرات ونقد وانقلابات من قبل الطبقات المسحوقة. وبهذا استغرق في الربط بين الحداثة والثورة، حتى أنه لم يتلكأ في الكتابة بأن الحداثة هي ظل الثورة[18].

يمكن طرح السؤال القوي على العالم العربي: هل تؤدي مظاهر التحديث إلى الثورة التي تهدم القديم والحديث على السواء؟

 

سابعًا: متى تصبح الحداثة نتيجةً طبيعية للتحديث؟

يمكن الإقرار بأن المجتمعات الحديثة مرت بأطوارٍ قاسية مختلفة، قبل أن تمر بالتحديث المقترن بالحداثة، أو الساعي إليها في تطوير المجتمعات ونموها.

ويمكنني اختصار هذه الحقبات/الأطوار على الشكل الآتي:

•   إشاعة قيم الحرية والتقدم والنهوض إلى حدود الفوضى.

•   الصراع الطبيعي المفتوح العقلاني والدموي بين التقليديين والتجديديين.

•   طور تحولات المجتمعات التكنولوجية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية.

•   طور الانخراط في الإنتاج الذي تفرضه تلك التحولات.

•   طور إعادة تنظيم المجتمعات.

يكتسب الفرد الذي يجد نفسه منخرطًا في مجتمعات التحديث جاذبية هائلة في الاتجاه نحو الحداثة. وهذا يعني بأن هناك خصائص للفرد الذي ينتمي إلى مجتمع حديث، على اعتبار أن الحداثة لا يمكنها الانضواء في مفهوم محدد أو في قوالب جامدة، لأنها تفرز حاجات الحياة الجديدة بمعنى التطور باستمرارٍ.

يمكنني مقاربة خصائص هذا الفرد الذي ينجذب إلى الانخراط في تحديث مجتمعه، والقبول بتحولاته الشكلية، ولو كانت مستوردة إلى تلمّس مظاهر الحداثة ومفاهيمها وقيمها، والنفاذ إليها في الأفكار والمضامين، كما في الأشكال والقشور الخارجية. تلك هي المراحل الصعبة والقاسية في تاريخ تحولات المجتمعات من عالمٍ إلى آخر:

-  الانفتاح بقبول مظاهر التجديد والتغيير.

-  نمو الميول نحو الديمقراطية والقدرة على فهم حرية الغير ومشاعرهم وثقافاتهم.

-  التوجه نحو الحاضر والمستقبل أكثر من الماضي، مع ما يولّده من نزاعات ثقافية وفكرية ودموية هائلة، قد تُشظي المجتمعات وتُدمرها أحيانًا كثيرة، وتُعيق تقدّمها إن كانت مشبعة بالقيم السماوية.

-  الميل إلى التخطيط والاعتقاد بقدرات الإنسان في السيطرة على مستقبله ومجتمعه، بصرف النظر عن معتقداته وإيمانه.

-  الثقة في المنجزات العلمية والتكنولوجية والميل إلى خرط الأجيال في الإنجازات الفذّة المتطورة.

وفق هذه المقاربات، تظهر الحداثة بأنها نقيضة التقليد والثقافات التقليدية السالفة الجامدة. ولا يعني هذا التناقض الرفض المطلق لما أرساه الماضي، وإنما الإبقاء على النقاط والأفكار الإنسانية الكبرى المضيئة، التي يحملها هذا الماضي، لأن استيعاب الثقافة الحديثة التي تفقد التراث والمعتقدات، تعني إن لم تكن مدروسة، فقدانًا للهوية وضياعًا كاملًا للمجتمعات. وقد تكون مظاهر التحديث في بلدان الخليج العربي وغيرها، وتحديدًا الخطة 2030 التي وضعتها المملكة العربية السعودية خير مثال على ما نحن بصدد بحثه.

الحداثة لا تبرز تجلياتها إلا وفق استراتيجيات بنائية متواصلة من دون انقطاع متوحش مع التراث الثقافي والفكري. ولكي تصبح تلك الحداثة أصيلة ومشرفة على النجاح والتبلور، لا تعود محصورة بالأشكال والمكتشفات الحديثة العلمية والتكنولوجية والتواصلية وحسب، بل تظهر في العادات الجديدة وليونة في النظرة إلى التقاليد والثقافات التي تُبرز التحولات والقناعات الجديدة. تبدو الحداثة الأصيلة نوعًا من صهر الماضي والحاضر في بوتقة واحدة، بمعنى الانفصال النوعي المتدرج لا الكمي عن الماضي. هكذا تغدو حركة المجتمعات التحديثية متحركة بشكلٍ مكلف، ويفترض قبوله من الحاضر تقفيًا للمستقبل، الذي يستحيل القبض عليه وعلى منجزاته كلها. وهكذا تصبح الحركة من هذا الحاضر الجذاب إلى المستقبل من جهة، وبالنظر العقلاني إلى الماضي من جهة أخرى، بدلًا من أن تبقى حركة اتجاه نرجسي من الحاضر إلى الماضي.

وإذ أعتقد بأن معظم الأوطان العربية تجتاز هذه المسارات المعقدة مع بدايات الألفية الثالثة، فإن الحداثة ليست مفهومًا ثابتًا، ولا يمكن تأطيرها وتقليدها. لا قوانين خاصة بها ولا منطق أو أيديولوجيات خاصة بها. إنها نقيض المطلقات، وتبرز دائمة البهاء، عندما تتجلى في حرية العيش والإنتاج وقبول الحالات والمواقف من العالم المتغير. "تبقى الحداثة ظل الثورة الممكنة والفاشلة التي تأخذك قطعًا إلى الأمام"[19].

 

خلاصات في حداثة العرب

يبدو العرب، في ضوء ما تقدم حول الحداثة، قد خبر الطور الأول من حداثة المجتمعات، أعني طور اليقظة التحررية التي برزت في الرغبة القومية، بحثًا عن الحرية والاستقلالية، وقد ظهرت هذه المناخات على مستويات الأنشطة الحزبية والدول والثقافات. دخل العرب في الطور الثاني الذي تبدّى حادًا، وما زال يتأرجح بين القديم والحديث. إنه صراع قائم منذ قرون بين الرغبة في التطور، وضرورة اللحاق بمظاهرالتحديث الشائعة واللافتة، لكنه صراع غريب يقع على الدوام في معضلة الصراع بين الشرق والغرب (مع أن لا إمكانية في تحديد مواقع الشرق والغرب اليوم بمعنى السلطات والنفوذ). يقدّم الماضي شرقًا في ردود فعله، ويبرز المستقبل غربًا وشرقًا ثقيلًا في سياساته، مما يعمق الصراعات، ويشل المجتمعات العربية بصفتها موئل الكنوز الأرضية والسماوية، وتضيع بذلك بهجة التحديث وقيمه ووظائفه، وترذل أو تغيب قيم الحداثة، مع أنه من الوهم والخطأ الكبير الاستمرار في التصوّر بأن الحداثة لا التحديث هي غربية، ومصدرها أوروبا وبريطانيا وأميركا، والعالم العربي بعيد كل البعد عن الحداثة بالمفهوم الفلسفي والفكري.

لا شك من أن الفكر النقدي الحديث هو المعتقد المسيطر في الغرب، وهو فكر جاء في أعقاب تكلفة بشرية واجتماعية ضخمة على المستويات كلها. إنه فكر يطرح على الدوام قيمة العقل المطلقة، ويشكل الإنسان فيه أساس التغيير الدائم، والكشف عن عالم بحاجةٍ دائمة إلى الاستكشاف، لكن لا يُفترض أن ننسى من أن صدمات الحضارة الآلية جاءت قاسية، وحافلة بالتحديات والصراعات الضخمة بين بلدان العالم، التي سقطت فيها المفاهيم والتسميات الموروثة، التي قسّمت العالم إلى شرق وغرب وشمال وجنوب، وعوالم أولى وثانية أو عالم ثالث.

ولو تقفينا المواقف الفكرية والمنشورات والدراسات الهائلة العربية حول الحداثة منذ بدايات عصر النهضة، لوجدنا التيارات والمناهج الفكرية عينها تتكرر بالتزامن مع تحديث المجتمعات العربية على الصعيدَين الشكلي والهندسي، وتبيّن قدرات هائلة ومغرية في اقتناء خلاصات التجارب والمقتنيات البشرية، وتسييرها لمصالحها من دون البحث عن قابلية استيعاب مضامينها وتجاربها وقناعاتها ومُثُلها الإنسانية.

 

يمكنني اختصار تسمّر هذه التوجهات بثلاثٍ:

1-   تيار الفكر التراثي: هناك تيارات متعددة لا تُحصى، تتنوع بالمذاهب والطوائف والقراءات والاجتهادات، ترفض الغرب متّخذة إياه مصدر الفسق والإلحاد، والاستعمار وإخضاع الشعوب، وموئل محاربة العقائد الأخرى في الأرض. ينظر هذا التيار بشكلٍ عام إلى الحاضر والمستقبل بمنظار الماضي، من دون الأخذ في الاعتبار الظروف والسياقات التاريخية، التي رافقت الزمان والمكان والإنسان بتناقضاتها ومتغيراتها. هكذا يدير أصحاب هذا التيار الظهر لكل منجزات التحديث الغربية المستوردة، ويروجون لالتماس السلامة في الحفاظ على القديم والأسلاف وبعثهما معًا، وبديلًا لبؤس الإنسان المعاصر الكافر في الغرب.

وهنا تبرز مفارقات يمكن التأسيس عليها بطرح السؤال القديم حول موقع هذا الغرب في غابر العصور كما في عصر تكنولوجيا المعلومات وداتا الاتصالات المتحولة بأجيالها وحللها ومقدراتها التقنية بما يسابق الزمان بأشواطٍ.

لا معنى للكلام عن الغرب إلا بصفته وجهة جغرافية في الألفية الثالثة، التي تفرز الأرض كفنًا للحضارة، بمعانيها التقليدية الموروثة لصالح شعوب متواصلة تتخالط ثقافيًا، وخصوصًا في احترام هائل سرّي ومعلن في ما بين الدول العظمى، التي تنظر إلى الأرض سوقًا رائجًا للتحديث والمخترعات وتقاسم الخيرات والمصالح. هناك تقدّم ملحوظ لمدى الحضور الغربي والشرقي في ظواهر كانت تستخدم التعصب الديني لمصالحها الكبرى، التي تُفرغ الدين من مضامينه، وتمارس الإرهاب عنوانًا يحمل هموم الإسلاموفوبيا للأجيال المقبلة، ولأغراضٍ لا علاقة لها على الإطلاق بالدين وقيمه، بقدر ما له علاقة ببذر أفكار المناهضة للتحديث والحداثة على السواء، وتجميد الحاضر والمستقبل بصفته مصدر الكلأ والبترول للقارات الجائعة والخائفة على مستقبلها الصناعي والتقني. وتصبح المسلمة/المعضلة كامنة في اعتبار الإسلام متفوق على الأديان الأخرى، وأننا بتطبيقنا الحرفي لتعاليمه ونشره، نستطيع تجنب الانحرافات والأزمات التي تعاني منها الشعوب الأخرى، وبناء حضارة نموذجية من أجل البشرية جمعاء، وأي محاولة لإدخال الإسلام في مناقشة خاصة مع الغرب تُدان سلفًا وقبل أي امتحان.

 

2-   هناك تيار معاكس يعادي بشكلٍ كامل التراث الثقافي العربي والإسلامي، معتبرًا بأن العصر لم يعد عصر التشبث بالماضي العاجز عن الإجابات عن أسئلة الحاضر. غالبًا ما يدعم هذا التيار المستغرب حججه وثقافته بمقولات:" إن الحداثة هي من عقل الغرب، وشراء مقتنيات هذا الغرب لا تهدد العقائد بل يبرز من خلالها الإنسان قادرًا على فتح الآفاق بين المستقبل والتراث والماضي".

صحيح أن هذا التيار تجلّى مع العام 1967، إذ ألقى الفكر العربي هزائمه فوق أطباق التراث العربي القابض بظلاله المظلمة والمتخلفة على المجتمعات، بما حصر عوامل الهزيمة جزءًا من القناعة بالتخلف في الشرق الأوسط.

وفق هذه التوجهات العامة في تقييم الذات، تضافرت الجهود المتنوعة الداعية إلى تحديث التراث، وهو شكل آخر قد يكون مشابهًا في نتائجه لدعوات تحديث التيار السلفي. وإذا ما برز هذا التيار متوخيًا كيفية التماثل والتطابق بين الماضي والحاضر، فإن النتائج كانت تفرز مدى التناقض بينهما، لسببٍ أن الدعوة إلى تحديث التراث كانت تعني في نتائجها تبعية الحاضر للماضي، بما يصل إلى حَرْف المجتمعات عن العصر وحركة التحولات التغييرية عبر كل العصور، وهي دعوة لا تفترق عن المطالبة بنقد التراث وتهديمه وحذفه، بما يقطع الحاضر عن الماضي، ويجتثّ جذور الانتماء إلى التاريخ المستبدل بتاريخٍ مستورد. هذا تيار يُقتلع من الأصالة مقابل آخر يُقتلع من المعاصرة، وهو أمر يستدعي المحاججات غير المنقطعة لسببٍ بسيط، هو استحالة رفع السدود عمليًا بين المعاصرة والأصالة.

 

3-   يمكن العثور بعد على توجهات توفيقية خارجية شكلية بين الشرق والغرب ليس لها أدوار كبيرة، ولا تتجاوز فكرة الفتون بالموضة ومظاهرها الموسمية، مع أنني من القائلين بأن الفكر التوفيقي هو أسوأ أنواع الفكر، الذي يخلط الأمور بما يشوه الشرق والغرب بمعانيهما الغابرة، وهو قد يلطّف، بالمقابل، من حدة الصراعات بين المناهج والأفكار والنزاعات المتناقضة الأهداف، ليدخلها في فراغ الجدلية، التي تفرغ بدورها التاريخ والتطور الطبيعي من مقتضياته الحيوية في التطوير والتغيير.

تبدو العلاقة واضحة وشديدة بين الحداثة وفئات من المسلمين، لا بين الحداثة والإسلام الذي يزج في صراعات دولية ومعارك سياسية هو خارجها وفي غنى عنها، كأن يكون أداة موكولة بردم الفكر الإلحادي من الكون.

تتعايش هذه الفئات بمعظمها مع التحديث، أو لنَقُل مع هوامش الحداثة الراسخة في أبعادها وفلسفات مقتنياتها المادية، من دون قبول الأفكار وأنماط العيش والثقافات والقيم الإنسانية التي تركزت عليها هذه الحداثة، لكن التحديث الحاصل هو النوافذ الطبيعية التي ستخرج منها شعوب العالم أي العرب والمسلمون إلى الحداثة.

قد يتصور واحدنا بأن هناك ما هو أهم من جعل العالم مكانًا دائم التحديث جميلًا للنظر والعيش، لكن الحقيقة أن التراجع عن هذا الهدف لن يوقف المدن التي ستُبنى باستمرارٍ. وعلى الرغم من وجود الكثير من المشكلات الضخمة في عالمنا، سنجد أنفسنا محاطين بمدنٍ تكبّلنا وننصاع لها، فنبدّل من أفكارنا وأنماط عيشنا وقيم حداثتنا. إن البيئات التي نحيط بها أنفسنا تختزن قدرات كبيرة في تغيير أفكارنا ومشاعرنا وتغذية أرواحنا وشخصياتنا، حتى ولو كانت في رأس هذه النتائج ندرة التواصل الاجتماعي مع الآخرين، وقتل الماضي، والوقوع البطيء ضحايا اليأس والقلق وأمراض العصر الحديث، وتقصير المسافات بين مصطلحات الحداثة والتحديث ومشتقاتها الباقية في محور التغيير.

 

المراجع:

١- نسيم الخوري، فنون الإعلام والطاقة الاتصالية، بيروت، دار المنهل اللبناني، 2015.

٢- رفعت الجادرجي، دور المعمار في حضارة الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2014.

٣- نسيم الخوري، الحداثة وحركة الخلق المستمرة، مجلة مواقف، بيروت، عدد 35، آذار /نيسان، 1979.

٤- محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 1991،

٥- نشرة أخبار مونت كارلو الفرنسية.في 18 / 11 / 2017.

 

• Combining London Heritage and Modernity, https//the tulip.com.

• Nicolas Nigroponte, L’homme numérique, Traduit de l’americain par Michèle Garène, Paris, 2ème éd. Robert Laffont, 2015.

• Baudelaire Charles, Ecrits sur l’Art, Livre de Poche, Paris, 2012.

• Guérin Michel, Nihilisme et modernité : essai sur la sensibilité des époques modernes de Diderot à Duchamp, Editions Jacqueline Chambon, Nîmes, 2013.

• René Girard, La violence et le sacré, Hachette, paris,2018.

• Laurence Lemoine ,Emotifs Anonymes, Psychologie ,Paris,n.390, Octobre 2018.

• encyclopédie universalis, V. 2, La modernité.

• Henri Lefèvre, Introduction à la Modernité, Minuit, Paris, 1962.

 


[1]-فاز الملياردير اليهودي اللبناني الأصل جوزيف صفرا بالموافقة المبدئية غير النهائية على بناء برج بارتفاع 305 أمتار، ويتألف من أربعين طبقة بجوار ناطحة سحاب "غيركين" سبق واشتراها صفير بـ 726 مليون جنيه استرليني في العام 2014. وأعد هذا البرج يوم نشأ بكر الجيل الجديد من ناطحات السحاب التي تم بناؤها في لندن بحيث أقرّت قواعد جديدة في العاصمة البريطانية للتخطيط. وسيكون هذا البرج في 2025 ثاني أعلى مبنى في لندن بعد مبنى "شارد". Combining London Heritage and Modernity, https//the tulip.com

[2]-أُدرج مصطلح الحضارة هنا بين قوسين تدليلًا على قوة العولمة، وتمهيدًا لفكرة أفول الحضارة كمصطلحٍ عالمي واختلاطه أو انزياحه بشكلٍ كامل لظاهرة شيوع الثقافات وتفاعلها في عصر التكنولوجيا التواصلية والمعلوماتية توخّيًا لما تضمره فكرة الحضارة الإنسانية العاجزة عن توحيد البشر ولو تقاربت ثقافاتها واختلطت.

[3]-مدن لا تصلح للسكن، الجزيرة الوثائقية: https//we.akoam.net/95175/

[4]-المصدر السابق ibid.

[5]-Binary Digit، نسيم الخوري، فنون الإعلام والطاقة الاتصالية، بيروت، دار المنهل اللبناني، 2015، ص: 201- 203

[6]-Nicolas Nigroponte, L’homme numérique, Traduit de l’americain par Michèle Garène, Paris, 2ème éd. Robert

.Laffont, 2015, pp. 26-27

[7]-رفعت الجادرجي، دور المعمار في حضارة الإنسان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2014، 784 صفحة، ص 161 وما بعدها.

[8]-Baudelaire Charles, Ecrits sur l’Art, Livre de Poche, Paris, 2012. وتعقيبًا عما كتب فيه شارل بودلير حول الحداثة ونقد الفن في العام 1845، نعثر على دراسات تحليلية حول العلاقة بين الأحلام وتحقيقها بالمخترعات لا بتفسيرها وحسب وأشير هنا إلى المؤلف التالي:

 Guérin Michel, Nihilisme et modernité : essai sur la sensibilité des époques modernes de Diderot à Duchamp

.Editions Jacqueline Chambon, Nîmes, 2013.

[9]-نسيم الخوري، الحداثة وحركة الخلق المستمرة، مجلة مواقف، بيروت، عدد 35، آذار /نيسان، 1979، ص115.

[10]-René Girard, La violence et le sacré, Hachette, paris,2018, pp. 373 – 382

[11]-محمد أركون، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت، 1991، ص 9 و26.

[12]-في 18/11/2017، نشرة أخبار مونت كارلو الفرنسية.

[13]-تناول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (28/7/2018) مخاطر التغيير الرهيب بالعنف في الشرق الأوسط الذي يبعثر الهويات ويروّج للإرهاب إذ صار من الصعب التمييز بين الوطني والقومي والعالمي. جاء ذلك في إلإحتفالية الأممية التي دعا إليها الرئيس ماكرون في قصر فرساي قرب باريس بمناسبة مرور مئة سنة على انتهاء ويلات الحرب العالمية الأولى (28/7/1918- 28/7/ 2018)، حيث فرضت معاهدة فرساي أو ما سمّي بـ"الديكتات" على ألمانيا بالقوة من قبل الثلاثة الكبار أعني جورج كليمنصو رئيس وزراء فرنسا، ولويد جورج رئيس وزراء بريطانية العظمى وويدور ولسن الرئيس الأميركي صاحب البنود 14 لتقرير مصير الشعوب، وكيفية حفظ السلام العالمي بعد هذه الحرب التي مزّقت العالم والتي أوردها كعبرةٍ أولى في التاريخ البشري، مشيرًا إلى خطورة الضغوطات والأثقال، التي خرجت بها ألمانيا من فرساي التي أسّست للحرب العالمية الثانية الأكثر شراسة وعنفًا من الحرب الأولى.

[14]-أشير في هذا المجال إلى صرخة لفتاةٍ سورية ضجّت بها وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصًا "الفيسبوك"، وحصدت مئات ألوف إشارات الإعجاب "اللايكات" والتعليقات التي تجاوزت هذا النص بأضعافٍ مضاعفة:

"تكلم معي بالمنطق فقط. العرب المسلمون عايشين منذ 1400 سنة يتغنون بإنجازاتهم وانتصاراتهم ... ويقولون لك: انظر إلى الوراء إلى صلاح الدين الأيوبي وخالد بن الوليد..انظروا ماذا فعلوا. ماذا يعنيك أنت اليوم ماذا فعلوا؟ أنت اليوم ماذا تفعل؟ ماذا تنجز؟ ما هي الحضارة التي تقدّمها للعالم؟ ... أنت آخر مكوّن... يحق له التكلم عن الإنجازات اليوم. طبعًا أقول هذا بحرقةٍ ولست شامتة على أساس أنني مسيحية عربية أو غربية. نحن شرق أوسطيين. العرب مكون من مكوناتنا. لسنا عربًا. العرب جزء من سوريا. هذا الذي يجب أن تفهمونه جيدًا. عندما دخل الغزو العربي إلى سوريا كان هناك سريان وكنعانيين وفينيقيين وأشوريين وكلدان وعرب".

"لا يمكنك اليوم إعادة الجبلة وتقول لي أنني عربية. أعتذر منك. أنتم جماعة أقوال لا أفعال. نحن جماعة أفعال. لدينا الإنسانية أولًا وليس الشعارات والهتافات أولًا. لا أتكلم هنا عن الطوائف كوني مسيحية فالطوائف كلها فيها الشريف وغيره. لا مسلم ولا مسيحي. لكن لا تقل أنك الشريف لأنني لا أريد الدخول في الكذب معك على الفلسطينيين وبأنك لم تدرِ ماذا يحصل للقدس وفيها، وبأنك لا تستطيع النوم لأن القدس صارت عاصمة إسرائيل.

الآن صارت القدس عاصمة إسرائيل؟

هل مسموح لك الذهاب إلى القدس؟ أمسموح لي الذهاب إلى كنيسة القيامة أو أنت هل مسموح لك الذهاب إلى المسجد الأقصى؟

يعتبرونك صرت إسرائيليًا ... من زمان صارت القدس لإسرائيل. من أربعين سنة. نحن أمة نائمة مخدرة. لا تصحون إلا عندما يكتبونها لكم بالخط العريض. طلع ترامب...وقال لك بأن القدس صارت عاصمة إسرائيل. روحوا بلطوا البحر.منذ أن دخل شارون ببوطه إلى داخل المسجد الأقصى صارت القدس عاصمة لإسرائيل ولم تفعلوا شيئًا وعرفوكم أنكم أمة نائمة من زمان.

تبحثون عن نساء إسرائيل وتكتبون لهن لايك وديسلايك على مواقع التواصل الاجتماعي وتتحرّشون بهن. ستبقون عربًا. تتغزلون بأمجاد الماضي كما يتغزل العلمانيون بأمجاد مستقبل علماني لن يطالوا حاضره ..أنا لا أفهم كيف ستعيشون في ظل أوهام عربية وتغنّ بالأصالة. أين هي الأصالة أو النخوة أو اللهفة على الضعيف. أنتم تدوسون على الضعيف... " نشر هذا الفيديو في 11/12/2017 على وسائل التواصل الاجتماعي وأعدت نشره على صفحتي الخاصة فيسبوك في التاريخ عينه.

[15]-محمد أركون، المرجع نفسه، ص 43-44.

[16]-Laurence Lemoine, Emotifs Anonymes, Psychologie, Paris,n.390, Octobre 2018,p.51

[17]-encyclopédie universalis, V. 2, La modernité

[18]-Henri Lefèvre, Introduction à la Modernité, Minuit, paris,p 89, 1962

[19]-ibid, pp. 169

The Arabs between modernism and modernity

History has long grappled with an essential predicament, that is, the contradiction between the old and the new. Ever since WWII came to an end, people have grown further engrossed by the luster of all that is new, and have thus inadvertently let the traditional fall by the wayside. 

Withal, one must not be taken aback by the looming towers swarming the big cities, for even the Babel towers eventually met their maker following a series of earthquakes. As time goes by, we are coming across a growing number of people with a predilection for old a historical cities, as they refer to the notion of “home” instead of resorting to a computer, or seeking refuge in the digital cosmos.

Thus, this modernism, further entrenched by replacing old cities and uprooting them from their past, may ensure a certain perpetuity be established between people through means of modern communication, be it on an individual or communal level, and essentially through translation. As well dwell upon this, a few inquiries can be made, namely as regards matters considered traditional with a religious context, as opposed to those stemming from modern changes.

For instance, we may ponder instances such as how destruction can serve as a means to modernization, and conversely, how modernization can serve as a means to destruction.

We stand in bare witness to an ongoing conflict between modernity in depth and one in form. And thus the question anent modernism is but the outcome of said modernity.

On a concluding note, the aforementioned can be summarized in three philosophies:

The first rejects the west, believing it to be the source of all vices; the second stands diametrically opposed to all that which bears ties to Arabs or Muslims, and the third, believes it is high time we freed ourselves of the past.

The third is attempting to merge both East and West,

And thus, we must understand that we have fallen prey to a way of life that’s enfolded us in a bid to alter our ideas and our sentiments, that it may morph us into victims of quiet desperation and qualms, otherwise known as the evils of the century. 

Les arabes entre le modernisme et la modernité

La contradiction entre le nouveau et l’ancien pose une problématique essentielle dans l’histoire.

On considère que l’éblouissement des gens par tout ce qui est nouveau et moderne les éloigne du traditionnel et cela depuis la fin de la deuxième guerre mondiale.

De toute façon, il ne faut pas s’étonner trop des tours bâtis dans des grandes cités étant donné que même les tours de Babel ont été détruits par les tremblements de terre. Et on voit de plus en plus des personnes qui préfèrent les villes anciennes et historiques et cela en se référant à la notion de “maison” au lieu de se retourner vers l’ordinateur ou le monde numérique.

Ainsi, le modernisme assuré par le remplacement des villes anciennes en les détachant du passé, peut assurer une certaine continuité entre les personnes à travers les moyens de communication moderne. Ces liens peuvent être au niveau communautaire ou individuel. Notamment à travers les traductions. Ici se dressent quelques interrogations entre ce qui est traditionnel issu des religions et ce qui est reliés aux changements modernes.

Comme on peut se poser une question sur le fait de détruire pour moderniser ou moderniser pour détruire.

On assiste à un conflit entre la modernité des fonds ou la modernité des formes, et la question qui se pose tourne autour du modernisme qui est le résultat d’une modernité.

En guise de conclusion, on résume les courants par trois :

Le premier refuse l’occident en le considérant source de tous les vices, le deuxième se contredit avec tout ce qui est arabe ou musulman en considérant qu’il est tant de se libérer du passé.

Le troisième essaye de faire un mélange  entre l’occident et l’orient.

Il faut noter enfin que nous sommes assujettis à un mode de vie qui nous encercle pour échanger nos idées et nos sentiments pour nous rendre victimes de désespoir et d’inquiétude qui sont d’ailleurs les maux du siècle.