نحن والقانون

العصابات المسلحة وجمعيات الأشــــرار
إعداد: نادر عبد العزيز شافي
دكتوراه دولة في الحقوق محام بالإستئناف

الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي

تناول قانون العقوبات اللبناني الصادر سنة 1943 الجرائم الواقعة على أمن الدولة في الباب الأول من الكتاب الثاني (م 270 وما يليها)، وبحثها في فصلين: الفصل الأول تناول فيه الجنايات الواقعة على أمن الدولة الخارجي؛ مثل الخيانة والتجسس والصلات غير المشروعة بالعدو والجرائم الماسة بالقانون الدولي من هيبة الدولة ومن الشعور القومي، وجرائم المتعهدين. ثم تناول في الفصل الثاني الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي (م 301 وما يليها)؛ كالجنايات الواقعة على الدستور واغتصاب سلطة سياسية أو مدنية أو قيادة عسكرية والفتنة والارهاب والجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية أو تعكّر الصفاء بين عناصر الأمة والنيل من مكانة الدولة المالية. كما تناول قانون العقوبات اللبناني في الباب الثاني من الكتاب الثاني، الجرائم الواقعة على السلامة العامة (م 322 وما يليها)؛ مثل جرائم الأسلحة والذخائر والتعدي على الحقوق والواجبات المدنية والجمعيات غير المشروعة وتظاهرات وتجمعات الشعب.
وتعتبر هذه الجرائم من أشد الجرائم هولاً بالنسبة إلى أمن الدولة والسلامة الاجتماعية والنظام العام والوحدة الوطنية، لأنها تعكر صفو العلاقات بين عناصر الوطن الواحد وأفراده، وتؤدي إلى الاستعداء المحموم والمجازر البشرية وقتل الأبرياء وتدمير المنشآت العامة والخاصة... وهذا ما نشهده حالياً في الظروف العصيبة التي يمر بها لبنان. وقد تناولنا في مقالات سابقة بعض هذه الجرائم، لذلك سوف نتناول هنا بعض الجرائم الماسّة بأمن الدولة الداخلي.


جرائم الفتنة الماسة بأمن الدولة الداخلي
نصت المادة 308 وما يليها من قانون العقوبات على جرائم الفتنة، فعاقبت بالاعدام على الاعتداء أو محاولة الاعتداء التي تستهدف إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي بتسليح اللبنانيين أو بحملهم على التسلح بعضهم ضد بعض، أو بالحض على التقتيل والنهب والتخريب.
لقد كان لبنان منذ سنوات عديدة، من الدول المتعددة الطوائف والأديان والطقوس، ما جعله حالة استثنائية فريدة من نوعها، خصوصاً في محيطه العربي، لذلك وضع المشترع اللبناني عقوبات قاسية، تصل إلى الاعدام، على الافعال الرامية إلى الاعتداء أو محاولة الاعتداء التي تستهدف إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي بتسليح اللبنانيين أو بحملهم على التسلح بعضهم ضد بعض، أو بالحض على التقتيل والنهب والتخريب. ولم تكن غاية التشريع الجزائي حماية الأديان السماوية نفسها، التي لا تحتاج إلى نصوص بشرية تصونها، بل كان المقصود من هذه النصوص القانونية حماية البشر أنفسهم البعض من البعض الآخر وحماية حرية المعتقدات الدينية التي نص عليها الدستور اللبناني في المادتين 9 و 10.
ولعل ما يبرر وضع العقوبات القصوى (عقوبة الاعدام) على هذه الأفعال الاجرامية هو ما تخلقه هذه الجرائم من حالة ذعر عام وخوف شديد واضطراب قاتل، فضلاً عن جرائم القتل والسرقة والاعتداء على الأشخاص وعلى الممتلكات العامة والخاصة.
وتجدر بالإشارة عبارة «الحض على التقتيل والنهب والتخريب» الواردة في المادة 308 عقوبات، بمعنى أن هذه الجرائم توجب قيام أشخاص، طبيعيين أو معنويين، بتقديم المساعدة والتمويل وتأمين السلاح والذخائر للقيام بتلك الأفعال الجرمية التي تستلزم وجود خبراء متخصصين بأعمال التفجير والقتل والتخريب وغيرها من الاعمال الاجرامية المعادية للأديان السماوية والانسانية بحد ذاتها.

 

العصابات المسلّحة
فرض قانون العقوبات اللبناني، في المادة 309، عقوبة الاعدام على من رئس عصابة مسلحة أو تولى وظيفة أو قيادة، أياً كان نوعها، إما بقصد اجتياح مدينة أو محلة أو بعض أملاك الدولة أو أملاك جماعة من الأهليين، وإما بقصد مهاجمة أو مقاومة القوة العامة العاملة ضد مرتكبي هذه الجنايات.
ويقصد بهذه القوة العامة جميع القوى العسكرية الرسمية، من جيش وقوى أمن داخلي وأمن عام وأمن دولة وجمارك، التي تعمل على توطيد الامن والامان والاستقرار، وملاحقة مرتكبي الجنايات الماسة بأمن الدولة والجرائم الواقعة على الاشخاص وعلى الممتلكات العامة والخاصة.
كما عاقبت المادة 310 عقوبات بالاعدام المشتركين في عصابة مسلحة أُلِّفت بقصد ارتكاب إحدى الجنايات المنصوص عليها في المادتين 308 و 309 السابق ذكرهما.
غير أنه يعفى من العقوبة من لم يتولَ منهم في العصابة وظيفة أو مهمة، ولم يقبض عليه في أماكن الفتنة، واستسلم بسلاحه من دون مقاومة وقبل صدور الحكم (م 310/2 عقوبات).


جمعيات الأشرار
يقصد بجمعيات الأشرار مجموعة من المجرمين الذين يعيشون من جرائمهم وإعتداءاتهم الواقعة على الأشخاص وعلى الممتلكات العامة والخاصة، الذين يزرعون الإرهاب ويقتحمون المنازل ويقتلون السكان الأبرياء ويسلبون المساجد والكنائس والمدارس والبيوت، ويحرقون المزارع بعد الإستيلاء على محاصيلها، وغيرها من الجرائم الشائنة التي تثير الإشمئزاز.
ويشهد العالم اليوم تزايداً ضخماً وتكاثراً في ظهور جمعيات الأشرار والعصابات المسلّحة، المجهّزة تجهيزاً فنياً حديثاً كاملاً. وقد تنوعت هذه الجمعيات والعصابات من حيث حجمها وتمويلها وتسليحها، وكذلك من حيث أهدافها، فلم تعد تقتصر على سلب المارة في الطرقات أو سرقة المنازل أو القتل العادي، بل أصبحت تقترف جرائم سياسية وعنصرية لأسباب دنيئة تحت ستار ايديولوجي أو قومي أو ديني.
ان جمعيات الأشرار وعصاباتهم لا تشكل مساساً بالأمن الداخلي للدولة فحسب، بل تشكل بحد ذاتها اعتداء على السلامة الإجتماعية العامة. لهذا عمدت أغلبية الدول إلى تجريم هذه الجمعيات بمجرد تأليفها لأهداف جرمية، من دون إقدامها بالضرورة على ارتكاب فعل جرمي، كما هي الحال في المادة 265 من قانون العقوبات الفرنسي، والمادة 129 من قانون العقوبات الألماني، والمادة 416 من قانون العقوبات الإيطالي، والمادة 322 من قانون العقوبات البلجيكي، وغيرها...
وقد عاقب المشترع اللبناني في المادة 307 من قانون العقوبات بالإعتقال المؤقت كل من أقدم من دون رضى السلطة على تأليف فصائل مسلّحة من الجند أو على قيد العساكر أو تجنيدهم أو على تجهيزهم أو مدّهم بالأسلحة والذخائر.
كما نصت المادة 335 من قانون العقوبات على أنه إذا أقدم شخصان أو أكثر على تأليف جمعية أو إجراء إتفاق خطي أو شفهي بقصد إرتكاب الجنايات على الناس أو الأموال أو النيل من سلطة الدولة أو هيبتها أو التعرض لمؤسساتها المدنية أو العسكرية أو المالية أو الإقتصادية، يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة، ولا تنقص هذه العقوبة عن عشر سنوات إذا كانت غاية المجرمين الاعتداء على حياة الغير أو حياة الموظفين في المؤسسات والإدارات العامة.
وكذلك نصت المادة 336 من قانون العقوبات على أن كل جماعة من ثلاثة أشخاص أو أكثر يسيّرون في الطرق العامة والأرياف عصابات مسلحة بقصد سلب المارة والتعدي على الأشخاص أو الأموال أو إرتكاب أي عمل آخر من أعمال اللصوصية يستحقون الأشغال الشاقة المؤقتة مدة أقلها سبع سنوات. ويقضى عليهم بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا اقترفوا أحد الأفعال السابق ذكرها. ويستوجب عقوبة الإعدام من أقدم منهم تنفيذاً للجناية على القتل أو حاوله أو أنزل بالمجني عليهم التعذيب والأعمال البربرية.
وتتحقق العناصر الجرمية لجمعية الأشرار بمجرد وجود جمعية أو إتفاق بقصد إرتكاب الجنايات على الناس أو الأموال أو النيل من سلطة الدولة أو هيبتها أو التعرض لمؤسساتها، من دون ضرورة وجود تنظيم لهذه الجمعيات، بل يكتفي بالقدر البسيط من هذا التنظيم. ولا يمكن لأحد أعضائها أن يتذرع بأنه لم يشارك فعلياً في الجنايات المقترحة بعد إنتمائه للجمعية.
كما يجب أن تكون جمعية الأشرار قد أنشئت بغاية الإعتداء على الأشخاص وعلى الأموال، ويعود للمحكمة إستنباط هذه الأهداف من خلال الأعمال الإعدادية والتمهيدية والتحضيرية التي قام بها أعضاء الجمعية، من دون ضرورة تنفيذ أهدافها، إذ يعتبر الفعل الجرمي قائماً بمجرد ثبوت قيام الجمعية وثبوت أهدافها الإجرامية.
أما العنصر المعنوي لجناية إنشاء جمعيات الأشرار أو الإنتماء اليها، فيقتصر بالنسبة إلى أعضاء الجمعية على القصد الجرمي العام فقط، من دون أية حاجة إلى القصد الجرمي الخاص أو إلى الدافع الكامن وراء هذا القصد. فهذه الجناية تعتبر جريمة إنتمائية تختلف عن غيرها من الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات.
ويعتبر متدخلاً في جناية تأليف جمعية أشرار، كل من أقدم، عن معرفة وإدراك وإرادة حرة، على مساعدة أعضاء تلك الجمعية ومساندتهم، وتسهيل إرتكاب الجناية المتفق عليها بين هؤلاء من خلال تأمين المواد الجرمية وأدواتها، كالسلاح والذخيرة ووسائل النقل والإتصالات والمواصلات بين مركز الجمعية وفروعها ومكان إرتكاب الجريمة، أو تقديم أية معونة أو خدمة، أو الموافقة على عقد الإجتماعات في منزله أو في مكتبه أو في أي مكان آخر يملكه أو بتصرفه، أو من أعطى إرشادات لإقتراف تلك الجرائم، أو شدّ عزيمة أعضاء الجمعية بوسيلة من الوسائل، أو ساهم في إخفاء معالم الجريمة أو تخبئة الأشياء الناجمة عنها أو تصريفها، أو إخفاء شخص أو أكثر من الذين إشتركوا فيها من وجه العدالة، أو قدّم لهم طعاماً أو مأوى أو مخبأ أو مكاناً للإجتماع وهو عالم بسيرة الأشرار الجنائية الذين دأبهم قطع الطرق أو إرتكاب أعمال العنف ضد أمن الدولة أو السلامة العامة أو ضد الأشخاص أو الممتلكات (م 219 عقوبات).
ويبقى على المتهم، لرفع المسؤولية الجزائية عنه، أن يثبت بأن إرادته قد تعيّبت بالغش أو الخداع، أو بضروب العنف والشدة، أو أنه كان ضحية ضغط معنوي أو جسدي أدى إلى دخوله أو الموافقة على دخوله في إحدى جمعيات الأشرار التي يعاقب القانون على مجرد إنشائها أو الإنتماء إليها.
غير أنه يعفى من العقوبة من باح بأمر جمعية الأشرار أو الإتفاق وأفضى بما لديه من معلومات عن سائر المجرمين (م 335/2 عقوبات). وهذا ما أخذه المشترع اللبناني عن قانون العقوبات الفرنسي الذي يمنح العذر القانوني المحلّ من العقوبة لمصلحة من يُقدم من المنتسبين إلى إحدى جمعيات الأشرار، على إخبار المراجع الرسمية المختصة بأمر تلك الجمعية والكشف عن وجودها ومكانها، قبل المباشرة بأية ملاحقة جزائية بهذا الخصوص.
وختاماً، يقتضي القول أن العقاب الرادع الزاجر لا يكفي لتخفيف حدة التوتر التي يعيشها لبنان، بل يقتضي لملمة الشمل، واستبعاد التشرذم والتهجير والتفجير، ونشر الوعي ونبذ التعصب، تمهيداً لخلق مجتمع وطني قوي، يرصّ الصفوف ويزيل النعرات القومية والعنصرية والإنتمائية والدينية والطائفية والمذهبية، من أجل العودة إلى لبنان الذي يصبو اليه جميع اللبنانيين وعنوانه: الأمن والأمان، التعايش والتفاهم، الحضارة والثقافة، السلام والمحبة.