كلمة وداع

العقيد القيم نجيب الخوري
إعداد: العميد أسعد مخول

القيمة الباقية

تكفيك أسباب ثلاثة لأداء حياتك، ولهزيمتك أمام التمساح البري للتخلّف والرعونة وانهدار الأخلاق وانهيارها وسقوطها إلى الأسفل الأسفل جريحة، لا بل صريعة معفّرة الجبين بالوحل والأشواك.
تكفيك أسباب ثلاثة ثالثها انشغالك بعائلتك مربيّاً؛ وثانيها عقدك المتواصل مع الفكر والثقافة بحثاً وقراءة وكتابةً؛ وأولها، أولها يا نجيب، استمرارك مأخوذاً بعملك، تفكّر به، تتذكر تفاصيله، تلوم النفس على تقصير حاصل، أو تهيئها لنشاط قادم، أو تحفّزها لانجاز جديد لا يحلم به "ابن امرأة".
نجيب الخوري يدان نظيفتان ولو نُثر حولهما غبار مدينة بأكملها، ونظرة ثاقبة وان رُفعت أمامها حواجز الورق والزجاج والحديد أكواماً أكواماً، ونفس كريمة سمّاحة وان ضُرب صاحبها بالسباب والعصي ومقالع الحجر.
كان التمساح البري في استعجال يا نجيب، أوصلك الى حتفك، واستمر مسرعاً الى مزرعته حيث وقف اكثر من حيوان في انتظاره منتصراً ناجحاً موفّقاً في صيده. الحيوانات تنتظر هناك، بعضها في موعد وبعضها من دون موعد. الحيوانات وإن ركضت وعدت وانطلقت وأسرعت، فإنها لا تحمل الساعات في قوائمها. تبقى مستعجلة، تدوس القيم وهي لا تدري. إصفح يا نجيب. أقول لك إصفح. أما كنت توصيني بذلك؟ بعض البشر لا يدري ماذا يفعل يا نجيب، فما أدراك بالحيوانات، والتماسيح في طليعتها؟
ثم، هل كنت تنتظر من الحيوان أن يدوس قيمتك ويكسر عظامك ويهدم أعمدة المعرفة لديك، ويلتفت بعدها إليك مواسياً مطمئناً؟ لا، لا، إن الحيوان لا يفعل ذلك، والحق هنا هو على بعض البشر الذي كان حريّاً به أن يدربه. لم يدربه بعض البشر. أهمله. إهمال إهمال. والاستباحة مطلقة للدولاب والحديد. يا ليت حصتنا من العمر كانت في عصر النهضة يا نجيب، إذن لكنّا استمتعنا، إلى جانب الفن والأدب، بالدولاب المضبوط من قبل الحيوان، كان الحيوان المدرّب هو الذي يجر الدولاب آنذاك، يطلقه حين يدعو الداعي، ويوقفه عند اللزوم. أما اليوم فقد استغنى الانسان عن الحيوان المدرّب ذاك، استغنى عن الفرس وعن رفاقها، واستعاض عنها بالبنزين والحديد المحرّك، وسلّم الأمر في معظمه للتمساح البري المتخلف. قلت لك إنّ عصر النهضة قد ولّى، لكنك كنت تدعو الى التفاؤل... وكنت تصلّي.
ويا نجيب، من باب الذكرى، أو من نافذة الاستيضاح المتأخر، أو من كوّة الجدال والنقاش ومحاولة الاقناع والاقتناع... من ذلك كله، وعبر ذلك كله، الآن، وأنا في ألم غيابك، أتذكر يوماً حدّثتك فيه عن رهبة الموت، واعترفت أمامك بأنني أخشى ظلمة القبر، ذلك المسكن المشؤوم المقفل، فقلت لي، على مهل، وأنت تطرق مفكّراً: "إنّ في ايمانك وهناً يا سيّدي. الموت عندي طريق إلى ربّنا، وفي القبر نور يراه المؤمنون". سكتّ أنا بعد جوابك، ولم أعاندك، لكنني بقيت عند خشيتي الموت، وعند اعترافي بأن ايماني قد لا يكون كافياً إلى حدّ استسهال وداع الحياة، حياتي وحياة أحبابي، رغم ما يحوط بي من كبوات وآلام تحرمني مراراً من السير في حمى للابتسام والحبور. أتذكر حوارنا القصير ذاك واستنهض الثقة بأن ايمانك مرافق إياك في الرحلة الأبدية هذه، وبأن النور ساطع عميم