- En
- Fr
- عربي
العلاقات التركية – الإسرائيلية: بين التحالف الاستراتيجي والقطيعة تركيا تتوسع شرقًا على حساب إسرائيل والغرب
المقدمة
بدأت العلاقات التركية – الإسرائيلية بصورة رسمية في شهر آذار/مارس من العام 1949 عندما اعترفت تركيا، كأول دولة ذات أكثرية سكانية إسلامية، بدولة إسرائيل، فسبقت إيران التي تأخَرت باعترافها إلى العام [1]1950. وتطوَّرت هذه العلاقات بين أنقرة وتل أبيب في مختلف الحقول العسكرية والإستراتيجية والدبلوماسية لتصبح إسرائيل أكبر شريك عسكري ومورِّد أسلحة إلى الدولة التركية. وتوثقت عُرى التعاون السياسي والدبلوماسي بين الدولتين على أساس وجود هواجس مشتركة لديهما من جراء الأوضاع غير المستقرة في دول الشرق الأوسط.
واستمرت علاقات التعاون الإستراتيجي بينهما حتى أواخر العام 2008، حين بدأت تشهد بوادر أزمة ثقة بين القيادتين بسبب الحرب التي شنَّتها إسرائيل ضد قطاع غزة بالإضافة إلى أسباب أخرى لا يمكن تعدادها الآن.
تواجه العلاقات التركية – الإسرائيلية أزمة ثقة بدأت مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم العام 2002، وقد دفعت حادثة الهجوم على أسطول الحرية، الذي كان متوجهًا لفك الحصار عن قطاع غزَّة، الأمور إلى حدود المواجهة السياسية المفتوحة بين أنقرة وتل أبيب، ولكنها ستبقى دون مستوى قطع العلاقات الديبلوماسية.
يبدو بوضوح أن إسرائيل لم تتفهَّم المتغيّرات التي طرأت بوصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، وخصوصًا محاولاته "الناجحة" لانتزاع المبادرة من يد جنرالات الجيش كخطوة على طريق إرساء حكم ديمقراطي قادر على خدمة المصالح التركية العليا داخليًا وخارجيًا.
يهدف هذا البحث إلى استعراض المرحلة "الذهبية" لنمو العلاقات التركية– الإسرائيلية، كما يحلّل المتغيِّرات التي طرأت على البيئتين الداخلية والخارجية واللتين فرضتا على حزب العدالة والتنمية اعتماد خيارات سياسية جديدة تقضي بانفتاح تركيا على العالمين العربي والإسلامي، والتي كان من الطبيعي أن تثير الشكوك الإسرائيلية وتؤدي بالتالي إلى فقدان الثقة بين الطرفين، خصوصًا على ضوء النمو السريع للعلاقات التركية – العربية. وأدى تجاوب القيادة التركية الجديدة مع مشاعر الشارع التركي حول الموقف من الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني إلى دفع العلاقات إلى ما يشبه حالة القطيعة الدبلوماسية.
كان من الطبيعي أيضًا أن تؤدي سياسات حكومة أردوغان إلى تصادم مع القرارات والمخططات الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وخصوصًا في مسائل رئيسة: الحرب على العراق، والموقف من الحربين على لبنان وغزة، وأخيرًا الأزمة بين الغرب وإيران على خلفية المشروع النووي الإيراني. وسيطرح هذا البحث مستقبل العلاقات التركية – الإسرائيلية، والخروج بمجموعة استنتاجات تساعد على استشراف آفاق التعاون الإقليمي بعد عودة تركيا كلاعب أساسي.
علاقة اليهود بتركيا
تعود علاقة اليهود بتركيا إلى الاعتقاد اليهودي بأن سفينة نوح قد استقرت بعد الطوفان على قمة جبل أرارات في سلسلة جبال طوروس وعلى مقربة من مثلث الحدود الراهنة مع كل من أرمينيا وإيران. وكان المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس، الذي عاش في القرن الأول، قد تحدث عن وجود أصول يهودية في العديد من مدن آسيا الصغرى. وذكر في العهد الجديد انتشار يهودي واسع في مدن الأناضول، وكنيس يهودي في مدينة ايكوتيوم (قونية)، كما ذُكر كنيس آخر في مدينة أفسس في رسائل بولس الرسول. وذهب بعض المراجع القديمة إلى حدِّ الحديث عن وجود جالية يهودية في مدينة سارديس في القرن الرابع ق.م. كما يتحدَّث عدد من المؤرخين عن وجود جالية يهودية تتكلَّم اللغة اليونانية في الأناضول في عهدي الإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية. ويؤكد المؤرخون أن حجم الجالية اليهودية لم يتأثر بمحاولات بعض الأباطرة البيزنطيين (وخصوصًا في عهد الإمبراطور جوستينيان) إجبار يهود الأناضول على اعتناق المسيحية.
ما زال هناك بعض الغموض يلفُّ تاريخ اليهود في ظل الإمبراطورية البيزنطية، ويعمل المؤرخون على جلاء بعض الروايات التي تتحدَّث عن حملات اضطهاد تعرَّضت لها الجاليات اليهودية في مدن الأناضول[2].
حدثت الهجرة اليهودية الكبيرة باتجاه آسيا الصغرى في عهد الإمبراطورية العثمانية. فلقد أصدر السلطان بايزيد الثاني (1481 – 1512)، خلف محمد الفاتح، دعوة رسمية إلى اليهود للاستقرار في بلاده على أثر حملة الاضطهاد التي تعرضوا لها في إسبانيا والبرتغال العام 1492. ورحَّب كذلك باستقبال الجاليات اليهودية في المدن الغنية والمزدهرة من الإمبراطورية، وخصوصًا في الجزء الأوروبي من السلطنة أي في مقاطعات إسطنبول، وساراييفو وسالونيكا ونيكوبوليس وغيرها، وأيضًا في مناطق الأناضول وعلى الشواطئ الشرقية للمتوسط وصولاً إلى القدس وصفد ودمشق والقاهرة.
نعمت الجاليات اليهودية بالاستقرار الكامل من خلال القانون الخاص بالملل غير الإسلامية الذي اعتمدته السلطنة العثمانية، حيث خيّمت أجواء التسامح التي لم تكن موجودة في أوروبا المسيحية في تلك الحقبة.
بلغ عدد اليهود في السلطنة مع بداية القرن العشرين نصف مليون نسمة، لكنه بدأ بالتناقص مع بدء خسارة السلطنة (الرجل المريض) المقاطعات المسيحية في بلاد البلقان. وتسبَّبت "ضريبة الثروة" التي طبقت العام 1942 بهجرة العديد من العائلات اليهودية والمسيحية على حدٍّ سواء. كما تسبَّبت الهجمات التي شهدتها تركيا ضد الجاليات اليونانية والأرمنية في هجرة ما يقارب عشرة آلاف يهودي من تركيا، وخصوصًا بعد الهجمات التي تعرَّضت لها متاجر الأقليات ومنازلها في مدينة إسطنبول العام [3]1955.
يقدّر عدد اليهود المقيمين في تركيا اليوم بـ 26.000 نسمة، وفق إحصاءات موثوقة، ويعيش القسم الأكبر منهم في إسطنبول، وهناك ما يقارب 2.500 نسمة تعيش في إزمير، بينما يتوزَّع الآخرون على عدد من المدن التركية أبرزها أضنة وأنقرة وبورصى وإسكندرون.
لم تمنع مشاعر "اللاسامية" التي بدأت بعد إعلان دولة إسرائيل من استمرار العلاقات الجيدة بين الجاليات اليهودية والسلطات التركية، والتي تعزَّزت من خلال اعتراف الحكومة التركية المبكّر بدولة إسرائيل. وتوسَّعت مجالات التعاون بين الدولة العبرية وتركيا إلى أبعد من السياسة والاقتصاد والتعاون العسكري لتشمل مجال العمل السرّي والاستخباراتي حيث يذكر بنّي موريس في كتابه "حروب إسرائيل السرّية" أن الموساد الإسرائيلي كان يعمل من الأراضي التركية للتسلّل إلى المناطق العراقية الكردية من أجل تغذية الشعور الكردي الاستقلالي، ودفع الأكراد إلى الثورة على النظام العراقي من أجل إضعافه، وذلك بهدف إشغال الجيش العراقي في عمليات عسكرية داخلية لمنعه من المشاركة في إنشاء جبهة شرقية بالاشتراك مع سوريا والأردن.
تطور العلاقات التركية – الإسرائيلية
توطّدت علاقات التعاون بين تركيا وإسرائيل خلال العقدين الماضيين إلى أن بلغت مستوى التحالف السياسي والاستراتيجي والعسكري. وأثارت هذه العلاقات شكوكًا لدى معظم الدول العربية، أضيفت إلى مشاعر الحذر المتبادل انطلاقًا من إرث العلاقات الثقيل ما بين العرب والسلطنة العثمانية.
وصف مستشار الحكومة التركية غوكهان ساتنساير العلاقة مع العرب بقوله: "في الموقف الوطني العربي ينظر إلى تركيا كلاعب سلبي على المستوى الإقليمي، فهي تمثل القوة الاستعمارية القديمة بالنسبة إلى القوميين العرب. لكن الظروف والموازين الإقليمية الجديدة ستسمح لها بالإضطلاع بدور مختلف عن الدور الذي أدَّته خلال العقدين الماضيين"[4].
على الرغم من البرودة التي خيَّمت على العلاقات التركية – الإسرائيلية بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، فقد وصف وزير الخارجية الإسرائيلي العلاقات مع تركيا في بداية العام 2006 بأنها "كاملة ومثالية".
وكانت زيارة خالد مشعل، القيادي في حماس، إلى أنقرة قد تسبَّبت ببدء هبوب رياح باردة على العلاقات التركية – الإسرائيلية. وقد رأى بعض المراقبين نتائج الزيارة لا تتعدّى حدود "الصدمة" الإعلامية، حيث أرادت تركيا من خلالها الإيحاء إلى العالم الإسلامي وإلى الداخل الإسلامي واليساري بأنه لم يعد من الممكن أن تتجاهل تركيا ما يجري في فلسطين أو في لبنان[5].
لم تمنع هذه التطورات من متابعة المفاوضات والاتفاق على بيع إسرائيل تركيا القمر الصناعي الإسرائيلي "أفق" ونظام الدفاع الجوي "أرو" المضاد للصواريخ، وإن كان ما يحتاج إليه هذا الاتفاق هو موافقة أميركا ليصبح ساري المفعول. وستعطي هذه الصفقة، في حال الموافقة عليها، قدرات متقدِّمة لتركيا سواء في مجال الدفاع ضد الصواريخ أو في مجال الاستعلام الإستراتيجي.
قدَّمت إسرائيل إلى تركيا مساعدات كبيرة العام 1999 للمساعدة في عمليات الإغاثة بعد كارثة الزلزال المدمّر الذي ضرب مدينة إزميت، وتضمَّنت المساعدة فرقًا للبحث والإغاثة بالإضافة إلى إقامة مستشفى ميداني مع فريق طبي كبير شارك فيه مئات من الأطباء والممرضين من الجيش والمؤسسات الرسمية الأخرى، وكان الأكبر بين الفرق الأجنبية كلها التي وصلت إلى تركيا لتدارك آثار الزلزال الذي تسبَّب بمقتل سبعة عشر ألف شخص.
تعود بدايات "التحالف السري" بين أنقرة وتل أبيب إلى العام 1958، أي إلى عهد حكومتي عدنان مندريس ودافيد بن غوريون. ولقد رغب هذا بقوة في إقامة علاقات وثيقة مع تركيا من أجل كسر العزلة الإقليمية التي تشعر بها إسرائيل وقد كانت بحاجة إلى موازنة المقاطعة العربية من خلال الانفتاح على الجوار الأوسع: تركيا وإيران وإثيوبيا.
قام رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون بعدة زيارات سريّة إلى تركيا، كان أهمها في 29 آب/أغسطس 1958 حيث التقى رئيس الحكومة التركية عدنان مندريس، وهي زيارة كان قد جرى التحضير لها خلال اجتماعات سبقتها بين وزير الخارجية التركي فاتن رشدي زورلو مع نظيرته الإسرائيلية غولدا مئير، واجتماع رئيس الأركان التركي إبراهيم فوزي مينغيتش مع السفير الإسرائيلي إلياهو ساسون في روما، وأيضًا من خلال اتصالات للموساد مع الأجهزة السرية التركية.
نقلاً عن مصادر الاستخبارات التركية، فإن أنقرة قد أرادت أن يبقى الاتفاق مع إسرائيل سريًا الأمر الذي اقتضى أن لا يطلع على وجوده أكثر من عشرة أشخاص من مدنيين وعسكريين في البلدين.
تذكر الباحثة الإسرائيلية عفرا بنغيو في كتاب نشرته بالإنكليزية أن إسرائيل قد استخدمت في وثائقها كلمة "تحالف" بدلاً من "اتفاقية" للدلالة على الأهمية التي تعطيها لهذا الاتفاق. ولا تعترف رئاسة الأركان ووزارة الخارجية التركية حتى الآن بوجود مثل هذا الاتفاق، وتصرّ الثانية على أنه لا يوجد أي اتفاق مع إسرائيل سابق للاتفاق الذي وقّع في 3 تشرين الثاني/نوفمبر العام [6]1994. لكن وزير الخارجية التركي الأسبق إيليتر توركمان يعترف بوجود هذا الاتفاق، ولكنه يقول بإنه اتفاق شفهي ولم يكن مكتوبًا، كما يقول بإن الاجتماعات قد جرت على مستوى السفراء، وبإنه قد حدثت تطورات حالت دون استكمال الاتفاق.
تربط عفرا بنغيو الأسباب التي دفعت تركيا إلى القبول بمثل هذا التعاون مع إسرائيل بالآتي: الرد على موقف الرئيس جمال عبد الناصر من حلف بغداد، إقامة الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا، مضاعفة مصر لتعاونها مع الاتحاد السوفياتي، الانقلاب في العراق والذي أطاح الحكم الملكي الذي كان مواليًا لتركيا، تصويت العراق في مجلس الأمن (ضد تركيا) حول القضية القبرصية، التطور العسكري والتكنولوجي الإسرائيلي وحاجة تركيا إلى الاستفادة منه، حاجة تركيا إلى دعم اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة وخصوصًا داخل الكونغرس منعًا لصدور قرار حول قضية مذابح الأرمن.
تأتي أهمية "الاتفاق العسكري السري" مع إسرائيل من أنه كان الأول لإسرائيل مع أية دولة أخرى، وكان رئيسا أركان الدولتين يلتقيان مرتين في السنة للتنسيق. وأعطت إسرائيل لهذا الاتفاق مع تركيا اسمًا مرمّزاً هو "ميركافا"[7].
ظهرت بوادر توتر في علاقات تركيا بإسرائيل العام 1964 بسبب الأزمة القبرصية، ولكن التعاون العسكري استمر حتى العام 1966 موعد الانتهاء الرسمي لهذا التعاون. وكان العامل الأساسي لإنهائه يتركَّز على عدم تصويت إسرائيل إلى جانب تركيا في الأمم المتحدة بشأن القضية القبرصية العام 1964.
شهدت العلاقات التركية - الإسرائيلية تطورًا مطَّردًا في مختلف المجالات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بحيث يمكن وضعها ضمن إطار تحالف إستراتيجي يجمع بين الدولتين، ويمكن شرحها باقتضاب من خلال تقسيمها إلى علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية مع تقديم لائحة بكل المشاريع العسكرية التي وقعت بين البلدين.
1- في المجال السياسي والدبلوماسي
توطدت العلاقات السياسية والدبلوماسية بين تركيا وإسرائيل وجرى تبادل متواصل للزيارات بين المسؤولين الكبار في البلدين. أما على صعيد التمثيل الدبلوماسي فإن لإسرائيل بعثة ديبلوماسية كبيرة موزَّعة ما بين السفارة الموجودة في العاصمة أنقرة وقنصلية عامة موجودة في اسطنبول، وهي مسؤولة عن تقديم الخدمات القنصلية في مناطق بحر مرمرة، ومناطق بحر إيجه والساحل الشرقي والغربي على البحر الأسود.
في زيارة قام بها الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز إلى تركيا، عقد فيها مباحثات مع الرئيس عبد الله غول في تشرين الثاني/نوفمبر العام 2007، دعي الرئيس الإسرائيلي لإلقاء خطاب في مجلس الأمة التركي، وكانت هذه المرّة الأولى التي يدعى فيها رئيس إسرائيلي لإلقاء خطاب أمام برلمان لبلد أكثرية سكانه "الساحقة" من المسلمين[8].
ظهر خلال هذه الزيارة اختلاف في وجهات النظر بين الرئيس التركي عبد الله غول والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز حول مسألتين أساسيتين:
الأولى، تتعلَّق بالمشروع النووي الإيراني، حيث اعتبر بيريز أنه لا يمكن أن يصدّق بأن إيران التي تملك احتياطات كبيرة من النفط والغاز هي بحاجة إلى تطوير طاقة نووية لإنتاج الكهرباء. أما الموقف الذي عبّر عنه الرئيس التركي فقد تركّز على حق إيران ودول المنطقة الأخرى في امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية، بما فيها توليد الطاقة الكهربائية.
الثانية، وتتعلَّق بسياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين، والحصار الذي تفرضه عليهم في الضفة الغربية وفي قطاع غزة. ووعد الرئيس غول بالتدخل لدى الفلسطينيين من أجل إطلاق الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط مقابل إطلاق عدد من الأسرى الفلسطينيين[9].
أرادت تركيا أن توازن دعوة بيريز فدعت الرئيس الفلسطيني محمود عباس في اليوم التالي لإلقاء خطاب أمام البرلمان يتحَّدث فيه عن رؤيته لعملية السلام مع إسرائيل، وذلك قبل أسابيع معدودة من انعقاد مؤتمر أنابوليس – ماريلاند. وكان بيريز قال في خطابه أمام البرلمان التركي "تركيا هي لاعب كبير بالنسبة إلى الولايات المتحدة، سوريا والفلسطينيين وأيضًا بالنسبة إلينا". وتحدَّث بعض التقارير الإعلامية بعد خطابي بيريز وعباس (وذلك بناء على تصريح لمسؤول سوري لصحيفة كويتية) عن وجود قنوات تركية لإجراء اتصالات سورية – إسرائيلية[10].
بالفعل، جرى لاحقًا الكشف عن مفاوضات غير مباشرة سورية – إسرائيلية تجري برعاية تركية حيث اضطلع أحمد داوود أوغلو بدور المفاوض التركي الأساسي، وقد كشف في محاضرة ألقاها في ندوة ترعاها جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس في إسطنبول عن مدى التقدم الكبير الذي حقَّقته هذه المفاوضات غير المباشرة التي استمرت إلى أن أعلنت سوريا تجميد مشاركتها فيها بسبب الحرب التي شنَّتها إسرائيل ضد قطاع غزة أواخر العام 2008. كان يمكن العودة إلى هذه المفاوضات السورية – الإسرائيلية برعاية تركية لو لم يقم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بإعلان رفضه لأي وساطة تركية وذلك في مجال ردّه على قرار تركيا منع إسرائيل من المشاركة في المناورة الجوية المعروفة باسم "نسر الأناضول"، حيث قال "لم يعد باستطاعة تركيا أن تقوم بدور الوسيط "الشريف" بين سوريا وإسرائيل"[11].
2- في المجال الاقتصادي
كان من الطبيعي جدًا أن تنمو العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل في ظل النمو الكبير الذي شهدته العلاقات السياسية والديبلوماسية. لقد وقّع البلدان اتفاقية للتجارة الحرّة بينهما في كانون الثاني/يناير 2000، وسميت "اتفاقية التجارة الحرة التركية – الإسرائيلية". واعتبرت مهمة جدًا بالنسبة إلى إسرائيل لأنها الأولى التي توقِّعها مع أي بلد آخر ذي أكثرية سكانية من المسلمين[12]. تبلغ الصادرات الإسرائيلية السنوية إلى تركيا 1.5 مليار دولار، والواردات منها مليار دولار. وكانت قد وضعت خططًا أولية لتوسيع التبادل التجاري ليشمل بناء خط لنقل المياه العذبة من تركيا إلى إسرائيل بالإضافة إلى الكهرباء والغاز والنفط[13].
أغضبت علاقات التعاون بين تركيا وإسرائيل الشعوب العربية ومعها بعض الحكومات العربية، وكان رد تركيا بأنها تتبع سياسة الحياد حول مختلف القضايا المتعلقة بالصراع العربي – الإسرائيلي وبالقضية الفلسطينية وبالأزمة اللبنانية[14]. لكن كشف دور الموساد الإسرائيلي في ملاحقة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان والمساعدة في اعتقاله وإحضاره إلى تركيا ومحاكمته هناك، عمَّق علاقات التعاون بين تركيا وإسرائيل[15].
كانت علاقات التعاون العسكري التي نشأت منذ بداية سيطرة الجيش على القرار السياسي بعد الانقلاب العسكري قد تطوَّرت بشكل كبير، حيث شملت مجموعة كبيرة من مجالات التعاون، كما وقعت عقود عسكرية بمئات ملايين الدولارات، وجرى توقيع عقود لشراء أسلحة إسرائيلية متطورة. وتستأهل هذه العلاقات العسكرية أن يحظى شرحها بعنوان منفصل.
-3 العلاقات العسكرية
شهدت العلاقات التركية – الإسرائيلية نموًا متزايدًا في مجال التعاون العسكري الذي يعيد بعض الخبراء بدايته الحقيقية إلى الاتفاق السرّي الذي وقَّعته رئيسة الوزراء التركية تانسو تشيلر وقضى بتبادل المعلومات الاستخبارية مع إسرائيل، وتنسيق الجهود ضد الإرهاب العام 1994. وكان قد سبق هذا الاتفاق آخر للتعاون في مجال السياحة بين الدولتين العام 1992، حيث أفادت تركيا بصورة خاصة بعد أن تحوّلت إلى البلد المفضّل للسيَّاح الإسرائيليين.
فتح الاتفاق العسكري "السرّي" الباب على 16 اتفاقًا للتعاون في المجال العسكري، وقد جرى توقيع بعضها في عهد حكومة حزب الرفاه بقيادة آربكان. وتفيد المعلومات الصادرة عن وزير الدفاع التركي بأن هذه الاتفاقات تتضمَّن أيضًا برامج تدريب وتعاون مشترك تشمل القوات البرية والبحرية والجوية. وصرَّح وزير الدفاع التركي بعد الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية بأن تركيا لن تعمل على إلغاء أي من هذه الاتفاقيات العسكرية على الرغم من خطورة الهجوم الإسرائيلي ومأسويته على المركب مافي مرمره. وأثار خطاب غونول ضجة سياسية وإعلامية وكان محط انتقاد داخل الحزب الحاكم.
بدأ التقارب بين تركيا وإسرائيل بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في تركيا العام 1980. وعبَّر الطرفان، في ظل سيطرة الجيش التركي على القرار الوطني، عن رغبتهما في إقامة تعاون بينهما في كل المجالات وخصوصًا في المجال العسكري[16]. ويمكن تعداد المشاريع العسكرية الكبرى الموقعة بين الطرفين على الشكل الآتي:
- تحديث أسطول طائرات الفانتوم ف-4 (F-4) وطائرات ف-5 (F-5) بكلفة 900 مليون دولار.
- تحديث 170 دبابة من طراز M60A1 بكلفة 500 مليون دولار.
- مشروع صواريخ Popey-I وPopey-II للدفاع الجوي بكلفة 150 مليون دولار.
- مشروع صواريخ "دليلة" الجوالة (كروز) والذي يبلغ مداه 400 كلم.
- الموافقة على بيع تركيا صواريخ "أرو" الحديثة جدًا والمخصَّصة للدفاع ضد الصواريخ. ويحتاج العقد إلى موافقة الولايات المتحدة شريكة إسرائيل في إنتاج هذا النوع من الصواريخ المضادة للصواريخ.
- اتفاق للتعاون في مجال تدريب الطيارين، حيث يجري التبادل ثماني مرات في السنة. ويفتح هذا الاتفاق المجال للطيارين الإسرائيليين للتدريب على الطيران لمسافات طويلة فوق البر التركي، كما يفتح أمامهم المجال لإجراء رمايات بالذخيرة الحيّة في حقل رماية قونية. كما يفتح الاتفاق للطيارين الأتراك للتدرُّب في إسرائيل واستعمال أحدث التقنيات الأميركية والإسرائيلية.
- مشاركة البحرية الإسرائيلية في عدة مناورات وتمارين بحرية تنظمها تركيا، وتشارك فيها أيضًا البحرية الأميركية[17].
- كان آخر اتفاق وقع بين الطرفين في أثناء زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك الأخيرة في كانون الثاني/يناير 2010. وحاولت تركيا نفي الخبر إلا أن الصحافة الإسرائيلية قد أكدت التوقيع. ويقضي هذا الاتفاق بحصول تركيا على عدة أنظمة متطوِّرة في مجال الطيران، وتبلغ قيمة العقد 141 مليون دولار، ويتشارك في تنفيذه سلاح الجو الإسرائيلي وشركة ألبت للصناعات الجوية (Elbit Systems).
تبلغ قيمة مجموعة المشاريع العسكرية نحو 1.8 مليار دولار، وتشكل قيمة المشاريع نسبة عالية إذا ما جرى قياسها بالميزان التجاري بين البلدين والذي يبلغ 2.6 مليار دولار سنويًا.
يرى بعض الخبراء الإستراتيجيين أن مشاريع التعاون العسكري بين إسرائيل وتركيا قد ساهمت في تغيير موازين القوى في المنطقة. وينظر آخرون إلى أن الطريقة التي اعتمدت في توقيع هذه الاتفاقات من قبل الجانب التركي هي غير دستورية. فالدستور التركي ينص على أن أمر توقيع مثل هكذا اتفاقيات منوط بوزير الدفاع، وأن قيام رئيس الأركان الجنرال إسماعيل حقي كارادي بالتوقيع على بعضها هو أمر غير دستوري.
كما يقضي الدستور التركي أيضًا بضرورة التصديق على الاتفاقيات الدولية من قبل البرلمان التركي، ولكن أيًا من هذه الاتفاقيات التي وقعها القادة العسكريون لم يُعرض على البرلمان، كما أنها لم تُنشر في الجريدة الرسمية وفق ما ينص عليه القانون لتصبح نافذة.
على الرغم من الأولوية التي كانت تعطيها تركيا للتعاقد مع إسرائيل لم يكن تنفيذ هذه العقود متوافقًا مع المواصفات التي حدَّدتها هذه العقود. كما كانت هناك شكاوى واعتراضات تركية حول الأسعار المقدَّمة من الطرف الإسرائيلي. فالعام 2002 حصلت الشركات الصناعية العسكرية الإسرائيلية على عقد لتحديث 170 دبابة من طراز M60A1 وتعرَّضت الصفقة لانتقادات واسعة من قبل الرأي العام التركي بسبب ارتفاع كلفة المشروع. وقد جرى بالفعل تخفيض الكلفة بعد الاعتراضات من 1.04 مليار دولار إلى 668 مليون دولار. لكن لم يأتِ تنفيذ الشركات الإسرائيلية متوافقًا مع دفتر الشروط، فتجاوزت الانتقادات الكلفة إلى انتقاد إعطاء العقد للشركات الإسرائيلية في الوقت الذي تملك فيه شركة "أسلسان" التركية القدرات نفسها التي تملكها الشركات الإسرائيلية. وسُجِّلت شكاوى عديدة حول أداء هذه الدبابات بعد عملية التحديث التي أخضعت لها سواء في مجال عمليات ضبط الرمي أو في مجال الميكانيك.
وقامت إسرائيل أيضًا بتحديث طائرات فانتوم F-4 التركية ولكن يبدو أن الأنظمة الالكترونية المركَّبة عليها لا تعمل بانتظام على الرغم من الكلفة المرتفعة التي دفعتها تركيا العام 1995 والتي تجاوزت 632 مليون دولار[18].
لكن، وعلى الرغم من الأخطاء في تنفيذ عقد تحديث طائرات فانتوم، عادت تركيا وطلبت من إسرائيل تحديث 48 طائرة من طراز F-5 بكلفة 80 مليون دولار.
السؤال المطروح الآن: ما هو مستقبل العلاقات التركية – الإسرائيلية وخصوصًا لما يعود لبرامج التعاون العسكري بعد الهجوم على مافي مرمره ومقتل تسعة مواطنين أتراك؟
كانت ردود الفعل التركية صارمة وعنيفة على الهجوم الذي تعرَّضت له السفينة مافي مرمره في المياه الدولية، والذي تسبَّب بسقوط تسعة قتلى. وقد أُلحقت الانتقادات اللاذعة بسحب السفير التركي من إسرائيل، كما ألغت تركيا مشاركة إسرائيل في ثلاثة تمارين عسكرية، ومنعت أيضًا تحليق الطائرات العسكرية الإسرائيلية فوق أراضيها. يعتقد بعض المعلِّقين بأنه يمكن أن تلجأ تركيا، وعلى أساس توصية من مجلس الأمن الوطني، إلى إلغاء بعض العقود العسكرية التي سبق ووقَّعتها مع الدولة العبرية. ويبدو من سياق الأحداث بأن إسرائيل هي على وشك خسارة أكبر أصدقائها في المنطقة، وقد تكون تركيا هي الصديق الفعلي والأوحد. لا يمكن الاستمرار في انتهاج سياسة بناءة بين الدولتين في ظل مطالبة مؤسسات المجتمع المدني التركي الحكومة بوقف كل البرامج والعقود مع إسرائيل. لكن حتى الآن لم تُقدم حكومة أردوغان على أي خطوة باتجاه إلغاء أي من العقود الموقعة. ويبدو بوضوح أن الأمور ستكون مربوطة بالخيارات الجديدة التي يمكن أن تعتمدها حكومة أردوغان لمواجهة التطورات سواء على مستوى المنطقة أو على مستوى العلاقة مع إسرائيل.
.خيارات تركيا الجديدة
قامت الجمهورية التركية العام 1923 على أنقاض الإمبراطورية العثمانية والتي كانت قد تفكَّكت خلال الحرب العالمية الأولى. وكانت الفترة الفاصلة ما بين نهاية الحرب العالمية الأولى وتأسيس الجمهورية قد شهدت عدة حروب عرفت بحروب التحرير الوطنية، حيث سعى عدد من الأطراف الخارجيين إلى اقتطاع حصص لهم من الأراضي التركية. فإلى جانب الصراع التاريخي مع روسيا القيصرية، ولاحقًا مع الشيوعيين، اندلع صراع مع اليونان على أثر احتلال هذه الأخيرة للسواحل التركية الغربية عند بحر إيجة.
التزمت تركيا الحياد خلال الحرب العالمية الثانية قبل أن تعلن الحرب في نهايتها على دول المحور. ومن نتائج هذه الحرب انتقال تركيا إلى المعسكر الغربي ضد معسكر الاتحاد السوفياتي، لتمثل إحدى الجبهات المتقدمة لحلف شمال الأطلسي في مواجهة حلف وارسو. كان الغرب بحاجة إلى موقع تركيا الإستراتيجي، فواجه الأتراك هذه الحاجة الغربية بمزيد من الاندماج في السياسات الغربية، الأمر الذي دفع تركيا إلى الاعتراف بإسرائيل في آذار/مارس العام 1949 والانضمام إلى حلف الناتو، والطموح لاحقًا إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
حافظت تركيا على النظام العلماني الذي أرسى قواعده مصطفى كمال، ولكن ذلك لم يمنع أن تتولَّى السلطة، بين الحين والآخر، حكومات أكثر انفتاحًا على العرب والمسلمين، كما حدث في السبعينيات والثمانينيات ومنتصف التسعينيات من القرن الماضي.
شهدت تركيا خلال فترة التسعينيات "صحوة" إسلامية أدَّت إلى انحراف ظاهر عن ثوابت العلمانية وخصوصًا في ما يعود إلى السياسة الخارجية. وجاء التحوّل الكبير من خلال وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة العام 2002. ولم تكن المرة الأولى التي يصل فيها إسلاميون إلى الحكم إذ شارك نجم الدين أربكان في ثلاث حكومات في السبعينيات، كما ترأس حكومة ائتلافية العام 1996، ولكن ذلك لم يعجب جنرالات الجيش والقوى العلمانية حيث بذلوا جهودًا ملموسة لإسقاط الائتلاف الحكومي وحل حزب الرفاه.
تنطلق إستراتيجية حزب العدالة والتنمية التي وضعت لدى تأسيسه العام 2001 من واقع أن لتركيا عمقين: الأول تاريخي، والثاني إستراتيجي، وأن سياساتها قد حجبت عنها التفاعل مع أحد هذين البعدين، والذي يتمثل بالتعامل مع العالمين العربي والإسلامي، ومع البعد الجغرافي أيضًا أي التعامل مع إيران وبلاد البلقان.
في ظل حزب العدالة والتنمية أرادت تركيا أن تتخلَّص نهائيًا من رواسب سياسات الحرب الباردة، بما في ذلك التخلِّي عن التبعية للسياسات الأميركية في ما يعود إلى علاقاتها بمحيطها التاريخي والجغرافي، خصوصًا في ظل الحرب التي شنَّتها إدارة بوش على الإرهاب، والتي اتخذت في بداياتها منحى يؤشر إلى أنها حرب أميركية على العرب والمسلمين، هذا بالإضافة إلى الانحياز الأميركي المتواصل إلى جانب إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وسياسات الظلم والتنكيل التي تتبعها الدولة العبرية ضد هذا الشعب في الضفة الغربية وغزة[19].
ليست الرغبة التركية بدخول الاتحاد الأوروبي بجديدة، فهي تعود إلى العام 1963 حين وقّع بروتوكول أنقرة مع المجموعة الأوروبية، والذي لحظ العضوية الكاملة لتركيا في ما بعد في الاتحاد الأوروبي. بعد ذلك كان إعلان قمة هلسنكي 1999، والذي قال بأن تركيا هي دولة مرشَّحة للانضمام للاتحاد.
كانت النخبة الكمالية الحاكمة في تركيا بعيدة عن التوغُّل في مسار الخيار الأوروبي، وقد استعملت هذا المنحى لمنع وصول الإسلاميين إلى الحكم، ولمنع إقامة علاقات تعاون وثيق مع دول الجوار والدول العربية والإسلامية[20]. وكانت ركائز الحكم في ظل هذه النخب تتناقض في ممارساتها السياسية والاجتماعية مع القيم السائدة في أوروبا، وخصوصًا على صعيد احترام الحريات العامة وقضايا حقوق الإنسان أو مع المفاهيم الديمقراطية الليبرالية. إن تقيّد تركيا بكل القيم الأوروبية كان سيعني حكمًا انتهاء حكم القوى الكمالية المتسترة وراء فكرة علمنة الدولة. لم يكن من الممكن تحقيق الإصلاحات التي طالبت بها أوروبا في ظل تسلط جنرالات الجيش على السلطة ووصايتهم عليها. وهكذا كان الخيار الحضاري لحزب العدالة والتنمية يتركز على الخيار القائل بأن مستقبل تركيا هو في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
تزامن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة مع احتلال العراق، وقد نأت تركيا بنفسها عن المشاركة في العدوان من خلال منع استعمال أراضيها كمنطلق للهجوم الأميركي. وقد فتح هذا الموقف طريقين أمامها: العالم العربي والاتحاد الأوروبي: قدّر الشارع العربي الموقف القاضي بعدم اشتراك تركيا في الحرب على العراق. وعلى الرغم من الخسائر التي تكبَّدتها تركيا من جراء خروجها عن المعادلة وفقدان إمكان ممارسة أي نفوذ في العراق، فإن العلاقات التركية – العربية قد شهدت تحسنًا كبيرًا كما تحقَّقت إنجازات سياسية واقتصادية هائلة. وقد وصف مهندس السياسة الخارجية التركية الأستاذ أحمد داوود أوغلو هذه المرحلة بالذهبية.
كانت أولى ثمار هذه المرحلة "الذهبية" تجاوز الخلافات المزمنة في العلاقات مع سوريا ولا سيما حول لواء الإسكندرون والمياه وحزب العمال الكردستاني وعلاقات تركيا الحميمة مع إسرائيل. وحدث تحوّل كبير في العلاقات التركية – السورية بحيث أنها أصبحت تصلح لكي تكون نموذجًا لعلاقات تركيا مع جوارها الجغرافي ومع الدول العربية والإسلامية. وبالفعل فقد انفتح حزب العدالة والتنمية على معظم الدول العربية وخصوصًا الدول الخليجية، وقد تجسّدت هذه العلاقات على شكل استثمارات داخل تركيا، وذلك من خلال المشاركة في استثمارات المشاريع التي تخلَّى عنها القطاع العام للقطاع الخاص عن طريق اعتماد سياسة الخصخصة ما ساهم في إنعاش الاقتصاد التركي وزيادة مستويات النمو. وشهدت العلاقات مع إيران تقدمًا ملحوظًا خلال هذه الفترة، كما ازدادت المبادلات التجارية أضعاف ما كانت عليه في الفترة السابقة.
لم يَسَع حزب العدالة والتنمية إلى أن يكون الانفتاح على العرب والمسلمين على حساب العلاقات مع إسرائيل. لكن العلاقات الجديدة (المتوازنة) تتطلب تخفيف وقع العلاقات الإستراتيجية مع إسرائيل، وخصوصًا لجهة العقود والروابط العسكرية بالإضافة إلى توجيه انتقادات حادة إلى سياسة الحكومة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وقد بلغت هذه الانتقادات لممارسات أرييل شارون (عندما كان رئيسًا للحكومة) ضد الشعب الفلسطيني حد وصفها بـ"إرهاب الدولة"[21].
تحدَّد دور تركيا الجديد استنادًا إلى الخلفية الإسلامية للكوادر الأساسية في حزب العدالة والتنمية، وإلى موقع تركيا في المعادلة الدولية الجديدة التي نشأت في ظل هجمات 11 أيلول/سبتمبر، والحرب على العراق. وكانت حكومة حزب العدالة والتنمية قد سعت للتوفيق بين سياسة الانفتاح تجاه العرب والمسلمين وعلاقاتها الوثيقة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، ولكن يبدو أن الخيارات الجديدة في السياسة الخارجية التركية قد أثارت الشكوك والهواجس لدى واشنطن وتل أبيب.
فسّر البعض سياسة الانفتاح بردّها إلى وجود نزعة عثمانية متجدِّدة. ولكن حقيقة الأمر تعود إلى رغبة تركيا في التفاعل مع مجريات الأحداث والتطورات الجارية في محيطها الجغرافي وفي العالمين العربي والإسلامي. كما تقضي المصالح التركية اعتماد سياسة انفتاح سياسي واقتصادي مع دول الجوار، ما دفعها إلى أن تأخذ مبادرات سياسية هامة أبرزها: اجتماع وزراء خارجية دول الجوار العراقي، تفعيل منظمة المؤتمر الإسلامي عبر إيصال البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلو إلى موقع الأمين العام للمنظمة، تقديم طلب إلى القمة العربية لقبول تركيا كعضو مراقب، استقبال وفد من منظمة حماس في شباط/فبراير 2006، التدخل لدى سنّة العراق لحثهم على المشاركة في الانتخابات في كانون الأول/ديسمبر 2005، التواصل مع شرائح من شيعة العراق، العمل الحثيث لتحسين العلاقات مع مجمل الدول العربية وخصوصًا مع سوريا، ونسج علاقات وثيقة مع إيران.
شعرت حكومة حزب العدالة والتنمية بأن الاستمرار في الاندفاعة القوية في السياسة الخارجية الجديدة سيؤدي إلى نشوء ضغوط داخلية وخارجية "منسّقة"، فالمؤسسة العسكرية تشعر بأن التحرك الجديد قد يؤدي إلى إضعاف نفوذها ونفوذ العلمانيين، بالإضافة إلى أنها تتمسك بعلاقاتها الوثيقة بدولة إسرائيل وببرامج التعاون العسكري المعقودة معها. كما شعرت الحكومة بمخاطر أن تلجأ الولايات المتحدة وإسرائيل إلى اعتماد سياسة الابتزاز تجاهها من خلال إثارة بعض المتاعب القديمة كالورقة الأرمنية، وقضية حزب العمال الكردستاني، والمساعدات الدولية والعلاقات مع البنك الدولي.
لم تتراجع الحكومة التركية عن خياراتها الجديدة أمام الضغوط التي مورست عليها من الداخل والخارج، ولكنها خفَّفت من سرعة اندفاعها مع التشديد على استمرار التواصل مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. لكن الحرص التركي على التواصل مع واشنطن وتل أبيب لم يؤدِّ إلى النتائج التي توختها أنقرة، وبدا أنه بات من المستحيل إعادة قواعد الثقة إلى ما كانت عليه، وأن الاهتزاز الحاصل في قاعدة العلاقات مرشح للتحول إلى تشققات عميقة تتسبَّب بنشوء أزمة قد يكون من الصعب تجاوز مفاعيلها لسنوات عديدة مقبلة.
"الثورة الهادئة" وتأثيراتها على السياسة الخارجية
بدأت في تركيا ثورة هادئة منذ العام 2002 غيّرت في خيارات تركيا سواء في مجال السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية، كما ترتَّبت عليها نتائج مهمة بالنسبة إلى منطقة الشرق الأوسط وخصوصًا بالنسبة إلى إسرائيل. ويمكن القول بإن التداعيات التي حصلت في العلاقات التركية – الإسرائيلية على أثر عملية "الرصاص المصبوب" على غزة، لم تكن بسبب تلك الحرب، بل استغلت الحرب لتفجير أزمة العلاقات التي كانت قد تراكمت عناصرها وأسبابها خلال السنوات السابقة.
تربط أستاذة التاريخ الإسرائيلية عوفرا بنغيو التغيّر الكبير الذي طرأ على خيارات تركيا بثلاثة عناصر: "الفكر" الجديد الذي تقدَّم به وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، "القوة السياسية" المتمثِّلة بوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، والتوجه الأيديولوجي الجديد لشرائح واسعة من الشعب التركي. لقد نتج بالفعل عن تفاعل هذه العناصر الثلاثة "ثورة هادئة" غيّرت في المفاهيم والتوجهات السياسية التي كانت معتمدة في السابق في الداخل والخارج. رأينا في الداخل أن الإسلام السياسي المعتدل قد اتخذ له موقعًا مهمًا على المسرح السياسي الداخلي، وأنه دخل في مواجهة تحكمها العقلانية والواقعية السياسية مع خيار العلمانية التي أرسى قواعدها "أتاتورك". يجب أن يعترف العالم بأهمية ما يجري الآن داخل تركيا، وأن يدرك أن الإسلام السياسي الصاعد داخل تركيا يختلف بصورة جذرية عن الإسلام السياسي الذي قاد الثورة في إيران، إنه الإسلام الناعم والمعتدل، والذي يسعى إلى التغيير من خلال المقاربة الديمقراطية، وعبر مؤسسات الدولة بدل الانقلاب عليها وتغييرها. ويسعى حزب العدالة والتنمية إلى إثبات إمكان التعايش الإسلامي السياسي مع الديمقراطية[22].
تتعرَّض الآن العلمانية والجيش الذي يعتبر المدافع الأول عنها لهجوم منظّم، ويضع العديد من المراقبين الحملة على المؤسسة العسكرية من أجل تهميش دورها في السياسة الداخلية والخارجية في إطار تسديد حسابات قديمة بين التيار الإسلامي والجيش وهي تعود إلى الانقلاب العسكري الأبيض الذي قاده الجنرالات في أواسط التسعينيات ضد رئيس الحكومة نجم الدين أربكان وحزب الرفاه وتوجهاته الإسلامية.
كان من الطبيعي أن يتسلَّح قادة حزب العدالة والتنمية بالأسباب الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة لدعم انطلاقة ثورتهم الهادئة وبحجة إخراج تركيا من الأزمة الاقتصادية الخانقة. حصلت الحكومة على دعم واسع من التجار ورجال الأعمال. كما تقدَّمت الحكومة بمشروع سياسي من أجل حل المشكلة المزمنة مع الأكراد بالطرق السلمية، وسعت بذلك إلى أخذ المبادرة من الجيش الذي كان يلح على الاستمرار في الخيار العسكري ضد الأكراد.
كانت التغييرات المطروحة في السياسة الخارجية مهمة وتترتب عليها نتائج كبرى على المستويين الإقليمي والدولي. وكان المهندس الأساسي للرؤية والمقاربة الجديدة الأستاذ أحمد داوود أوغلو، والذي لقبه البعض بـ "مترنيخ تركيا".
كان داوود أوغلو قد دخل على عالم السياسة من خلال كتابة "العمق الإستراتيجي: موقع تركيا الدولي" الذي نشره العام 2001، وأعيدت طباعته إحدى وثلاثين مرة ما بين العامين 2001 و2009. وكان قد بدأ عمله الحكومي كمستشار للسيد أردوغان، وانتقل بعد ذلك إلى منصب وزير الخارجية.
قدّم العام 2008 بحثًا حول رؤيته للسياسة الخارجية التركية، وكان أبرز ما فيه نقده لها في عقد السبعينيات كونها جعلت من تركيا بلدًا "طرفًا" معزولاً عن الدول العربية والإسلامية. ورأى أنها في الفترة التي سبقت وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم قد اتسمت "بعقلية الحصار أو العزلة"، وأنها قد اعتمدت لتغطية الممارسة السلطوية للمؤسسة العسكرية ولتيار العلمنة الداعم لها[23].
ارتكزت "عقيدة العمق الإستراتيجي" التي قدمها داوود أوغلو على القواعد الآتية:
أولاً: يجب أن تتبدَّل طموحات تركيا من موقع القوة المركزية إلى موقع "القوة الشاملة"، مستفيدة من موقعها الجيو - استراتيجي الفريد ومن تراثها العثماني من أجل تحقيق هذه القفزة النوعية في العقد المقبل.
ثانيًا: يجب أن تنفتح تركيا على جيرانها من أجل تقوية موقعها الإقليمي والدولي وإلغاء جميع المشاكل مع هؤلاء الجيران. (Policy of zero problems).
ثالثًا: يجب أن تستفيد تركيا من مواردها وقدراتها الجيو - استراتيجية من أجل تغيير توجهاتها الأمنية واستبدالها بتوجهات اقتصادية، أي نزع الطابع الأمني عن الخيارات المعتمدة في السياسة الخارجية[24].
رابعًا: يتوجب أن تعمل تركيا على تقوية علاقاتها وتبادلاتها الاقتصادية والتجارية مع إيران وسوريا والمملكة العربية السعودية. واعتبر أوغلو أن "تركيا هي بحاجة إلى الطاقة الإيرانية"، وأن ذلك يمثل امتدادًا طبيعيًا لمصالحها الوطنية.
خامسًا: يجب أن يرتكز دور تركيا المستقبلي على الإضطلاع بدور الوسيط من أجل حلِّ الصراعات الدولية وخصوصًا الصراعات القائمة في الشرق الأوسط. وكانت المساهمة الأولى في هذا المجال إقامة منتدى بالاشتراك مع إسبانيا للدعوة إلى "تحالف الحضارات" في محاولة للرد على نظرية صاموئيل هنتنغتون القائلة بـ"صراع الحضارات". وقد جاءت محادثات السلام غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل وبرعاية داوود أوغلو شخصيًا ضمن هذا السياق لحل النزاعات في المنطقة.
يأخذ الإسرائيليون على "عقيدة العمق الإستراتيجي" التي وضعها أوغلو بأنها قد تجاهلت كليًا إسرائيل، في وقت تحدث فيه في الكتاب عن أن المبادرة في توجيه العلاقات التركية – الإسرائيلية هي في يد إسرائيل، وبأن دور تركيا يتسم بالجمود والسلبية. ويؤدي هذا الوضع إلى منع تركيا من الانفتاح على جيرانها العرب[25].
توسّع نحو الشرق على حساب الغرب وإسرائيل
يأتي تعاظم دور تركيا كقوة شرق أوسطية كنتيجة حتمية للتغييرات الداخلية في المشهد السياسي التركي، وللتطورات الخارجية التي شهدتها العلاقات التركية مع الغرب ومع دول المنطقة. وتأتي أهمية الدور التركي الجديد انطلاقًا من تقارب تركيا مع الـدول العربية والإسلامية على حساب علاقاتها التاريخية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. ولا تقتصر الاهتمامات التركية على بناء علاقات مع الدول الشرق أوسطية المجاورة لها بل تتوسع لتشمل العلاقات مع الدول الإسلامية الآسيوية وصولاً إلى حدود الصين.
جاءت قمة العشرين التي عقدت في اسطنبول برئاسة رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان من أجل إرساء قواعد التعاون وبناء قواعد الثقة بين الدول الآسيوية كتعبير واضح عن الطموحات التركية لتوسيع علاقاتها مع الدول الإسلامية الآسيوية، وكتعبير عن نياتها في تنمية علاقاتها باتجاه الشرق بعد أن أصيبت علاقاتها مع الغرب بقدر من الجمود، ظهرت بوادره ومؤشراته من خلال معارضة بعض الدول الأوروبية لمساعيها الحثيثة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومن خلال التناقض في الرؤية مع الولايات المتحدة والذي بدأ العام 2003 في إبان التحضيرات الأميركية للحرب على العراق، حيث جمّدت تركيا النشاطات الجوية الداعمة للحرب من قاعدة "انغرليك" الموجودة على أراضيها، كما أنها لم تسمح بفتح جبهة ثانية عبر حدودها مع العراق.
تمثَّلت ذروة التنافس في علاقة أنقرة بواشنطن من خلال تصويت تركيا ضد مشروع القرار 1929 (الأميركي) في مجلس الأمن، والقاضي بفرض عقوبات جديدة ضد إيران، وذلك على خلفية المشروع النووي الإيراني.
وكان قد حصل بعض التطورات المهمة والتي دفعت تركيا إلى واجهة المسرح الديبلوماسي الدولي، وكان من أبرز هذه التطورات:
أولاً: نجاح وزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو بالاشتراك مع وزير خارجية البرازيل سالسو أموريم في توقيع اتفاق في أواسط أيار/مايو الماضي مع وزير خارجية إيران منوشهر متكي حول استبدال اليورانيوم الإيراني المنخفض التخصيب بيورانيوم أعلى تخصيبًا على الأراضي التركية، بدلاً من إجراء عملية التبادل على الأراضي الروسية وفق ما كان قد اقترحه الاتحاد الأوروبي. لم تبد الولايات المتحدة أي اهتمام بالاتفاق التركي – البرازيلي وقد رأت فيه محاولة لتعطيل جهودها الرامية إلى عزل إيران دوليًا.
ثانيًا: عادت تركيا لتحتل واجهة الحدث الدولي بعد أسبوعين على الحدث الأول، وذلك على أثر قيام البحرية الإسرائيلية باعتراض "أسطول الحرية" المتوجِّه لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة، وقد أدت هذه العملية إلى قتل تسعة نشطاء أتراك على متن الباخرة "مافي مرمرة".
يرى عدد من الخبراء أنه لا يمكن النظر إلى هذه الأحداث بصورة منعزلة عن التطورات التي تشهدها تركيا منذ تشرين الثاني/نوفمبر العام 2002 بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بقيادة رجب طيب أردوغان، والذي يحظى بتأييد شرائح شعبية واسعة تسمح بتشكيل حكومة مستقرة بعد عدة عقود من حكومات الائتلاف الضعيفة.
سمحت قوة حزب العدالة والتنمية لأردوغان بسلوك طريق إصلاحي حيث شنَّ حربًا على الفساد، وعمل على تحرير السلطة المدنية من وصاية جنرالات الجيش، بالإضافة إلى توجيه السياسة الخارجية التركية إلى سبر خيارات جديدة مع إعطاء أولوية لعلاقات تركيا بدول الشرق الأوسط والدول الإسلامية في آسيا. ويبدو أن مصدر هذه الرؤية الجديدة لعلاقات تركيا الخارجية إنما يعود إلى البروفسور أحمد داوود أوغلو الذي عمل بداية كمستشار لرئيس الحكومة قبل أن يعيّن وزيرًا للخارجية. استندت الأفكار التي قدمها على ضرورة الاستفادة من التقارب الثقافي مع الدول الشرق أوسطية، بدءًا من إيران وسوريا من أجل تحقيق الاختراق الجـديد باتجاه الشرق. وكان قد سبق بناء العلاقات الجديدة استضافة تركيا لقمة المؤتمر الإسلامي الذي جمع 57 دولة إسلامية بدعم سعودي وإيراني ظاهرين العام 2004. ويمكن النظر إلى هذه القمة الإسلامية كنقطة انطلاق لتراجع علاقات تركيا بإسرائيل، وكنقطة تحوّل في السياسة الخارجية التركية، حيث بدأت تركيا تتحسَّس أهمية بناء علاقات جديدة مع محيطيها العربي والإسلامي، ولكن من دون أن تتراجع عن جهودها لدخول الاتحاد الأوروبي على الرغم من المعارضة الفرنسية والألمانية لها.
يبدو من التطورات الأمنية الأخيرة أن الطريق التي تسلكها تركيا باتجاه نسج علاقات خارجية جديدة لن تكون مزروعة بالورود، وأن حكومة أردوغان ستتعرَّض إلى الكثير من الضغوط السياسية والأمنية في محاولة لإقناعها بالعودة عن دعمها الموقف الإيراني، والتخلّي عن دعم حماس وحزب الله. ويدرك أردوغان مستوى المخاطر التي يواجهها في هذه المرحلة، ومن هنا تبرز المرونة التي يتعامل بها من أجل رأب الصدع الحاصل في علاقاته الأميركية والأوروبية والإسرائيلية، ولكن من دون الربط بين علاقاته الجديدة ومطلب وقف التدهور الحاصل في علاقاته القديمة. لكن تبقى الأمور مرتبطة إلى حد كبير بالتطورات التي تشهدها الساحة الفلسطينية، حيث عبّر أردوغان في أكثر من مناسبة، عن مدى تعاطفه مع ما يواجهه الشعب الفلسطيني من عمليات قتل واعتقال وظلم. وكانت أبرز المواقف الحادة التي عبّر عنها ضد إسرائيل خلال الندوة التي شارك فيها في قمة "دافوس" الاقتصادية مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز العام 2009، حيث انسحب أردوغان من الندوة متوجهًا إلى بيريز بالقول "عندما يتعلَّق الأمر بعمليات القتل فإنكم تعرفون كيف تقتلون".
لا يمكن توقع حصول أي تصدّع سياسي داخل تركيا في ظل الدعم الشعبي الواسع لحزب العدالة والتنمية، وفي ظل نجاح حكومة أردوغان في اعتماد سياسات اقتصادية واجتماعية ناجحة بكل المقاييس. فالمصارف التركية لم تتأثر بالأزمة المالية الدولية، كما أن نسبة النمو الاقتصادي ما زالت تراوح بين 5 و7 في المائة، وأن الدخل الفردي بالنسبة للناتج الوطني العام هو في مستوى 12500 دولار أميركي. ومن هنا، فإنه لا يتوقَّع أن تؤدي الضغوط الأمنية إلى أي تغيير في السياسة الخارجية الجديدة.
تركيا تتحوَّل إلى لاعب إقليمي رئيس
يعتبر وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو المهندس الفعلي للسياسة الخارجية التي تنتهجها تركيا منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قبل ثماني سنوات. وكان قد وضع القاعدة الأساسية لهذه السياسة والتي تقول "لا خلافات مع الدول المجاورة". كما أظهر حماسة خاصة لإصلاح العلاقات مع سوريا على اعتبار أنها تشكِّل المدخل الطبيعي لتحرك تركي واسع باتجاه الدول العربية وإيران. ولاحظ أن نسج علاقات جديدة مع دمشق سيعطي لأنقرة إمكان الدخول على خط الأزمات الكبيرة في العراق وفلسطين ولبنان.
جادل أوغلو من موقعه الأكاديمي في أوج فترة العلاقات المأزومة مع سوريا العام 1998 عن جدوى التعاون مع إسرائيل في إنشاء محطة للاستعلام الإلكتروني يمكن من خلالها تتبع نشاطات حزب العمال الكردستاني، معتبرًا أن ذلك يشكل سببًا لعزل تركيا عن محيطها الجيو – استراتيجي، وسيمنع بالتالي حصول أي تطور إيجابي في العلاقات مع سوريا. بعد نجاح حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2002 وجد فرصته الذهبية لوضع أفكاره حول نسج علاقات تعاون سياسي واقتصادي وثيقة مع دول الجوار (بدءًا من سوريا) موضع الاختبار الفعلي، وقد حقَّقت نجاحًا باهرًا في إرساء قواعد هذه العلاقات الجديدة.
شكَّلت الخطوة التي اتخذتها حكومة عبد الله غول لإعلان استقلالية قرار تركيا في ما يعود للحرب الأميركية على العراق العام 2003 تطورًا نوعيًا، ما انعكس إيجابًا على زيارة غول إلى دمشق حيث قوبل بالترحيب والمديح.
رفضت تركيا خلال السنوات اللاحقة لاحتلال العراق المشاركة في أي مخطَّطات أميركية تهدف إلى تطويق سوريا وعزلها، وهذا ما رأت فيه دمشق تطورًا مهمًا ومشجعًا للدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل برعاية تركية. وعقدت بالفعل أولى جلسات المفاوضات غير المباشرة في ربيع العام 2008، برعاية مباشرة من عبد الله غول ومستشاره الخاص أحمد داوود أوغلو، وتولَّى رئيس الحكومة رجب طيّب أردوغان استكمال هذه المهمة بعد انتخاب عبد الله غول رئيسًا للجمهورية العام 2008.
بعد انتخاب أوباما عملت الدبلوماسية التركية على خطَّين: خط المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل، وخط دعم المساعي الأميركية الجديدة لمعاودة المفاوضات على المسار الفلسطيني، وذلك على الرغم من الغضب الذي عبّر عنه أردوغان بسبب سياسة إسرائيل تجاه قطاع غزة، واستعمالها المفرط للقوة. وأبدت تركيا في هذا الإطار دعمها الجهود العربية من أجل تحقيق مصالحة بين السلطة الفلسطينية ومنظمة حماس، معتبرة أن ذلك يشكل حجر الزاوية في أي جهود تبذل لمعاودة المفاوضات. وبذلت الدبلوماسية التركية الجهود الممكنة كلها لإجراء مصالحة مصرية – سورية تبدأ عبر زيارة يقوم بها الرئيس بشار الأسد إلى القاهرة، ولكنها لم تتكلَّل بالنجاح، وإنما حققت نتائج إيجابية في مسار إصلاح العلاقات السعودية – السورية.
لم تقتصر الجهود التركية – السورية المشتركة على موضوع استئناف مفاوضات السلام أو المصالحات العربية، بل تعدَّت ذلك إلى تنسيق مواقف الدولتين في شأن العراق الذي يحتل نطاقًا حيويًا بالنسبة إلى كل منهما، حيث أنهما عبّرا عن نيتهما القيام بكل الخطوات التي يمكن أن تحافظ على وحدة العراق، وسلامة أراضيه، وتحقيق استقراره، بما يسهّل خروج القوات الأجنبية في أقصر وقت ممكن.
فتحت الدبلوماسية الهادئة والعاقلة التي انتهجتها تركيا في مقاربتها مختلف أزمات منطقة الشرق الأوسط جميع الأبواب أمامها لتصبح أبرز لاعب في تقرير التوجهات المستقبلية للمنطقة التي تمتد بين بحر قزوين والبلقان. هذا الواقع الجديد أتاح لـ"الدبلوماسية الناعمة"، التي نادى بها ومارسها أحمد داوود أوغلو، فرصة الدخول على خط الأزمة الدولية المتفاقمة حول البرنامج النووي الإيراني، والتي تكلَّلت بتوقيع الاتفاق الخاص بتبادل اليورانيوم الإيراني على الأراضي التركية[26].
الهجوم على أسطول الحرية
في 31 أيار/مايو 2010 قتل تسعة ناشطين أتراك في إغارة إسرائيلية على المركب "مافي مرمره"، أحد المراكب المشاركة في حملة أسطول الحرية المتوجهة إلى قطاع غزة لكسر الحصار الذي تفرضه إسرائيل عليه منذ ما يقارب أربع سنوات. وتألَّف هذا الأسطول من ستة مراكب، وشارك في الحملة الإنسانية 663 شخصًا من 37 دولة، وكان بينهم بعض الفلسطينيين والصحافيين ونشطاء حركة حقوق الإنسان[27].
حدث الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية في المياه الدولية ما يعتبر انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. وكان من الواضح أن إسرائيل قد لجأت إلى الاستعمال المفرط للقوة وكأنها تريد أن تعطي درسًا بحيث لا تتكرَّر محاولات كسر الحصار عن القطاع في المستقبل. واستهدف الهجوم مؤسسات تركية تعنى بحقوق الإنسان ما يشكل تحديًا للحكومة التركية بقيادة حزب العدالة والتنمية.
كان من المتوقع أن يتسبَّب الهجوم بأزمة حادّة في العلاقات التركية – الإسرائيلية، حيث كان معظم المشاركين في الحملة من المواطنين الأتراك، وكان أحد المراكب يحمل العلم التركي. ولم تكن صدفة أن تستهدف القوة الإسرائيلية في هجومها المركب التركي، وأن يتسبَّب ذلك بمقتل تسعة مواطنين أتراك.
وصف رئيس الوزراء التركي الهجوم الإسرائيلي بأنه يقع تحت عنوان "إرهاب الدولة"، مضيفًا أن إسرائيل قد "برهنت أنها لا تريد السلام في المنطقة، وأنها قد انتهكت القانون الدولي". كان رد الفعل التركي سحب السفير التركي من تل أبيب، واستدعاء السفير الإسرائيلي في أنقرة إلى وزارة الخارجية لتقديم الشروحات اللازمة حول الهجوم. ودعت أنقرة أيضًا مجلس الأمن الدولي إلى عقد جلسة طارئة مطالبة بفرض عقوبات ضد إسرائيل على هجومها غير المبرر على القافلة في المياه الدولية[28].
أصدرت وزارة الخارجية التركية على أثر الهجوم الإسرائيلي بيانًا قالت فيه "إننا ندين هذه الممارسات غير الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل. يشكِّل هذا الحادث المشين الذي وقع في أعالي البحار انتهاكًا فاضحًا للقانون الدولي، وقد يؤدي إلى نتائج لا يمكن إصلاحها في علاقاتنا المشتركة"[29].
في الثاني من حزيران/يونيو عقدت الجمعية الوطنية الكبرى (البرلمان التركي) اجتماعًا لتدارس الهجوم الإسرائيلي فاتخذت قرارًا بضرورة إعادة النظر في العلاقات مع إسرائيل، كما طالبتها بضرورة تقديم اعتذار رسمي إلى تركيا، وبوجوب دفع التعويضات اللازمة عن أعمالها ضد أسطول الحرية، وخصوصًا لجهة التعويض على أهالي القتلى الأتراك.
أثار الهجوم الإسرائيلي ومقتل تسعة مواطنين سخط الرأي العام التركي وغضبه، وقد تسبَّب ذلك بالضغط على القيادات التركية من أجل الرد على الهجوم باتخاذ الخطوات المناسبة، ما دفع بالرئيس عبد الله غول إلى التحذير من أن العلاقات مع إسرائيل لا يمكن أن تبقى على ما كانت عليه.
لكن المعلق السياسي التركي صولي أوزال رأى أن رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان سيحاول تجنُّب إصابة العلاقات التركية – الإسرائيلية في المدى البعيد بأضرار لا يمكن إصلاحها، "انصب اهتمامي على رؤية رئيس الحكومة (أردوغان) يصرّ على التفريق ما بين عدم إمكان التعامل مع الحكومة الإسرائيلية الراهنة ودولة إسرائيل، ما يترك المجال للتعاون من جديد عندما تتغيّر الحكومة الحالية. من المؤكد أنه سيكون من الممكن تحسين العلاقات"[30].
ويرى المراقبون أن دعم رئيس الوزراء أردوغان للقضية الفلسطينية، وتقرُّبه من القادة العرب سيقوي شعبيته ويجعلها أكثر تماسكًا تحضيرًا لانتخابات جديدة ستجري بعد سنة. ويرى هؤلاء أن رئيس الوزراء يدرك أنه سيترتب على هذا الخيار تداعيات خطيرة في العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة، وهي علاقات يحرص على الحفاظ عليها لأسباب عديدة[31].
يمكن تلخيص الموقف بعد الهجوم على الشكل الآتي:
في الجانب التركي: استدعت الحكومة سفيرها في إسرائيل كبادرة احتجاج دبلوماسي وسياسي على الهجوم، كما منعت إسرائيل من المشاركة في التمارين العسكرية التي تجري فوق أراضيها، وأيضًا منعت تحليق الطائرات الإسرائيلية في أجوائها. وتهدِّد أنقرة باتخاذ مزيد من الخطوات الدبلوماسية التصعيدية بحق إسرائيل إذا لم تبادر إلى الاعتذار، والتعويض على أهالي الضحايا، والقبول بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الحادث وفي أسباب لجوء الكوماندوس الإسرائيلي لاستعمال السلاح ضد نشطاء غير مسلحين.
في الجانب الإسرائيلي: عمدت إسرائيل إلى سحب مستشاريها العسكريين من تركيا، وحذَّرت مواطنيها من زيارة تركيا، كما رفضت الاعتذار العلني، وأيضًا دفع تعويضات لعائلات القتلى والجرحى ممن كانوا على متن السفينة "مافي مرمره". كما تعارض تشكيل لجنة دولية للتحقيق خوفًا من إدانة جديدة كالتي واجهتها من جراء نتائج التحقيق الدولي الذي أشرف عليه القاضي غولدستون حول حرب غزة. وتعتبر بالمقابل أن التحقيق الخاص الذي تقوم به بحضور مراقبين أجانب يفي بالغرض من أجل كشف ملابسات الحادث الأمني[32].
في المقلب الآخر يقوم أصدقاء إسرائيل في الكونغرس الأميركي بصب المزيد من الزيت على النار من خلال تصريحاتهم وتهديداتهم بمعاقبة الحكومة التركية إذا ما استمرت في نهج التصعيد ضد إسرائيل. وعبّر عن وجود مثل هذه الأجواء العدائية لتركيا داخل الكونغرس النائب الجمهوري عن ولاية إنديانا مايك بانس بقوله "سيكون هناك ثمن تدفعه تركيا إذا استمرت في توجهاتها الراهنة"[33].
في ظل هذه الأجواء المتوترة، تبقى الأزمة الراهنة مفتوحة على كل احتمالات التصعيد إذا لم تبادر الولايات المتحدة إلى استعمال ما تملكه من وسائل الضغط على الطرفين من أجل إيجاد المخارج اللازمة لاحتواء الأزمة.
تقييم أولي لنتائج الهجوم
في تقييم أولي لنتائج الهجوم الإسرائيلي على "أسطول الحرية" الذي أعدَّته تركيا لفك الحصار عن قطاع غزة، يبدو بوضوح أن القرار الإسرائيلي باللجوء إلى القوة ضد الناشطين الأتراك كان يفتقد إلى الحكمة السياسية، وإلى الحسابات والتحليلات التي يجب أن تسبق اتخاذ الخطوة الأولى في أي عمل عسكري، حيث يفترض أن تدرس نتائج الخطوة الأخيرة بالدقة نفسها التي جرى فيها الإعداد لتنفيذ الخطوة الأولى.
في حساب النتائج يبدو أن ما سيلحق بإسرائيل من أضرار سياسية وعسكرية يتعدَّى إلى حدٍّ كبير تلك المكاسب التي تدّعي حكومة نتانياهو جنيها من الإبقاء على قطاع غزة محاصرًا منذ أربع سنوات بحجة منع تهريب الأسلحة إليه، وبالتالي حماية بعض المستعمرات القريبة.
كان من المفترض أن تدرك الحكومة الإسرائيلية بعد انتهاء حرب غزة العام 2009 أنه لا يمكن الإستمرار في سياسة التجويع التي تفرضها على أكثر من مليون فلسطيني من خلال الإستمرار في تدابير الحصار البري والبحري والجوي إلى ما لا نهاية. ويبدو أن سياسة التعنُّت التي اعتمدتها القيادات السياسية اليمينية، وسياسة الغطرسة الإسرائيلية التي درجت على اعتمادها القيادات العسكرية قد أقفلتا الباب أمام أي اجتهاد للبحث عن مخارج مرنة تسمح بفك الحصار بصورة تدريجية من خلال فتح حوار مباشر مع حماس، والعمل على إقامة نظام فاعل لإدارة جميع المداخل إلى قطاع غزة، بما فيها المرفأ، بإشراف أوروبي أو دولي. إن ارتكاب مثل هذه الأخطاء من قبل القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل ليس بالأمر الجديد، حيث لا يمكن القفز فوق الأخطاء الإستراتيجية الكبيرة التي ارتكبتها تكرارًا في لبنان سواء من خلال غزوها للبنان العام 1982 أو من خلال احتلال الشريط الحدودي جنوب نهر الليطاني لفترة تزيد على عقدين، أو من خلال شنها حرب تموز/يوليو 2006 على لبنان انطلاقًا من اعتقادها بإمكان تدمير حزب الله بواسطة سلاحها الجوي وفائض نيرانها البرية والبحرية.
من البدهي أن نخرج من هذا التقييم الأولي بإستنتاج أساسي يقول إن إسرائيل قد فقدت من خلال قصر نظرها السياسي وغطرستها العسكرية ثاني أهم حليف لها في العالم بعد الولايات المتحدة، وصديقًا عزيزًا لها في المنطقة. من المقدّر ألا يكون باستطاعة إسرائيل تصحيح هذا الخطأ وإعادة بناء علاقات طبيعية مع تركيا في المستقبل المنظور، فالعمل العسكري الذي نفَّذته إسرائيل ضد الناشطين الأتراك على ظهر أسطول الحرية ترك جرحًا عميقًا في كبرياء الشعب التركي وقياداته السياسية. لقد عبّر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بصورة واضحة، عن هذا الموقف في معرض خطابه أمام البرلمان التركي حيث وصف العمل الإسرائيلي "بإرهاب الدولة" وبأنه عمل يتعارض مع القانون الدولي، خصوصًا أن الهجوم قد جرى تنفيذه في المياه الدولية.
أدت هذه الغطرسة الإسرائيلية إلى تخريب العلاقات الدبلوماسية التي بدأت منذ 28 آذار/مارس 1949 عندما قررت تركيا كأول بلد مسلم، إنشاء علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، حيث يمكن الإعلان عن نهاية هذا التاريخ الطويل من التعاون السياسي والاقتصادي والعسكري والإستراتيجي، بصورة فعلية في 31 أيار/مايو 2010.
في التحليل العام يمكن الإستنتاج أن التدهور الحاصل في علاقات أنقرة مع تل أبيب قد جاء كنتيجة حتمية لسوء القراءة الإسرائيلية للتطورات السياسية داخل تركيا، وخصوصًا لجهة تمكّن القيادة المدنية بعد تبوء رجب طيب أردوغان مقاليد السلطة من السيطرة على القيادات العسكرية التي كانت ولعقود سابقة تقوم بدور الوصاية على الحكم، مع كل ما هو معروف عن علاقاتها الوثيقة مع دولة إسرائيل.
لم تدرك إسرائيل مدى التحول الذي حصل في الرأي العام التركي بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم العام 2002. ولم تلتقط كل المؤشرات الواضحة بأن العلاقات قد بدأت باتباع مسرى جديد سيؤدي في نهاية المطاف إلى تدهور دراماتيكي في علاقاتها مع أنقره. كان من الواضح أن التوجهات السياسية والأيديولوجية للقوى السياسية والشعبية التي أوصلت الثنائي غول – أردوغان إلى الحكم تتعارض كليًا مع سياسة القمع والإستعمار التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. وكان من الواضح أيضًا أن القيادة التركية الجديدة ستبحث عن دور إقليمي جديد، وذلك انطلاقًا من تقديرها بضرورة تعبئة الفراغ الحاصل على المستوى الجيو-استراتيجي في العالم العربي من خلال الإنقسام العربي وتراجع دور كل من مصر والسعودية، وكان من المنتظر أيضًا أن تنتهج تركيا سياسة إقليمية لمواجهة الجهود والسياسات الإيرانية الهادفة إلى الهيمنة على المنطقة العربية من الخليج إلى الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط.
لقد فشلت القيادات الإسرائيلية في التقاط هذه المؤشرات والتي تفضي إلى استنتاج واحد يركِّز حول حاجة تركيا إلى استعمال ما يجري في فلسطين كوسيلة لممارسة الضغط على إسرائيل وذلك انسجامًا مع مشاعر قواعدها الشعبية (ذات التوجه الإسلامي)، ومواجهة الهجمة الإيرانية على المنطقة من خلال بوابة الصراع العربي – الإسرائيلي وحقوق الشعب الفلسطيني.
وشكَّل التقارب التركي – السوري "المتسارع" أفضل دليل على حاجة تركيا إلى حليف قوي مثل سوريا من أجل خدمة مخططها للدخول كلاعب أساسي على المسرح الشرق أوسطي، والذي سيؤدي حتمًا إلى تصادم مع كل من إسرائيل وايران في المستقبل المنظور.
أعطت إسرائيل من خلال لجوئها إلى الإستعمال المفرط للقوة على ظهر السفينة "مافي مرمرة" الفرصة لتركيا لاتخاذ دور الحامي للشعب الفلسطيني الأعزل في مواجهة سياسة الظلم الإسرائيلي. وتشهد العلاقات التركية – الإسرائيلية تداعيات دراماتيكية منذ الإهانة التي تعرَّض لها السفير التركي في وزارة الخارجية الإسرائيلية، ويمكن اعتبار الهجوم العسكري على أسطول الحرية بمنزلة المبرّر الذي كانت تبحث عنه أنقرة لاعتماد لغة التصعيد، والتي نتج عنها استدعاء السفير التركي لدى إسرائيل وإلى إلغاء مشاركة إسرائيل في ثلاثة تمارين عسكرية تجري على الأراضي التركية. ويبدو أنه بات من الصعب جدًا وقف التدهور الحاصل في العلاقات التركية – الإسرائيلية في الزمن المنظور. لم يبق بإمكان إسرائيل معالجة هذا الوضع المتدهور، سواء من خلال حصول تغيير في طبيعة الحكم في تركيا، وهو أمر مستبعد حصوله في الوقت الراهن، أو من خلال تغيير السياسة التي تنتهجها إسرائيل تجاه حماس وقطاع غزة مع طلب الوساطة التركية بعد كل المصاعب التي واجهتها المحاولات المصرية لاحتواء حماس، وهو أمر يستبعد حصوله مع نتانياهو.
هذا هو المخرج الوحيد لرأب الصدع في العلاقات التركية – الإسرائيلية وهو سيعطي لتركيا من دون أدنى شك، في حال اعتماده من قبل إسرائيل، فرصة الدخول كلاعب أساسي في تقرير مستقبل منطقة الشرق الأوسط، واستعادة قدر كبير من نفوذها ودورها التاريخيين.
من التحالف الإستراتيجي إلى القطيعة الديبلوماسية
يبدو أن جذور أزمة العلاقات التركية – الإسرائيلية تمتد إلى أبعد من المواجهة التي حصلت بين رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في أثناء ندوة شاركا فيها في دافوس مع أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون وأمين عام الجامعة العربية عمرو موسى، حيث تبادلا (أردوغان وبيريز) عبارات قاسية، رأى فيها العديد من المراقبين خطرًا حقيقيًا على مستقبل العلاقات الإستراتيجية بين أنقرة وتل أبيب. وقد شكّل هذا الحادث المذكور سببًا للكشف عن عمق الأزمة الصامتة القائمة بين البلدين.
شهدت العلاقات المشتركة تطورًا إيجابيًا خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، حيث تحوّلت من علاقات عادية بينهما إلى علاقات استراتيجية على الصعيدين السياسي والعسكري. لكن مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة العام 2002، ومع بداية الحرب الأميركية على العراق العام 2003 بدا واضحًا أن هناك اختلافًا كبيرًا في الأهداف والأولويات لما يعود لمجريات الحرب على لبنان وغزة، وأيضًا لما يعود لإعادة بناء مستقبل العراق. تركَّزت الهواجس التركية حول إمكان قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق مع كل ما يحمل هذا الاحتمال من تعقيدات سياسية وأمنية ستؤثر على الاستقرار في مناطق تركية واسعة.
في المقابل كانت إسرائيل ترى أن هناك مصلحة لها في تقسيم العراق وبالتالي في نشوء دولة كردية، وهو أمر طالما سعت إسرائيل إلى تحقيقه عبر المساعدات التي كانت تقدمها للأكراد لعدة عقود ماضية.
لم يكن بإمكان أي مراقب متتبع للعلاقات التركية – الإسرائيلية التنبؤ بحدوث مثل هذه التداعيات السلبية بين البلدين، سواء من خلال مراجعة العلاقات الإيجابية التي نشأت بين الأتراك واليهود أيام السلطنة العثمانية على أثر اضطهاد اليهود في إسبانيا في القرن الخامس عشر، أو من خلال مراجعة نمو العلاقات خلال عقد التسعينيات والتي بلغت أوجها من خلال توقيع اتفاقية التعاون العسكري العام 1996.
لم تسلم العلاقات التركية – الإسرائيلية من التساقطات الضارَّة التي تسبَّبت بها هجمات 11 أيلول/سبتمبر العام 2001، فقد أدت هذه الأحداث إلى تغيير أساسي في تحسُّس مصادر التهديد الأمني بالنسبة إلى إسرائيل وتركيا. وعلى الرغم من شعور الطرفين بضرورة إخفاء هذا الاختلاف في تقدير مصادر التهديد الإرهابي، بدت إسرائيل جاهزة لإعادة تقييم علاقاتها من زاوية جديدة، وعلى خلفية أن تركيا هي بلد إسلامي، وأن الحكم الجديد المتمثِّل بحزب العدالة والتنمية الذي وصل إلى الحكم العام 2002، يمثل التيار الإسلامي داخل تركيا، وسيكون من الصعب ضبط سلوكيته والوثوق بمواقفه.
شعرت إسرائيل بأنها أمام اختبار ثقة لعلاقاتها مع تركيا، حيث بدأت التساؤلات حول قدرة تركيا على الوفاء بالتزاماتها تجاه إسرائيل، وخصوصًا عندما يتعلَّق الأمر بالتناقض الحاصل بينهما لكل ما يجري في العراق وشماله. كان الشعور التركي العام بأن ما تقوم به إسرائيل في شمال العراق يشكل تهديدًا مباشرًا لاستقرار المناطق الكردية داخل تركيا.
أما بالنسبة إلى تركيا فقد ظهر بوضوح أنها بدأت تتحضَّر لاعتماد سياسة خارجية وأمنية جديدة تحقِّق لها مصالحها في ظل التحولات الكبيرة التي طرأت على المستويين الإقليمي والدولي. ولا بدّ من الإشارة أيضًا إلى التوجهات الجديدة التي حملها حزب العدالة والتنمية إلى الحكم اعتبارًا من العام 2002، والتي ركَّزت على تحقيق هدفين سياسيين كبيرين:
الأول: الاستفادة من الدعم الشعبي لإرساء قاعدة صلبة لحكم مدني قادر على الحفاظ على الأمن والاستقرار، وتكريس بقاء السلطة في أيادي الحكم المدني المنتخب ديمقراطيًا، وتخليصه بالتالي من قبضة جنرالات الجيش.
الثاني: اعتماد رؤية جديدة للسياسة الخارجية من خلال مقاربة فلسفية تتمحور حول فكرة "لا خصومة مع الجيران"، والتي تقدّم بها مستشار أردوغان أستاذ العلوم السياسية أحمد داوود أوغلو، الذي انتقل لاحقًا ليكون وزير الخارجية.
في ظل هذا التبدل في بنية النظام السياسي التركي وتوجهاته السياسية الجديدة بدأت العلاقات مع إسرائيل تشهد بعض التوتر، كما تراجعت قواعد الثقة المتبادلة بين الدولتين. ولم تنجح الزيارات الرسمية المتبادلة أو توقيع عقود لشراء السلاح الإسرائيلي في تبديد الهواجس الجديدة المتبادلة، وخصوصًا تلك المتعلقة بالشكوك التي خامرت النخب السياسية والثقافية التركية حول النشاطات الإسرائيلية المشبوهة مع الأكراد في شمال العراق.
ساهمت عدة مواقف أعلنتها القيادتان التركية والإسرائيلية بالإضافة إلى بعض الأحداث الطارئة إلى ظهور أجواء من العداء ضد أردوغان داخل إسرائيل. وبلغ التوتر في العلاقات ذروته بسبب الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية حيث وصلت إلى مستوى بات يهدد كل الانجازات التي تحققت خلال ما يزيد على ستة عقود من العلاقات الودية. لقد شكّل هذا الهجوم صدمة كبيرة للشعب التركي وحكومته على حد سواء، حتى أن جنرالات الجيش المتعاطفين مع إسرائيل رأوا أنه لا يمكن القبول بالعمل الذي قامت به إسرائيل والذي أدّى إلى مقتل تسعة مواطنين أتراك.
عكس الرئيس عبد الله غول في خطابه في قمة بناء الثقة مع الدول الآسيوية في إسطنبول في 8 حزيران/يونيو، مدى شعور السلطات التركية بالسخط والغضب على ما قامت به إسرائيل، وأنه يجب أن تشعر هذه بالألم على الخطأ الذي ارتكبته، وأن تركيا لن تسمح لها بالتهرب من مسؤولياتها عن هذا الحادث، وأن "الأفعال ستكون أرفع صوتًا من الكلمات".
يبدو أن العلاقات التركية – الإسرائيلية تخضع الآن لاختبار كبير يضعها على مفترق بحيث أنها باتت مهدَّدة بالانتقال من حالة التحالف الإستراتيجي إلى حالة من المقاطعة والعداء، ولكن مع قناعة راجحة لدى الدولتين بعدم إمكان الانتقال إلى أي مواجهة عسكرية كبيرة أو محدودة بينهما.
تدعو الأجواء الراهنة إلى الاعتقاد بان التدهور الحاصل يمكن أن يستمر، وأن يصل إلى حد قطع العلاقات الديبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب، خصوصًا بعدما دلّت الإحصاءات الأخيرة على انتشار مشاعر العداء لإسرائيل لتشمل الأكثرية الساحقة من الشعب التركي.
يبقى السؤال المطروح الآن: هل تحرَّرت تركيا فعلاً من كل قيود "الحجر السياسي" الإقليمي الذي فرضه عليها التحالف الإستراتيجي مع إسرائيل خلال ستة عقود؟ وما هي طاقة الدول العربية وقدرتها على توظيف الاختلاف وتحويله إلى قطيعة ديبلوماسية؟
العلاقات التركية - العربية
من المؤكد أنه لا يمكن بحث العلاقات التركية – الإسرائيلية بمعزل عن العلاقات التركية – العربية، وذلك يعود إلى أهمية الدور الذي يمكن أن تضطلع به تركيا في الصراع العربي – الإسرائيلي، وفي رسم السياسات المؤثرة على مستقبل منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا بعد أن بدأت الحكومة التركية بالاضطلاع بدور يضعها في مركز الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية في المنطقة. لا يمكن لتركيا أن تقوم بدور المتفرِّج على هذه التطورات، بل ستكون في نقطة المركز لهذه الأحداث. إذا نظرنا إلى الدور التركي الجديد في المنطقة، فإن تركيا لن تكون مصدرًا لمشكلات جديدة بل ستكون قوة فعّالة في حل المشكلات القائمة سواء بينها والدول الأخرى، أو الدول الأخرى كوسيط، "وستأخذ (تركيا) دورًا إيجابيًا في العلاقات التركية – العربية، ويجب ألا ننظر إلى وجود تركيا في مركز الشرق الأوسط على أنه أمر سلبي، أي أنه لا يمكن أن يكون مشجعًا للحروب، بل ستكون موجودة في لب التطورات في الشرق الأوسط بشكل إيجابي وبأدوات اقتصادية وثقافية"[34].
إن رغبة تركيا في التحول شرقًا أي باتجاه الدول العربية والإسلامية ليست جديدة، ولم تبدأ منذ الحرب الإسرائيلية على غزة في نهاية العام 2008، أو مع الهجوم على أسطول الحرية. كما يبدو أن هذه الإندفاعة التركية لبناء علاقات واسعة ووثيقة مع دول المنطقة ليست وليدة هبّة عاطفية، بل تنطلق من مصالح تركيا العليا، والتي بدأت أنقرة بتحسسها في عقد السبعينيات من القرن الماضي، وخصوصًا بعد دخول قواتها إلى الجزء التركي من جزيرة قبرص العام 1974، واستضافتها قمة منظمة المؤتمر الإسلامي العام 1976. لكن التطوُّر الفعلي في هذه التوجهات التركية شرقًا قد بدأ فعلاً بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة العام 2002. ويعتمد التقارب التركي – العربي على مصالح اقتصادية تخدم الطرفين، بالإضافة إلى حاجتهما إلى إحداث توازن إيجابي بعيدًا عن أي نزعة للهيمنة السياسية أو سياسات الاستقطاب والدخول في محاور أو أحلاف عسكرية أو أيديولوجية، على غرار ما حدث في عقد الخمسينيات.
يقتضي لفهم التحول الجديد في العلاقات التركية – العربية، وإدراك مفاعيل الدور التركي الجديد، طرح مجموعة من الأسئلة أبرزها: لماذا زادت وتيرة الإندفاعة التركية نحو الشرق، وهل هي بديل لعلاقات تركيا مع الغرب؟ هل سيؤدي هذا التحول إلى بناء علاقات إستراتيجية دائمة ومستقرة، أم أنه حركة تخدم مصالح حزب العدالة والتنمية بصورة مؤقتة؟ ما هو التعارض بين هذا التقارب مع الدول العربية وعلاقات ومصالح تركيا بكل من الولايات المتحدة وإسرائيل؟ هل الدول العربية مهيأة للتفاعل مع التوجهات التركية الجديدة والاستفادة منها لتصحيح الخلل الحاصل في الموازين الإقليمية، والذي تسبَّبت به الحرب على العراق، والحرب الإسرائيلية على لبنان وغزة، والصراع الدائر حول البرنامج النووي الإيراني؟
من المؤكد أن تركيا ليست غريبة عن المنطقة العربية، فهناك أربعمائة سنة من التاريخ المشترك بين السلطة العثمانية والعرب، وتعود فترة الانفصال بينهما إلى قرار أتاتورك بسلخ تركيا عن محيطها الإسلامي والتوجه بها نحو أوروبا والغرب. وتوطَّدت علاقات تركيا بالغرب بهدف الاستفادة منها للوقوف في وجه الاتحاد السوفياتي. وانضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي العام 1952، وكانت أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل العام 1949.
هناك رغبة تركية – عربية مشتركة في التعاون سياسيًا، خصوصًا وأن حكومة العدالة والتنمية قد شددت على توجهاتها "بحل مشكلاتها مع دول الجوار"[35]. وتجد الدول العربية في هذا الإعلان ضمانة أن تركيا لن تكون دولة توسعية، وليس لديها أجندة مذهبية أو عرقية تخدمها، وأنها ستبقى دولة علمانية، بالإضافة إلى أن عضويتها في حلف شمال الأطلسي تضبط سلوكيتها العسكرية، وأنها لن تنجر في ظل الضوابط التي يفرضها الحلف إلى مغامرات عسكرية مع أي من دول المنطقة.
ويرى وزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو أنه "يجب على المثقفين العرب خصوصًا أن لا يشكِّكوا أبدًا بإرادة صنّاع القرارات السياسية في تركيا. لقد بيّنا ذلك مرات عدة من خلال السياسات التي اتبعناها خلال السنوات الماضية. لقد أوجدت تركيا مبادرة استطاعت من خلالها جمع كل دول المنطقة قبل الحرب على العراق، حيث كان معظم الدولة يلتزم الصمت منتظرًا ما سيحدث... فمبادرة الدول المجاورة للعراق هي الوحيدة التي تستطيع الحافظ على وحدة الأراضي العراقية، وهي الضمانة الوحيدة لذلك"[36].
أثَّرت الحرب الباردة على نظرة تركيا إلى العالم العربي، وخصوصًا من موقعها كعضو في حلف شمال الأطلسي في وقت كان فيه بعض الدول العربية مثل سوريا ومصر والعراق أقرب إلى الاتحاد السوفياتي. ومن هذا الموقع لم يكن في وسع تركيا تطوير علاقاتها مع هذه الدول حتى وإن رغبت في ذلك. إن تقسيم العالم إلى معسكرين كبيرين أدى إلى تكريس الفرقة بين تركيا ومعظم الدول العربية. أما اليوم وبعد انتهاء الحرب الباردة، ومع تغيير المعايير السياسية، ووعي القيادة التركية إلى أهمية بناء علاقات وثيقة مع دول الجوار، فإن الطرفين التركي والعربي قد تحسسا الحاجة إلى التقارب والتعاون سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. ويحتم الوضع الجديد أن يعملا على تنمية علاقاتهما بقدر طموح شعوبهما.
يبدو من المعطيات والأجواء الراهنة أن مقومات النجاح متوافرة، ولكن استمرارها يرتبط بالتطورات التي يمكن أن تشهدها تركيا في الداخل، أو بسبب المعوقات التي يمكن أن تقف في طريقها بفعل تأثير الضغوط الأميركية أو الأوروبية أو الإسرائيلية. يتوقَّف ثبات العلاقات التركية – العربية على استقرار العلاقة بين حكومة أردوغان والمؤسسة العسكرية، ومدى رضاها على خيارات الحكومة. وهنا لا بدّ من التذكير بالمصير الذي انتهت إليه حكومة حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان وذلك على خلفية محاولته تجميد اتفاقية التعاون العسكري مع إسرائيل. وقدّم أربكان استقالته في 18 حزيران/يونيو 1998، في ما عُرف آنذاك بالانقلاب الأبيض.
سيبقى التحالف العسكري التركي – الإسرائيلي مصدر قلق لعدة أطراف ودول عربية، وسيؤدي أي تبدّل في النخب السياسية الحاكمة إلى تجميد أو انهيار كل الإنجازات التي تحققت في ظل حكومة أردوغان، وخصوصًا إذا عاد العسكريون إلى السلطة أو في حال تشكيل حكومة يمينية جديدة.
تبقى الضمانة لاستمرار التقارب التركي – العربي في قدرة الحكومة الراهنة على تسويق ضرورة التمسك به لدى الأحزاب الأخرى وداخل المؤسسة العسكرية على أنه يمثل مصلحة تركية عليا، وأنه لم يأت لمجرد رغبة مؤقتة أو كرد فعل عاطفي على تطورات إقليمية أو دولية ضاغطة.
السؤال الآخر الملح يتمثّل في مدى قدرة واشنطن وتل أبيب على محاصرة حكومة أردوغان بحيث تلجآن إلى تغذية الخلافات بين الجيش والحكومة، وصولاً إلى التورط في تشجيع تنفيذ انقلاب عسكري. أما الخيار الآخر لممارسة أقسى أنواع الضغوط الأمنية من خلال دعم تحرك الأكراد الانفصاليين (وظهرت بوادر من هذا القبيل في الفترة الأخيرة) في محاولة لزعزعة نظام الحكم في أنقرة. إن حريّة الحركة المتاحة لإسرائيل في شمال العراق تعطي إسرائيل القدرات اللازمة لإعادة تحريك حزب العمال الكردستاني. إذا تطوّر الخلاف التركي – الأميركي نحو الأسوأ بسبب موقف تركيا المتعارض مع الموقف الأميركي في شأن المشروع النووي الإيراني، عندها يمكن توقع قيام واشنطن بممارسة أنواع الضغوط كلها ضد حكومة أردوغان من خلال الورقة الكردية وعلاقتها بحقوق الإنسان أو على خلفية المذابح "المزعومة" ضد الأرمن، والتي ما زالت تحظى بأصداء قوية داخل الكونغرس الأميركي.
هناك رغبة تركية – عربية مشتركة للتعاون الاقتصادي، خصوصًا بعد القفزة النوعية التي حققها الاقتصاد التركي، والذي يأتي في المرتبة 15 عالميًا، والأكبر بين الدول الإسلامية. يمكن لتركيا من خلال خصوبة أراضيها وتوافر المياه أن تتحوَّل إلى سلة غذاء المنطقة العربية، خصوصًا بعد تنفيذ مشروع جنوب شرق الأناضول، الذي يهدف إلى زراعة ملياري هكتار، باستثمارات تصل إلى 12 مليار دولار[37].
تحتل تركيا موقعًا سياحيًا بارزًا في المنطقة حيث من المتوقع ارتفاع عدد السيّاح مع نهاية العام 2010 إلى 30 مليون سائح. وتقترب قيمة الاستثمارات الخارجية من 25 مليار بعد أن كانت 1.1 مليار دولار في نهاية العام 2001. كما ارتفع حجم الاقتصاد التركي ليبلغ 890 مليار دولار، مع توقعات بإمكان ارتفاعه إلى تريليون دولار العام 2022. ويمكن من خلال الثروة المائية التي تملكها تزويد دول الخليج كميات كبيرة من المياه العذبة بما يسمح بتحسين الزراعة والخدمات في هذه الدول.
يقوم التقارب التركي – العربي على المصالح الاقتصادية المشتركة للطرفين، والتي لا يجب أن تقتصر على مجال التبادل التجاري الذي يصب في مصلحة تركيا بل أن يتعداه إلى مشاريع مشتركة يستفيد منها الطرفان. وسيتطلَّب ذلك تعاونًا واسعًا بين تركيا والأطراف العربية الرئيسة مثل سوريا ومصر والمملكة العربية السعودية. يجب أن تقوم علاقات تركيا مع هذه الدول على تقاطع المصالح الإستراتيجية، وليس على أساس استئثار تركيا بالنفوذ من خلال استغلال الأوضاع الصعبة التي يواجهها الفلسطينيون أو من خلال استغلال حالة عدم الاستقرار التي يواجهها العراق[38].
تركت الحرب على العراق انعكاساتها على مجمل الوضع الجيو-استراتيجي لتركيا حيث شعرت أنها قد أصبحت خارج المعادلة العراقية وخصوصًا لجهة التأثير المباشر في التوازنات الداخلية العراقية. وقابل ذلك صعود بارز للدورين الكردي والإيراني في الصيغة الجديدة الناتجة عن الحرب. وفقدت تركيا بسبب عدم مشاركتها في الحرب قيمتها العسكرية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن موقف تركيا من الحرب قد وضعها في موقع يتجانس مع المزاج الشعبي العربي ما شجعها على الاستفادة من هذه الأجواء الإيجابية لتسريع خطوات التقارب مع الدول العربية الرئيسة وخصوصًا مع سوريا، حيث تحررت العلاقات السورية – التركية من التساقطات السامة الناتجة عن العلاقات الخاصة بين تركيا وإسرائيل. واللافت أن العلاقات مع سوريا قد جاءت نتيجة تحولات نوعية في سياسة دمشق الخارجية، حيث أنها لم ترهن تطوير العلاقات مع أنقرة بوقف علاقات تركيا بإسرائيل، وذلك ضمن معادلة واضحة تقول بإن علاقات تركيا بإسرائيل لا تستهدف أمن سوريا. وعلى هذا الأساس خطا الطرفان خطوات تاريخية في بناء علاقاتهما من خلال زيارة أولى للرئيس الأسد إلى تركيا مطلع العام 2004 وأخرى لأردوغان إلى سوريا في نهاية العام 2004، تبعتها زيارة أخرى إلى حلب في ربيع 2007.
يبقى السؤال مطروحًا حول مستقبل هذه العلاقات في حال حصول تطورات سياسية داخل تركيا سواء من خلال هيمنة العسكريين على السلطة من جديد، أو من خلال إقصاء حزب العدالة والتنمية عن رئاسة الحكومة في الانتخابات العامة التي ستجري السنة المقبلة، حيث يتحدث بعض الاستفتاءات عن تراجع شعبية الحزب من 47 إلى 29 في المائة.
إشكالية العلاقات الجديدة مع سوريا
بذلت سوريا جهودًا مكثفة ما بين العامين 2003 و2008 لمواجهة الضغوط التي مارستها إدارة الرئيس جورج بوش من أجل عزلها وإضعاف حكم الرئيس بشار الأسد تمهيدًا لإسقاطه. وشكلت العلاقات مع تركيا (العضو في حلف شمال الأطلسي) محورًا أساسيًا في جهود دمشق لمواجهة الضغوط الأميركية.
دخلت العلاقات التركية – السورية في مرحلة من النضوج السريع أثارت دهشة معظم الدول العربية والإسلامية وإعجابها، كما فاجأت الدول الغربية لدرجة أنها تردَّدت في إعلان موقف حول ما يمكن أن يترتَّب عليها من نتائج وانعكاسات على دور تركيا الأطلسي أو على مستقبل علاقاتها مع إسرائيل. لم تقتصر المفاجأة على إلغاء تأشيرات السفر بين البلدين بل تعدَّت ذلك لتشمل التعاون في المجالات الإنمائية المهمة كالاتصالات، حيث أعلن في أواسط حزيران/يونيو الماضي عن إرساء عقد لتنفيذ 250 كيلومتر من كابلات الاتصالات البصرية على الشركة التركية للاتصالات (شركة مدعومة من الحكومة التركية)، وذلك لتأمين الاتصالات بين سوريا والأردن والمملكة العربية السعودية وربط هذه الدول بتركيا وبالاتحاد الأوروبي[39].
أعطت اهتمامات الحكومة التركية بما يجري في غزة واهتمامها بالقضية الفلسطينية بصورة عامة دفعًا كبيرًا للعلاقات التركية – السورية، وهي علاقات إستراتيجية ومهمة بالنسبة إلى الأمن الوطني التركي بحيث تتمكن أنقرة من خلالها توسيع المعالجات الجديدة التي تعتمدها لحل مشكلة الأكراد وحزب العمال الكردستاني الذي قاده عبد الله أوجلان وأقام له قواعد داخل سوريا قبل اعتقاله.
كان يمكن لإسرائيل تدارك الخلل الحاصل في علاقاتها مع تركيا لو أنها أدركت أهمية إنجاح المبادرة التركية للتوسط بينها وسوريا من خلال المفاوضات غير المباشرة التي رعتها. هذا ما كانت ترمي إليه الديبلوماسية التركية بالفعل مع وجود شعور لديها بإمكان تحقيق اختراق حقيقي باتجاه عملية السلام على المسار السوري – الإسرائيلي. أدى التخريب الإسرائيلي على الرؤية التركية في موضوع المفاوضات مع سوريا بالإضافة إلى تداعيات الحرب على غزة إلى تغذية المشاعر المعادية لإسرائيل داخل تركيا على المستويين الرسمي والشعبي. ولا بدّ من الإشارة إلى تفضيل إسرائيل لدور مصر في التفاوض مع حماس على حساب الدور الذي رغبت تركيا بالقيام به قد تسبَّب بإثارة شكوك أردوغان وولادة رغبة لديه للرد على هذه "الصفعة" الإسرائيلية.
تداعيات العلاقات الأميركية – التركية
تعدّت الخلافات بين الولايات المتحدة وتركيا حدود سوء التفاهم والخلافات العابرة التي يمكن أن تحدث بين حليفين تربط بينهما مصالح إستراتيجية وعلاقات تاريخية، بالإضافة إلى كونهما عضوين مهمّين في حلف شمال الأطلسي. وكانت إدارة بوش قد اعتبرت أن العلاقات مع حزب العدالة والتنمية الحاكم قد دخلت في نفق مظلم بات يستدعي التمني بعودة الجيش التركي إلى ممارسة هيمنته على السلطة المدنية الحاكمة.
تتحدَّث وسائل الإعلام التركية الداعمة لحزب العدالة والتنمية ومعها وسائل الإعلام ذات التوجه الوطني عن نبل المهمة الإنسانية التي تنكبَّها أسطول الحرية، وأن ما قامت به إسرائيل ضده يقارب المؤامرة المدبّرة. في المقابل تتساءل أوساط أخرى عن حصول تبدّل في مصالح تركيا الوطنية، وعن ما إذا كان هذا التبدّل يستدعي إجراء إعادة نظر في علاقات تركيا بالولايات المتحدة وإسرائيل؟
لم تكن تركيا ذلك الحليف "المطيع" دائمًا لأميركا، وهي لم تتصرَّف في أي وقت مضى "كتابع" للسياسة الأميركية ينفذ أوامر "السيادة" من دون تذمّر أو تردّد. سبق لتركيا أن أغلقت القواعد العسكرية الموجودة على أراضيها، كما طلبت سحب بعض القوات الأميركية المتمركزة في هذه القواعد وذلك ردًا على القرار الأميركي بمنع تصدير الأسلحة إلى تركيا كعقاب على احتلالها للجزء الشمالي من جزيرة قبرص.
لم يبادر الحكم في تركيا إلى تقديم الدعم اللازم لحرب الخليج الأولى العام 1991، كما عارض حرب الخليج الثانية، وبطريقة منعت تنفيذ عملية غزو العراق العام 2003 من جبهتين، وذلك من خلال رفض تنفيذ أي هجوم برّي أو جوي من الأراضي التركية. وكان اللافت أيضًا رفض تركيا إرسال قوات عسكرية إلى أفغانستان أسوة بما فعلته الدول الأخرى في حلف الناتو[40].
فات على واشنطن التي اعتادت تثمين العلاقات الإسراتيجية مع أنقرة أن تدرك أنه قد طرأ تبدّل على رؤية تركيا لدورها ومصالحها في ظل المتغيرات التي حدثت على المسرحين الإقليمي والدولي، وأنه قد تراجعت بنتيجة هذه المتغيرات حاجة تركيا إلى المساعدات الأميركية، وبتعويلها على الدعم الذي كانت تتلقَّاه لمواجهة الاتحاد السوفياتي. وأدى التعثر في مفاوضات تركيا لدخول الاتحاد الأوروبي إلى مزيد من التعقيدات في علاقات تركيا بالولايات المتحدة وأوروبا. لكن هذا لا يعني التقليل من اهتمام تركيا بالانضمام إلى الاتحاد.
تحرَّكت حكومة حزب العدالة والتنمية على جبهتين: الأولى، جبهة الاقتصاد حيث نجحت الحكومة من خلال سياسة الانفتاح باتجاه آسيا والشرق الأوسط في تحقيق نمو اقتصادي كبير. وكانت الجبهة الثانية في المجال الدبلوماسي حيث نجحت دينامية رئيس الوزراء أردوغان ووزير خارجيته داوود أوغلو في بناء علاقات واسعة ومتينة مع معظم دول الشرق الأوسط، حيث تواجه أميركا متاعب وتحديات تعجز عن السيطرة عليها على الرغم من انتشارها العسكري الكثيف في أفغانستان والعراق وشبه الجزيرة العربية والخليج وبحر العرب.
وتركزت الخلافات الأميركية – التركية بصورة خاصة حول إيران وإسرائيل. كان من الواضح بأن الهدف الأساسي الذي ينشد أردوغان تحقيقه يتركز على تحويل تركيا إلى قوة إقليمية أساسية (على المستويين السياسي والاقتصادي) بحيث تتحوّل تدريجًا إلى قوة شاملة قادرة على الإضطلاع بالدور الذي تطمح إلى تحقيقه كعقدة وصل للمصالح الأوروبية والأميركية مع دول الشرق الأوسط الأساسية، بما فيها إيران. لا يمكن أيضًا تجاهل الانعكاسات الإيجابية التي يمكن أن تتحقق داخل تركيا من جراء اعتماد هذه السياسة، ومدى حاجة حزب العدالة والتنمية لتوظيفها لزيادة عدد مؤيديه وذلك على خلفية النمو الاقتصادي ودعم الشعب الفلسطيني في نضاله ضد إسرائيل[41].
كانت العلاقات الإسرائيلية – التركية متركزة على العلاقة الخاصة مع الجيش ومع النخب العلمانية، ولم تكن تحظى بالدعم الشعبي. وتسبَّبت دعوة حكومة العدالة والتنمية لخالد مشعل لزيارة أنقرة بتعكير العلاقات مع إسرائيل، وبالتحضير للانزلاق الكبير الذي حدث على خلفية الحرب على غزة في نهاية العام 2008. وقد شكلت هذه الحرب فرصة سانحة لكي ينتزع أردوغان القضية الفلسطينية من أيدي القادة العرب، وقد جاء تحركه هذا في وقت عملت فيه مصر، وبدعم عربي وأميركي لعقد مصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية. استعملت مصر الحصار على قطاع غزة كوسيلة للضغط على حماس للقبول بالمقترحات المصرية للمصالحة، في وقت رفض فيه أردوغان استمرار الحصار، وطالب إسرائيل والولايات المتحدة بضرورة إشراك قيادة حماس في أي مفاوضات مستقبلية، وذلك على الرغم من إدراكه معارضة أميركا لهذا الأمر، مشترطة أن تعلن حماس أولاً رفضها للعنف وقبولها بحل الدولتين وبكل الاتفاقات السابقة بين السلطة وإسرائيل.
كان من الطبيعي أن يتسبَّب مقتل تسعة مواطنين أتراك مشاركين في حملة فك الحصار عن غزة بغضب الشارع التركي والقيادات التركية، وبأن يطالب أردوغان إسرائيل بتقديم اعتذار رسمي للشعب التركي، وبالتعويض على أهل الضحايا، وتشكيل لجنة تحقيق دولية لكشف حقيقة ما جرى، ورفع الحصار عن غزة. لكن لم تؤكد الاتصالات، بما فيها الاجتماع السرّي الذي عقد في بروكسيل يوم الأربعاء 30 حزيران/يونيو 2010 بين أحمد داوود أوغلو ووزير التجارة الإسرائيلي بنيامين بن أليعازر عن وجود أي نيّة لدى إسرائيل للتجاوب مع المطالب التركية الأربعة وخصوصًا مطلب تقديم الاعتذار الرسمي، حيث جاء الرد القاطع حول هذا الأمر على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي أفيدور ليبرلمان، كما عاد نتانياهو ليؤكد شخصيًا عدم رغبة إسرائيل في الاعتذار.
لا بد هنا من التساؤل حول الطموحات التي يمكن أن تدغدغ مخيلة أردوغان، بأنه قد جاء الوقت المناسب للضغط على واشنطن من خلال الهجوم على أسطول الحرية من أجل دفعها إلى إقامة علاقات متوازنة ما بين تركيا وإسرائيل. من المؤكد أنه لن يحدث مثل هذا التطور، حيث عاد وأكّد أوباما لدى اجتماعه مع نتانياهو في البيت الأبيض في أول أسبوع من شهر تموز/يوليو 2010 على أولوية العلاقة مع إسرائيل، وبأن العلاقات هذه لا يمكن كسرها من قبل أحد. لكن لا بد من الاعتراف بأن الضغوط التي مارستها تركيا قد أعطت ثمارها لجهة تخفيف الحصار على غزة إسرائيليًا، ومصريًا.
وتشكل العلاقة التركية مع إيران الموضوع الخلافي الأساسي بين الولايات المتحدة وتركيا، حيث عارضت هذه الأخيرة قرار فرض عقوبات جديدة على إيران. صوَّتت كل من تركيا والبرازيل ضد القرار الدولي 1929، فيما امتنع لبنان عن التصويت. كان الموقف التركي قد ركّز على امتلاك إسرائيل للسلاح النووي، متجاهلاً باكستان والهند، والمشروع النووي الإيراني "الساعي" لصنع السلاح النووي، وفق ما تروّج له إسرائيل والدول الغربية. هناك تعارض واضح بين رؤية أوباما للمشروع النووي الإيراني والرؤية التركية للمشروع وأهدافه، ويفسّر ذلك رفض الرئيس الأميركي القبول بالاتفاق الذي عقدته تركيا والبرازيل مع إيران من أجل تبادل اليورانيوم على الأراضي التركية.
لا بدّ من التذكير بوجود مصالح أميركية – تركية كبرى، وهي تستأهل من الطرفين إجراء مراجعة لموقفهما من أجل حماية هذه المصالح. يبقى المطلوب أن تتفهَّم واشنطن طموحات أنقرة، وأن تدرك أن هذه الأخيرة تملك القدرة على التأثير في مجريات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، وهي قدرات لا تمتلكها الولايات المتحدة على الرغم من انتشارها العسكري الكثيف. إن اللجوء إلى ممارسة الدبلوماسية الضاغطة مع تركيا سيؤدي إلى نتائج معكوسة سواء لجهة الموقف التركي من إسرائيل أو من إيران. من الضروري أن تدرك إسرائيل ومعها الولايات المتحدة أن الهجوم على أسطول الحرية يشكل خطأً جسيمًا، وأن على إسرائيل أن تتحمل نتائجه، وأن أي محاولة أميركية لتغطية إسرائيل ستكون بمنزلة صب الزيت على النار. يبدو أن واشنطن وتل أبيب تعوِّلان على عامل الوقت لمعالجة المأزق الراهن مع حكومة حزب العدالة والتنمية، حيث تراهنان على إمكان تغيير الحكومة الراهنة من خلال الانتخابات العامة التي ستجري في تركيا السنة المقبلة.
أظهرت زيارة نتانياهو الأخيرة للبيت الأبيض رغبة أوباما في التعاون مع إسرائيل على الرغم من الإحراج الذي شعرت به الدبلوماسية الأميركية في مواجهة ثلاثة استحقاقات مهمة: تجديد اتفاقية عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، والهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية، والقرار بتشديد العقوبات على إيران. وكان اللافت جدًا في الأمر أن الولايات المتحدة قد افتقدت في الاستحقاقات الثلاثة وجود الحليف التركي إلى جانبها. ويحاول الآن اللوبي الصهيوني وأصدقاء إسرائيل في الكونغرس استغلال الغياب التركي لشن هجوم ضد أردوغان وحكومته، من خلال إثارة موقف أردوغان الإيجابي "غير العدائي" من حزب الله ومن حماس، ومن خلال العلاقات الإستراتيجية التي نجحت أنقرة في عقدها مع طهران ودمشق. ويدعو هؤلاء أيضًا الإدارة إلى الرد بقوة على التحدي الذي رفعه أردوغان في وجهها من خلال التصويت في مجلس الأمن ضد القرار 1929 الخاص بتشديد العقوبات على إيران. ويعتقد أصدقاء إسرائيل بأنه قد حان الوقت لفتح المجال لاتخاذ قرار في الكونغرس يتهم تركيا علنًا بارتكاب مجازر ضد الأرمن. في المقابل يحذِّر فريق آخر من أن اتخاذ مثل هذا القرار سيؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يستطيع أردوغان توظيفه داخليًا لزيادة شعبيته، والحفاظ بالتالي على أكثريته النيابية في الانتخابات المقبلة[42].
يفيد بعض التقارير الإعلامية بأن الإدارة الأميركية مُكِبَّة على دراسة كل الاحتمالات والخيارات للرد على التحديات التركية، بشكل يحمّل أردوغان وحزب العدالة والتنمية مسؤولية التدهور الحاصل في العلاقات الأميركية – التركية (مع احتساب الأضرار الناتجة عن أزمة العلاقات مع إسرائيل)، وبطريقة يمكن أن يستفيد منها أصدقاء أميركا في الجيش وفي الأحزاب العلمانية التركية لتقوية موقفهم ضد أردوغان وحزب العدالة والتنمية.
يبدو بوضوح أن المبادرة ستبقى في يد أردوغان، خصوصًا في الموضوع الفلسطيني سواء لجهة استعداد محمود عباس للانتقال إلى مرحلة المفاوضات المباشرة مع إسرائيل أو لجهة استعداد حكومة نتانياهو لتجديد فترة تجميد البناء في المستعمرات والتي تنتهي في أيلول/سبتمبر 2010. كما يبدو أيضًا أن حكومة إسرائيل غير راغبة في تجميد العمليات الاستيطانية في الضفة الغربية، وأن جهود المصالحة بين السلطة وحماس وبرعاية تركية ستؤدي إلى نسف العمليات التفاوضية أو على الأقل دفعها للدوران في حلقة مفرغة لفترة تطول أو تقصر وفق تقدم جهود المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية[43].
في مواجهة مثل هكذا خيارات يبقى السؤال المطروح: هل يمكن لإسرائيل والولايات المتحدة إيجاد مخرج لتمديد فترة تجميد الاستيطان منعًا لنسف كل ما حققته مبادرة السلام الأميركية؟ ما هي قدرة الرئيس الفلسطيني في منع حصول اتفاق مع حماس لا يخدم رؤيته ومصالح فتح؟
من الصعب إيجاد أجوبة واضحة، وذلك بسبب التعقيدات الناتجة عن استمرار الحصار على غزة، وبسبب المعارضة الضمنية الأميركية والإسرائيلية لأي مشروع مصالحة فلسطينية – فلسطينية.
العلاقات التركية – الإسرائيلية: إلى أين؟
يمكن وصف العلاقات التركية – الإسرائيلية بأنها تمر في حالة احتضار الآن، وبأن الأمل بات ضعيفًا بإمكان إصلاحها في المستقبل المنظور.
لم يبد أي من الطرفين بعد الهجوم على أسطول الحرية استعداده للتراجع عن موقفه المتشنج المعلن على الرغم من الاجتماع "السرّي" الخاص الذي عقد بينهما في بروكسل بتشجيع وإلحاح أميركيين. ويستدعي مجمل التصريحات التي صدرت عن وزير الخارجية التركي داوود أوغلو وعن رئيس الحكومة الإسرائيلية نتانياهو التساؤل حول نيّات الطرفين الاستمرار في لغة الموقف "العاطفي" الراهن إلى حين بلوغ نقطة اللاعودة؟
تتعدّى جذور الأزمة الراهنة ما حدث في مؤتمر دافوس بين شيمون بيريز ورجب طيب أردوغان، ولكن الحادث وانسحاب أردوغان من ندوة الحوار قد كشف الغطاء عن وجود توتر في العلاقات التركية – الإسرائيلية. كما تتعدَّى حادثة إهانة السفير التركي من قبل نائب وزير الخارجية الإسرائيلي وما تبع ذلك من توتر في العلاقات المشتركة، أو حتى ما تبع تلك الحادثة من مواقف سلبية أدت إلى إلغاء مشاركة إسرائيل في مناورات عسكرية تنظمها تركيا. ويمكن أيضًا النظر إلى حادثة الهجوم على أسطول الحرية بأنها "الشعرة التي قصمت ظهر البعير"، وبأن حقيقة الأزمة تنطلق من أسباب بنيوية في سياسة البلدين، ومن المتغيرات الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وهي بالتالي تتعدَّى المواقف الشخصية العاطفية أو المبدئية لمختلف اللاعبين في البلدين. من خلال هذا التوصيف يمكن القول إن علاقات تركيا بإسرائيل كانت تشكو من ازدواجية الموقف تجاه ما تقوم به إسرائيل من إجراءات ضد الفلسطينيين، وهذا ما يفسّر ازدهار العلاقات في منتصف التسعينيات في ظل التطورات الإيجابية التي رافقت اتفاقات أوسلو، كما يفسّر التوتر الذي حصل لاحقًا بسبب السياسات الظالمة التي اعتمدتها إسرائيل ضد الفلسطينيين، والتي بلغت ذروتها في أثناء الحرب على غزة العام [44]2009.
تغيّرت البيئة الإستراتيجية التي فتحت باب التعاون بين تركيا وإسرائيل على مصراعيه في منتصف التسعينيات وذلك بسبب التداعيات التي تسببت بها الحرب على العراق العام 2003، والتي دفعت تركيا إلى الانخراط في سياسات المنطقة وإلى تحسين علاقات التعاون مع جيرانها وتعميقها. توصَّلت الحكومة التركية المشكّلة من حزب العدالة والتنمية إلى بناء رؤية سياسية جديدة تتمحور حول ضرورة الانفتاح على كل دول المنطقة من دون استثناء، ومفاضلة بين دولة وأخرى.
يبدو من كل ما تكشفت عنه سلسلة الأزمات المتلاحقة بين تركيا وإسرائيل من ملابسات وحقائق أن هناك اختلافًا كبيرًا في رؤية كل من البلدين لمجريات الأحداث في المنطقة وللخيارات التي يمكن اعتمادها في مواجهة المتطلبات المستقبلية. يبدو أن الخيارات التي تعتمدها إسرائيل ما زالت ترتكز على نتائج حرب 1967، والحروب الأخرى التي خاضتها، وعلى نتائج معاهدة السلام التي وقعتها مع مصر، وهي تنطلق في مجملها من حاجات أمنية لا أكثر ولا أقل[45].
لا تلقى هذه الخيارات الإسرائيلية أي تأييد على المستويين الإقليمي والدولي، وقد بات من الواضح أن الولايات المتحدة الأميركية نفسها تشعر بكثير من الحرج في دعم هذه الخيارات الأمنية الإسرائيلية. في المقابل تنطلق خيارات تركيا من ضرورة تحقيق الاستقرار الإقليمي من خلال اعتماد سياسة الانفتاح على جميع جيرانها، وعلى ضرورة التوصل إلى السلام بين العرب وإسرائيل، وبناء علاقات تعاون اقتصادي واسع بين دول المنطقة، وهي تقف بالتالي ضد مبدأ اللجوء إلى القوة لحل الخلافات، وترى أن الحوار هو الطريق الأفضل لتحقيق الاستقرار والسلام للجميع. وتبدو تل أبيب غير قادرة، لأسباب سياسية وأيديولوجية، على تغيير خياراتها وسلوكيتها من أجل اعتماد مقاربة واقعية لحل القضية الفلسطينية، والانسحاب من الجولان السوري لقاء الانخراط السياسي والاقتصادي مع دول المنطقة، وفق الحل الذي قدمته مبادرة السلام العربية التي أقرت في قمة بيروت العام 2001.
تنظر إسرائيل إلى إيران كمصدر لتهديد مصيري، وهي تعمل على عزل إيران، كما تتحضّر، وفق الخطط التي نشرت في الغرب، لشن هجوم جوي على منشآت إيران النووية الأساسية. في المقابل تعارض تركيا قيام إسرائيل بأي عمل عسكري ضد إيران وذلك على الرغم من معارضتها الشديدة لامتلاك إيران للسلاح النووي.
عكست مواقف قيادات حزب العدالة والتنمية في إبان الحرب على لبنان وغزة حقيقة وجود خلافات سياسية بنيوية بين تركيا وإسرائيل، وأن كل ما جرى الحديث عنه عن وجود منطلقات أيديولوجية وراء مواقف تركيا التي أدانت لجوء إسرائيل إلى الحرب مع ما رافق ذلك من استعمال مفرط للقوة لا أساس له من الصحة، وهذا ما يفسّر عدم إقدام رئيس الوزراء أردوغان على اتخاذ خطوات تقضي بخفض التمثيل الديبلوماسي بين أنقرة وتل أبيب.
ترجح كل المؤشرات بأن "التحالف" التركي – الإسرائيلي بات يتجه نحو مفترق تتحول عبره طبيعة العلاقات من علاقات مربحة للطرفين إلى علاقات خاسرة للطرفين، وأن حراجة الموقف الراهن لا تخدم أي منهما. إن أسوأ الاحتمالات التي يمكن أن تنتج عن تدهور دراماتيكي في علاقات دولتين تتمثل باللجوء إلى الحرب، وهو خيار مستبعد. لكن يتمثل أسوأ الخيارات البديلة بخفض متبادل لمستوى التمثيل الديبلوماسي، وأن كل الدلائل تقود في هذا الاتجاه، في ظل استمرار لغة التصعيد والمكابرة التي تعتمدها الحكومة الإسرائيلية[46].
الاستنتاج
إذا استمرت تداعيات الأزمة الناتجة عن الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية ستكون الخسائر كبيرة على كل من تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة. لا بد من أن يتذكر الجميع أن تركيا كانت أول بلد مسلم يعترف بدولة إسرائيل، وأن التبادل التجاري بين البلدين قد تجاوز مليارين ونصف مليار دولار العام 2009، وأن تركيا ما زالت دولة علمانية، وتعتمد الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الحرة، وهي عضو فاعل في حلف شمال الأطلسي.
الحقيقة الثانية التي يجب أن ينطلق منها أي توجه لمعالجة ذيول الهجوم وإعادة تقييم العلاقات التركية – الإسرائيلية، من خيارات تركيا الجديدة لدعم الاستقرار وحل النزاعات في منطقة الشرق الأوسط وبناء علاقات وثيقة للتعاون الاقتصادي بين جميع دول المنطقة، مع الحفاظ على علاقاتها التاريخية مع الغرب.
تبقى الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على التأثير في مسار الأزمة المتفاقمة خصوصًا بعد الفشل في إيجاد مخرج لها من خلال اجتماع وزير خارجية تركيا أحمد داوود أوغلو ووزير التجارة الإسرائيلي بنيامين بن أليعازر في بروكسل بتشجيع أميركي، وما تبع ذلك من رفض المسؤولين الإسرائيليين مطلب تركيا الاعتذار وبتشكيل لجنة تحقيق دولية.
يمكن لإدارة أوباما وحدها القيام بدور فاعل لاحتواء التدهور المستمر في العلاقات وذلك من خلال ممارسة الضغوط على رئيس الحكومة الإسرائيلية للقبول بلجنة تحقيق دولية تكشف حقيقة ما جرى في الهجوم على الباخرة "مافي مرمرة"، وأيضًا الطلب إلى رئيس الحكومة التركية للتجاوب مع مجريات التحقيق الدولي.
تقضي الحكمة أيضًا أن يبادر الرئيس أوباما إلى تحذير أصدقاء إسرائيل في الكونغرس من أن حملة التصعيد التي يروجون لها ضد تركيا لا تخدم المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية أو الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
يمكن اعتبار أي مراهنة إسرائيلية على خسارة حزب العدالة والتنمية لأكثريته النيابية في الانتخابات المقبلة وبالتالي انتظار عودة تحالف الأحزاب الأخرى إلى الحكم من أجل العودة بالعلاقات مع تركيا إلى سابق عهدها بمنزلة مغامرة جديدة غير محسوبة النتائج. يبدو أن الخيارات السياسية والاقتصادية التي اعتمدتها حكومة أردوغان تصب كلها في اتجاه توسيع القاعدة الشعبية لحزب العدالة والتنمية، وخصوصًا بعدما أعطت هذه الخيارات ثمارها في المجال الاقتصادي، بالإضافة إلى أنها تلتقي مع التأييد العارم للقضية الفلسطينية لدى الرأي العام التركي. لقد حلّت حكومة أردوغان الإشكالية التي كانت قائمة ما بين ما كانت تريده الحكومات السابقة من علاقات مزدهرة مع إسرائيل ونظرة المواطنين الأتراك لإسرائيل كقوة ظالمة ومضطهدة للشعب الفلسطيني. وسيكون لمواقف أردوغان "المتشددة" من إسرائيل آثارها في الانتخابات العامة المقبلة.
لا بدّ من أن تدرك حكومة نتانياهو أن السياسة التركية الجديدة تجـاه المنطقـة لا تنطلق من خيارات عاطفية أو شخصية، بل هي سياسة براغماتية تخدم مصالـح تركيـا العليا، ومن هنا فإن الأرضية الأمنية والعسكرية التي نشأت عليهـا علاقـات تركيـا بإسرائيل قد تغيّرت لتحل مكانها مصالح تركيا الاقتصادية والتي تقضـي باعتمـاد سياسة الانفتاح تجاه جميع دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى. مـن هنـا فـإن أي محاولة إسرائيلية للحفاظ على هذه العلاقة المهمة مع تركيا يجب أن تبـدأ مـن تحقيق السلام، لأن السلام وحده كفيل بتسهيل دخول إسرائيل كشريك إقليمي قـادر على الالتقاء مع التوجهات التركية الجديدة، وبالتالي المحافظة علـى العلاقات التاريخية القائمة مع أنقرة.
تخدم الخيارات السياسية التي اعتمدتها حكومة أردوغان مصالح تركيا الاقتصادية والجيو-استرايتجية، وهي تلتقي أيضًا مع مشاعر الشارع التركي. ومن هذه الحقائق الجديدة يمكن الاستنتاج بأن تركيا قد تجاوزت العلاقة القديمة مع إسرائيل والتي كانت ذات بعد واحد يتركز على الأمن والتعاون في المجال العسكري. كما لا بدّ أن تدرك الولايات المتحدة أن تركيا قد تجاوزت كل الضوابط والرواسب التي فرضتها عليها الحرب الباردة وارتباطاتها العسكرية القائمة على أساس عضويتها في حلف شمال الأطلسي، وبأنها ستستمر في سعيها للتحول إلى قوة رئيسة ذات تأثير "شامل" في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
تتطلَّب أي معالجة للعلاقات التركية – الإسرائيلية أو التركية – الأميركية التعامل بواقعية من قبل تل أبيب وواشنطن فتأخذان بعين الاختبار مصالح تركيا وتوجهات الشعب التركي، ضمن الأطر التي رسمتها الثورة "الهادئة" التي يقودها أردوغان ووزير خارجيته داوود أوغلو.
[1] - Abadi, Jacob, Israel's Quest for Recognition and Acceptance in Asia: Garrison State Diplomacy, Routledge. 2004, p.6,.p 37.
[2] - C. Maugo, The Oxford History of Byzantium, ed. 2002.
[3] - Mallet Laurence – Olivier, La Turquie, les Turcs et les Juifs – Représentation, Discours et Stratégies, Editions ISIS, 2008, p.614.
[4] - Dorian Jones, Turkey – Israel Relations Reassessed in the Wake of Flotilla Raid, N. A News. Louis, june 3, 2010.
[5] - Yaakov Katz, Israel May Sell Arrow and Ofek to Turkey, J. P, November 12, 2007.
[6] - Ofra Bengio, Turkey's Quiet Revolution and Its Impact on Israel, www.policypointers.org/page/view/10557-cached-similar
[7] - Ibid.
[8] - http://en.wikipedia.org/wiki/Israel%E2 %93Turkey_relations.
[9] - Yaakov Katz, Peres, Gul at Odds over Iran Nuke Threat, Jerusalem Post, November 13, 2007.
[10] - Damascus Confirms Channel with Israel, The Jerusalem Post, March 30, 2008.
[11] - Netanyahu, Turkey can't be honest broker in Syria talks, Haaretz, October 18, 2009.
[12] - Turkey – Israel Free Trade Agreement. Why Israel Needs Turkey, Haaretz, 12 January 2000.
http://www.washingtoninstitute.org.
[13] - http://www.jpost.com/servlet/Satellite?cid=1145961328841&pagename=JPost.
[14] - Akram T. Hawas, The New Alliance: Turkey and Israel - Is it a course towards New Division of the Middle East?,. http://www.smi.uib.no/pao/hawas.html.
[15] - Washington Report, Capture of Kurdish Rebel Leader Ocalan Recalls Mossad Collaboration With Both Turkey, Kurds, by Victor Ostrovsky. http://www.washington-report.org.
[16] - Turkey Signals Change in Military Ties with Israel, by Ercan Yavuz, Ankara, 6 June 2010.
http://www.todayszaman.com/tz-web/news-212276- turkey-signals-change-in-military-ties-with-israel.html
[17] - Israel – Turkey Relations, Wikipedia Encyclopedia.
http://en.wikipedia.org/wiki/Israel %E2%80%93Turkey_relations.
[18] - Ercan Yavuz , Turkey Signals Change in Military Ties with Israel, cited in http://www.todayszaman.com/tz-web/news-212276-turkey-signals- change-in-military-ties-with-israel.html.
[19] - محمد نور الدين، تركيا الصيغة والدور، دار رياض الريس للنشر، كانون الثاني 2008. ص 276.
[20] - المصدر نفسه.
[21] - محمد نور الدين، تركيا الصيغة والدور، دار رياض الريس للنشر، كانون الثاني 2008. ص 277.
[22] - عوفرا بنغيو، ثورة تركيا الهادئة وتأثيرها على إسرائيل www.policypointers.org/page/view/10557- cached-similar.
[23] - Ihsan Dagi, Editor's notes, Insight Turkey, XI:3 (2009), III.
[24] - Gökhan Bacik, Turkish – Israeli Relations after Davos: A view from Turkey, Insight Turkey, xi:3 (2009), 34.
[25] - Ahmed Davutoglu, Strategic Depth: Turkey's International Position, 2001, p. 426.
[26] - طهران تايمز – 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2009.
[27] - Ian Black, Siddique Haroon, The Gaza Freedom Flotilla, Q&A, The Guardian, May 31, 2010.
[28] - Tia Goldenberg, Pro-Palestinian Aid Flotilla Sets Said for Gaza, Associated Press. San Diego Union Tribun, May 31, 2010.
[29] - Turkey Condemns Israel over Deadly Attack on Gaza Aid Flotilla, Telegraph. May 31, 2010.
http://www.telegraph.co.uk/ news/worldnews/middleeast/ palestinianauthority/7789077/ Turkey-condemns-Israel-over- deadly-attack-on-Gaza-aid-flotilla.html
[30] - Darian Jones, Turkey – Israel Relations Reassessed in the Wake of Flotilla Raid, N.Anews.com.
www.printthis.clickability.com/pt/cpt?action=cpt&title=Turkey-Israel+Relation+Reassessed.
[31] - Ibid.
[32] - After the Flotilla, Editorial in the New York Times Published July 9, 2010.
www.nytimes.com/2010/07 /10/opinion/10sat2.html.
[33] - Ibid.
[34] - أحمد داوود أوغلو، في حديث أجري معه في خريف العام 2004 – تركيا الصيغة والدور، من الصفحة 217 إلى الصفحة 233.
[35] - أحمد داوود أوغلو وزير خارجية تركيا، المصدر نفسه.
[36] - المصدر نفسه.
[37] - عبد العزيز بن عثمان بن صقر، العلاقات العربية – التركية.. مقومات الازدهار وتحديات الانحسار، الشرق الأوسط، 22 حزيران 2010، ص 16.
[38] - المصدر نفسه.
[39] - Helena Cobban, Syria's New Alliances, F.P Magazine, 6 June 2010.
www.mail.google.com/mail/h/10cnonb1cetd/?v=c&st=50&th=129.
[40] - Morton Aramowitz & Henzi J. Barkey, The Turkish – American Split,
https://www.mail.google.com/mail/h/ hxeu6ah98atr/?v=c&st=50&th=12951.
[41] - Ibid. Reference cited in 40.
[42] - Robert Satloff, Three Critical Weeks in the Middle East: Insights into U.S. Policy, The Washington Institute for Near East Policy, June 21, 2010.
[43] - Ibid.
[44] - Soli Ozel, Turkey – Israel Relations: Where to Next, Today's Think Tanks.
www.todayszaman.com/tz-web/detayfor.do=detayandlink=203303
[45] - Soli Ozel, cited in: www.todayszaman.com/tz-web/detayfor.do=detayandlink=203303.
[46] - Mustapha Kibaroglu, Ties Dying or How to Sum up the State of Turkish – Israeli Relations, The Daily Star, June 16, 2010.
The Israeli-Turkish relations: between strategic alliance and total interruption
The Israeli-Turkish relations officially began in May 1949 when Turkey acknowledged the establishment of the Israeli State and became the first Muslim country to do so.
The relations between Tel Aviv and Ankara evolved and continued until the end of 2008. During this year, a crisis of confidence broke out between the authorities in both countries especially by reason of the Israeli war launched against Gaza Strip.
The crisis reached its highest peak with the victory of the «Justice and Development» party known as «AKP» in Turkish elections in 2002. Furthermore, the attack against the «Freedom Flotilla» aggravated the conflict. It is therefore evident that Israel did not understand the changes resulting from the victory of this party.
The researcher discusses in his study the «Golden Age» of the Israeli-Turkish relations and the changes which influenced the internal and external background and pushed the new party leading the Turks towards choosing new political options consisting in the receptive approach vis-à-vis the relations with the Arab and Islamic world.
The Israeli doubts emerged and confidence deteriorated between Israel and Turkey particularly after the accelerated developments in the Arab-Turkish relations.
Moreover, the Palestinian people’s tragedies with which the new Turkish authorities showed sympathy largely contributed to the interruption of diplomatic relations between Israel and Turkey.
Finally, the researcher tackles the future of the Israeli-Turkish relations and a series of conclusions which help us in identifying the horizons of regional cooperation after Turkey regained its role as a key player on the political scene.
Les relations israélo-turques: entre l’ alliance stratégique et leur interruption totale
Les relations israélo-turques ont officiellement commencé en mai 1949 lorsque la Turquie a avoué, en tant que premier pays à forte majorité musulmane, l’Etat d’Israël.
Les relations entre Tel Aviv et Ankara se sont développées et se sont poursuivies jusqu’à la fin de l’an 2008, année durant laquelle une crise de confiance entre les deux autorités a été provoquée, notamment à cause de la guerre déclarée par Israël contre le secteur de Gaza.
La crise a culminé avec l’arrivée au pouvoir en Turquie du parti pour «la Justice et le Développement» (AKP), en 2002. De même, l’attaque contre la flottille de la liberté a accentué le conflit. Il est alors visible qu’Israël n’avait pas compris les mutations et les enjeux de l’arrivée de ce parti au pouvoir.
Le chercheur se penche, dans son étude, sur «l’âge d’or» des relations israélo-turques, les changements influents sur les deux environnements interne et externe qui ont poussé le nouveau parti dirigeant turc à choisir, dans ses perspectives, de nouvelles options politiques consistant dans l’ouverture du pays sur le monde arabe et islamique.
Les doutes israéliens ont émergé et la confiance a dégénéré entre la Turquie et Israël, en particulier après le développement accéléré des relations arabo-turques.
De même, les tragédies du peuple palestinien, auxquelles les nouvelles autorités turques ont compati, ont largement contribué à l’interruption des relations diplomatiques entre Israël et la Turquie.
Le chercheur aborde l’avenir des relations israélo-turques et un ensemble de conclusions qui aident à mieux cerner les horizons de la cooperation régionale après le retour de la Turquie comme jour-clé sur l’echiquier mondial.