العقيدة وحرية المعتقد

العقيدة وحرية المعتقد
إعداد: العميد الركن صالح حاج سليمان
مدير التوجيه

لقد أنعم الله على لبنان بموقع فريد متميز، وهيأه لكي يكون صلة وصل أبدية بين الدول والشعوب، كما اختاره بقعة جميلة تتزاحم فيها الزرقة والخضرة، ويقفز السحر من رمل شاطئه إلى ثلج قممه، قاطعاً الأحمر والأصفر والبنفسجي من الزهر والنبات وتلك هي الحالة الأولى من الوفاق بين الألوان التي طبعت أبناء هذه البلاد بطابعها المتنوع والمزركش.

وقصد الكثيرون لبنان، من قريب المسافات ومن بعيدها، إعجاباً بتنوعه، وإيمانا بانفتاحه الثقافي، وسعياً إلى التمتع بحريته في الحياة وفي التفكير والتعبير، كما توزعت مراكبه في عرض البحار في هجرات لم تكن نهايته على الإطلاق مهما طالت وبعدت، إذ كان المهاجرون، في معظمهم، يعودون إلى الوطن من وقت إلى وقت مجددين النهل والرشف من تراث الأجداد، مطمئنين إلى حال الآباء، لاثمين أيدي الأمهات، واعدين الجميع باللقاء بعد طول الغياب.

ذاك التنوع، وتلك الحرية، هما علة وجود لبنان، ومنهما استمد مواطنوه طباعهم وصفاتهم، كما انهما مستمران باستمرار الوطن، هما يذكران بذكره، وهو بدوره لا يوصف إلا بهما، اللهم ما لم ننس صفة الجمال، وهي النعمة الأولى.

في ما ورد، وجب أن تكون في لبنان جهات فكرية وفريق اجتماعية وقوى سياسية متنوعة... وأن يكون فيه جيش واحد، فقط لا غير. في هذا في بساطة الأمور وفي وضوح التفسيرات. أما البديل، لا سمح الله، فهو جيش خاص بكل من القوى السياسية المذكورة... وعدّ عندها، إن كنت قادراً على العد، جيوشاً وفصائل!

إذن، للجميع جيش واحد، عقيدته واحدة، لا تتعارض مع باقي المعتقدات الوطنية في النقاط الأساسية التي تؤكد على وحدة الوطن بشعبه وأرضه، وضرورة الحفاظ على ترابه، وحماية حرية الرأي فيه، وتأكيد التنوع، وضمان امن المواطن، وتحديد كل من الصديق والعدو (وإسرائيل هي العدو بكل وضوح)، وتأكيد الانتماء إلى المحيط العربي (ولبنان هو من مؤسسي جامعة ذلك المحيط)، ونبذ الإرهاب ومكافحته، وعدم الارتهان للغير كائنة ما كانت الضرورات المادية.

هذا الجيش الواحد يؤسس خطوات أبنائه على تلك العقيدة الوطنية الواحدة التي رسّخها الزمن على مدى تاريخ غير قصير، والتي رافقت استقلال الوطن في مسيرة طويلة تحتمت فيها مواجهات عديدة وتحديات مختلفة كان أصعبها التهديد الإسرائيلي الذي هجّر الفلسطينيين، في قسم كبير منهم، إلى لبنان، والذي كانت ذروته في الربع الأخير من القرن الماضي حين تمكن العدو من ضرب المجتمع اللبناني والتأثير على وحدته وتضامنه، إلى أن استعاد الوفاق الوطني عافيته.

في ذلك كله، أنّى لهذا الجيش أن يكون جيش فريق من دون آخر، وجميع الفرقاء اخوة له، وروافده هي من أهلهم وبيوتهم وقراهم وأحيائهم؟ وأنّى له أن يتبنى عقيدة هذا الفريق، ويهمل عقيدة ذاك؟ وأنّى له أن يتخلى عن احتضانه للجميع وحمايته لهم، وهو رمز لوحدتهم؟ وأنّى له أن يتلهى بالتجاذبات السياسية التي حصر لها، والتحالفات التي تتغير في كل يوم، وتتبدل؟ وأنّى ألاّ يضع التهديد الإسرائيلي في طليعة أولوياته خصوصاً وأن تعديات الدولة العبرية متواصلة على هذا الوطن، من هجوم واجتياح، إلى قصف وتفجير واستباحة للأجواء؟

إن الجيش اللبناني هو لجميع أبناء الوطن، وعقيدته تظلل كل المعتقدات، وهي ترتكز على الإرادة الوطنية الجامعة. وهذه المؤسسة العسكرية لا تبتعد عن أبنائها، مدنيين أو عسكريين، ولا تهمل قضاياهم، وهي على مسافة واحدة من كل منهم، وعلى المحبين أن يطيلوا التفكير قبل أن يسدوا النصائح إليها.