رحلة في الإنسان

العلاج من الإدمان قد تتـخلله انتكاسات... المهم عدم الاستسلام
إعداد: غريس فرح

من المعروف أن الإدمان يشمل الكثير من العادات السيئة وفي مقدمها معاقرة الخمرة وإدمان السجائر والقمار وتعاطي المخدرات.
والمعروف أيضًا أنه يصعب على المدمن الذي كان قد أخضع للعلاج متابعة مسيرته الجديدة لفترة طويلة. وهذا يعني أن الانتكاسة، أو العودة إلى الإدمان، تشكل الجزء الأهم من المشكلة التي تواجه الأطباء.
فـي بداية الستينيـات، لوحظ أن سبعــين بـالمئة من المدمنين الخاضعين للعلاج في المستشفيات، يعودون إليها تباعًا بعد أشهر قليلة، علمًا أن النسبة المتبقية، كانت ايضًا تعاني الانتكاس، أو الانزلاق في الهاوية لفترة زمنية وجيزة، قبل العودة تلقائيًا إلى الطريق السوي.
من هذا المنطلق، تناولت الأبحاث الفئة القادرة على التقويم الذاتي، لمعرفة الدوافع المسيرة لقوة إرادتها، واستخدامها في علاج ضعفاء الإرادة. ما هي الحلول المطروحة، وبماذا يُنصح المدمن المشرف على نهاية العلاج للسير قدمًا في حياة جديدة؟


التفكير السلبي والاستسلام للأمر الواقع
من البدهي القول، أن معظم مدمني أي مادة كانت، يصادفون بعد انقطاعهم عنها إغراءات تحثهم على العودة، وفي مقدمها الرفاق والأوضاع الإجتماعية والعائلية الضاغطة وسواها.
وهنا يجب الإشارة إلى أن المحاولة الأولى بعد الانقطاع قد تجر سواها وهذا يحصل عمومًا مع الجميع. لكن الفرق أن أصحاب التفكير السلبي يستسلمون منذ المرة الأولى مستهينين بمقدرتهم على ردع أنفسهم، بينما يستفيد ذوو التفكير الإيجابي من تجاربهم السابقة ويحاولون عدم الوقوع في الفخّ من جديد.
الباحثون في هذا الحقل يعتبرون أن تفكير الفئة الأولى ينبع من فقدان الثقة بالنفس وبالتالي الإستسلام للأمر الواقع، بالإضافة إلى عدم المقدرة على التفرقة بين الخطأ والفشل. وهو تفكير يفقد أصحابه السيطرة على الذات.

 

الوقوع في الخطأ لا يعتبر فشلاً
كان الباحث النفساني الأميركي ألان ماولات قد اعتبر أن شخصية المدمن تتأقلم تدريجًا مع الإدمان «كمرض مزمن». وهذا يعود إلى التغييرات التي تحدثها المواد المدمنة في الهرمونات الدماغية، والتي تتحكم مع الوقت بالسلوك، وتبقى آثارها بعد العلاج. على هذا الأساس يصبح من الضروري التركيز على بوادر الإنتكاسات التي تحصل لاحقًا، لضمان عدم عودة المدمن إلى إدمانه. لذا فهو ينصح المتوقفين عن تعاطي التبغ مثلاً، بعدم اعتبار المحاولة الأولى بعد الإنقطاع فشلاً ذريعًا يستحق الشعور بالذنب والإستخفاف بالذات. بالمقابل يطلب إليهم التفتيش عن السبب الكامن وراء الإغراء الذي دفعهم إلى هذه المحاولة وتجنبه. بمعنى آخر، هو يرشدهم إلى دروب العقل التحليلي والعودة إلى الذات قبل الإعتراف بالهزيمة. فزلة قدم واحدة تعتبر خطأ بالإمكان تصحيحه، وليست فشلاً يستحق الإستسلام للقدر.

 

عندما تنبع الإغراءات من الذات!
من ناحية ثانية، يؤكد الباحثون في شؤون المدمنين المعرّضين للانتكاسات، أن بعض الإغراءات التي تدفعهم مجددًا إلى الهاوية قد يكون نابعاً من الذات.
فالضغوط النفسية غير المرئية والتي تفرضها عوامل داخلية، تتراكم مع الوقت وتتحد لتشد المقلع عن الإدمان إلى الهاوية مجددًا. من هذه العوامل، الصراعات النفسية الناجمة عن اضطرابات المزاج، والقلق بشأن أحداث غير متوقعة، والضغوط الخارجية التي تفرضها ظروف العيش الصعبة والتي تتطلب الكثير من الصبر والطاقة.
على هذا الأساس يفترض أن يتعاون المعالج النفساني مع المقلع عن الإدمان، للتعرف إلى بعض هذه العوامل والعمل على تحييدها أو ضبط مفاعيلها. وباعتبار أن بوادر الانتكاس متشابهة لدى المدمنين، يعتمد الباحثون حاليًا تقنية تعرف باسم «علم التقييم اللحظوي». وهي تقنية تسمح باستباق سرعة التدهور عن طريق التعاون مع المدمن.
يجب الإشارة هنا إلى تعدد سبل التعاون والتي منها، الطلب من المدمن تسجيل يومي لإنفعالاته وتقلبات مزاجه، بالإضافة إلى الظروف المحيطة به في المنزل ومكان العمل، من أجل دعمه وتزويده الإرشادات الضرورية.
وحسب الباحثين، فإن هذا الدعم يعتبر خطوة أولى على طريق وضع مخطط شامل يخضع له المقلع عن الإدمان لتجنب الضغوط والمغريات، والتي تختلف بحسب الأفراد وقدراتهم على تحمّلها. فمنهم مثلاً من يضعفه الشعور بالملل والوحدة، ومنهم من تؤذيهم ضغوط العمل. وقد تكون الظروف العاطفية سببًا رئيسًا. ويبقى رفاق السوء العامل الضاغط الأهم.
من هنا ينصح المقلعون عن الإدمان بتجنب الوحدة والملل، وإبعاد الرفاق السابقين، والإختلاط بمجتمعات جديدة تقدم لهم الدعم المعنوي الذي هم بحاجة إليه. والأهم الإستعانة بالمرشدين النفسيين لاكتساب المناعة الضرورية عن طريق تعلم التقنيات السلوكية المعرفية المناسبة.

 

العلاج السلوكي المعرفي
يتناول هذا العلاج تقنيات معرفية تدرب المقلع عن الإدمان على طرق التعامل مع المغريات، منها على سبيل المثال، وسائل لضبط النفس وإنعاش الذاكرة من أجل عدم نسيان المعاناة الماضية، وما ألحقته به من ضرر صحي ومادي ومعنوي. هذا بالإضافة إلى إرشاده إلى وسائل الترفيه الإجتماعي الإيجابية وفي مقدمها الرياضة البدنية. إلى ذلك، ينصح هؤلاء بوضع أهداف مستقبلية بنّاءة تبعد عنهم وساوس الإدمان ومفاعيلها الضارة.

 

المهم عدم الإستسلام لبوادر الإنتكاسة
كما سبق وأشرنا، فإن الاستسلام لبوادر الإنتكاسة يعني أن العلاج لم يكن كافيًا للقضاء على تأثيرات الإدمان على الخلايا الدماغية، وهو ما يعتبر من البدهيات لأن التخلص نهائيًا من مفاعيل المواد المدمنة يعتبر أمرًا في غاية الصعوبة. لذا فإن المهم في الموضوع أن يقتنع صاحب العلاقة بضرورة وضع حجر الأساس لحياة جديدة. وهذا يتم خطوةً خطوةً ويتطلب صبرًا وتركيزًا وفكرًا تحليليًا متوازنًا. والأهم الاستفادة من الأخطاء باعتبارها أحد مجريات الحياة الطبيعية. فالوقوع في الخطأ لا يعتبر فشلاً، بل الفشل الحقيقي هو في عدم المقدرة على تصحيح هذا الخطأ.